لغات عراقية


  لغة كردية واحدة.. ام لغات؟

                                              نزار آغري

 رغم اهتمام الاحزاب اليسارية العراقية بالموضوع الكردي، إلا انها لم تقدم لنا أي معلومات تذكر عن اشقائنا الاكراد، سوى الامور السياسية. فنحن نجهل فنونهم وآدابهم وميراثاتهم وتقاليدهم. من منا يعرف ، مثلا، انه لا تود لغة كردية واحدة، بل لغات كردية عديدة ومختلفة مثل اختلاف اللغات السامية(العربية والعبرية والآرامية). نعم هنالك: اللغة الكرمانجية المنتشرة بين غالبية اكراد تركيا وسوريا، وتسمى هذه اللغةالبهدنانية في العراق وتنتشرايضا  في دهوك واجزاء من اربيل، ثم اللغة السورانية في السليمانية واربيل واجزاء من كركوك ، ثم اللغة الزازائية بين بعض اكراد تركيا، ثم اللغة القصرشيرينية بين اكراد خانقين العراقية وقصرشيرين الايرانية، ثم الافيلية بين افيلية العراق وايران. هنالك الآن مثلا في شمال العراق، صحف وكتب ناطقة بالسوراني، وغيرها ناطقة بالبهدناني، والذي يفهم سوراني ليس بالضرورة يفهم بهدناني.

للأسف الشديد هذا التعتيم مسؤول عنه ايضا اخوتنا من القوميين الاكراد ، إذ يقولون ان الكشف عن حقيقة عدم وجود لغة كردية واحدة سوف يكشف للعالم بأن الاكراد ليسوا بتلكة "الوحدة القومية" المعلنة بل هم منقسمون الى اقوام مختلفة لغويا وثقفايا ومذهبيا مثل اختلاف الشعوب التركية والسامية وغيرها. بينما هنالك مثقفون اكراد ممن يتحلون بالواقعية وحب الحقيقة، فيقولون العكس، ان الكشف عن هذه الحقيقة والاعتراف بها سوف يساعدنا على درساتها وتعريف باقي اخوتنا العراقيين بها من اجل التقارب والتوحد بين الاقوام الكردية فيما بينها مع باقي اخوتهم العراقيين. ويقولون ايضا، انه من الضروري جدا الابقاء على اللغة العربية في المناطق الكردية لتكون وسيلة تفاهم بين الناطقين باللغات الكردية المختلفة، باضلافة الى قيمتها الدينية والثقافية. ويطرح هؤلاء ايضا السؤال التالي: عندما يطالب الاخوة القوميون بجعل "اللغة الكردية" رسمية الى جانب العربية، عليهم تحديد، اية لغة، او على الاقل ان يقولوا (( اللغات الكردية))!! تعتز(ميزوبوتاميا) بقتديم هذه المقالة  التي كتبها احد المثقفين الاكراد السوريين (وهو من اصل يزيدي ناطق بالكردية ) من اللذين يعرف عنهم امتلاكهم لروح الباحث الموضوعي المتميز بنزاهة المثقف الضميري الحقيقي.  ميزوبوتاميا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

