سيرة و ذكريات



إنه الماضي، جئت لأدفنه...

                                                                 حسين الموزاني

 (ميزوبوتاميا (تفضل ان لا تنشر النصوص الادبية من شعر وقصة لوجود ما يكفي من الصحف والمجلات المهتمة بهذا المجال .  انها تفضل نشر أدب المذكرات والسيرة الذاتية المتعلقة مباشرة بزمان ومكان عراقيين. هذه الخطوة غايتها تشجيع ادب السيرة الذاتية والذكريات، لأنه شبه مغيب عن الابداع العراقي، مقارنة، مثلا، بمصر. يبدو ان هنالك اسباب عديدة لهذا التهميش لادب السيرة، من اهمها عدم ارتياح العراقي لروح المكاشفة والصراحة بالحديث عن ذاته، وميله الى التكتم والتعبير عن مكنوناته وخصوصياته بصورة غير مباشرة من خلال الشعر والقصة والبحث. بل الاكثر ايلاما، ان هذا التجنب للسيرة الذاتية ادى الى عدم الاهتمام بسير اعلام الوطن ورموزه في الثقافة والدين والسياسة والاجتماع. فمثلا ان كل ما كتب عن "الحياة الشخصية منذ الطفولة حتى الممات"  للسياب  وجواد سليم وعلي الوردي وبلند الحيدري وفيصل الاول ومحمد باقر الصدر، لا يتعدى لكل منهم سوى صفحات معدودة تضم بعض المعلومات العامة والمكررة. رغم الكم الكبير الذي كتب عنهم فانه تركز على نتاجاتهم وعصرهم، اما حيواتهم الشخصية وتواريخهم كبشر ولدوا وعاشوا وعانوا وكافحوا واخطأوا وغامروا، فأن هذا مغيب تماما! لم يفكر مثلا أي باحث عراقي، ممن اتخمونا ببحوثهم عن حيوات سارتر و بودلير ولينين، ان يتعب نفسه ويزور المناطق التي عاش فيها السياب او ناظم الغزالي او مصطفى جواد او عبد الله كوران،  ويلتقي اهله واصحاب طفولته وشبابه لتسجيل ذكرياتهم عنه!! ان هذا الجهل والتغييب لتواريخ رموز العراق هو جهل وتغيب لتاريخ العراق نفسه، وتاريخ الهوية العراقية بصورة ادق.  اننا بهذه المناسبة، نقترح تخصيص مركز في جامعة بغداد غايته التنسيق مع الكليات المعنية من اجل الاشراف وتشجيع الطلبة للقيام بالبحوث الواقعية الارضية والدراسية  لتسجيل سير اعلام الوطن، الاحياء منهم والموتى.

 نستضيف في عددنا الاول  ( حسين الموزاني) وهو روائي عراقي مقيم في المانيا، وله روايات ومجموعات قصيصية بالعربية والالمانية. غادر العراق عام 1978، وهذا النص هو السيرة اليومية لزيارته الاولى الى بغداد بين  8 ـ 3  الى 27 ـ 3 ـ 2004  ،  بعد غياب قسري دام 26 عاما.

 

بغداد! أخيرا بغداد بعينها التي رحلت عنها قبل أكثر من ربع قرن وقد عدت إليها من تلك الناحية الشمالية التي لم أكن رأيتها من قبل إلا مرّة واحدة، عندما اصطحبتني جدتي معها لزيارة ولدها المتهم آنذاك في العام 1963 بالمشاركة في محاولة انقلاب.

لم يكن هناك ما يشير إلى أن هذه المدينة هي بغداد نفسها، وجه من الطين مسمتسلم وحزين، وأرتال أمريكية طينية الملامح أيضاً اصطفت على الطريق السريع، مشرعة الأسلحة، تتطلع بتوتر وذعر إلى القادمين. هذه هي بغداد إذن، رمادية الوجه، مستكينة، متطامنة. فهل كانت هكذا دوماً كالحة رمادية في مطلع الربيع، دون أن أشعر بهامن قبل، أم أن بغداد التي عرفتها زماناً قد اندثرت تماماً ولم يبق منها الآن سوى أطيافها وأطلالها؟

كانت هذه المرّة الأولى التي أرى فيها جندياً أمريكياً مصوباً مسدسه في اتجاهي دون أن أعلم كيف عليّ أن أتصرف. يجب أن لا أخفي هنا بأنني كنت من أشد المؤيدين للتدخل الأمريكي بغية الإطاحة بصدام ونظام البعث، بيد أن توقعاتي، أو آمالي في أوضاع أفضل مما كانت عليه في عهد صدام، تبددت منذ شهور وحل محلها اليأس.

ومن بعيد، وفي مدخل "المنصورعند "معرض الزهور لمحت أخي ينتظر إلى جانب خالي وشخص آخر لم أتبين درجة قرابته.

لا أعرف كم استغرق العناق، وحاولت أن احتفظ بشيء من التماسك، لكنني ربما سأندم على ذلك فيما بعد، إذ أن قطرة واحدة من الدمع ربما ستعينني على تلمس الدرب ساعة الشدّة؛ فهل نضبت بئر الأحزان هذه التي خلتها تفيض في أعماقي.

كان الوقت غروباً وكنت منفعلاً وغريباً وثمة مسافة طويلة مازالت تفصلني عن أهلي وأحبتي. ففكرت في أترك لهم أمر التصرّف بي وبوقتي، إذ لم يعد أمامي ما يمكن أن أفعله سوى الصمت والإصغاء. لقد جئت إلى هنا من أجلهم هم، وليس انصياعاً لحنين استعرت ناره ستةً وعشرين عاماً. هؤلاء هم الأهل والوطن وحلم الوصول.

 

نعم الوطن! في الطرف الأخير من المدينة الأفقية العملاقة التي تقلبت به الأزمان والأسماء، لكنه بقي مهملاً، منسياً، متداعياً، مرشحاً كلّ مرّة للقتل والتقتيل، إنها مدينة الثورة، فمدينة صدام، فالصدر، وكل اسم جديد يلغي ما قبله من الأسماء لم يزد المدينة-القرية إلا فقراً وعوزاً، ولم يكن إلا نيراً من العبودية والاضطهاد؛ أسماء لم تكن أكثر من إكراه سياسي لا مسوغ له سوى الإمعان في امتهان كرامة الناس الممتهنة أصلاً. لم يكن من حقّ أحد الاعتراض عندما أطلق على الخرائب المعزولة اسم "مدينة الثورة" التي اقتطعها الجنرال عبد الكريم قاسم من الصحراء ليبعد بها السكان الفقراء المؤيدين له عن مركز المدينة حيث كانوا يقيمون، فمارس ضدهم سياسة عزل وفصل يكاد يكون عنصرياً، بغية إبعاد أولئك الذين من المحتمل أن يتحولوا إلى مصدر خطر يهدد "الجمهورية الوليدةالكذبة الوليدة التي طبخت على نيران مشبوهة، وجعلت العراق منذ تلك اللحظة المشئومة، لحظة الرابع عشر من تمّوز، مسرحاً للتآمر والمجازر التي أتت على الآلاف، بل الملايين من مواطنيه، لتنتهي باحتلال أمريكي-بريطاني، لا هم له سوى إطفاء آخر ومضة من تلك الروح العراقية المحتضرة. هذا هو العراق، هذا ما تبقى منه، وهذه هي نهاية اللعبة الكبرى، الكذبة الكبرى. لقد انتهى كل شيء. فكم غريباً أن أتوصل إلى هذه الحقيقة القاطعة في اليوم الأوّل من دخولي إلى البلد الجائع والمحاصر والمهان.

*       *      *

ثم احتشدت الوجوه القريبة متدافعة مبتهجة، متلهفةً لمعرفة فيما إذا كان هذا الغريب مازال يحتفظ بملامحها بعد أعوام الفراق كلّها. وكم كانت السعادة تغمر الوجه الذي طبعت آثاره في مخيلتي، فثمة نظرة قديمة مرحة، وفجوة بين الأسنان، قد اتسعت الآن، وثمة خال؛ علامات عليك أن تقرأها من جديد. وثمة آباء فقدوا أبناءهم وأمهات ثكلى ونساء أعدم أزواجهن، رجال فقد البعض منهم بصره أو طرفاً من أطرافه في الحرب أو بفعل التعذيب؛ هؤلاء كلهم التقيت بهم وعانقتهم وتحدثت معهم وأصغيت إليهم طويلاً. كان لكلّ واحد منهم قصّة، وأحياناً تتقاطع إحداها مع وقائع القصص الأخرى فتكملها، وتثبت صحتها وتعمق مغزاها، وكان عليّ أن أصبر طوال الليل، لكي أصغي إلى قصص الموت والدمار الذي حلّ بالناس، بأهلي وأحبتي. وكيف لي أن أتوقع شيئاً آخر غير هذه الأحاديث؟ فهذه سكينة، ابنة الخال، وقد اعتقل زوجها بتهمة الانتماء إلى "حزب الدعوة الإسلامية" في مطلع الثمانينات ثم أعدم ولم يتسلم أحد جثمانه. غير أن صدام وأعوانه لم يكتفوا بقتل الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين، إنما اعدموا شقيقة الذي لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، هكذا لمجرد الشبهة. ويبدو أن هذه الجريمة المروعة لم تستأثر باهتمام الحكّام الجدد، فمازالت الأرملة تقدم العريضة تلو الأخرى لإعادة الاعتبار إلى الزوج القتيل، بل الشهيد بالقاموس السياسي العراقي، دون أن تعني هذه الشهادة الكثير بالطبع، مادام العراقيون كلهم شهداء، أو مشروع شهادة لا ينتهي. لقد ضاعت القيم وماتت الضمائر، هكذا شكت لي سكينة، فقلت لها إنه الليل الأمريكي أو الذيل الأمريكي الطويل، فاصبري!

