من تجارب الأمم

هذا الباب الثابت، هو الوحيد الذي لا  يتضمن موضوعا عراقيا. انه مخصص

 لعرض تجارب أمم المعمورة لإحياء هويتها الوطنية وتحقيق وحدتها.

 

تجربة الأمة السويسرية بين التنوع والتوحد ..

                                          الباحث السويسري روجيه دي باسكيه    ترجمة:س. حبيقة

 

تعتبر الحالة السويسرية قريبة جدا الى الحالة العراقية، من حيث تكون المجتمع السويسري من عدة أقوام (أعراق) ناطقة بالألمانية والفرنسية والإيطالية . كذلك انقسامه إلى المذهبين البروتستاني والكاثوليكي . .

رغم ان دولة سويسرا قائمة على اساس( الكونفدرالية) التي تتجاوز في "لا مركزيتها" نظام (الفيدرالية) من حيث تمتع المقاطعات (المحافظات) باستقلالية إدارية واسعة، الا ان هنالك ميزات عديدة تستحق ان يطلع عليها العراقيون ويأخذونها بنظر الاعتبار في مشروع بناء دولتهم وهويتهم الوطنية:

اولا،  ان نظام سويسرا الكونفدرالي وتقسيم المقاطاعات، غير قائم على اساس اقاليم عرقية او طائفية (على عكس مشروع فدرالية الاقليم الكردي والعربي )، وانما على اساس المقاطعة وحدها. فلا تجد مثلا، اقليم فرنسي، او اقليم بروتستاني، بل كل مقاطعة تعامل بصورة منفردة، وهنالك مقاطعات عديدة، متنوعة الاقوام والمذاهب.

ثانيا، رغم هذا التنوع الأقوامي والمذهبي ، ورغم هذا النظام اللامركزي، ورغم احاطة سويسرا (مثل العراق)  بشعوب متشابهة مع اقوامها لغويا ومذهبيا( المانيا والنمسا وفرنسا وايطاليا)، الا انه لم يحدث ابدا إن ظهر أي تيار يطالب بالانفصال من أجل الاتحاد مع أحد الشعوب المجاورة. هنالك استثناء بسيط  في اعوام الثلاثينات اثناء المد النازي الالماني، حيث ظهر ميل سياسي محدود لدى بعض الناطقين بالالمانية للمطالبة بالانفصال والاتحاد مع المانيا والنمسا، لكن هذا الميل سرعان ما انتهى تماما مع نهاية النازية.

ثالثا، ليس هنالك في كل سويسرا أي حزب او تيار خاص بمقاطعة او مجموعة عرقية لغوية، أي ليس هنالك أي احزاب (قومية) على الطريقة العراقية حيث توجد احزاب قومية عروبية وكردية وتركمانية وآشورية، بل ان جميع الاحزاب السويسرية هي احزاب وطنية شاملة لكل السويسريين مهما كانت لغتهم ومنطقتهم وطائفتهم. فمن الطبيعي ان ينشأ حزب في منطقة لغوية معينة، الالمانية مثلا، فيكون قادته في البداية من الناطقين بالالمانية، لكنه سرعان ما يفتح له فروعا في المقاطعات الناطقة بالفرنسية والايطالية ويضم كوادرا وقادة من تلك المقاطعات ويتحول الى حزبا وطنيا شاملا  لكل السويسريين. كذالك ليس هنالك أي حزب محصور بطائفة دينية معينة، بروتستاني أو كاثوليكي. طبعا توجد احزاب ذات اساس ديني مسيحي، مثل الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب المسيحي الاجتماعي، لكنها أحزاب مسيحية وطنية لجميع السويسريين  بمختلف مذاهبهم، بل في السنوات الاخيرة انفتحت هذه الاحزاب وضمت اليها الكثير من الملحدين واليهود والمسلمين. فما احرى بالاحزاب الاسلامية العراقية ان تدرس تجربة الحزب الديمقراطي المسيحي المنتشر في كثير من بلدان اوربا، والذي كان في اساسه حزبا كاثوليكيا، لكنه تحول الى حزبا وطنيا في كل بلد، ويقبل في صفوفه حتى الملحدين بشرط قبولهم ببرنامجه الاجتماعي الوطني. (ميزوبوتاميا)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

موقع وجغرافيا سويسرا

 

تنقسم سويسرا من حيث جغرافيتها الطبيعية الى ثلاثة مناطق رئيسية :

ـ (جبال الالب ـ ALPES ) التي يزيد ارتفاع قمتها عن 4600 م. وتضم هذه المنطقة ثلثي مساحة سويسرا. وتكسوا قممها ثلوج دائمة وهي بمعظمها مكونة من اراضي صخرية قليلة الانتاج وخالية من اية ثروات طبيعية. 

