اديان ومعتقدات

 

 

فلسفة العلم الإسلامية..


دراسة ريادية في دقيق الكلام، ودور العراقيين في الابداع الفلسفي..

                                                    الدكتور محمد باسل الطائي

                                                    أستاذ الفيزياء الكونية المشارك 

 

         يردد بعض الواهمين بأن العراقيين طيلة تاريخهم لم يبدعو في المجال الفكري(الفلسفي) رغم ابداعهم المعروف في شتى المجالات الادبية والفنية والعلمية. يبدو ان هؤلاء يتناسون ان تراث العراقيين الحضاري يحتوي كذلك على الكثير من الابداعات  في الفكر الديني منذ العصور المسمارية حتى العصر المسيحي السرياني. اما في العصر الاسلامي، حيث يعتبر العلامة الكوفي (الكندي) اول فيلسوف اسلامي، بالاضافة الى تيار اهل الصفا والمعتزلة الذين مزجوا بصورة اصيلة ومبدعة بين الدين والحياة والفلسفة. يسر (ميزوبوتاميا) ان تقدم هذه الدراسة الغنية والموسعة التي ننشرها على حلقتين، عن فلسفة العلم الاسلامي هذه التي ابدعها اهل العراق باعتمادهم على ميراث اسلافهم الديني والفكري.. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الملخص

سنعرض في هذه الدراسة لخمسة مبادئ أساسية مستنبطة من طروحات المتكلمين، وهم جماعة من المفكرين المسلمين ظهروا في العراق في القرن الثاني الهجري. وطروحاتهم هذه وما تمخض عنها من مفاهيم ومسائل هي ما يقابل عندنا اليوم مصطلح (فلسفة العلم). وهذه المبادئ هي: الحدوث والتجرية /الانفصال والتجدد الدائم والتجويز/الاحتمال والنسبية.

في القسم الأول من الدراسة نعرض لنظرية المتكلمين في الطبيعة والأشياء مشخّصين المباديء الخمسة التي ذكرناها داعمين ذلك بنصوص من مصادرهم الأساسية.

وفي القسم الثاني من الدراسة نعرض لجملة من المسائل التطبيقية في دقيق الكلام. وقد اخترنا اسلوب المقابلة بين آراء الفلاسفة والمتكلمين في مسائل مختارة سبيلاً لعرض مقارن نستهدف من خلاله بيان رؤية المتكلمين المستندة أساساً الى رؤيتهم في مباديء دقيق الكلام التي عرضنا لها في القسم الأول من هذا البحث، ورؤية الفلاسفة المخالفة لها والتي تستند بالضرورة الى رؤيتهم الخاصة أيضاً، وهي القائمة أساساً على رؤى أرسطو وفلسفته الطبيعية. ثم أفردنا المسألة الأخيرة لعرض مختصر جداً لمسألة السببية عند المتكلمين، دون أن نغفل ضرورة التنبيه إلى الخلل الذي يقع فيه كثير من الدارسين للفلسفة الإسلامية بادعائهم أن المتكلمين المسامين ينفون السببية. ولقد اعتمدنا معطيات العلم المعاصر معياراً لذلك منطلقين من حقيقة موضوعية مفادها أن فلسفة العلم المعاصر ترتكز أساساً على معطيات العلم المعاصر.

وبهذا فنحن إذ نقدم هذه الدراسة المتواضعة لا نبتغي الوقوف عند ما خلفه أسلافنا من أعمال جليلة، بل نريد أن نجعل من ما يصلح منها مفتتحاً لعطاء جديدة فنكمل المسيرة وبذلك نصل الحاضر بالماضي بعين مفتوحة على المستقبل، فتكون صلتنا عندئذ بتراثنا صلة حية معطاءة تحقق ديمومة الرسالة وترسخ دورنا بوصفنا أمة حية،  أمة قادرة على النهوض رغماً عن جميع ما يعتريها من عارض التخلف والمحنة الحاضرة.

المقدمة

المتكلمون هم جماعة من المفكرين ظهروا في العراق أولاً في القرن الثاني الهجري في أعقاب ما جرى من حوارات في العقيدة في مسائل تكفير مقترف الكبيرة والبعث والمعاد وحشر الأجساد والقضاء والقدر وعلم الباري وصفاته، وكان أول من تكلم في هذه المسائل واصل بن عطاء[1][1] المتوفى (131هـ/748م) وعمرو بن عبيد[2][2] (ت145هـ/762م) ومن بعدهم أبو الهذيل العلاف[3][3] (ت234هـ/849م) وغيرهم.

وكان أول المتكلمون قد سُمّوا معتزلة، ولا نعرف على وجه التحديد أصل هذه التسمية ويقال أنها أُطلقت على واصل بن عطاء وجماعة من  أصحابه اعتزلوا مجلس الحسن البصري[4][4]  (ت 110 هـ) الشهير الذي كان يقيمه في البصرة، بعدما اختلفوا معه بشأن تصنيف مرتكب الكبيرة أهو مؤمن أم كافر[5][5].

وفي رواية أخرى لأبي الحسين الملطي[6][6] أن المعتزلة هم الذين سموا أنفسهم بهذا الاسم، وذلك "عندما بايع الحسن بن علي (رض) معاوية وسلّم إليه الأمر، إذ اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس. وذلك أنهم كانوا من أصحاب علي فلزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة فسموا بذلك معتزلة".    