إذا كان هذا هو حال زوجة الشهيد، فما الذي أقوله عن نفسي، أنا المنفي، الذي عاد بكل بداهة إلى أهله وبلده بعد أن أحرقته جمرة الفراق مثلما أحرقت الكثيرين غيره؟ فما الذي يميّز هذا العائد عن أولئك المنفيين الداخليين القابعين بين جدران بيوتهم في العراق نفسه ينتظرون الموت ساعة إثر ساعة؟ بلا شك أن الأعوام ذهبت سدى، وهذه هي الصدمة الأولى ليس إلا؛ إنها لحظة الفراق وقد أتت بعدها لحظة العناق، وثمة لا شيء بينهما.

كنت على علم بأن أعوامي وأوهامي ومخاوفي ومشاغلي اليومية بالشأن العراقي التي وصلت أحياناً إلى حدّ الجنون، استحالت كلّها إلى شيء عضوي أضيف إلى بدني؛ فأنا صاحب الشأن وصاحب الألم وأنا الذي سيتحمل وحده العاقبة في آخر المطاف. وهل كنت أطلب مجازاة أو ثمناً لقرار فرديّ اتخذته بنفسي وتآلفت معه؟ ليس هناك من ثمن ولا مجازاة، إنه جبل الآلام وجبل من العظام، وما من أحد سواك سيحمل وزرهما.

في المساء المتأخر قصّ عليّ ابن خالتي "عسلة" طرفةً ليبدد شيئاً من قلقي ويسهل عليّ النوم. النوم؟ وهل سأنام فعلاً، أم أن الأمر سيختلط علي مثلما يختلط الأمر على أرومي من سكّان أستراليا الأصليين فجع بفقدان عزيز فلا يعرف أن كان ذلك حلماً أم حقيقة!

قال ابن الخالة: ذات نهار بارد، كنت أجلس على صخرة انتظر زبوناً يشتري حديد الخردة، فأقبل عليّ رجل أنيق برباط عنق وحقيبة دبلوماسية، وأخبرني بأنه وكيل إعلانات رسميّ، وطلب مني أن أشتري برقية تهنئة إلى صدام حسين بمناسبة نجاة ولده عدي من محاولة الاغتيال. فقلت للوكيل إنني من الشهداء الأحياء، وقد فقدت عيني دفاعاً عن الوطن، وإنني لا أملك الآن إلا قطع الحديد الصدئة التي تراها أمامك. فقال الوكيل إن هناك إعلانات أقلّ كلفة بمقدار النصف، ثم أخذ يلح. فرفعت أمامه دشداشتي وقلت له يا أخي صدقني بأنني لا أملك شيئاً، وهذا السروال الداخلي هو لزوجتي، وقد ارتديته بسبب البرد. ومع ذلك فإن الوكيل لم يقتنع، وأشار إلى بائع حديد جلس إلى جانبي، فقلت له إن هذا المسكين لا يملك حتى سروال داخلي. فهذا هو العراق العظيم، العراق المهلهل، عراق صدام الذي شحّت سراويله، وعراق ما بعد صدام.

*       *      *

 

 

أطباق عديدة مليئة "بالقيمر" العراقي والمربى والطرشي واللحوم المشوية، كان هذا إفطار الصباح. لقد أعدت شقيقتي العدة لكي تجعلني بديناً، لأنني لم أتناول في ألمانيا طعاماً جيّداً حسب اعتقادها. ويبدو أن وجبة الإفطار هذه كانت مكافأة لانعدام النوم من فرط التوتر والانفعال، وربما بسبب تلك المواعظ الليلية و "اللطميات" التي جادت بها سمّاعات حسينية في الجوار. كنت قد رأيت هذه الحسينية العملاقة المطلة على الشارع العام المؤدي إلى منطقة "كسرة وعطشحيث يقع بيتنا. وكانت عبارة عن بناية بثلاثة طوابق مخصصة لحزب البعث الحاكم، لكنها لم تكتمل بعد، فأصبحت بعد سقوط النظام من حصة جماعة إسلامية، لعلها جماعة مقتدى الصدر. فوضعت يدها عليها وأقامت فوقها قبّةً خضراء غير متناسقة وبدت كما لو أنها صنعت من الورق المقوّى. ويظهر أن الوقت كان يلحّ على هذه الجماعة الإسلامية لتحيل مقر "حزب البعث" إلى حسينية تستوعب تلك الأعداد اللامتناهية من المصلين الجدد الذي اكتشفوا فضيلة الدين مؤخراً بعدما جربوا الفضائل، وربما الرذائل أيضاً، إبان نظام الطاغية صدام. أما الكلمة السحرية التي كانت تفسّر الكثير من غوامض الأمور ومجاهلها فهي كلمة "الحواسم" المقتبسة عن "أمّ الحواسمأي آخر الهزائم التي مني بها الجيش العراقي ونظام البعث. فقد حسم الكثير من العراقيين أمرهم، وعلى وجه السرعة، فحولوا ممتلكات الدولة وسرقات النظام إلى غنائم وأسلاب. وانتقلت مقومات الدولة وأسسها إلى حالة من السيولة النقدية التي دخلت جيوب المواطنين الجياع والمتخمين على السواء. وهكذا صُفّيت ممتلكات الوطن ومُزّق جسده بلا رحمة ودون وازع مثلما تمزّق الذئاب الجائعة حملاً وديعاً. الحواسم، يا لها من عبارة مهولة لم تنطق بها حتى أشد القبائل العربية فتكاً؛ ويالها من عبارة ماضية نمّت عن عبقرية شعب بأسره؛ شعب يمارس الانتحار الجماعي علناً وبإصرار.

كان الإفطار دسماً وشعرت بشيء من الانتفاخ ولاحظت بأن أخي كان يطيل التحديق فيّ وكأنه ينفّذ أمراً أصدرته شقيقتي الكبرى يتعلّق بمراقبة عملية إطعامي إطعاماً صحيحاً. كان وجهه في الواقع متجهماً، مهموماً، وكان نادراً ما تنفرج شفتاه عن ابتسامة.

سألته عن عمله فأجاب على الفور بأنه يبحث عن عمل منذ سقوط النظام، وأنه كان ينتظر قدومي، فربما أسهّل عليه عملية البحث عن عمل مناسب. كان يعتقد بأن لي علاقات مع أصحاب السلطة الجديدة المؤقتة، ولم يكن يعلم بأنني معزول ومقطوع عن الأحزاب منذ عشرات الاعوام ، بسبب شكوكي في مبادئها وبرامجها وطبيعة نشاطها.

قال إن هناك وسيلتين للعثور على عمل في العراق، الأولى هي القرب من مواقع السلطة الأمريكية وممثليها من العراقيين، بمعنى أنك يجب أن تحظى بتزكية أحد الأحزاب المتعاونة مع قوّات التحالف، أو، وهذا هو أكثر الحلول سهولةً، أن تقدم رشوة مناسبة لأصحاب الشأن. ثم قصّ عليّ حكاية المستخدمين الأربعمئة الذين التحقوا بوزارة الصحّة بعد أن سدد كلّ واحد منهم مبلغ 250 ألف دينار عراقي، أي ما يعادل مئة وثمانين دولاراً. وأضاف معلقاً بأن الأمر بات أسوأ بما لا يطاق مما كان عليه في زمن البعث. وسواء أن تعلّق الأمر بتنظيف المجاري أو رفع القاذورات أو تصليح خطّ التلفونات فلابد من دفع الرشوة التي بدونها لا يتحقق شيء. ولكي يثبت لي صحّة ادعائه اقترح عليّ أن أرافقه في جولة.

لقد فقدت عبارة "الصدمة" معناها كليّاً في عراق اليوم، فمن الممكن نظرياً أن تكون عميلاً مباشراً لسلطة الاحتلال، ووطنياً في آن واحد. هذا هو على سبيل المثال وضع "مجلس الحكم المؤقت".

لا شيء في مراكز بغداد التجارية سوى الفوضى والضجيج والدخان الكثيف وأكوام الأزبال وصراخ الباعة الثابتين والجوالين الذين وضعوا عرباتهم في منتصف الشوارع والساحات . ثمة صفارات شرطة لم يلتزم بها أحد، لكن الغريب في الأمر هو أن مفرزة الشرطة الصغيرة التي تنظم السير في "ساحة التحرير" بدت في مزاج رائق؛ لأنها ربما اعتادت على مشهد الفوضى والرشوة التي يمكن أن تتمخض عنها هذه الفوضى المطلقة. ولأن الواقع في العراق لم يعد يحتمل الجدّ فقد تقدم أبن عمتي الذي كان يرافقنا من ضابط السير الذي كان يحمل رتبة مقدم وخاطبني: استمع إلى ما سيقوله السيّد المقدم. وبعدما تبادل القريب بضع كلمات مع ضابط المرور ثم صافحه مودعاً قال المقدم: كم دينار يرحم والديك، فلوس غداء!

إذا كانت هذه لغة ضابط كبير في الشرطة العراقية الجديدة وفي أهم ساحة عراقية وأكثرها شهرة، فكيف سيكون سلوك شرطي الأمن في عراق المستقبل! في زمن صدام كانت عقوبة الإعدام تنفّذ أحياناً على من استلم الرشوة، على الرغم من أن صدام وأعوانه كانوا يمارسون أسلوب الرشوة علناً وعلى رؤوس الأشهاد. لكن الآن وبعد غياب نظام البعث الذي خلّف وراءه ضمائر مريضة أو ميتة أصبحت الرشوة سلوكاً يومياً طبيعياً.