ـ (جبال الجيراـ JURA ) التي تصل الى 1600 م .وتشكل 10% من مساحة البلد. وهي كذلك محدودة الموارد الطبيعية والبشرية.

ـ اما المنطقة الثالثة فهي  الهضبة السهلية التي تمتد بين هاتين السلسلتين الجبليتين. رغم انها تشكل ربع مساحة سويسرا إلا انها تضم معظم السكان وتتجمع فيها غالبية المقاطعات.

يتكون من ثلوج جبال الالب السويسرية اطول نهران في اوربا الغربية، نهر الرون ونهر الراين. كذلك تساهم ثلوج سويسرا بتكوين انهار اوربية اخرى مثل الدانوب والبو. هكذا تجري المياه النابعة من جبال سويسرا في اتجاهات اربعة رئيسية، بحر الشمال، والبحر والمتوسط، والبحر الادرياتيكي، والبحر الاسود.

يثير هذا الواقع الجغرافي عند السويسريين شعورا بأنهم يحتلون، نوعا ما، مركزا رئيسيا في القارة الاوربية. وفي مقاطعة (فو) مكان يطلق عليه إسم ( وسط العالم)، حيث هنالك نبع تجري مياهه من جهة نحو نهر الراين وبحر الشمال، ومن جهة اخرى نحو نهر الرون والبحر المتوسط!

 

تعدد اللغات

 

 

ان السويسريين الذين هم من أصل (جرماني ) يتكلمون اللغة الألمانية ويشكلون الأكثرية الساحقة أي     74% من السكان . والذين هم من أصل " لا تيني " يشكلون 26% منهم 20% يتكلمون الفرنسية و 5% يتكلمون الإيطالية و1% يتكلمون لغة الـ " رومونتش " )  Romantsch) . ولا تتناول هذه الأرقام إلا السكان الذين يحملون الجنسية السويسرية .

اللغة الألمانية المتداولة في سويسرا لها لهجة خاصة بها تختلف عن اللغة الموجودة في ألمانيا والنمسا . بيد أن اللغة الفرنسية في سويسرا لا تختلف عن لغة الفرنسيين أنفسهم إلا نادرا جدا. ولا تختلف لغة السويسريين الناطقين بالإيطالية ،الذين يسكنون في " تتشينو " ( Ticinco ) عن لغة ايطاليا بحصر المعنى .

وبالمقابل فإننا نجد في مقاطعة " جراوبندن " ( Graubünden) في جنوب ـ شرقي سويسرا فئة لغوية صغيرة عددها اكثر من خمسين ألف نسمة تتكلم بلغة " الرومونتش " وهي ليست لهجة، إنما هي لغة أصيلة تنحدر مباشرة عن اللغة اللاتينية ولها أدبها وثقافتها . وتعتبر لغة وطنية كالألمانية والإيطالية ولكن نظرا لقلة عدد الذين يتكلمون بها فهي ليست قيد الاستعمال الرسمي على الصعيد الوطني الفدرالي .

لكي يحمل إنسان الجنسية السويسرية يجب أن يكون أولا مواطنا له أصل في قرية مهما كان حجمها .ويبقى مواطنا إلزاميا فيها . حتى لو انتقلت عائلته إلى منطقة أخرى منذ أجيال عديدة . وعلى الأجنبي نفسه ،الذي يود الحصول على الجنسية السويسرية أن يحوز أولا على صفة الانتماء إلى بلدة معينة تصبح مكانا لأصله . وهكذا لا يصبح هذا المواطن سويسريا فقط ،بل في الوقت نفسه من مواطني المقاطعة حيث توجد هذه البلدة . أي أنه يصبح مواطنا من " جنيف " أو من " بازل " ( Basel) أو من " جراوبندن" ( Graubünden) بعدها يصبح مواطنا سويسريا كاملا .

في الواقع وبالرغم من كل الاختلافات ، فان الروح الوطنية السويسرية متطورة بنسبة عالية جدا في كل أنحاء البلاد . ومما لا شك فيه أنه إذا ما هوجمت البلاد ، فان السويسريين بأكثريتهم الساحقة سوف لا يترددون لحظة واحدة في أن يستميتوا في سبيل الدفاع عنها .