نشوء علم الكلام جليله ودقيقه

مما لا شك فيه أن العراق هو الموطن الذي نشأ فيه علم الكلام وترعرع ثم تطور إلى حركة فكرية كبيرة وغنية، ويمكن القول أن انتشار هذا الفكر في العالم الاسلامي كان محدوداً خارج العراق. فقد كان جميع من اشتغل بعلم الكلام قد قضى شطراً من حياته في العراق.

في القرن الثالث الهجري تطور الكلام في هذه المسائل إلى محاولات لصياغات نظرية أكثر عمقاً وتأسيساً على يد إبراهيم بن سيار النظام[7][7] (ت231هـ/845م) الذي كان تلميذاً لواصل بن عطاء وهشام الفوطى[8][8] (ت217هـ/837م) والشحام[9][9] (ت232هـ/847م) وعبّاد بن سليمان (ت249هـ/864م) والجاحظ (ت254هـ/847م) الذي كان تلميذاً لإبراهيم النظام، وهؤلاء كلهم من معتزلة البصرة، ومعهم معتزلة بغداد الذين عاصروهم ومنهم بشر بن المعتمر[10][10] (ت209هـ/825م) وأبو موسى المردار (226هـ/841م) والإسكافي (240هـ/915م). ثم جاء من بعدهم من البصريين أبو علي الجبائي[11][11] (ت302هـ/915م) وابنه أبو هاشم الجبائي[12][12](ت321هـ/933م) ومن معتزلة بغداد أبو الحسين الخياط[13][13] (ت289هـ/902م) وأبو القاسم الكعبي[14][14] (ت318هـ/931م) وابو رشيد النيسابوري (ت415هـ/1024م).

ومن المعروف أن فرقة أخرى من المتكلمين تأسست على يد أبي الحسن الأشعري[15][15] (324هـ/935م) الذي كان من المعتزلة فانشق عنهم وأسس المذهب الأشعري الذي اشتق له مفاهيماً تختلف عن مفاهيم المعتزلة وخصوصاً في مسائل جليل الكلام. وتولى قيادة الأشعرية بعده القاضي أبو الطيب الباقلاني[16][16] (ت402هـ/1013م) ومن بعده أبو المعالي الجويني[17][17] (ت478هـ/1123م) وهذين المفكرين هما اللذان أسسا وعمقا كثيراً من مفاهيم دقيق الكلام.

بغداد عاصمة الامبراطورية العباسية الممتدة من حدود الصين الى حدود اوربا

 

وقد كان للقاضي عبدالجبار الهمداني المعتزلي[18][18] (ت 415هـ/1059 م) دور تاريخي مهم في توثيق مفاهيم المعتزلة وعطائها النظري الهائل في مسائل علم الكلام من خلال موسوعته الشهيرة (المُغني في أبواب العدل والتوحيد) التي تقع في 21 مجلد، وقد عُثر على ثلثيها بالتقريب كاملة والباقي لا زال مفقوداً.

لقد خاض المتكلمون في أمرين أساسيين هما: الإلهيات والطبيعيات. ففي الإلهيات بحثوا في صفات الباري وأفعاله وقدرته وعلمه وإرادته، إلى جانب البحث في مسائل القضاء والقدر والبعث والمعاد والنشور. وهذه المباحث سميت "جليل الكلام".

مما يلفت النظر أن مباحث الكلام نشأة أولاً ضمن دائرة العقيدة الإسلامية الداخلية، وعلى هذا يتفق جمهور الباحثين القدماء والمعاصرين سواء كانت هذه النشأة قد تسببت عن الفتنة أيام عثمان بن عفان أو عن الاختلاف في حكم مرتكب الكبيرة أو في الاختلاف حول شرعية النزاع بين علي بن أبي طالب ومعاوية وظهور المرجئة وانشقاق الخوارج. لذلك فقد جرى البحث، وقام الخلاف، أولاً في مسائل جليل الكلام. وكانت المشاكل كلها في هذا السجال الكلامي تنحصر في دائرة التأويل، تأويل النص القرآني بوجه خاص باعتباره (أي النص القرآني) المصدر الأساس الذي يتفق عليه المسلمون جميعاً.  ولكن عندما توجه المسلمون بفكرهم وعقيدتهم إلى حجاج الملل والأديان الأخرى كالمانوية والسمنية والنصارى صار عليهم أن يقارعوا الحجة العقلية بحجة عقلية مواجهة، فالغير لا يقبل الاستناد إلى آي القرآن ولا نصوص الحديث. لذلك كان لابد من البحث في أصول وفصول العقيدة. وتذكر المصادر أن أبو الهذيل العلاف كان أول المنافحين عن العقيدة الإسلامية في مواجهة العقائد المانوية وعقائد السمنية التي ظهرت بعد فتح المسلمين للهند. فقد بعث هذا الرجل البعوث العديدة إلى خراسان وبلاد الهند كما بعث بعوثاً أخرى إلى بلاد المغرب. ما يهمنا هنا أن الضرورة العملية جعلت أبو الهذيل وأصحابه ومن جاء من بعدهم يؤسسون لنظرية "علم الكلام" بناءً على منطلقات عقلية صرف. فصاروا يبحثون في أشياء العالم كلها: المادة وصفاتها وتحولاتها وتفاعلاتها، والحركة والسكون، والمكان والزمان، والثقل والممانعة، والوجود والعدم، وغير ذلك من الصفات الطبيعية والظاهرية، فخرجوا برؤية شاملة قامت على جملة مبادئ وأُسس عقلية. وقد سميت هذه المباحث في ما يُعرف بالأمور الطبيعية، "دقيق الكلام".