وفي مساء اليوم ذاته ذهبنا إلى زيارة مريض رقد في مستشفى "مدينة الطب" الذي طوّقه رجال مسلحون، لأنه يعتبر هدفاً سهلاً للإرهابيين الذي لا يعرف احد الجهة التي تقف وراءهم، لذلك لم يبق أمام الأمريكان وأعوانهم العراقيين إلا شمّاعة "القاعدة" وأنصار صدام أو "أنصار الإسلام، وكأن هذا الذي سمعنا به أو رأيناه بأمّ أعيينا لم يكن إرهاباً: الاعتقال العشوائي والقتل العمد والتعذيب حتى الموت وإطلاق الرصاص على ممثلي الصحافة والجريمة المنظمة التي تشرف عليها بعض الأحزاب المشاركة في مجلس الحكم، هذه كلها مجرد شواهد صغيرة على ما سيئول إليه مصير العراق برمته. حتى تلك اللافتات والصور التي تمثّل رجال دين، ولا شيء غيرهم، كما لو أن العراق كان مجرد مؤسسة دينية ليس إلا، حتى هذه الصور كانت بمثابة إرهاب مسلط على المرضى وعلى مستخدمي المستشفيات. ثمة عشرة أشخاص على الأقل، بعضهم كان مسلّحاً، جلسوا في مدخل المستشفى وقد بان على مظهرهم انتماؤهم الديني أو في الحقيقية انتماؤهم الطائفي، الثياب السوداء والأشرطة الخضراء.. وما أن دخلنا حتى سألنا "موظفو" الاستقبال إن كنّا قد أتينا لهم بهدية. ويبدو أن الهدية، النقدية على الأغلب، هي ضريبة روتينية تفرض على الزائر وإن كان مريضه محتضراً. ورغم أننا دخلنا إلى صالة الإنعاش، أو العناية المركزة،المجهّزة حسبما قيل لنا بأحدث المعدات الطبيّة، فإننا رأينا القذارة في كلّ مكان، في الأرض وعلى الأسرّة والطاولات، وثمة أسراب من الحشرات تقاسم المرضى غرفة إنعاشهم. وكان هناك من أبلغنا بأن "الرعاية الصحيّة" قد تحسنت بما لا يقاس مقارنةً بما كانت عليه أيّام نظام البعث؛ إذ أن غرفاً كهذه كانت آنذاك وقفاً على رجال النظام. إنه مستشفى حكومي عام، بيد أنه أتخذ الآن معالم حسينية ضخمة بطوابق كثيرة ومصاعد كهربائية، وقد بات التفريق صعباً فيما كان هذا الذي ينتحب خلف الجدار قد فقد عزيزاً للتو، أم أنه يبكي مصاب الإمام الحسين.

*       *      *

كنت توّاقاً إلى يوم الجمعة، لأنه اليوم الذي يجتمع فيه الأدباء في مقهى الشاهبندر وشارع المتنبي، حيث العشرات من المكتبات التي لم أر وجوداً مشابهاً لها بهذه الكثافة في أي عاصمة عربية رأيتها من قبل، لا في القاهرة ولا في بيروت أو دمشق أو تونس أو الرباط. إضافة إلى عدد لا يحصى من الباعة المؤقتين الذين عرضوا كتبهم في الشارع الضيّق نفسه. كتب متربة ممزقة وأخرى جديدة زهيدة الثمن، لأنها طبعت بصورة لا شرعية في إيران أو في أماكن أخرى. كان هناك تضخّم في العرض، ويبدو أن القوّة الشرائية للعراقيين لم تستعد عافيتها بعد، أو أن ما رايته كان زهيداً من وجهة نظر عراقي مقيم في ألمانيا وباهظاً من وجهة القارئ العراقي. أربعة دولارات، على سبيل المثال، دفعتها ثمناً لكتاب إسحاق نقّاش عن "شيعة العراق وعندما دققت النظر وجدت أن اسم المترجم قد أسقط وأن هذه الطبعة صدرت عن "انتشارات المكتبة الحيدرية" في مطبعة "أمير-قم" الإيرانية، أي أنها طبعة غير شرعية صدرت بموافقة الحكومة الإسلامية في إيران، أو أن هذه الحكومة لم تكن مهتمة البتة بالجهود الفكرية للآخرين ولا بحقوقهم.

هذه هي بغداد القديمة التي طالما حلمت بها وحاولت استعادة تفاصيلها؛ هاهي ماثلة أمامي اليوم وقد ازدادت قدماً تحت وهج الظهيرة الساكنة. إنه التراب نفسه وصرخ الباعة والألفة والمنازل المتداعية التي لم تمتد لها يد الإصلاح منذ كانت هذه الناحية العتيدة مركزاً للحكم ودار إقامة للولاة العثمانيين؛ هذه هي المدينة الخرافية الأسطورية المنيعة المستباحة التي طالما وطأتها أقدام الغزاة والطامعين والعشّاق والشعراء منذ أبد الدهر، ومازالت تطأها إلى هذه الساعة.

وفي نهاية الشارع احتشد كتّاب العراق الجديد-القديم وصحفيوه، وحين تمعنت في الوجوه المترقبة المستبشرة لم أر من كان يتطلّع إليّ، أو من أوحى لي بأنه ربما كان قد رآني من قبل. وبعد فترة طويلة أقبل عليّ رجل ملتح امتلأ وجهه بالكدمات وبقايا الجروح, وكانت ثيابه مثقوبة في مواضع عديدة كما لو أنه أطفأ فيها سجائره، ووقف أمامي وأخذ يتطلع إليّ ثم نطق باسمي الذي لم أكن قد عرفت به كاتباً "حسين ابن علك ابن علي؟" نعم؟ هذا هو هادي السيّد حرز، صديق صباي؛ هذا الفتى الذي كان وسيماً موهوباً شديد الذكاء، أصبح الآن مشرداً مدمناً لا مأوى له سوى الشوارع. لم يبلغه أحد بوجودي ولم أفصح له بشيء عن هويتي، لكنني عرفته أيضاً. رأيت الدمع يترقق من مآقيه ويخضب لحيته غير المشذبة، والذكاء مازال يشعّ من عينيه الصغيرتين اليقظتين. "ثمّة طائر آخر يعودهكذا أنشد، لكن الطائر يا عزيزي جاء محبطاً مهيض الجناح، ثم أخذته في الأحضان. لم أساله ما الذي حلّ به، هذا الصاحب المتوقد الذهن. فكم كنت أزوره في البيت وأصغي إلى حكايات أبيه الذي أورثه روح النكتة والطرفة والموهبة. كان أبوه قد قصّ علينا ذات مرّة كيف أنه كان من أوائل المنتسبين لحزب "البعثوكيف أنه كوفئ بمنـزل عقب انقلاب تموز 1968 ، لكنه وجد المنـزل مأهولاً. كانت ثمة عائلة كردية كبيرة، وعرف فيما بعد بأن الحزب كان يعلم بذلك، ثم أخذ يضرب لنا الأمثال عن الطبيعة التآمرية لحزب البعث وعن الخوف المتأصل في نفوس العراقيين. كان ذلك قبل حوالي ثلاثين عاماً، والآن هاهو ابنه الفنّان يفترش الطرقات معوزاً متسولاً. قال إن الأمر انتهى به إلى الشارع منذ ثمانية عشر عاماً، بعدما انفضّ عنه الأهل والأصدقاء. فهل رأيت هاني وهم وحسين علاوي وعلى مغامس وحسن عاتي وسيف الدين قاطع وداود سالم وكريم العراقي؟ لكنني لم التق بهؤلاء بعد، وشعرت بفرح داخلي بأن هؤلاء كلّهم مازالوا أحياءً. ثم أشار هادي إلى مدخل "سوق السرايحيث انتصبت كرة أرضية فوق طاولة محل لبيع القرطاسية وقال إن العراق لا يحتل من هذه الكرة سوى ظفر صغير، لكنه يحتوي الآن على مئة وخمسين حزباً وعلى مئتين وإحدى عشرة جريدة. ففي الزمن البائد كانت هناك ثلاث أو أربع جرائد تثير القرف، وأخذنا بمرور الوقت لا نشعر بوجودها، أما اليوم فقد بدأنا نشعر بالغثيان والاختناق من هذا الكمّ الهائل. إنها جرائد إذا ما أمسك المرء بواحدة منها يشعر من فرط نتانتها بأن يده لن تتطهر حتى شطفها بماء النار. أحزاب وشخصيات تتهافت كلّها لكي تخدم الأجنبي لقاء أجر، رؤساء تحرير صحف يطوفون على قوّات الاحتلال بغية الحصول على إعلانات. وقال لي أنظر إلى هذا الشاعر على سبيل المثال الذي جعل نفسه ذات يوم متحدثاً بلسان أدباء العراق. لقد كان يجلس معنا إلى طاولة واحدة ويحتسي الخمر مثلنا وينشد أناشيدنا ثم يتقيأ مثلنا. غير أنه اليوم أصبح ممثلاً لإحدى التنظيمات الدينية، وحالما ينتهي من تلاوة قصائده تختم جلسته بعزاء أو لطمية. هذا هو العراق الديمقراطي الجديد، ديمقراطية أن تكون خائناً هكذا على رؤوس الأشهاد، ومادام الكثير يمارس دور الخيانة فما الضير أن تجد لك ملاذاً ورزقاً لدى حزب أو تنظيم. قال إنه كان يلقى القبض عليه في زمن البعث، لكنه يضرب في المعتقل، أما الآن فإنه يضرب في الشارع نفسه أمام أعين الناس. "ثمّة جماعات تعتقد أن من واجبها الديني أن تضربني أنا المتشرد المدمن. إنهم يريدون مجتمعاً نظيفاً وهم يجلسون في متصف القذارة."

وشيئاً فشيئاً أخذت عيناي تألفان المكان، وفجأة وثب عليّ شخص ما وطبع بضع قبلات سريعة ثم سألني هل تتذكر رحلتنا إلى البصرة حالمين بالهرب من العراق عن طريق السفن؟ متى حدث ذلك؟ قبل سبعة أو ثمانية عشر عاماً؟ لم أعد أتذكر جيداً لكننا سكرنا آنذاك في بار، لعله بار ماريا في الشارع الجمهوري، وجلسنا على "العشّار" نفكر في الرحيل. أنا داود سالم، أتتذكرني؟ نعم أتذكرك؛ ومن كان ذلك الرجل الذي أوشكنا أن نتشاجر معه؟ كان زوج شقيقتي. آها. هنا لاحظت بأن خيط الذكرى قد انقطع وأدرك داود بأن عليه أن يواصل حديثه مع الآخرين، فبدا معهم أكثر حيوية خفّة. وثمّة قاص كان قد دخل قبل ثلاثين عاماً في دورة لنوّاب الضباط، لكنه أصبح محامياً وقاصاّ فيما بعد. الآن فقط صرت أتذكر صوته الرفيع المبحوح؛ نعم إنه حسن عاتي الذي كان أبوه يحدثنا عن "بئر زمزم" ساخراً منّا ومن مشاغلنا وكتبنا آنذاك. لقد قرر الأب أن يدخل ولده إلى مصنع الأبطال أو أنصافهم؛ بيد أن البطل شارف اليوم على الخمسين أو تجاوزها، وبدا أكثر صغراً، لكن صوته مازال يحتفظ بدفئه القديم. وكم فرحت بعدما عرفت بأنه صار يكتب القصص وينشرها. إذن إن أعوام الجندية والحرب لم تذهب كلها سدى.