  هل هناك لغة كردية أم لغات كردية على ما في هذا القول من تناقض ظاهري؟ وهل يتعلق الأمر بلهجات كثيرة تندرج في سياق لغة واحدة أم بكيانات لغوية مستقلة ذات أرواح متمايزة ؟
إنّ المعضلة لا تقوم في التسمية بل هي تتعلق بالتفاعل اليومي على أرض الواقع. فماذا نفعل بجماعات كاملة، يبلغ عدد كل واحدة منها عدد سكان دول برمتها، لا تستطيع أن تتفاهم في ما بينها ؟ وكيف نفسر واقع أن أدباء كل "لهجة" كردية لا يكتبون إلا بها ؟ وكيف تتم ترجمة مؤلفات من اللغة الكردية إلى اللغة الكردية؟ (هناك مؤلفات كثيرة مترجمة من السورانية إلى الكرمانجية وبالعكس، وكذلك الحال في ما يتعلق باللهجات الأخرى). هناك، بالطبع، كثيرون ممن ساعد  التجاور الجغرافي في تسهيل التفاهم اللغوي بينهم. ولكن الأمر يتعلق بالضبط بمسألة التجاور لا أكثر، حيث يعمل التعايش اليومي على تعلّم اللغةـاللهجة الأخرى. وهذا شيء يشهده المرء في كل اللغات. وأكراد العراق، مثلاً، يتواصلون مع العرب، بالعربية، مثلما يتواصل كثير من العرب مع الأكراد بالكردية في مناطق التجاور. ويقال الأمر نفسه فيما يتعلق بالأكراد المقيمين في تركيا أو إيران أو سوريا، حيث يصير اكتساب اللغات التركية والفارسية والعربية تحصيل حاصل. ولكن يبقى أن الأمر يتعلق، في الحالات جميعاً، بمنظومات لغوية تستقل عن بعضها بعضاً. ولن أبالغ في القول إذا أشرت إلى أن الكثير من أفراد الجماعات الكردية تجهل لغات بعضها وتتفاهم عن طريق لغة ثالثة ( يتفاهم السوران والكرمانج، في العراق، باللغة العربية. وتتفاهم الجماعات اللورية والكورانية وغيرها، في إيران، باللغة الفارسية. ويتفاهم الزازائيون والكرمانج، في تركيا، باللغة التركية، وهكذا).
ويتجاوز الإختلاف القائم بين المجموعات اللغوية الكردية ما هو قائم في أحوال اللهجات حيث يتعلق الأمر بتنوع في طرق اللفظ وتنويعات على الأداء الصوتي واستبدالات محددة للحروف وفروق في وظيفة بعض المفردات. ففي الواقع الكردي يطال الإختلاف التركيبة البنيوية للغة في مستوياتها النحوية والدلالية. وهناك مجموعات لغوية كردية قريبة جداً، في البناء والمعنى، من اللغة الفارسية، ولو اتبعنا النزعة السائدة تحتم علينا القول أن الفارسية لهجة كردية. إنّ الهوة القائمة بين اللهجات الكردية هي أوسع بكثير من تلك القائمة بين اللغات السويدية والنرويجية والدانماركية، مثلاً، وهذه اللغات التي تنهض من أرومة لغوية واحدة هي أشبه بلهجات مناطقية للغة واحدة أكثر بكثير مما تؤلفه اللهجات الكردية.
لقد أصبح مألوفاً، عبر الزمن، إدراج هذه المجموعات تحت غطاء اللغة الكردية. وقد يكون مرد ذلك، على ما يقال، أن اسم الكرد أطلق على التشكيلات القبلية التي كانت تمتهن الرعي والترحال في أطراف الإمبراطوريتين العثمانية والإيرانية (وهذا كان حال القبائل الكردية جميعاً). واكتسب الأمر مع الأيام صبغة سياسية ارتدتها هذه الجماعات في سعيها إلى الإستقلال بذاتها عن هاتين الإمبراطوريتين وما تبعتهما من دول. فقد أصبح "الكردي" مدلولاً يشير إلى نزوع في التمايز واكتساب البعد القومي.
وقد انزاح هذا السعي شيئاً فشيئاً باتجاه البحث عن هوية قومية يمكن إشهارها في وجه القوميات الأخرى التي يسعى ممثلوها المتطرفون إلى إزاحة الأكراد من اللوحة العامة في المنطقة  وإلغاء حضورهم فيها.
وفي وجه محاججات شوفينية تقارب الإنسان لا من باب وجوده وفعاليته، بل من زاوية أصوله وجذوره وسجلات قيده في ماضي التواريخ و"الأخبار الطوال"، فإن الأكراد يتلمسون ما حولهم ويتمسكون بكل ما يقع تحت أيديهم من "براهين". ولو أنهم أشاروا إلى حضورهم نفوساً تختزن الرغبة في البقاء وتتوق إلى حق بديهي في التعبير عن الذات، لاكتفى ذلك برهاناً.
ولكنهم، مدفوعين بما ترمى إليهم من نظريات غبية في العرق واللغة والوحدة، يرددون القول في انتهاء جماعاتهم، كلها، إلى أصل واحد ولغة واحدة وما شابه.
غير أن هذا الأمر يدفع بهم إلى القسر على أنفسهم وخنق الكثير من الأشياء كي يظهروا بالصورة التي يمكن لها أن تتطابق مع شروط الإنتماء إلى نادي الأمم الوهمية ذات الحسب والنسب.