رغم أن أبواالهذيل العلاف وأصحابه أسسوا لدقيق الكلام على أسس عقلية صرف، إلا أن هذه المنطلقات لم تكن لتتأسس دون هدي عقيدي يميز منهجهم ويؤطر رؤيتهم، فقد كان الهدي القرآني دليلاً لها. فالقرآن فضلاً عن كونه كتاب شرع فهو كتاب عقيدة والعقيدة تشتمل على معرفة الخالق ومعرفة المخلوق والعلاقة بينهما، فهما طرفي المعادلة التي تؤلف العقيدة الإسلامية. ولما كان الله هو الخالق وهو العليم المطلق ولما كان الوحي (القرآن) هو رسالته التي بلّغها للناس رسوله الكريم بلسان عربي مبين، فإن منطلق الفهم الإسلامي للعالم هو الرؤية القرآنية في إطارها العام، وللعقل بعد ذلك أن يجتهد ضن هذا الإطار. أما الاجتهاد من خارج الإطار الإسلامي فهو ما ليس منه وهو رد، وهذا هو الابتداع. لذلك اعتمد المتكلمون بعد أبي الهذيل في البحث في مسائل دقيق الكلام منهجاً ينطلق من الله ليفهم العالم ويفسره. خلافاً لمنهج الفلاسفة اليونانيين كأرسطو وأفلاطون ومن شايعهم من فلاسفة المسلمين كالشيخ ابن سينا وأبو الوليد بن رشد، الذين انطلقوا من العالم ليفهموا الله ويعرفوه. هذا هو الأساس في الاختلاف المنهجي بين المتكلمين والفلاسفة. والحق أن السبيل الثاني (أي الانطلاق من العالم إلى الله) ممكن ولربما يكون هو المرجح في بادئ الرأي. لكن النظر مرتين في المسألة يكشف لنا أن العقل وحده لن يستطيع أن التوصل إلى المعرفة الحق بالله كونه يعمل بالقياس. وقد كان هذا (أي اعتماد القياس العقلي في مباحث جليل الكلام فيما يختص بالصفات الالهية) هو الخطأ القاتل الذي ارتكبه المتكلمون في جليل الكلام مثلما هو خطأ الفلاسفة أيضاً عند بحثهم في الإلهيات فيما يسمونه "القياس البرهاني". ففي كلا الحالين قياس للغائب على الشاهد. الأول مستند إلى النص يتأوّله بالعقل قياساً، والثاني يستند إلى العالم يرفعه بالقياس إلى الله جُزافاً. لذلك لم يكن غريباً أن يتأول أرسطو ومن شايعه السماء أنها حيوان وأن لها نَفْساً ويتأوّل أجرامها على أنها كائنات من جنس آخر ويعتبر الجسم السماوي من طبيعة خامسة هي الأثير[19][19]. ونحن نعلم اليوم أن هذا كله غير صحيح.   

ويجد الباحث أن المتكلمين معتزلة وأشاعرة يتفقون على الأغلب في معظم مسائل دقيق الكلام فيما يختلفون فيه جليله. وأبرز اختلافهم هو في مسألة خلق الأفعال ومسؤولية الإنسان عنها، فعلى حين قالت المعتزلة بأن الإنسان خالق لأفعاله، قال الأشاعرة بأن الله هو الذي يخلق الأفعال اعتماداً على قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) ولكن حينما شعروا بأن الأفعال الباطلة والمخالفة للشرع يمكن عندئذٍ أن تعزى بهذا القول إلى الله والله (لا يأمر بالفحشاء) وأن (الله لا يحب المفسدين)، فضلاً عن أن القول بأن الإنسان خالق لأفعاله يتعارض مع آيات قرآنية كثيرة، قالوا بنظرية "الكسب" التي تقول بأن للإنسان كسباً واكتساباً عملاً بالآية ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)[20][20].

 

 

ومن المعروف تاريخياً أن مباحث جليل الكلام هي التي أنشأت الاختلاف والشقاق بين المسلمين حتى صار بعضهم يُكفّر البعض الآخر، وهذه المباحث في صفات الله وعلمه وقدرته وإرادته هي التي جاءت بكل الترّهات التي شهدها تاريخ الخلاف بين المعتزلة ومن خالفهم من الفرق وهي التي تبلورت في محنة القول بخلق القرآن التي ألقت بضلالها السقيمة على العقيدة والفكر الإسلاميين، وليس غيرها. فلم يكن هنالك خلاف كبير بين المعتزلة والأشاعرة في جملة المبادئ الأساسية لدقيق الكلام. والاختلاف في مباحثه إنما كانت في التفاصيل، تفاصيل القول بشيئية العدم مثلاً أو القول في تجدد الأعراض أو تجدد الجواهر والأعراض معاً. أو غير ذلك من تفاصيل الرؤية في الدقيق. ودعماً لهذا الرأي نقول أن نشوء الأشعرية أنفسهم قد جاء من رحم المعتزلة فأبو الحسن الأشعري كان معتزلياً درس على أبي علي الجبائي (ت 330هـ) وانشق عنهم.