إلا أن أصحابي القدماء لم يسمعوا باسمي الذي عرفت به كاتباً وربما قرأوا شيئاً لي وصلهم عبر طريق ما، وعدا عن ذلك فإن القطيعة بيننا كانت خالية من الرحمة حقّاً.

*       *      *

اليوم جاء أبناء العمومة، عشرون ابن عم وأبناؤهم وأحفادهم ونسائهم، جاءوا ليستطلعوا أمر هذا الغريب المبعد الذي قاده الحنين من عنقه كالعبد. كان المشهد بالنسبة لي يشبه الورطة أو الامتحان، فهؤلاء كلهم من لحمي ودمي وهم مستعدون ربما أن يقدموا الكثير من أجلي، لكنني لا أعرفهم، وكان أكثر الناس قرباً لي من بينهم هو ذاك الذي التقيت به ثلاث أو أربع مرّات في حياتي كلّها ولم أعد أتعرّف عليه الآن إلا بمشقّة. كان أغلبهم صامتاً مطرقاً، لعلّه كان يفكّر في سؤال صحيح خال من التعقيد، لا يجلب عليه سخرية الآخرين. وهكذا طال الصمت، وبدا كما لو أنهم جاءوا ليودعونني, هؤلاء أبناء الأعمام القادمون من أطراف الأهوار والمدن. وبعد فترات تأمل كانت بعض الأسئلة الصغيرة المترددة تنطلق من أكبرهم سنّاً: هل ألمانيا تقع بالقرب من مكّة؟ هل فيها شاي وسكّر؟ وهل يغسل الميت ويكفّن كما هو الحال عندنا؟ ومن أي ملّة أو عشيرة زوجتك؟ أهي ألمانية؟ وهل علمتها الصلاة؟ كلا، إنها مازالت على دينها ولم تدخل في دين الفطرة. يا للعجب! وهل يتكلم أبناؤك اللغة العربية؟ إنهم يتكلمون الألمانية فقط. أوووه! لاشكّ أنهم سيضيعون. وهل في ألمانيا نفط مثلما موجود في العراق. كلا، الحمد لله! والغاز؟ وهل تنقطع الكهرباء، يلفظونها "الكرهبةفي ألمانيا؟  ما هي المهنة التي تمارسها؟ كاتب! كاتب عرائض أم ماذا؟ شيء من هذا القبيل. هل الألمان يختلفون عنّا؟ كلا ليس هناك اختلاف، إنهم بشر مثلنا، ربما يفكرون أكثر منّا قليلاً؛ هذا كل شيء. ولماذا نشغل أنفسنا في التفكير، وما الذي استفدناه من التفكير سوى حرق الأعصاب! سنرى ما تفعله أمريكا بنا. اللهم أجعله خيراً.

وفي الغرفة التي اجتمعت فيها النساء، نساء أبناء العمومة وأبنائهم، رأيت الوجوه الموشومة المتشابهة، مثلما الأسئلة، لكنها ربما طُرحت هنا بصورة أكثر صدقاً. هل تريد العودة إلى العراق وتتزوج امرأة من بنات جلدتك؟ كاظم ابن ابن عمّك تزوّج قبل شهر للمرّة الرابعة. وهكذا مضت نصف ساعة من العروض والإغراءات. وبعد انتهاء اللقاء علّق أخي قائلاً إذا أردت أن ترحم بالمرأة فزوّجها إلى أحد أبناء "الناصريةلأنه سيتطلع إلى فمها طوال الوقت، منتظراً ما تفصح به لينفذه، ولا تزوجها إلى أهالي "العمارةلأنك لا تعرف متى تأتيها اللطمة على الشفتين. ياله من حكيم، أخي. ولعلّ في هذه "الإلماعة" شيء من الصحة، من يعلم!

كان علينا أن نعدّ مائدة عامرة لهؤلاء السادة المنحدرين من صلب النبي محمّد ونصغي لأسئلتهم طوال النهار والليل. قال لي السيّد مالح إن رجالاً من أمن صدّام اعتقلوه ذات مرّة دون سبب، وقدموه إلى مسئول حزبي، وعندما سأله هذا المسئول عن عمره أجاب السيّد مالح: سبعين وأربعة. فضحك المسئول وأطلق سراحه.

 

 

 

*       *      *

في الأمس نمت نوماً سيئاً للغاية، وشعرت بأن تغيّراً ما طرأ على جسمي، على أية حال ، شعرت بحساسيّة جلدية لا أعرف مصدرها. لقد أمضيت ليلتي في مدخل الدار، الهول كما يسمّى، لأن الزوّار القادمين من العمارة احتلوا غرفة الضيوف التي كانت بمثابة غرفة نوم.

وبالإضافة إلى الحساسية جاء صوت جارنا السكّير الذي أصابته شظيّة في رأسه إبّان حرب الكويت ولم تخرج منه، إنما أخرجت الرجل عن طوره. كان صوته يلعلع بعد منتصف الليل إلى جانب سمّاعات الحسينيات والجوامع المؤقتة. وكلّما حاولت أن أفهم شيئاً مما نطق الجار أبو قاسم أو ما جادت به مكبّرات الصوت فشلت أيما فشل. وفي صباح اليوم أبلغني أحد أقربائي بأن أبا قاسم كاد ذات مرّة أن يورّط بعض الجيران المشبوهين أصلاً في نظر حكومة البعث، إذ وقف طوال اليوم يردد بصوت عال برقية عاجلة: "من علي حسن المجيد إلى طارق عزيز، هل تسمعني؟ لقد وصل صدّام، أجب! من علي حسن المجيد إلى…" لكن من ذا الذي سيجيب؛ فحتى جنون العراقيين صار سياسياً.

كان كلّ ما سمعته تقريباً ينضح بالسياسة، التساؤلات والحكايات والأحاديث العامة والأمثلة. لقد أفسدت السياسة حياة الناس، فلم يعد هناك مجال لا علاقة له بالسياسة، وأي سياسة! الحرب والجوع والاحتلال وحالة القلق والتوتر وفقدان الأمن والامل. روى لي أحد الجيران بأن ابن ابن خالي كان واقعاً ذات يوم تحت تأثير المخدرات فقام بإطلاق قذيفة على دورية أمريكية كانت تجوب شوارع "مدينة الثورةفأخطأ الهدف وهرب، فطارده الأمريكان من بيت إلى بيت. وفي بيت هذا الجار كان أبوه الأعمى يجلس على خشبة مرتفعة قليلاً عن الأرض، فما كان من الأمريكان إلا ورفعوا الأعمى وخشبته بحثاً عن ابن ابن الخال. فصرخ الأب ذعراً من ذا الذي فعل بي هذا؟ فقال الابن "لا تخف يا أبتي، هؤلاء بيت طارش، أبناء عمومتك!"

نعم، هؤلاء هم أبناء العم سام القادمون من ساوث كارولاينا ونورد داكوتا وكنساس وأوهايو؛ جاءوا ليصلحوا ما أفسده صدّام، ابن العم العراقي، أو الأمريكي بالفطرة،لا فرق، فجعلوا ما كان فاسداً أصلاً أشدّ فساداً.هؤلاء أبناء عمومتك يا أبتاه؛ جاءوا ليرفعوا عنك الحيف والظلم ويحلّوا عقدك عقدة إثر عقدة حلاًّ نهائياً.

وبعد الظهر تقاطر الأصحاب والأقرباء والجيران وبدأ الحديث الذي سرعان ما احتد وتوتر. ثمّة إجماع على أن النظام السابق كان نظاماً غير شرعيّ، فاسداً وإجرامياً، لم يكن يرجى منه خيراً للعراق وللعراقيين، وقد ذهب غير مأسوف عليه. إن أحد أسباب سقوطه السريع، هكذا كانت مجمل الآراء، هو أن الشعب لم يلتف وراء النظام الذي أذاق الشعب شتّى صنوف الذل والهوان. وإلا لم يكن بمقدور الجيش الأمريكي، مهما بلغت قوته، أن يحتل العراق بكل سهولة. والآن فإننا أصبحنا أحراراً، لكن ليس بمحض إرادتنا، إنما بإرادة الغير. والمحرر يطلب منّا أن نجزيه على ما قام به من عمل مجيد، كأن نمنحه نفطاً وقواعد عسكرية ومعاهدات انتداب…إلخ.  نحن نعلم بأن الأمريكان لم "يحرروننا" من أجل سواد عيوننا، بل لمصالح قومية حيوية لهم في هذا البلد الكبير الغني ذي الموقع الاستراتيجي الفريد. لقد بدا الأمر مثل لعبة شيطانية بين طرفين غير متكافئين، لعبة مأساوية بين فأر وقطّ، وكان معروفاً من سيخسر اللعبة. بيد أن القط لم يكتف بافتراس الفأر وحده، إنما استباح مملكته. إن لنا اليوم حرية القول، وهي هبة لا تضاهى، وقد نذر الكثير منّا نفسه بغية نيلها، وهاهي أتتنا أخيراً على ظهور الدبابات الأمريكية، أما ما حدث بعد ذلك فلا ناقة لنا فيه ولا جمل. وليس هناك من سألنا عن حاضر البلاد أو مستقبلها، فكلّ شيء هنا يكتنفه الغموض: كم ستبقى قوّات الاحتلال في العراق؟ ما هي الصفقات التي عقدت مع المقاولين المحليين لذين باعوا العراق أرضاً وشعباً للمستعمرين الجدد بثمن بخس. هذه الحكومة المؤقتة هي اليد السريّة لتعزيز الاحتلال وتسهيل قمع المعترضين والمعارضين  لصفقة البيع هذه. وكلّ شيء يشير إلى أن بعض أفراد "مجلس الحكم المؤقت" قد أثروا بشرعة قياسية من أموال الشعب السليب وينتظرون الساعة التي سيطردون فيها ليعيشوا خارج العراق حياة ترف ونعيم. إن اللعبة قديمة جدّاً، واضحة ومعروفة. لقد أعدوا لنا دستوراً خبيثاً بمثابة فخّ، طبخوه هكذا على نار مشبوهة تحت ظلّ الاحتلال العسكري المباشر؛ وسيكون هذا الدستور اللعين سبباً مباشراً لاندلاع حرب أهلية لا يعرف أحد كيف ستدور رحاها وإلى أي نتائج ستقود، لكنه على أية حال الدمار عينه سيحيق في مستقبل العراق. فهناك من ينتظر الآن بفارغ الصبر إشارة من المرجع الشيعي على السيستاني، أو أمراً من مقتدى الصدر. ومن الأفضل لو تصدر فتوى عامة من مكتب السيستاني تدعو إلى الجهاد ضد الأمريكان وأعوانهم. نحن لا نريد احتلالاً ولا دستوراً مزيفاً، بل نريد عراقاً حرّاً موحّداً وقويّاً.