تاريخ سويسرا

ان سويسرا هي البلد الوحيد الذي يشكل صورة مصغرة عن أوربا قبل عصر نشأة الأمم وحلول القوميات . فخلال العهد الروماني ، سكن سويسرا " الهلفيت " (Helv étes) وهم قبيلة من أصل " سلتي " (Celte ) ولما انتصر القيصر عليهم جعل من بلادهم مستعمرة رومانية .

شهدت " هلفتيا " (Helvetia)  تحت الإدارة الرومانية ازدهارا ملموسا ونشأت فيها مدن مهمة ، لا يزال يوجد منها حتى اليوم أثارا بحالة جيدة يمكن مشاهدتها. احتفظ السويسريون باسم " هلفثيا " اللاتيني الذي نراه مثلا منقوشا على قطع النقد وعلى الطوابع البريدية حيث لا يمكن كتابة اسم سويسرا بالألمانية والفرنسية والإيطالية معا . ومن هنا أيضا استمدت تسمية البلد الرسمية " الكونفدرالية الهلفثية "  . وتكتب هذه التسمية تحت شكلها المختصر ( C.H  ) ( ك .هـ .) وعلى لوحات السيارات المسجلة في سويسرا كما وتطبع على كل برقيات التلكس السويسرية .

وفي القرن الثالث عشر اعتنقت البلاد تدريجيا الدين المسيحي . وفي هذه العصور المتأخرة تعرضت لهجمات وغزوات القبائل الجرمانية التي أدت إلى خراب اقتصادها. سكنت القبيلتان الجرمانيتان الرئيسيتان ، اللتان استوطنتا سويسرا .إحداها في شرق الهضبة وهي قبيلة " اليمانس " ( Alemanes ) والثانية في الغرب وهي قبيلة " بورجوند " ( Burgonds  ) . فالقبيلة الأولى أبعدت الثقافة اللاتينية بشكل كامل تقريبا عن المناطق التي احتلتها وفرضت اللغة الجرمانية . أما القبيلة الثانية فقد اعتنقت الدين المسيحي و انصهرت مع الشعب الأصيل بسهولة وتبنت عاداته ولغته اللاتينية القديمة. من هنا إذن توجد فئتين لغويتين أساسيتين في سويسرا .

تأسيس الكونفدرالية

في القرن الثالث عشر ، أدرك بعض سكان الوديان العالية في جبال الألب  ، ضرورة التعاون للدفاع عن مصالحهم ضد الحكم الإقطاعي الذي يزداد جورا يوما بعد يوم . هكذا كانت حالة منطقة "الجوتارد" ( Gothar). وسبب ذلك فتح الممر الذي يجعل من وادي " اوري " (Uri  ) إحدى أهم الممرات عبر جبال الألب بين ألمانيا وايطاليا. وفي سنة 1391 مات سيد تلك المنطقة الملك ( رودولف الأول دي هابسبورغ ) الذي كان قد أقام علاقات طيبة مع أفراد رعيته .وعند موته ،وخوفا من أن تتدهور العلاقات مع خليفته ، اجتمع سكان وادي "أوري"       (Uri ) و " شفيتس " (  Schwyz ) و " انترفلدن " ( Unterwalden ) وقطعوا على أنفسهم عهدا أزليا يقضي بالتعاون والتكتل ضد أية محاولة ، تهدف إلى مس حريتهم ومصالحهم . واعتبر يوم الاتفاق يوم تأسيس سويسرا الذي يستعيد السويسريون ذكراه في أول يوم من أيام آب / أغسطس من كل سنة. وتجدر الإشارة إلى أن اسم سويسرا مشتق من لفظة مقاطعة "  شفيتس" وان علمها الوطني هو راية المنطقة بالذات وهو كناية عن صليب أبيض وسط راية حمراء .

 

 

                                تقسيم السكان بالنسبة للأديان

 

                              بروتستانت                55%

                              كاثوليك                    43%

                               متفرق                    2%

 

                         

ولادة القدرة العسكرية

في السنوات الأولى بعد تأسيس الكونفدرالية حصل ما كان محتسب إذ عارض حلفاء " رودلف دي هابسبرغ " النمساويون الحكم الذاتي ، فحاولوا بسط نفوذهم بالقوة بيد أنهم لم يفلحوا . فقد سجل الكونفدراليون انتصارات ثبتت استقلالهم الفعلي ضمن إطار الإمبراطورية الرومانية ـ الجرمانية المقدسة . وتعود شهرة السويسريين الحربية إلى هذا العصر . وقد دعمت هذه الشهرة أحداث حربية عديدة جرت في العصور التي تلت .