لا بد من التنبيه هنا إلى حقيقة تاريخية تقررها طريقة عرض المتكلمين أنفسهم للمسائل التي سنعالجها وهي أن استدلالهم قد اعتمد الطريقة الجدلية والخطابية، ولم يستخدم المتكلمون في نهجهم أي نوع من الرياضيات أو الحساب غير ما اعتمدوه من أساسيات المنطق والبيان العربي الذي يكمن أساساً في لغتهم فقامت اللُّغة العربيَّة عندهم مقام الرياضيات كما أنهم خلطوا البحث في طبيعة الأشياء مع البحث في صفات الباري وأفعاله في الوقت الذي بحثوا فيه أفعال الإنسان وجبره واختياره، منطلقين من رؤيتهم الشمولية المتداخلة للمسائل التي عالجوها معتمدين منهجهم الذي يبدأ من الله لينزل إلى فهم الطبيعة والإنسان في طريق معاكس تماماً للمنهج اليوناني الذي يبدأ من الطبيعة والإنسان ليصل إلى الإله،  لذلك لم يكن همهم الأساس النظر في الطبيعة ومحاولة استكشاف قوانينها ونواميسها بقدر ما كان همهم منصباً على إثبات وجود الله واثبات صفاته وقدرته الحاضرة أبداً. إنما يبقى التأسيس النظري الفكري في دقيق الكلام وما حمله من مبادئ ومفاهيم وما عالجه من مسائل هو العطاء العلمي ذي القيمة التاريخية الأعظم.

علم الكلام

تاريخيا يُقسّم علم الكلام إلى قسمين:

دقيق الكلام: وهو البحث في صفات العالم وظواهره وتكوينه وحركاته و سكوناته بجواهره وأعراضه.

وجليل الكلام: وهو البحث في الصفات الإلهية والجبر والاختيار والبعث والمعاد  ورؤية الباري.

وقد عرّف ابن خلدون علم الكلام بأنه[21][21] "علم يتضمن الحجاج عن العقائد الأيمانية بالأدلة العقلية والرد على المتبدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد" والحق أن هذا التعريف يقصد به جليل الكلام. أما الجرجاني[22][22] فإنه يقول أن علم الكلام هو "علم باحث عن الأعراض الذاتية للموجود من حيث هو على قاعدة الإسلام". ولربما كان هذا التعريف أكثر دقة من تعريف ابن خلدون، بيد أنه يميل إلى وصف دقيق الكلام.

وقد غلب النتاج الفكري في مسائل وموضوعات جليل الكلام على النتاج الفكري في مسائل دقيق الكلام. ولا سبيل إلى انكار حقيقة أن مباحث الدقيق كانت تستهدف خدمة الجليل أصلاً. لكن العمل في مباحث الجليل قادت المتكلمين إلى مهاوي أودت بهم موارد الهلاك. فقد كانت محنة خلق القرآن محنة تاريخية ألقت بظلالها الثقيلة على علم الكلام عموما، فأدت آثار تلك المحنة إلى تحريم الاشتغال بعلم الكلام. واصبحت تهمة الانتماء إلى المعتزلة تهمة خطيرة قد تودي بحياة من يتهم بها.

 

مصادرنا الوثائقية التاريخية

من الحقائق التاريخية المعروفة أن معظم النتاج الفكري للمتكلمين المسلمين قد تعرض للتلف، بقصد وتعمد بعد نكبة المعتزلة على عهد المتوكل ثم على عهد المقتدر بالله. لذلك لا تتوفر مصادر تاريخية كثيرة من عطاء المتكلمين الأوائل وبخاصة المعتزلة، غير ما خلفه لنا القاضي عبد الجبار في موسوعته العملاقة (المغني في أبواب العدل والتوحيد) وكتاب تلميذه إبن متويه ( التذكرة في الجواهر والأعراض) وكتاب الخياط (الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد) وهو مصدر مهم لأفكار النظّام وآرائه وكتاب أبو رشيد النيسابوري (مسائل الخلاف بين البصريين والبغداديين)، وما حفظه لنا التاريخ من تراثهم الفكري روته لنا كُتب خصومهم وكُتب الفرق. أما بخصوص الأشعرية فقد حفظ التاريخ لنا قدراً أكبر من كتبهم ونتاجاتهم الأصيلة وأهمها كتاب (مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين) لأبي الحسن الأشعري وكتاب (تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل أو التمهيد والرد على الملاحدة كما هو في تسمية  ثانية) وقد وجدناه مصدراً مهماًً لنظرية الأشاعرة  في السببية والقول بالطبائع وكتاب (الشامل في أصول الدين) لأبي المعالي عبد الملك الجويني المُكنى بإمام الحرمين، وهو تلميذ الباقلاني، وخاصة في جزئه الأول الذي يحتوي على التعريف بالمفاهيم الأساسية لدقيق كلام وايجاز جميل لآرائهم في مسائله الأساسية. وكتابه الثاني الذي عنوانه (الارشاد) ولكن وجدنا فيه كثير اطناب في مسائل وموضوعات جليل الكلام التي لا طائل منها. كما قدم الشهرستاني في كتابه (نهاية الاقدام في علم الكلام) تلخيصاً لمسائل أكثرها في جليل الكلام. وكثير من تراث المتكلمين ذكرته كتب مخالفيهم وناقديهم ككتاب موسى ابن ميمون المسمى (دلالة الحائرين) وكتاب عبد القاهر البغدادي ( الفَرق بين الِفرق) إلا أن على الباحث الحصيف أن يكون على حذر عند قراءة الأقوال المنسوبة إلى قائليها. كما يمكن التعويل كثيراً على كتاب (تهافت الفلاسفة) لأبي حامد الغزالي ففيه كان الغزالي يتكلم بلسان المتكلمين ويفكر بعقلهم دون شك، مثلما يعوّل بالمقابل على كتاب (تهافت التهافت) لأبي الوليد محمد بن رشد في التقاط أفكار الفلاسفة وآرائهم لأن ابن رشد كان خير من عبّر عن آراء فلاسفة اليونان وأرسطو منهم بخاصة. 