وكيف هي العلاقة بين طائفتي السنة والشيعة؟

كان هذا في الواقع أحد اعقد المواضيع في العرق وأهمها، وغالباً ما تتخذ فيه الإجابات طابعاً عمومياً ممالئاً ومماطلاً.

نعم، الأغلبية الشيعية كانت مضطهدة طوال القرون الأربعة عشرة الماضية، باستثناء خلافة على ابن أبي طالب؛ وإذا كانت هناك دويلات ذات طابع شيعيّ حكمت العراق مثل ل دولة البويهيين، فإن أبناء الطائفة أنفسهم لم يستفدوا منها شيئاً. كانت هذه دولاً للحكّام والأمراء فحسب، وظلّ الاضطهاد واقعاً يومياً مفروضاً على العراقيين ومنهم الشيعة. والآن فقط بعد نهاية الحكم العراقي الأخير المقنّع بلباس السنّة، بدأت بشائر تلوح في الأفق بحيث أن الأغلبية الشيعية باتت على قاب قوس أو قوسين من استلام الحكم. لكن الأمريكان وحفاؤهم من العرب والأجانب لا يريدون أن يحكم الشيعة العراق، خوفاً من أن يتحوّل العراق إلى إيران ثانية.

كان هذا حديث الشيعة ، غير أنني عندما تجولت في بعض أحياء "الكرخ" التي تقطنها أغلبية سنيّة، لفت انتباهي كثرة البيارق الملّونة واللافتات والصور التي تمثّل أئمة الشيعة، الأموات منهم والأحياء. فثمّة روح منتشرة على الجدران وحلم يكاد يكون مجانياً لنيل الشهادة، حلم لا يقلّ خفّة عن حلم الانتحاريين الحالمين بالجنّة. وأنصار صدام؟ إنهم حالمون أيضاً بالشهادة والجنّة معا. وربما يحلمون بالسلطة، لأن الرغبة في الموت ليس دائماً ذات علاقة بالدين والتديّن،فالشيوعيون على سبيل المثال كانوا، وربما مازالوا، يرتقون أعواد المشانق، ملؤهم ثقة وتفاؤل بمستقبل سعيد، على الرغم من أنهم لا يؤمنون بدين، وإن استحالت عقيدتهم ديناً لا يقلّ تطرّفاً عن عقائد الغلاة. إنه الموت من أجل حياة افضل للآخرين، هكذا هو الموت الشيوعي، أمّا الموت الصدّامي فهو موت من أجل استعادة السلطة. وأولئك الذين يفجرون أنفسهم باسم الإسلام بغية قتل أكبر عدد ممكن من الأبرياء وغير الأبرياء؟ وهل سيدخلون الجنّة؟ كلا، إن هذه كائنات ممسوخة، مجرد آلات لتنفيذ رغبات عصابية متعطشة إلى الدماء، والدم العراقي الحار بالذات! إنهم يريدون الدم العراقي يراق، ليتلذذوا بمرآه، ويشعرون بالطمأنينة لأن الدم المهدور هو دم العراقيين، دم الغرباء. لكن من هؤلاء؟ كيف هو دمهم؛ وهل حبّ القتل ونزعة الإجرام تأصلا في خلاياهم؟ ولم بقيت أغلبية المسلمين صامتة؟

لاشيء سوى الدمّ، هكذا قال محدثي السنّي. قال إنه بالأصل من تكريت، لكنه لم يكن يوماً من أتباع صدّام. كما أن صدّام نفسه ليس من أهالي تكريت، بل ينحدر وعشيرة الناصري كلّها التي ينتمي إليها من الناصرية، جنوب العراق. وهل هو شيعي أيضاً؟ كلا, هو أرجع أصله مثلما نعرف إلى الإمام علي ابن أبي طالب، ولم يحتج علماء الشيعة رسمياً على هذا الادعاء المزيّف. قال إنه ولد في بغداد، مدينته التي يعشقها، والتي استباحها الغزاة. وقال إنه أصيب بجلطة قلبية بسبب تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية، لاسيما بعد قرار حلّ "وزارة الإعلام" التي عمل فيها مترجماً لمدة ثلاثين عاماً. "متى بلغ الأمر بنا إلى حدّ أن يستنفر بعضنا البعض؟ ما هذه اللافتات والبيارق والصور إن لم يكن هدفها إثارة النعرة الطائفية، حتى لو كان هذا الهدف غير معلن؟ قال إنني أسأل نفسي كيف أقدم سيّد من أبناء رسول الله وهو السيّد الحكيم على مصافحة الرئيس الأمريكي والخضوع لشروطه وقواته تحتل بلدنا؟ كيف يطالب هذا السيّد من العراق المحطم المحتل أن يدفع مئة مليار دولار تعويضات لإيران؟ وكيف يشكون من التمييز الطائفي وهناك خمسة مدراء عامون فقط في "وزارة الإعلام العراقية"؟

شيعة سنّة ومسيحيون وصابئة وعرب وأكراد وتركمان وآشوريون؛ أطياف وأجناس وسجالات لا تنتهي. وبينما بلدان أخرى أقامت صروحاً جبّارة من هذه التنويعات العرقية والدينية فإنها في العراق أصبحت مصدراً دائماً للفرقة والتفتت. وليس بإمكان المرء أن يفعل شيئاً إزاء هذا الانهيار المروع، وسيبقى العراق مشروع دولة مؤجلة، ربما لن تتحقق أبداً.

*       *      *

 

 

ولأن بعض الأقرباء كان يأتي ثلاث أربع مرّات في اليوم الواحد ليسألني عمّا دار في خلده، فقد اقترحت على صديق لي أن نذهب إلى "اتحاد الأدباء" العراقيين، قرب ساحة الأندلس، حيث اشتغلت في محل للكعك والمعجنات عندما كنت صبيّاً.

لم يبق للمحل أثر، واختفى كذلك "فندق صحارى" الجميل، وأقيم في موضعه مخزن للأثاث ومزاد علني. ومن الطريف إنك حالما تدخل مبنى الاتحاد يهرع إليك رجل مسلح ببندقية روسية ليفتشك. فابتسمت مستسلماً للرجل الذي كان يؤدي عملاً نافعاً تماماً، لكن هل يعتبر أدباء العراق مهددين، أو هل تعرّض أحدهم للقتل في زمن نظام كان قائماً على سياسة الموت وحدها؟ ربما كان هذا هو الاتحاد الأدبي الوحيد في العالم الذي يحرسه رجال مسلحون، ومما يجعل الأمر أكثر مفارقة هو أن لا أحد يعلم فيما كان هناك أصلاً اتحاد للأدباء العراقيين. فكم مرّة تأسس هذا الاتحاد ثم اختفى بالطريقة ذاتها التي تأسس بها. وكم حاول متعهدو الأحزاب والمتطفلون على الأدب أن يتصدروا الواجهة الثقافية في الداخل والخارج؛ بيد أن أحداً منهم لم ينجح في محاولته. وثمّة لوحة في المدخل تمثّل الشاعر محمّد مهدي الجواهري، أحد مؤسسي اتحاد الأدباء بعد انقلاب تـمّوز 1958. صورة عملاقة غير فنيّة، صارخة اللون، مرتجلة، لكنها تبقى على أية حال أفضل من وضع صورة لوحة لفارس عربي أو لرجل دين معمم.

في منتصف السبعينات كان هذا المبنى وحديقته الواسعة حافلين بالأدباء وأشباههم، بالشاربين وأصحاب المزّة، بالشعر والقصّة والنقد ومواضيع مختلفة عن التراث والحداثة، بل حتّى عن المنفى. ومازلت أتذكر محاضرة خالد السلام عن الأدباء المنفيين، والنقاش الكبير الذي أثارته عندما طالب أحد الحاضرين بتعريف دقيق لعبارة المنفى، وهل أن شاعراً مثل أودن الذي هجر بلده ورحل إلى أمريكا في العام 1939 يعتبر منفيّاً أيضاً؟ وأتذكر الأمسية الرائعة التي أقامها الاتحاد احتفاءً بالشاعر بلند الحيدري، ومداخلة الناقد اللبناني علق شلق الذي شلق الحاضرين شلقاً. ورشدي العامل العاطفي بامتياز وفوزي كريم المتبجح باستقلاليته الإشكالية وعبد الأمير الحصيري الشاعر والسكيّر الأصيل. وعلى الرغم من جو الخوف السائد آنذاك في العراق، لكن كان هناك فعل ثقافي مؤثّر كان يشدّ من عزمنا ويمنحنا قدرة على المقاومة. والآن بعدما حلت الفواجع والنكبات وحدث ما حدث في العراق، وبعدما انقسم الأدباء إلى مقيمين ومنفيين، إلى داخليين وخارجيين، وبعدما أصبحت حرفة الأدب مجرد مكرمة يمنحها صدام انتفت أيضاً الأصول والحدود والتقييمات القائمة على النـزاهة والأسس الفنيّة-التقنية. وكان الكثير من أدباء الداخل يتهافتون على المكارم وينشدون القرب من عدي وأعوانه؛ هؤلاء الأدباء الذين أصبحوا فيما بعد معارضين ومضطهدين، وباتوا اليوم من أشدّ المناصرين لسلطة الاحتلال، فتحولوا إلى مستشارين ورؤساء تحرير صحف ووزراء مؤقتين ونواباً لهم.