وخلال القرن الخامس عشر ، تمكن السويسريون من الاستيلاء على آخر القلاع التابعة لعائلة " دي هابسبورغ " النمساوية الباقية لهم في الهضبة وبصورة خاصة في مقاطعتي " تورجاو " ( Thurgau )  و " ارجاو   ( Aargau  ) . ولم يمنحوا هذه المناطق المستولى عليها نظام المقاطعات الاتحادية . بل عاملوا سكانها كرعايا ، تاركين لهم حكما ذاتيا محليا واسعا .

ثم وصل تأثير السويسريين إلى ايطاليا ودخلوا في نزاع مع فرنسا التي كانت تحاول أن بسط سيطرتها على جنوب الألب . وكان النصر حليفهم في بدء المعارك . لكن " فرانسوا الأول " ملك فرنسا هزمهم في موقعة " مارينيانو " في معركة تعتبر من اشهر معارك ذلك الوقت . أما سبب هزيمتهم فيعود بالدرجة الأولى إلى نزاعاتهم الداخلية . لكن قوتهم العسكرية بقيت سليمة . وتجدر الإشارة إلى أنهم قاتلوا ببسالة كبيرة أثناء المعارك بالرغم من ان النصر لم يكن حليفهم .

مهنة السلاح

أبى ملك فرنسا المنتصر إلا أن يحسن علاقاته مع السويسريين ووقع معهم معاهدة صلح دائمة ومعاهدة أخرى تخوله تطويع الجيوش من كل المناطق السويسرية . ومنذ ذلك الوقت ، أخذت الموهبة العسكرية السويسرية بالظهور تحت شكل ضباط وجنود يعملون في خدمة دول أخرى . وعلى مدى ثلاثة قرون وأكثر زودت سويسرا أمراء أوربا بالعسكريين الذين اشتركوا في معظم معارك القارة الأوربية  وحتى خارجها .

ان حيوية الشعب الملتهبة وقلة الموارد في داخل البلاد وحب المغامرة عند الشباب ساهمت جميعها في جعل الخبرة العسكرية صناعة تصدير فعلية . لقد استطاب الأمراء الأجانب صفات السويسريين العسكرية ونظامهم وإخلاصهم واحترامهم لكلمة الشرف . ولكن هذه الجيوش كانت كثيرة الكلفة كما يشهد القول المأثور " لا مال ، لا سويسريين " .

كان السويسريون المجندون مجبرين على أن يقاتلوا غالبا ضد بعضهم البعض على جبهات متخاصمة . لكن الفوج الأكثر عددا كان في خدمة فرنسا وكان حرس الملك الخاص من السويسريين . وعندما اندلعت الثورة الفرنسية ، وهاجم الشعب القصر الملكي ، لم يبق حول الملك إلا الجنود السويسريون الذين قاتلوا وقتلوا حتى آخر جندي منهم في 10 آب 1791 لأنهم كانوا مخلصين  لقسمهم ورفضوا قرار الفرار أو الاستسلام . وألغيت الخدمة الأجنبية نهائيا في القرن التاسع عشر . مع ذلك ، يبقى لها وجود أخير وهو الحرس السويسري للبابا في روما .

نزاعات طائفية

في القرن السادس عشر ، وبالرغم من هزيمة " مارينيانو "  (Mariginano  ) ، تمكن أهل سويسرا من توسيع رقعة دولتهم خاصة بعد الاحتلالات  التي قامت بها  " برن " ( Bern  ) ومنها بلاد "  فو "  ( Vaud ) في شمال بحيرة  "  الليمان "

  (   Lac léman) . كما تابعت تدعيمها العسكري ولم تعد تخشى خطرا من الخارج.لكن الاضطرابات الداخلية التي تلت انقسام المسيحيين في الغرب إلى كاثوليك وبروتستانت ـ هي التي أضعفت سويسرا وهددت كيانها . ظهر هذا الانقسام أثر أزمة في الكنيسة الكاثوليكية ، أدت إلى ولادة البروتستانتية . وتبنت بعض المقاطعات هذا المذهب الجديد بينما تمسكت المقاطعات الأخرى بالولاء للكنيسة الكاثوليكية . وتبنت المقاطعات الأخرى بالولاء للكاثوليكية . نتيجة لذلك ، اندلعت حرب أهلية بين الفئتين . لكن الكاثوليك والبروتستانت أدركوا أخيرا خطر ونتائج أخيرا خطر ونتائج الخلافات الطائفية وأن التعايش هو الحل الوحيد . ومع ذلك لم يختلط أفراد الفئتين وظهرت حدود دينية داخل سويسرا لا تزال هذه الحدود باقية حتى أيامنا هذه . والاختلاط الوحيد الذي حدث ابتداءا من القرن الفائت كان فقط في المدن الكبرى .إذ تعلم الكاثوليك والبروتستانت العيش بانسجام بالرغم من طرقهم المختلفة في مخاطبة الله .