المنطلقات

انطلق المتكلمون بشكل أساسي من الوحي ممثلاً بالقرآن، وهو النص الذي اعتمدوه في خلفية منظومتهم الفكرية لفهم العالم. وهو المصدر الأساس الذي يعوّل عليه عندهم. ولما ان النص القرآني بحاجة إلى تفسير وتأويل فإنهم اعتمدوا العقل لتفسيره على أصول البيان العربي الذي تعبر عنه دلالات اللغة العربية التي نزل بها القرآن. إذن فالقرآن واللغة والعقل هي الركائز الثلاثة لاستنباط الأحكام والمفاهيم عند المتكلمين, وبهذا المعنى وبهذا القدر يكون النتاج الفكري للمتكلمين منتمياً إلى الاسلام والى العربية.

المنهج

يختلف المتكلمون عن الفلاسفة في المنهج الموصل إلى المعرفة الحق اختلافاً جوهرياً، فعلى حين ينطلق الفلاسفة من العالم (الطبيعة، المادة، المكان، الزمان...) ليفهمونها عبر العقل المحض الذي تكون مهمته تفسير المظاهر الطبيعية واستيعاب محركاتها وصولاً إلى الله، نجد أن المتكلمين قد سلكوا منهجاً معاكساً يبدأ من الوحي ممثلاً بالقرآن إلى العقل عبر اللغة، ومهمة العقل تأويل الوحي واستيعاب مظاهر العالم من خلاله، وصولاً إلى فهم هذا العالم وفق المراد الالهي. ويمكن ايجاز المنهجين بالمخططين التاليين:   

§             §     الفلاسفة (اليونان)

العالم ¬ العقل ¬ الله

 النتيجة: إله طبيعي له بعض صفات الإنسان.

 

§             §     المتكلمين (المسلمين)

الله ¬ العقل ¬  العالم

النتيجة: عالم مفهوم وإله مفارق لكنه قيوم 

المبادئ

من خلال تحليل التراث الفكري الواسع الذي خلفه لنا المتكلمون نجد أنهم قالوا بخمسة مبادئ أساسية في دقيق الكلام، وهي تقابل خمسة مبادئ أخرى قال بها أرسطو ومن تبعه من الفلاسفة، مما شكّل أسس الرؤية الفلسفية السائدة عن اليونان، والتي بدورها كونت الهيكل العام للفكر الفلسفي الإسلامي ممثلاً بطروحات الكندي والفارابي وابن سينا وإبن رشد وتلامذتهم ومن شايعهم. وهذه المباديء الخمسة يمكن بسطها على النحو التالي

 

 

 

 

الفلاسفة

المتكلمين

l    l       القدم

l    l       الحدوث

l    l       الإستمرارية

l    l       التجزئة

l    l       الثبات والإنتظام

l    l       التغير والتجدد

l    l       الحتم

l    l       التجويز والاحتمال

l    l       المطلق

l    l       النسبية

 

 

 

 

ولغرض توضيح المباديء التي قال بها المتكلمون نقدم فيما يلي شرحا موجزا لكل منها:

المبدأ الأول: الحدوث

يجمع المتكلمون على أن الله هو القديم وحده، الواجب الوجود، وكل ماسواه مُحدث أي مخلوق بعد أن لم يكن، خلقه الله وهو القيّم عليه كل آن. وبدون الله يكون العالم عدماً، لأن كف الله عن فعل الخلق يحول الأشياء عدماً. ومعنى أن الله قديم (أو أزلي) أي أنه سابق على الزمان. ومعنى المُحدث أنه لم يسبقه زمان ولا مكان. وتكاد جميع كتب علم الكلام تفتتح مقالاتها بهذه المسألة القدم والحدوث فهي رأس مسائل دقيق الكلام وجليله. يقول الشهرستاني[23][23]: "مذهب أهل الحق من أهل الملل كلها أن العالم محدث ومخلوق أحدثه الباري تعالى وأبدعه". 