وحالما تدخل باحة المبنى ترى قاعة خشبية تشبه ثكنة عسكرية خالية، "تخشيبة" مثلما يسميها المصريون. وعندما سألت عنها قيل لي إنها "مخصصة" لغير الأدباء. فمن هم هؤلاء غير الأدباء؟ وهل يجوز لهم الاختلاط بأصحاب القلم، أم أنهم جاءوا لأن المبنى يعدّ هذه الأيّام واحة صغيرة لمن ضاقت به السبل بحثاً عن حانة أو بار في بغداد المترامية الأطراف التي كانت تعجّ بمئات النوادي والحانات؟

ولعلّ الظروف الاستثنائية، ومنها الظروف المادية بطبيعة الحال، جعلت القائمين على المبنى يفكرون في تحويل الاتحاد إلى مطعم شعبيّ عام، يقدم العرق والمزّة إلى جانب الرز والمرق والدجاج - يعتبر العراق من أكثر مستهلكي الدجاج في العالم. غير أن حديقة الاتحاد الجميلة وسط بغداد المتعبة الماحلة اللون قد فصلت عن بعضها وسُوّرت بسياج من القصب. ربما تم وضع اليد على النصف الآخر من الحديقة عملاً بسياسة الاستيلاء والتقسيم والعزل والتصغير المتحكمة بالواقع العراقي.

بضع طاولات عامرة ووجوه لا أعرفها، ولا تعرفني. عيون ترنو برهة صوب القادم الجديد ثم تغضّ البصر ثانيةً. يبدو أن أحداً لم يعثر في وجهي على ضالته. اختار لنا الصديق الذي أدخلنا ببطاقة عضويته مكاناً في الحديقة المشمسة، وأراد أن يقنعني بتناول قنينة صغيرة من العرق. فرفضت مفضلاً أن أشرب شيئاً آخر في عزّ الظهيرة تلك، لكن حانوت الاتحاد لم يكن يقدم لزبائنه إلا المشروبات الروحية، أمّا المشروبات الجسدية من قهوة وشاي فيمكن أن يأتي بها الزبون من خارج المبنى، ومن الأفضل لو تناولها في الخارج أيضاً. إن الأديب الحقيقي لا يحتسي الشاي أو القهوة، إنما خمرة التمر المعتقة وفي رابعة النهار. قال صاحبي لو أن العرق كان جزءاً من الحصّة التموينية في سنوات الحصار لشربه العراقيون تسريةً عن النفس بفعل القهر. ثم أضاف دون سابق إنذار: ما الذي أتى بك إلى العراق؟ فهنا ما يكفي من الكتاب وفرص العمل تكاد تكون معدومة، والأمن مفقود، والبلد متحل، والقوى السياسية العراقية لم تزل ضعيفة، لا تعرف بالضبط ما الذي عليها أن تفعله…"

أيّ صحوة، وأيّ نصائح واقعية، وحصافة رأي؛ لا تعد إلى بلدك وأهلك، وعد إلى منفاك الذي استحال الآن فقط إلى منفى حقيقي. وإذا كنت تأمل بالعودة ذات يوم، فها هو أملك قد انقطع تماماً، فلا عودة لك من بعد، عوليساً كنت أم حسيناً. هذا الماضي، هذا الجرح الطري الغائر، النازف، عليك أن تطمره طمراً؛ فهو الماضي وقد جئت لتدفنه. إنك لم تعد بحاجة إلى أكثر من مجرفة لكي تهيل التراب على ماضيك الذي مات وعلى وطنك وشعبك ومدينتك. فهذا كلّ ما تبقى لك، أليس من الأفضل أن ينقطع الأمل دفعة واحدة بدلاً من أن يبقى خيطه الواهي معلقاً في الخيال إلى ما لا نهاية؟

*       *      *

قررت اليوم البقاء في البيت لأتصفّح بعض الجرائد الصادرة في العراق: "المدى" و "النهضة" و"التآخي"  و"الدستور" و"الشاهد" و"الصباح" و"المؤتمر" و"المشرق" و"الجريدة" و"المنار" و"اليوم الآخر" و"بغداد" و"طريق الشعب" و"الساعة" و"الأديب".

في الواقع لم تكن الغاية معرفة أخبار العراق أو الإطلاع على "سرّ" من أسرار السياسة الداخلية أو على تغطية ميدانية لحدث ما، لأن كل جريدة كانت تشبه الأخرى أو تقلّدها، شكلاً ومحتوى، إنما مجرد رغبة آنية في معرفة ما وصل إليه واقع الصحافة هنا. وأحياناً تصاب باليأس عندما تسمع مساءً أصوات انفجارات مدوّية في بغداد لكنك لا تجد لها صدى في الجرائد اليومية، وفي أفضل الأحوال فإن هذه الجريدة أو تلك تنشر خبراً صغيراً تنقله عن إحدى وكالات الأنباء الأجنبية. وبلا شكّ أن الصحفيين العراقيين العاملين في المحطات الفضائية العربية هم الوحيدون الذين يقتربون كثيراً من مكان الحدث، مجازفين بحياتهم، وقد فقد البعض منهم حتفه بحثاً عن سبق صحفيّ. ولهذا السبب ربما كان أصحاب الصحف العراقية يتحلّون بقدر من العقلانية، فلا يغامرون بأرواح محرريهم. ومادام القارئ ليس مهماً في حساباتهم، إنما مصدر التمويل وحده، المجهول غالباً، فلا بأس أن تصدر الجريدة كسيحة ميتة كلّ صباح. خمس عشرة جريدة لو عصرتها عصراً لما خرجت منها بتعليق نقديّ أو تحقيق صحفي جيّد عن ظاهرة اجتماعية. وطالما بقي الأمر هكذا فإن من الأفضل على أية حال الاهتمام بالصفحات الأدبية، وبالأخص القصائد التي تعجّ بها الجرائد، مالئةً بها الفراغات بسبب نقص في الإعلانات، أو في المواد الجديّة. بيد أن القصائد ذاتها أصبحت لا تقل جديّة عن الحدث السياسي. وإذا كان اختيار الأخباأخبار يخضع أحياناً للظروف الطارئة فإن القصيدة تبقى على الدوام نتاجاً حسيّاً ذاتياً لا علاقة له البتة بتقنيات العمل الصحفي وإشكالاته الآنية. وبالقصائد يمكن أن تتعرف على إحساس الناس وأمزجتهم، وتطلع أيضاً على مقدار التطوّر الذي طرأ على لغة الشعر العراقي وشكله وبنائه وموسيقاه وقوّة تعبيره.

لكن يا لخيبة الأمل الذي ما بعدها خيبة! أشعرٌ هذا الذي ينشر اليوم في العرق أم هذيان أم غثيان؟ ولابد هنا من التعرّض باختصار إلى بعض النماذج:

"رحل الغزاة جاء الغزاة\ والشعب بين ميت ومات\ صار الهتاف\ وحلم السنين على الأكتاف\ عاش الطغاة يحيى الغزاة" أو هذا الذي يقول: "أنا أتهيأ لأدجن الفوانيس\ صرنا البرية\ حتى تساقط معي\ أحصي تراتيله\ كيما يحصي أزمنة قتلي"

والحقيقة أن كلّ عبارة وردت في هذا الجملة الإنشائية مختلة تماماً، إذ كيف يمكن أن يتخيل المرء فوانيس مدجنة كالحيوانات أو البشر، هل سيجعله بلا فتيلة أو بلا زيت أم ماذا؟ ثمة هذا "التساقط معاً" الذي عنى به ربما "السقوط معيلأن التساقط حالة تراتبية زمنية تشبه التراتيل التي تعني القراءة المتواصلة المتأنية، وهل عنى  السقوط بالمفهوم الأخلاقي أو بالمفهوم الرمزي؟ ثم كيف يمكن أن يحصي المرء "أزمنة" قتله، بينما القتل نفسه هو نقطة الانتهاء بالمفهوم الزمني تحديداً، وهو بالتالي ذروة الفاجعة بسبب حدته وآنيته وفجائيته. كما أن الإحصاء يحوّل القتل نفسه إلى مادة جامدة أو إلى عدد. وقد يكون هذا النصّ اتكاء غير موفق على قصيدة سعدي يوسف "هواجس": "أحياناً، أصغي في الليل إلى نفسي\ أحصي الطلقات المكتومة\ وخطوط الهجس…وأسأل عن حرسي"

ويبدون أن ظلّ سعدي يوسف - ظله فقط وليس إلماعاته وصوره الحيّة وانتقاء مفرداته وغنائيته، لاسيما في قصائده المكتوبة قبل الثمانينات - لم يزل مخيّماً على الشعر العراقي الجديد. وليس من الغريب أن تصل حالة هذا الشعر بعد عقود طويلة من القمع والحرب والحصار وعقلية الإجهاز الرسمي على المخيلة الخصبة وروح الإبداع إلى هذا القدر من الترديّ وانعدام الحسّ بما هو شعريّ وجدانيّ، وليس إلى التضخّم الذاتي الذي يكون له ما يبرره إن كانت صياغته فنيّة. لكن ليس كما جاء على لسان شاعر من الداخل: "بدينار أصلع\ أختبر ضمائركم…وأجرّها إلى حتف مطلق\ حين تذكرت أمام المرآة\ بأنني منذ شموس أتشرنق في الفيء…أدركت لماذا أحدودب ظهري"

ومما يوقع الحيرة فعلاً هو هل أن هذا الدينار الأصلع هو دينار صدام قبل حلاقة ذقنه، أم أنه حالة من حالات التضخّم المالي وليس الذاتي؟ وهل هناك نصف موت أو نصف ولادة ليكون الحتف مطلقاً؟ ثم أي ظرف زمان مبهم هذا الذي يمكن أن يحسب بالشموس وجعلته يدرك سرّ تحدّب ظهره؟

أو قول ذلك الشاعر ذي الباع الطويل والقادم من المؤسسة الإعلامية للحكم السابق: "طعام طري كما\ تشتهي\ وماء نقي\ وبيت زجاج\ وأنت هناك\ بمقصورة\ تسابق\ تلعب\ تأكل، تلهم\ تنام […]\ والظلام يجيء\ إلى البيت قبل المساء| والجميع هنالك\ نحن وجيراننا\ آخر الشهر يكتئبون"

وغني عن القول هنا إن العبارة الأخيرة لا تعني الاكتئاب بالمفهوم المرضي-المعرفي الذي تقوم عليه نظرية توماس مان حول التفاعل الذهني بين المرض والمعرفة عبر التوغل في مجاهل النفس وإضاءة المناطق المعطلة من الدماغ، إنما له علاقة بالراتب الشهري الذي شحت قيمته في زمن صدّام. و "كعب الشهر" هذا هو لا يحمل بعداً ميتافيزيقياً، بل همّاً مالياً سيختفي في أوّل الشهر.