تأثير الثورة الفرنسية

في القرن السابع عشر ،حدث شيء هام : لقد اعترفت أخيرا معاهدة " وستفالن " (Westfalen )   1748   باستقلال سويسرا التام وأقرت حيادها ، كما أنهت النزاع الأوربي الذي دام ثلاثين سنة. ومنذ ذلك الحين وحتى اندلاع الثورة الفرنسية ، عاشت سويسرا سلاما نسبيا بالرغم من المناوشات الدورية بين الكاثوليك  والبروتستانت وازداد ازدهارها ونمت الحياة الفكرية فيها .

عشية الثورة الفرنسية كانت سويسرا مجموعة سياسية متشعبة بنظام تسلسلي من المقاطعات المستقلة ومن المحميات والحلفاء من المناطق التابعة . وكان الحكم في أغلبه أرستقراطيا. وشهدت الأفكار الجديدة الداعية آنذاك للمساواة الاجتماعية رواجا كبيرا في سويسرا .كما تشهد على ذلك مؤلفات جان جاك روسو ( Jean jacques Rousseau  ) وهو من مدينة جنيف . ولكن الحركة الثورية أتت من الخارج : ففي سنة 1798  اجتاح الفرنسيون الكونفدرالية  وفرضوا إنشاء جمهورية  " هلفثيا "( Helvetia   ) الوحدوية  تدين بالمساواة وتطبق مباديء الثورة الفرنسية .

وقد سبب فرض هذا النظام الجديد ، الذي لا يأخذ بعين الاعتبار خصائص المقاطعات ، فتنا كثيرة وضع نابليون حدا لها بعد أن وضع نظاما سياسيا يتماشى مع عادات وتاريخ سويسرا . وبقيت سويسرا تابعة لدولة فرنسا حتى سقوط إمبراطورية نابليون ، عندئذ استعادت استقلالها وأعيد تطبيق النظام الكونفدرالي الأساسي بمعظمه .

مع نمو التجارة والصناعة ، وبسبب وجود عدد كبير من اللاجئين السياسيين في سويسرا ، انتشرت الأفكار التحررية ونشأت بين المحافظين والليبراليين مخاصمة شديدة ولدت نزاعا مكشوفا سبب حربا أهلية اسمها " سندربوند "( Sonderbund )

سنة 1847 بين تكتل المقاطعات الكاثوليكية المحافظة من جهة والمقاطعات البروتستانتية ـ الراديكالية من جهة أخرى.  وقد استمر القتال أقل من ثلاثة أسابيع . وكانت الحرب الأخيرة في التاريخ السويسري . وقد تصرفت جيوش التكتل الليبرالي المنتصرة التي كانت تحت إمرة الجنرال ديفور( Dufour ) وهو من جنيف ، بإنسانية بالغة .إذ لم يزد عدد ضحاياها عن المائة  وعدد الجرحى عن الخمسمائة .

ان هذه الحقبة من العنف قد فتحت الطريق نحو إعادة الهيكل السياسي الكونفدرالي . وأقرت دستورا جديدا سنة  1848 يمنح سويسرا الوحدة التي كانت تنقصها .  دون المساس بمبدأ الحكم الذاتي لمقاطعات . واقتبس هذا النظام الجديد  بعض عناصره عن النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية . وهكذا أنشأ النظام الديمقراطي الذي لا يزال منذ ذاك الحين ساري المفعول بشكل مرض ، موفرا للبلاد استقرارا سياسيا واجتماعيا نادرا في البلدان الأوربية الأخرى .

لم يتضح دور سويسرا الدولي قبل نهاية القرن التاسع عشر وكان لتأسيس الصليب الأحمر الدولي صدا مهما في هذا المجال . ويعود الفضل في إنشاء هذه المؤسسة الإنسانية إلى السيد هنري دينان Henry Dunant ) () وهو من جنيف . وقد شهد بنفسه ضحايا معركة سولفيرينو(  Solferino  ) في ايطاليا الشمالية سنة 1859 . ولم تكن هناك أية منظمة في هذا الوقت تقدم العون في مثل هذه الحالات . وحيث ان " دينان " كان يتحلى بأخلاق عالية ويتصرف بدافع الكرم ، هذا الكرم الذي لمسه واكتسبه أثناء احتكاكه بقبائل البدو العربية خلال السنوات التي أمضاها في شمال أفريقيا . استطاع أن يحرك الضمير العالمي  والرأي العام ويحظى بتأييد حكام بلدان كثيرة . وهكذا عقد سنة 1863 في " جنيف " المؤتمر العالمي الذي تم تأسيسه أثنائه تأسيس الصليب الأحمر ( يقابله في البلدان الإسلامية الهلال الأحمر )  ، بغية إعانة جرحى ومرضى الجيوش  أثناء الحرب . وفي السنة التالية ، تم عقد مؤتمر جديد كانت نتيجته توقيع اتفاقية " جنيف " التي تتعهد بموجبها حكومات الدول احترام الجرحى والاعتناء بهم .