 

 

المبدأ الثاني: التجزئة

فرضية الجوهر الفرد والأعراض

إختلف القدماء في مسألة قسمة الأشياء إلى أجزاء أصغر وأصغر. فقال أرسطو ومن تبعه من فلاسفة اليونان والمسلمين بإمكان القسمة إلى ما لا نهاية له من الأجزاء. وهذا الانقسام قابل للتحقق فعلاً (أي على قولهم: بالفعل)، كما أنه ممكن بالقوة (أو الوهم في مصطلح المتكلمين)، أي بالتصور الذهني.

لكن المتكلمين المسلمين رفضوا ذلك، وقالوا بدلاً عنه بأن انقسام الأشياء إلى أجزاء أصغر منها ممكن بالفعل حتى يصير الجزء إلى حد غير قابل للقسمة وهذا القدر سموه "الجوهر الفرد". وقد قسّم المتكلمون المحدثات إلى ثلاثة أقسام: جسم وجوهر وعَرَض قائم بالجوهر والجسم. يقول الباقلاني[24][24]: "والمحدثات كلها تنقسم إلى ثلاثة أقسام ، فجسم مؤلف، وجوهر منفرد، وعرض موجود بالأجسام والجواهر موجود بالأجسام والجواهر".

ويقول الأشعري[25][25]: " فقال -أبو الهذيل- إن الجسم يجوز أن يفرقه الله سبحانه ويبطل ما فيه من الاجتماع حتى يصير جزءاً لا يتجزأ وأن الجزء الذي لا يتجزأ لا طول له ولا عرض له ولا عمق له ولا اجتماع فيه ولا افتراق،  وأنه قد يجوز أن يجامع غيره وأن يفارق غيره وأن الخردلة يجوز أن تتجزأ نصفين ثم أربعة ثم ثمانية إلى أن يصير كل جزء منها لا يتجزأ ". ويقول أبو المعالي الجويني[26][26]: اتفق الإسلاميون على أن الأجسام تتناهى في تجزئتها حتى تصير أفراداً.

وقد ذهب البعض[27][27] الى أن خلفية قول المتكلمين بتجزئة الأشياء حتى تصير إلى الجزء الذي لا يتجزأ هي في قوله تعالى:(وأحصى كل شيء عددا)[28][28]، وعليها اعتمد المتكلمون في قولهم هذا. لكن الجويني[29][29] يذكر أن "والدليل على إثباته - أي الجوهر الفرد- أن الفيل أكبر من الذرة ولو كان لا غاية لمقادير الفيل ولا لمقادير الذرة لم يكن أحدهما أكثر مقادير من الآخر ولو كان ذلك كذلك لم يكن  أحدهم أكبر من الآخر كما إنه ليس أكثر مقادير منه" ويقول إن كل ما حصره متناه يجب أن يكون متناهياً وما لا يتناهى لا يحصره متناه[30][30]. مما يعني أن المتكلمين لم يأخذوا بالنص القرآني مجرداً بالتسليم به بل هم، على الأقل، قد وجدوا الدليل العقلي الذي يؤيد ما يذهبون اليه. وهنا نلاحظ أن دليل المتكلمين الذي يورده الجويني يستبطن بديهية منطقية تقول بأن " الكل أكبر من الجزء ويساوي مجموع الأجزاء". فلو كان بالإمكان تقسيم جسم الفيل مثلاً الى ما لانهاية له من الأجزاء وكان بالإمكان تقسيم الذرة (أو النملة في مواضع أخرى من المثال) الى ما لانهاية له من الأجزاء أيضاً لصار الفيل والذرة بمقدار واحد. أما الحجة الثانية عند الجويني على القسمة المنتهية فهي أن الجسم المنتهي يجب أن يحتوي على عدد من الأجزاء منتهياً. وما لا تتناهى عدد أجزائه فهو لا نهائي في العِظم.

الجزء الذي لا يتجزأ هو الجوهر الفرد[31][31].

يقول الجرجاني في التعريفات[32][32]: " الجوهر ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع"

فالجوهر ماهية تجريدية لا تأخذ هويتها  إلا بتحملها لعرض. يقول الأشعري[33][33]:" وقال قائلون: الجوهر ما إذا وجد كان حاملاً للأعراض، وزعم صاحب هذا القول أن الجواهر جواهر بأنفسها وأنها تعلم جواهر قبل أن تكون، والقائل بهذا القول هو "الجبائي". ويقول الجويني[34][34]:"اعلموا أن للجواهر صفات واجبة وصفات جائزة، فأما ما يجب له فالتحيز وصحة قبول العرض".

والجوهر لا يفتقر إلى محل لكن العرض  يفتقر إلى محل. يقول الأشعري[35][35]: "وقال الصالحي: الجوهر هو ما احتمل الأعراض".

والجواهر تتجاور ولا تتداخل. يقول الجويني[36][36]: "ما صار إليه أهل الحق أن الجواهر لا تتداخل ولا يجوز وجود جوهر بحيث ذات جوهر آخر. وإن أطلق في التجاوز تداخل الجواهر واختلاطها فالمعنى تجاورها“.