وكأن هموم العراقيين في الداخل وإسقاطاتها السلبية على المناخ الثقافي غير كافية نرى من يتحف جرائد الداخل بنبوءة من الخارج: "من حاضر معاد\ وفي لحظة مجرمة\ أعبر قوس الظلام\ إلى مستقبل أحدب" ويبدو أن هؤلاء الشعراء اكتشفوا، وإن بشكل متأخر، الطاقة الشعرية الكامنة في مفردتي الحدبة والاحديداب . ومع ذلك فإن بعض أصحاب الصحف يرون مستقبلاً زاهراً مستقيماً، خالياً من التحدّب، مبشّرين بأن عام 2004 سيكون عاماً "للمحبة والتآلف بين جميع أطياف الشعب" وأن العراقيين "يجمعون على أن أيّامهم القادمة ستكون أيّام فرح وحبّ وعمل مثمر".

*       *      *

                         

كنت أحسب نفسي لا مبالياً فيما إذا عرف عراقيو الداخل عنّي شيئاً أم لم يعرفوا، وقد روّضت نفسي منذ البداية على التعامل مع ما أراه في هذا البلد بقدر من الانفتاح والصبر، معللاً ذلك بأن رحلة العودة كلّها ما هي إلا محاولة اكتشاف لما استجد في العراق. وعلى الرغم من هذه التهيئة النفسية شعرت بشيء من الإحباط بعدما قرأت أسماء الأدباء والسياسيين والصحفيين العرب والعراقيين المدعوين إلى "مهرجان المربد" في البصرة ولم أعثر على اسمي بينهم. فقلت ربما حدث سهو أو أن اسمي لم يخطر في ذهن من أشرف على إعداد القائمة، ربما كان صيتي ليس مدويّاً. بيد أن القائمة كانت تتضمن أسماءً مجهولة أو متهمة بالتعامل مع السلطة المنهارة. ثم إنك ألا تشعر بالخجل من أن يقرن اسمك بمهرجان كان موقوفاً على مدّاحي صدّام وزبانيته من عرب وعراقيين؟ ألم تلوّث هذه الأعوام الطويلة اسم المربد نفسه مثلما لوّثت اسم القادسية وغيرة من الرموز والمعاني التاريخية؟

وحتّى لو ورد اسمي فهل يعني هذا أنني سأذهب فعلاً إلى البصرة، فبأي حال سأذهب وأنا أشعر بالاختناق في العاصمة بغداد! وهل سأؤجل رحيلي إلى ألمانيا من أجل مهرجان دعائي يقام تحت إشراف الناطقين باسم قوّات الاحتلال ويمّول من قبل المؤسسات الأمريكية؟

بهذه التطمينات قصدت شارع المتنبي ثانيةً، حيث أوقفني شخص ما كان يتحدث بانفعال، وقال لي إنه سمع بي قبل أن يراني. وعلى الفور طلب منّي أن أزوده بمقالة لينشرها في مجلة أدبيّة كان يرأس تحريرها. فحاولت التخلّص منه بالقول بأنني توقفت عن الكتابة. فأجاب أن قدرنا هو الكتابة وأننا لا نستطيع التوقف عنها. وربما كان الرجل مصيباً، لكنني توقفت فعلاً عن الكتابة باللغة العربية، ليس لأنني حققت ما كنت أصبو إليه، إنما لأنني لم أر معنى ومغزى لمواصلة الكتابة إلى قارئ مجهول يقبع في مكان ما من عالم عربي لا ضوابط له ولا روابط، منعدمة فيه حريّة التعبير والنشر وحقوقه. قلت لرئيس تحرير المجلة الأدبية الذي عينه وزير الثقافة حديثاً بأنني أرى أن الوقت قد حان لمراجعة ما قام به رجال السلطة من أعمال ضد الثقافة والمثقفين، وأن يحدثنا في مجلته عن الصامتين وعن من وقف في وجه سلطة البعث، لكي يكون الناس على بينة من واقع الأدباء داخل العراق. فما كان منه إلا وزعق مستثاراً متوتراً: "أنا لا أريد مقالة منك، وسوف لا أنشر لك حرفاً واحداً كالما بقيت رئيساً للتحرير."

وعيد وتهديد يأتيك من شخص منحته "وزارة الثقافة" سلطة ولساناً لا يختلف عن ألسنة السلطة الصدّامية، إن لم يكن هو نفسه لسان حالها مثلما علمت فيما بعد، وقد كان هذا الشخص من المرشحين الرسميين في قائمة حزب البعث في "انتخابات" اتحاد الأدباء، وقد ورد اسمه في المرتبة الثالثة.

وهكذا تتوصل في عراق ما بعد صدّام إلى أشد الحقائق غرابة، وهي أنك لا تجد كاتباً واحداً كان متعاوناً مع النظام أو موالياً له، لأن الأدباء كلهم كانوا مظلومين ومضطهدين ومعارضين. ربما أنت المنفي قد تكون خائناً في نظرهم، لكن ما أن تعقد مقارنة صغيرة بين وضع المثقفين الألمان إبّان الحكم النازي (1933-1945) ومواقفهم البطولية وتنكيل النظام الهتلري بهم تعرف مقدار النفعية والانتهازية وروح المهادنة والتخاذل السائدة في الوسط الثقافي العراقي. يا إلهي! ليس هناك مثقف بعثي واحد ولا من كال المديح للطاغية ونال رضاه وعطيته وقد فعل ذلك عن طمع أو رضى أو بفعل الخوف! أنت المبعد في أرض الشتات تتحمل وحدك وزر ما حلّ بثقافة أهل العراق وأخلاقهم. لقد دخلوا طواعية في حزب الدكتاتور وحربه ومربده وحبّروا مقالات المديح في جرائده وتعانوا مع أمنه ومخابراته، إن لم يكنوا من رجال أمنه، ومن نسائه أيضاً، ووقفوا صفّاً واحداً دفاعاً عن الجلاّد، متنكرين لأبسط قيم الثقافة والخلق الإنساني. وتراهم اليوم يرتدون أقنعة البراءة ويتمسحون بمسوح الضحايا، بينما لم يقف في الحقيقة أحد منهم وقفةً شجاعةً ويعترف بما اقترفه من ذنب إزاء المثقفين بمدحه ووشايته وكيف ارتقى سلّم السلطة الدموية. فلا حساب هناك ولا صحوة ضمير، ومن كان صنيعةً للطاغية بات اليوم وكيلاً ونائباً للوزير أو مستشاراً لدى السفير بريمر، أو سفرائه المحليين.

*       *      *                                

مضيت اليوم إلى وزارة الثقافة دون أن أضع في ذهني شيئاً محدداً، بل انصياعاً لنـزعة فضول انتابتني، لأري ما الذي تفعله هذه المؤسسة التي تشكلت بدلاً عن وزارة الإعلام المنحلة. كنت قد شاهدت هذه البناية الواقعة في الطرف الغربي من شارع فلسطين. جئت لأزورها برفقة صديق فنّان، عرفت منه بأنها كانت دار "الأزياء العراقية" التي كانت ساجدة خير الله طلفاح، زوجة صدّام حسين، تشرف عليها، أو أنها أقيمت من أجلها، ثم "حُسم" أمرها بعد سقوط زوجها وتحوّلت إلى وزارة من وزارات الحواسم الكثيرة. وكما هو حال المؤسسات المشغولة من قبل الحكومة المؤقتة فإن مفرزة تفتيش وقفت في البوابة الرئيسية تفتّش الداخلين تفتيشاً يكاد يكون دقيقاً. ويبدو أن الحريّة الممنوحة للعراقيين كانت من السعة بحيث أتيح لنا أن نعتلي نصباً في الجناح اليمين من البناية ونتلقط صورة تذكارية.