الحياد الدولي ، ركيزة السياسة الخارجية

ان الحياد الذي يتسم به موقف سويسرا على الصعيد الدولي هو المبدأ الأساسي لسياستها الخارجية . فهو يعود إلى القرن السادس عشر عندما أيقن الكونفدراليون ان كل تحالف مع أي قوة خارجية يشكل خطرا على التوازن الداخلي .  وفي سنة 1648 وضعت معاهدة " وستفاليا " حدا لحروب أوربا التي لم تشارك سويسرا فيها . واعترفت هذه المعاهدة في الوقت نفسه ولأول مرة ، بحياد سويسرا على الصعيد الدولي .  وأصبح هذا الاعتراف رسميا وساري المفعول بعد مؤتمر فيينا الذي انعقد اثر حروب نابليون سنة 1815 إذ أعلنت الدول الكبرى آنذاك أم حياد سويسرا يخدم " مصلحة أوربا " ولاعتبارات استراتيجية أصبحت سويسرا واحة الاستقرار في أوربا.

ومع ذلك ، فقد اكتفت الدول الكبرى بالاعتراف بحياد الأراضي السويسرية دون ان تقدم أية ضمانات بهذا الشأن . كان إذن على سويسرا أن تحمي نفسها بنفسها وأملى عليها هذا الوضع واجبات قامت بها دائما خير قيام.

يتضمن مبدأ الحياد إرادة العيش بسلام وتبادل العلاقات الودية مع جميع الشعوب ويتضمن أيضا واجب الدفاع عن النفس ضد أي اعتداء. ومعنى ذلك أن هذا الحياد ليس نظريا فقط بل هو مدعوم علنا بقوة مسلحة ضاربة هي الجيش السويسري .

هذا هو السبب الضمني الذي دفع بسويسرا ـ البلد المسالم أساسا ـ إلى الاهتمام الجدي والمستمر بقدرتها الدفاعية . ولحسن الحظ لم تفرض الظروف على جيشها التدخل فعليا في الدفاع عن هذا الحياد وعن سلامة أراضي الكونفدرالية .

وبالنسبة للحياد ظلت سويسرا ترفض  الانتماء إلى منظمة الأمم المتحدة مع كونها عضوا في هيئات ومكاتب تابعة للمنظمة  . وقد بقيت على موقفها حتى وافق الشعب السويسري في الاستفتاء الذي جرى عام (2002) على دخول بلادهم إلى منظمة الأمم المتحدة . ويؤمل حصول نفس الشيء بالنسبة للعضوية في الاتحاد الأوربي .

حكومة يستحيل إسقاطها

لسويسرا برلمان شأن كل الدول الديمقراطية . وهو يتألف من مجلسين : المجلس الوطني وعدد أعضائه 200 عضوا ينتخبون بنسبة عدد سكان ومجلس الدولة وتتمثل فيه كل منطقة بنائبين بصرف النظر عن حجمها ، ويضم المجلس 46 عضوا . ويعبر المجلس الوطني عن المبدأ الديمقراطي بينما يعبر مجلس الدولة عن المبدأ الاتحادي للدستور . ومنهما يتألف مجلس الاتحاد ( وهو يضم أعضاء المجلس الوطني  وأعضاء مجلس الدولة ) وهو ينتخب أعضاء الحكومة كما يملك حق إسقاطها . فتظل الحكومة تمارس سلطتها حتى لو شجب البرلمان أعمالها أو رفض الشعب أن يوليها ثقته بالموافقة على أحد قراراتها . 

وينتخب أعضاء الحكومة بصفة شخصية لمدة أربعة سنوات ، ويحق عدد أفرادها سبعة . ويحق لكل فرد من أعضاء الحكومة أن يستقيل في أي وقت دون الرجوع إلى أحد . ويقبل معظمهم أن يبقى في الحكم لأكثر من 4 سنوات ويعاد انتخابهم من جديد ومنهم من مارس الحكم لفترة 20 عاما دون انقطاع . وبفضل هذا الوضع تبقى الحياة السياسية في سويسرا هادئة وخالية من أي تحول مفاجيء .