والجوهر له قدرْ ولكن ليس لقدره بعض. يقول الجويني[37][37]: " الجوهر الفرد له حظ ثابت من المساحة غير موقوف على انضمام غيره إليه وله قدرٌ غير أن ليس لقدره بعض والجوهر يقدر الجوهر"

والجوهر لا يتجدد بل هو باق. يقول الجويني[38][38]: " الجوهر باق غير متجدد.  وذهب النظّام إلى أنه متجدد حالاً فحال"

المبدأ الثالث: التغير والتجدد أو الخلق المستمر

يرى المتكلمون أن التجدد المستمر هو صفة الخلق. وتأتي هذه الصفة إثباتاً لقيومية الخالق على المخلوقات (الموجودات). وهم إذ قسّموا الموجودات إلى جواهر وأعراض فإن المراد من هذه القسمة في جانب منها أن تتيح مجالاً لفعل التغيير والتجديد المستمر من ذات الخلق في الخلوقات. لذلك فإنهم جعلوا الجواهر ثابتة والأعراض متجددة لا تبقى على حالها زمانين. يقول الجرجاني في كتاب التعريفات[39][39] العرض هو "الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع أي محل يقوم به، كاللون المحتاج في وجوده إلى جسم يحله ويقوم به". ويقول الأشعري[40][40]: "فقال قائلون:  الأعراض كلها لا تبقى وقتين لأن الباقي إنما يكون باقياً بنفسه أو ببقاء فيه فلا يجوز أن تكون باقية بأنفسها لأن هذا يوجب بقاءها في حال حدوثها ولا يجوز أن تبقى ببقاء يحدث فيها لأنها لا تحتمل الأعراض،  والقائل بهذا أحمد بن علي الشطوي وقال به أبو القسم البلخى ومحمد بن عبدالله بن مملك الأصبهاني،  وزعم هؤلاء أن الألوان والطعوم والأراييح والحياة والقدرة والعجز والموت والكلام والأصوات أعراض وأنها لا تبقى وقتين وهم يثبتون الأعراض كلها ويزعمون أنها لا تبقى زمانين". ويقول الجويني[41][41]: "أعلم أن العرض في أصل اللُّغة هو ما يعرض في الوجود ولا يطول البتة،  سواء كان جسماً أو عرضاً ولهذا يقال للسحاب عارض،  أمَّا  في الاصطلاح فهو ما يعرض في الوجود ولا يجب لبثه كلبث الجواهر والأجسام" ثم يقول[42][42]: "والأعراض هي التي لا يصح بقاؤها وهي التي تعرض في الجواهر والأجسام وتبطل في ثاني حال وجودها".

يقول موسى بن ميمون[43][43]: "والذي دعاهم – أي المتكلمين– إلى هذا الرأي – أي تجدد الأعراض – هو أن لا يقال بأن ثمة طبيعة بوجه وأن هذا الجسم تقتضي طبيعته من الأعراض الكذا والكذا،  بل يريدون أن يقولوا ان الله تعالى خلق هذه الأعراض الآن دون واسطة طبيعية،  دون شيء آخر،  فإذا قيل ذلك لزم عندهم ضرورة ان لا يبقى ذلك العرض،  لأنك إذا قلت يبقى مدة ثمّ يُعدم لزم الطلب:  أي شيء اعدمه؟  فإن قلت أن الله يعدمه إذا شاء،  فهذا لا يصح بحسب رأيهم لأن الفاعل لا يفعل العدم لأن العدم لا يفتقر الفاعل،  بل إذا كف الفاعل عن الفعل عدم ذلك الفعل،  وهذا صحيح من جهة ما،  فلذلك أفضى بهم القول،  لكونهم أرادوا أن لا تكون ثمّ طبيعة توجب وجود شيء أو عدم شيء،  إن قالوا بخلق الأعراض متتابعة" وقد سميت هذه النظرية حديثاً (نظرية الخلق المستمر)[44][44].

نفي الطبائع الأربعة: نفى المتكلمون الطبائع أو الأستقسات Substances الأربعة (وهي النار والتراب والهواء والماء) التي قال بها أرسطو. وذلك لأن القول بالطبائع يعطي للموجودات صفة القدرة، فيجعلها قادرة على الفعل بذاتها مما يجعلها تشترك مع الخالق في تصريف الوجود وهذا عندهم محال. يقول  أبو الطيب الباقلاني[45][45]: "ومن قال بأن العالم بأسره مؤلف من الطبائع الأربعة: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. فإنه باطل من وجوه أحدها أن هذه الطبائع أعراض  محدثة متضادة على الأجسام،  ولأنه محال اجتماع الحرارة مع البرودة في محل واحد، فيجب حدوث الحرارة بعد بطلان البرودة وكذلك الرطوبة واليبوسة".

وتعتبر هذه الأطروحة امتيازاً  كبيراً للمتكلمين المسلمين لأن القول بالطبائع الأربعة كان مذهباً فلسفياً شائعاً له تطبيقات عملية كثيرة منها ما هو في الطب وما هو في الأدوية. فنفي هذا المبدأ يميز المتكلمين تماماً، بل وينفي صلتهم بالفلاسفة بأي وجه كان. 

المبدأ الرابع: التجويز والاحتمال

قال المتكلمون بأن العالم ممكن (أي محتملContingent  ) وليس بواجب Necessary. كما قالوا بأن قوانين العالم هي ذات طابع إحتمالي Probabilistic وليست حتمية Deterministic.

هذا يطرح مشكلة السببية: هل قال المتكلمون بالسببية أم أنهم نفوها تماماً كما هو رائج في الأوساط الفكرية المعاصرة ؟

إن الدارس لتراث المعتزلة ليجد أن لديهم أربعة أنواع من العلائق السببية، وهذه هي: الإعتماد والإقتران والتولّد ومستقر العادة.