كانت هذه المرّة الأولى التي أدخل فيها مبنى وزارة، وإذا ما أخذ المرء وضع العراق إبّان الحقبة الصدّامية في نظر الاعتبار؛ فإن الوزارات كلّها كانت تخضع للشروط الأمنية واستراتيجية عمل حزب البعث، وبهذا المعنى فهي محظورة على المواطنين، لأن المواطن مشبوه دائماً من وجهة نظر صدّام وحزبه. بلا شكّ أنه تطوّر إيجابي أن تدخل مقر وزارة دون أن تُسأل عن غرض الزيارة، وحتّى اللقاء بالوزير الشيوعي نفسه وبلا موعد بدا أمراً ممكناً. وعندما سألنا عنه قيل لنا إنه يحضر الآن اجتماعاً "لمجلس الحكمغير أنّني لمحت بالصدفة شخصاً أعرفه، عُين للتوّ مديراً عاماً للعلاقات الثقافية من قبل الحزب الشيوعي أيضاً، دون أن تحدد مهمته تحديداً دقيقاً. كنت التقيت بهذا المدير قبل بضعة أعوام في بلجيكا، خلال عروض مسرحية لعراقيين، فكان اللقاء حاراً، وحدثني حينها باهتمام عما كنت أنشره في الصحافة العربية. لكنه اليوم بدا متحفظاً جدّاً، وقال بنبرة باردة بأننا سنلتقي بعد نهاية اجتماع كان يعقده، فانتظرت أكثر من نصف ساعة، تأملت خلالها السور الخلفي للبناية فاكتشفت بأنه لم يكن موضوعاً تحت الحماية، وكانت ثمّة منافذ عديدة تؤدي مباشرة إلى المبنى. وعندما حدثت صاحبي الفنّان بذلك قال إن هذا ليس العيب الوحيد في وزارة الثقافة. وقال أيضاً إنه اقترح على الوزير تشكيل لجنة خاصة تهتم بأمر أدباء الشتات، فأجبت بأن السيّد المدير كان أحد المشتتين مثلي، ويعرفني جيّداً. فعقدت الدهشة لسان صاحبي "ورغم ذلك استقبلك استقبالاً بارداً. فقلت "ربما ظنّ بأنني سأحل محله، لكنني لا حزب لي، شيوعيّاً أو قوميّاً أو إسلاميّاً. وذلك يعني أن لا مكان لي في هذا العراق."

*       *      *

حالما دخلت خالتي أم ماهر الدار زفّت إلينا نبأ مقتل أسرة بكاملها. ثلاثة أشقاء قتلوا اليوم، وبعدما علم الشقيق الرابع بمصرعهم انتحر…كان القتلة تربصوا بالضحايا وأمطروهم بالرصاص في الصباح الباكر عندما خرج الأشقاء الثلاثة للعمل في السوق. كان القتلة متأهبين، إذ حالما أجهزوا على جيرانهم انطلقوا بسيارتهم إلى جهة مجهولة. بعد ذلك دخل أقرباء الضحايا دار القتلة وأضرموا فيها النار. لقد انتهت أسرتان هكذا بكلّ بساطة. وقالت شقيقتي الكبرى لتجعل هذه المأساة نسبيةً بأن صائغاً من طائفة الصابئة قُتل في "حي الأكراد" صباح الأمس ونهبوا محلّه، ثم أراد اللصوص الدخول إلى محل ثان غير أن باعة الأسماك علموا بالأمر فالقوا القبض على أحد القتلة وأشبعوه ضرباً. هنا تدخل شقيقي ليذيع خبراً جديداً: هل سمعتم بلعلة الرصاص ليلة الأمس؟ لقد قتل الإسلاميون بائع مخدرات وأحد أعوانه. كان يتاجر بالأدوية المخدرة التي تولّد الهلوسة، وقد أنذر من قبل، لكنه لم يستجب للإنذار. لو كان الأمر يتوقف على بيع الخمور لأصبح هيناً، لكن هذه الحبوب اللعينة تجعل المرء مخبولاً فيقدم على كلّ شيء. ألم تسمعوا بالفتى الذي تناول كبسولاً مخدراً فأقدم على قتل أمّة وأبيه وأخوته الأربعة. حدث هذا قبل بضعة أيّام في منطقة "الثورة الأولى".

ثم جاء الدور إلى أحد أخوالي فقال هل عرفتهم شيئاً عن قضية القوائم؟ أية قوائم؟ قوائم التصفية الجسدية التي أعدتها بعض التنظيمات العراقية للتخلص من الخصوم السياسيين أو الأعداء القدماء. هناك عصابات مسلحة مهمتها القتل، وهناك قائمة ورد فيها أسماء ضبّاط طيارين شاركوا في الحرب على إيران، إنهم اليوم مهددون بالقتل، ويقال إن أربعة منهم قتلوا في مناطق الكرخ. فقذفت خالتي بحسرة: هذه الحوادث كلّها في جهة، وقضية خطف الأطفال في جهة أخرى. سابقاً كانوا يخطفون أطفال الأسر الغنية، أمّا الآن فهم لا يتورعون حتى عن اختطاف أبناء الفقراء. تصوّروا أنهم يطلبون من الأب الفقير أن يبيع داره ليدفع فدية على ابنه؛ فإلى أي حدّ وصلت بنا الأمور!

فردّ أخوها بصوت ضاحك: لا تقلقي لأننا اعتدنا على تقديم الضحايا، ونحن الآن مستعدون إلى تقديم مليون ضحية أخرى يلتحقون بالملايين الثلاثة التي ذهبت هباءً خلال الأعوام الخمسة والثلاثين الماضية. فكم هو عدد العراقيين أربعة وعشرون مليوناً، خمسة وعشرون مليوناً؟ لا أحد يعلم بالضبط، فما الذي سيحدث لو قيل لنا إنهم فقط ثلاثة وعشرون مليوناً؟ وما الضير لو قدمنا مليوناً آخر قرباناً لكي يرضى عنا الله والأمريكان والجيران ومجلس الحكم؟

*       *      *

لم أعد قادراً على الكتابة وتدوين الملاحظات، وبدأت أشعر بتعب جسديّ غير مألوف، وقد ازدادت الحسّاسية الجلدية، على رغم المعالجة السريعة التي قام بها طبيب عجوز في ساحة الأمين. كانت عيادته فارغة تماماً باستثناء طاولة من المعدن وكرسيين. أمّا الانتظار ففي الممر، حيث جلست في طرفه امرأة محجّبة لا عمل لها سوى تسلّم مبلغ المعاينة، خمسة آلف دينار، حوالي ثلاثة دولارات. وكان السلّم المؤدي إلى العيادة مليئاً بالقاذورات، وقد يظن المرء بأن هناك استراتيجية ما وراء هذه القذارة، رسالة مثلاً للسلاّبين والنهّابين بأن ليس هناك ما يستحق المجازفة وقتل طبيب ومساعدته المبرقعة. كان كلّ شيء متداعياً ومتآكلاً، السلّم والعيادة والطاولة، وحتى الطبيب الهرم الذي طلب مني أن أراجعه مرّة ثانية في منتصف النهار. "والعصر؟"

"في الثالثة عصراً أقفل العيادة، لأن ساحة الأمين وساحة الرصافي تتحولان في المساء المبكّر إلى تكساس. نحن مازلنا أحياناً لأن أجلنا لم يحن بعد…"

وعندما تجولت في بغداد القديمة لألتقط بعض الصور، اجتاحني الرعب من حجم الدمار والإهمال الذي تعرّض له وسط المدينة. فالمؤسسات الحكومية لم تنهب فحسب، إنما أضرمت فيها النيران، هاهي دار الصحافة، دار الحريّة للطباعة التي حوّلها نفر من العائدين إلى حواسم، هاهي المكتبة الوطنية المنكوبة وهاهو المبنى الجميل لوزارة الدفاع التي كان المشاة يمنعون من المرور في محاذاتها وقد أصبحت اليوم مأوى للمشردين وإسطبلاً للحمير وخيول الجرّ.

منطقة العيواضية ومحلة الصابونجية، المركز القديم لبائعات الهوى في زمان العزّ، فساحة الميدان وسوق الهرج والحيدرخانة والقشلة وسوق السراي، صور محلت ألوانها، خرائب ينعب فيها البوم، وفوقها تهدر طائرات المحتلين. إنه الخراب التام وقد خيّم على أرض السواد، مأتم في حجم المدينة والبلاد كلّها. وجوه الناس المغلوب على أمرهم، النساء المتعبات اللواتي فارقت البسمة شفاههن. مسرح مجاني، مذبح يتسلّى به المتفرجون منذ أعوام وأعوام؛ إنني لم أعد احتمل البقاء، فقواي انهارت، وأضلاعي بدأت ترتجف…

*       *      *

 

 

 

غداً يوم الرحيل، وثمّة دلائل تشير إلى أنه سيكون الرحيل الأخير. لقد نفضت يدي عن جنازة الماضي، ماضيي أنا، وأخذت أحدق في وجوه الأطفال، أطفال أخي وأختي وفي وجه أمّي وأمها تحت وقع الهاجس الكبير بأنني أراهم الآن للمرّة الأخيرة. ألم يدم فراقي عنهم خمسة وعشرين عاماً، فكم ربع قرن آخر بقي في العمر!

ثم جلست في ركن وأخذت أقلّب في كتاب عن تاريخ بغداد وأقرأ: "وقعت بغداد بسهولة بين يدي تيمور، فذبح الألوف من الناس، وهدمت الجوامع والمدارس والمساكن" وفي العام  1623 اتخذت المجاعة "شكلاً مروعاً في بغداد، فقد أكل الناس لحم الكلاب والأطفال وجثث الموتى. وضغط الحصار بشدّة وامتلأ الجو بدويّ الألغام المتفجرة." وفي العام 1733 "أخذ الجوع من المدينة مأخذه وفتك بها المرض ودوّى فيها صوت الموت. وقد مات من الجوع ما يزيد على المئة ألف إنسان. فرميت جثث الألوف منهم في النهر، وظلّت جثث الباقين تملأ الهواء بعدواها فجاءت بالمرض أثر المجاعة." بيد أن هؤلاء الذين صنعوا الحضارة وخطوا للبشرية أولى حروفها وقصائدها حرمت عليهم الحياة، وحرم عليهم حتى اتخاذ الموعظة، فباتوا وقوداً سهلاً للمحارق البشرية التي تقام مرّة باسم الدين وأخرى باسم العرق وثالثة باسم الطائفة. إنه الدم العراقي يسفح منذ ألف عام وعام؛ فمن أنا لكي أوقف كلّ هذا النـزيف؟!

وحضرني في هذه اللحظة ما ذكره الكاتب البلغاري الأصل، الألماني اللغة، إلياس كانيتي (1905-1004) في إحدى خطبه: "كنت عثرت عن طريق الصدفة على ملاحظة كاتب مجهول، حملت تاريخ 23 آب 1939، أي قبل أسبوع واحد من اندلاع الحرب العالمية الثانية، جاء فيها: لقد انتهى كلّ شيء، ولو أنني كنت كاتباً حقّاً، لتمكنت من منع وقوع الحرب."

العودة للفهرس