ونلاحظ أن كثيرا من السويسريين يجهلون اسم رئيس دولتهم . يكون رئيس الدولة من أعضاء الحكومة وهو يعين بصفة دورية لمدة سنة واحدة . عندما ينتخبه البرلمان ولدى تسلمه مقاليد الحكم يلمع اسمه وتظهر صورته من خلال حملة إعلامية واسعة النطاق لكنها لا تلبث أن تخفت بعد أسابيع قليلة . بعدها يدخل رئيس الدولة في حيز النسيان ولا يعد بالا مكان تمييزه عن بقية أعضاء الحكومة الستة الآخرين .

وتتميز الحياة السياسية داخل البرلمان بالاعتدال البرجوازي المناهض للأفكار المتطرفة . ويتقاسم الحكم أربعة تجمعات سياسية :الحزب الراديكالي الديمقراطي ، والحزب الديمقراطي المسيحي ، واتحاد الوسط الديمقراطي والحزب الاشتراكي وكلها ممثلة في الحكومة . وهناك 6 أحزاب صغيرة ممثلة في المجلس الفدرالي . وبما أنها متفقة مع الحكومة حول عدد كبير من الموضوعات فهي لا تشكل معارضة حقيقية . ما عدا الشيوعيين الممثلين بخمسة نواب ( من أصل مائتين ) وهم منضوين تحت لواء حزب العمل السويسري .

السيف رمز الحرية

تختلف أشكال ممارسة السلطة بين مقاطعة وأخرى . فلكل مقاطعة حكومتها ومجلسها حيث تناقش القضايا ذات الصفة المحلية . ومع ذلك حافظت بعض المقاطعات على ميزة ورثتها عن تقليد قديم وتعبر عن الديمقراطية المباشرة .  فبدلا من مجلس تشريعي أو برلماني ، يعقد المواطنون بصورة مستمرة جمعية شعبية لها حق التقرير . وجرت العادة أن يحمل كل مشترك سيفا رمز المواطنية والحرية والسيادة.

ان نظام الديمقراطية المباشرة ساري المفعول أيضا في دسكرات عديدة حيث تسمح لقلة المواطنين بتكوين الجمعية الشعبية . وفي القرى الكبيرة ينتخب المواطنون سلطة تشريعية ترعى شؤون القرية .

 

كل طفل يرى النور يصبح جنديا

تقول أغنية وطنية يرددها السويسريون كلهم " ان أي طفل يرى النور يصبح جنديا " .

وفي الواقع ، يجب على كل مواطن أن يؤدي الخدمة العسكرية . وحتى في هذا الميدان فان النظام السويسري فريد من نوعه ويختلف عن التنظيمات العسكرية في البلدان الأخرى .

لا وجود لجيش مهني دائم في سويسرا ومع ذلك بامكان الجيش كله وعدده ستمائة وخمسون ألف جندي . ان يكون تحت السلاح في أقل من اسبوع . وتستطيع بعض الوحدات جاهزة للقتال في مراكزها في أقل من 24 ساعة . وتعود إمكانية استدعاء الجيش بهذه السرعة إلى ميزة لا توجد إطلاقا في مكان آخر ، فكل جندي يحتفظ في منزله بلباسه العسكري وسلاحه الفردي ومؤونته من الذخيرة .

تحدث الأجانب كثيرا عن خطر وجود هذا السلاح في يد الشعب وحاولوا لفت نظر المسؤولين إلى خطورة ذلك وأنه يسهل حركات التمرد . ولكن لم يحدث شيء من هذا . وفي خارج أوقات التمرين لا يستعمل السلاح الفردي إلا في مباريات الرماية .

كل سويسري بلغ العشرين ويتمتع بصحة جيدة ، يخضع لدورة تدريب مدتها أربعة اشهر في مدرسة المجندين . وعلى كل مجند الالتحاق بهذه المدرسة . أما الضباط الذين يحتلون في الجيش مراكز عالية فإنهم ابتدؤا دراستهم العسكرية في هذا المعهد مثل أي نفر عادي .

وهناك دروس خاصة للضباط ولضباط الصف . أما الجنود العاديون فإنهم يخضعون للخدمة العسكرية ويظلون تحت تصرف ادراة الجيش حتى سن الخمسين . أما الضباط فلسن الخامسة والخمسين .