أما الأشعرية فإنهم قالوا بمستقر العادة فقط ولم يعترفوا بالتفاصيل التي اعتمدتها المعتزلة. يقول الباقلاني[46][46]: "ومما يدل أيضا على فساد ما يذهبون إليه من إثبات فعل   الطبائع   أنه لو كان الإسكار والإحراق والتبريد والتسخين والشبع والري وغير ذلك من الأمور الحادثة واقعة عن طبيعة من   الطبائع   لكان ذلك الطبع لا يخلو من أن يكون هو نفس الجسم المطبوع أو معنى سواه فإن كان هو نفس الجسم وجب أن يكون تناول سائر الأجسام يوجب حدوث الإسكار والشبع والري ومجاورة كل جسم يوجب التبريد والتسخين لقيام الدليل على أن الأجسام كلها من جنس واحد(أي من جواهر متماثلة) وقد عُلم أن الشيء إذا أوجب أمرا ما وأثر تأثيرا ما وجب أن يكون ما هو مثله وما جانسه موجبا لمثل حكمه وتأثيره"

المبدأ الخامس: النسبية

الزمان والمكان ماهيتان تجريديتان لا معنى لهما دون المتزمن والمتمكن فيهما: يقول الجرجاني[47][47] في تعريف الزمن إنه "عبارة عن متجدد معلوم يُقدر به آخر موهوم،  كما يقال: آتيك طلوع الشمس،  فإن طلوع الشمس معلوم،  ومجيئه موهوم فإذا قرن ذلك الموهوم بذلك المعلوم زال الإيهام"، وفي اللغة العربية يأخذ الزمن معناه من خلال توالي الأفعال، يقول الزجاجي[48][48] "الفعل على الحقيقة ضربان كما قلنا،  ماضٍ ومستقبل، فالمستقبل ما لم يقع بعد ولا أتى عليه زمان ولا خرج من العدم إلى الوجود،  والفعل الماضي ما تقضّى واتى عليه زمانان لا أقل:  زمان وجد فيه وزمان خُبر فيه عنه،  فأما فعل الحال فهو المتكون في حال خطاب المتكلم،  لم يخرج إلى حيز المعنى والانقطاع ولا هو في حيز المنتظر الذي لم يأت وقته،  فهو المتكون في آخر الوقت الماضي وأول الوقت المستقبل،  ففعل الحال في الحقيقة مستقبل لأنّه يكون أولاً فكل جزء منه خرج إلى الوجود صار في حيز الماضي"

أما بما يخص مصطلح المكان فإن الجرجاني يقول[49][49]: أن المتكلمين يرون أن المكان "هو الفضاء الذي يثبته الوهم ويدركه من الجسم المحيط بجسم آخر كالفضاء المشغول بالماء أو الهواء في داخل الكوز،  فهذا الفراغ الموهوم هو الذي من شأنه أن يحصل فيه الجسم وإن يكون طرفاً له عندهم،  فبهذا الاعتبار يجعلونه حيزاً للجسم،  وباعتبار

 

فراغه عن شغل الجسم إياه يجعلونه خلاء،  فالخلاء عندهم هو هذا الفراغ مع قيد أن لا يشغله شاغل من الأجسام،  فيكون لا شيئاً محضاً لأن الفراغ الموهوم ليس بموجود في الخارج بل هو أمر موهوم عندهم"

ويذكر ابن ميمون نظرية الحركة عند المتكلمين فيقول[50][50]: " قالوا: الحركة هي انتقال جوهر فرد من تلك الأجزاء من جوهر فرد إلى جوهر فرد يليه، فيلزم أن لا تكون حركة أسرع من حركة بحسب هذا الوضع  قالوا: هذا الذي ترى متحركين يقطعان مسافتين مختلفتين في زمان واحد ليس علة ذلك كون حركة هذا قاطع المسافة المسافة الأطول أسرع حركة بل علة ذلك أن هذه الحركة التي نسميها بطيئة تخللتها سكنات أقل. فلما أُعترضوا (أي أُعترض عليهم) بالسهم الذي رمي من القوس الشديدة قالوا: وهذا أيضاً تخللت حركاتها سكنات، وهذا الذي تظنه متحركاً حركة متصلة هو من خطأ الحواس، لأن الحواس يفوتها كثير من مدركاتها".    

ويلخص أحد الباحثين المعاصرين مفهوم المتكلمين للزمان بما يلي[51][51]:

1.          1.                  إنهم تصوروا الزمان ملفاً من أجزاء صغيرة منفصلة متعاقبة لا تقبل القسمة فهو إذن يقوم على الانفصال لا على الاتصال.

2.       2.    أنهم ربطوا بين الزمن والمتزمن فيه،  مثلما ربطوا المكان والمتمكن فيه،  فهم لا يتصورون المكان ولا الزمان مستقلين عن محتوياتهما،  بل يربطون بين الشيء ومكانه وزمانه ويجعلون من ذلك وحدة واحدة.

3.       3.        أنهم نظروا إلى الزمان من حيث وظيفته أي كونه من حيث هو تقدير الحوادث بعضها [52][52]ببعض.

العودة للفهرس