ولكن الصورة التي يراد لها أن تكون مقنعة غالباً ما تبدو مصطنعة وتعجز عن شد الإكتراث. وحيث يقال الآن، مثلاً، أن الجماعات اللغوية الكردية باتت قريبة من بعضها بعضاً بفضل إعلاميات البث الفضائي وانفتاح الأطراف فيما بينها فإنّ الواقع ينهض ليخالف الكلام. ومن تهمه النتائج يستطيع أن يدرك أن كل جماعة تنحصر في لغتها وتلاحق خطابها الكلامي دون انشغال كبير بالجماعة الأخرى. فالحال أن برامج الإعلام المرئي المبثوثة باللهجة السورانية مثلاً تجذب بال الناطقين بالسورانية وحسب. يصح قول هذا في   المجموعات الأخرى. ولن تجد مشاهداً من الكرمانج يتفاعل مع البرنامج السوراني ويشترك في نقاش دائر بالسورانية.قل الشئ نفسه عن الزازا واللور والكوران. والسبب في ذلك واضح: العجز عن التفاهم.
ولكن هناك من يرغب، مع ذلك، في اجتراح أرضية تتهيأ لصهر الأصوات جميعاً واستخراج صوت واحد، مبثوث للجميع . وتنهض هذه الرغبة من الإعتقاد في أن الأمة الواحدة ينبغي أن تكون ذات صوت واحد ولغة واحدة.
لا يخفى أن الميل إلى تصوير الذات في هيئة جسم مونوليتي واحد، وإخفاء العيوب والتستر على الفروقات واستبعاد أوجه التمايز، يهيأ الأرض لبزوغ نوازع عنصرية من شأنها أنّ تتعزر مع الأيام. ومن الجانب الآخر فإن الأكيد هو أن التنوع والتعدد وتبدل الأوجه والأدوار توفر المناخ لإزدهار الحريات وترسخ أقدام السلوك الديمقراطي.
ولكن الدخول في رحابة كهذه يشترط، ممن يشتهي الدخول فيها، امتلاك الجرأة على نبذ التصور المنتفخ عن الذات الواحدة التي لا تقبل التجزأ أو الإنشطار. ولن يكون الدنو من تلك الحال ممكناً ما لم تتهيأ النفس في الإقبال على سلوك خالٍ من الإنغلاق ومنفتح على الأجزاء المبعثرة.
يجد الأكراد أنفسهم، الآن، أمام الإمتحان. وحيث تدفع بهم الحمية القومية إلى المطالبة بحرية اللغة فإنهم مدفوعون إلى التحديق ملياً في وجه اللغة التي يريدون لها الحرية. وإذا ما بدرت منهم التفاتة كهذه فسوف تتهيأ لهم الفرصة ليروا أن اللغة التي ينطقون باسمها غائبة. ففي الساحة لغات لكل منها الحق في أن تنهض على قدمين.
لا يعدم القوميون الأكراد الحيلة في الإلتفات إلى الوراء والتنبيه إلى أن الأمم وحدت لغاتها ا الكثيرة وطلعت إلى الميدان بلغة واحدة. هكذا فعل العرب، وكذلك فعل الطليان والألمان والإسبان وغيرهم.
ولكن في محاججة كهذا يجري إغفال الإشارة إلى أن ذلك التوحيد، الذي كان قسرياً وعنيفاً في غالب الأحوال، إنما تحقق منذ أكثر من ألف وخمسمئة عام. ولا يمكن اليوم إتباع إسلوب ينتمي إلى الماضي السحيق. لقد تأخر الأكراد في تحقيق وحدتهم القومية وعليهم دفع ضريبة ذلك. ولكن الضريبة التي يمكن النظر إليها بعين النقمة يمكن أن تكون مجالاً للإنفتاح على المستقبل بدلاً من العودة إلى الوراء. ولن يفلح في هذا المقام سوى النزول من سماء الأوهام إلى الأرض ومعاملة الأشياء بشكل يحترم حضورها.
        يقترح بعض القوميين الأكراد "اختراع" لغة موحدة من حاصل مزج اللغات ـ اللهجات العديدة المتوفرة وسط حشود الناس. وإذا نزعنا عن هذا الإقتراح غطاءه السياسي البراق، والمخادع، فإنه يظهر أقرب إلى دعابة طريفة، ولكن متعذرة المنال. وإذا ما توفر للدعابة أن تتحقق فستكون شبيهة بلغة "اسبرانتو" كردية. فلا يمكن، في واقع الحال، مزج اللغات في خليط عشوائي بمثل ما يخلط المرء الحبوب.
في بحث القوميين الأكراد عن اللغة الرسمية الواحدة يتعين عليهم الإختيار بين سبل عديدة. يمكن لهم الإستنجاد بالماضي ورفع سيف البطش لفرض لغة ـ لهجة واحدة لتصبح اللغة الرسمية الوحيدة وتصير اللغات الأخرى جاريات بائسات في خدمتها. يمكن أيضاً رفع اللغات ـ اللهجات كلها إلى مقام واحد، وتركها تتحرك بحرية وعلى قدم المساواة. يمكن من جهة أخرى الإلتفات صوب الهند أو أندونيسيا أو ماليزيا حيث تتعايش عشرات، بل مئات، اللغات جنباً إلى جنب وتسير وراء لغة رسمية تتصرف في هيئة الحكم بين الجميع(كالإنكليزية، مثلاً).

العودة للفهرس