وتجدر الإشارة إلى ان سلاح الطيران يتألف بمعظمه من ضباط محترفين مشهود لهم بمهارتهم التقنية . وكذلك الحال بالنسبة لخبراء السلاح . في الأوقات الاعتيادية يعمل الجيش دون قائد أعلى . وعند اندلاع الحرب أو عند استدعاء الجيش تعقد الجمعية الاتحادية وتنتخب القائد . ان هدف الدفاع الوطني هو وقاية لسويسرا من شر الحرب ولأجل هذا ، وجب عليها ان تكون قوية جدا وأن تكون على مستوى المسؤولية في سبيل المحافظة على سلامة أراضيها وأن تدافع بقوة في سبيل الحفاظ على استقلالها وحيادها.

مفهوم الحرية

ان حرية السويسريين هي أكثر واقعية وأقل فلسفة من أي بلد آخر . فهي لم تنشأ على اثر ثورة إنما جاءت مع الكونفدرالية حيث صمم مؤسسوها على رفض ومحاربة كل سلطة تفرض على سهولهم ووديانهم غير سلطتهم وفي الحقيقة ، احتفظ الكونفدراليون بنظام الحرية لأنفسهم بقوة السلاح . وحتى في العصر الذي سبق الثورة الفرنسية ، كانت سويسرا بين بقية بلدان القارة مثلا للحرية يحتذى به . وكثيرا ما كان الفلاسفة  من دعاة المباديء والمفاهيم الجديدة يستشهدون بها .

ولا يزال مفهوم الحرية راسخا عند السويسريين كما كان في الماضي . وتعتبر المحافظة على السادة الوطنية أحد جوانبه الأساسية . كما ان المحافظة على حرية المقاطعات وتسمى " كنتونات "( Cantons   ) مثلما تسمى أمريكا مقاطعات " ولايات " بالنسبة للسلطة المركزية تمثل جانبا آخر من هذه الحرية . والمبدأ الأساسي عند السويسريين هو " ان أكن سيدا في داري " . والدار هي أولا القرية ثم المقاطعة وبعدها سويسرا . ويطبق السويسري الحرية والسيادة ضمن هذه الحلقات الثلاث مع مراعاة القوانين واتفاقات الكونفدرالية والتمسك بمبدأ اللامركزية والاستقلال الذاتي لكل مقاطعة .

 

الالتزام والتضامن

يعتبر الالتزام القيمة الأساسية الثانية التي تلي الحرية . ويقصد به تنفيذ كل ما يتعهد به دائما . ترجع هذه الميزة إلى نشأة سويسرا لأن قرار تأسيس الكونفدرالية الذي يشكل ميثاقا والتزاما أخذ باسم " باسم الله القدير " .

هذا الميثاق الذي أعيد صهره وأعيد النظر فيه على مر العصور ،أصبح دستور الاتحاد الفدرالي ولا تزال الإشارة إلى الله تزين أوله . وفي أيامنا هذه تحاول بعض الأوساط المنعوتة بالتقدمية حذف عبارة " الله القدير " من الدستور . ولكنه يبدو واضحا أنه لو طرحت هذه المسألة على الاقتراع الشعبي ستبقى الأكثرية متمسكة بها بالرغم من تيار العلمنة المتفشي في كل بقعة من الغرب .

مباديء الدستور

يأتي الدستور الاتحادي أصلا من ميثاق تأسيس سويسرا . وهو يرتكز على مباديء أساسية ثلاث :

ـ المبدأ الديمقراطي وبموجبه أصبح الشعب سيد نفسه وهو صاحب السلطة العليا في البلاد.

ـ والمبدأ الليبرالي الذي يضمن حريات وحقوق الفرد في المجتمع .

ـ والمبدأ الاتحادي الذي يكرس الكونفدرالية التي تتألف من مقاطعات ذات سيادة تتمتع بحكم ذاتي .

ومن الخصائص للنظام السياسي السويسري ممارسته للديمقراطية مباشرة وليس كسائر الديمقراطيات التي لا تمنح المواطنين سوى حق انتخاب ممثلين عنهم . ويملك المواطن السويسري حق التدخل المباشر في شؤون الدولة . وهكذا تخضع القوانين والقرارات الاتحادية ذات الأهمية العامة للتصويت الشعبي إذا ما طلب ذلك من المواطنين يصل عددهم إلى خمسين ألف مواطن . كذلك يأخذ الشعب حق المبادرة في أن يطالب بتعديل دستوري ما بشرط توقيع المبادرة من قبل مائة ألف مواطن . وبموجب هذا النظام يستطيع المواطن إبداء رأيه كاملا .

العودة للفهرس