شخصيات عراقية

الكابتن عمو بابا

العراقي الذي لم يبرح العراق بسبب عشقه له

إعداد - صبيحة ثويني

sabina_391@hotmail.com

 

 

عمانؤيل بابا داود تلك الشخصية  النادرة الحاضرة في خواطرنا،التي رددنا سيرتها أجيالاً عراقية بعد أجيال، مهتمين أوغير مهتمين بالرياضة. كانت مصادفة جميلة أن نلتقيه  قبل عام حينما حل في ستوكهولم لحضور دورة تدريبية خاصة، ووجدناه على المحك والتعايش ، دمث الطبع، ويترك أجمل الإنطباع في نفس محدثه، تواضعه الجم وتلطفه وعاطفته الجياشة، وفطنته ووسع أفقه وثراء تجربته ولماحيته، وحلو معشره وزهده، يدعوا للعجب العجاب. نادراً ما نقابل أحداً يعتز بعراقيته الى هذه الدرجة، لم نجده يفرق بين فئات الوطن من بعيد أو قريب، وكان فخوراً بنجوم الكرة العراقية الذين أكتشف مواهبهم مبكراً ورعاها، كحسين سعيد وأحمد راضي وعدنان درجال وناظم شاكر والجيل الثمانيني اللاحق حبيب جعفر وغانم عريبي وسعد قيس وليث حسين وباسل كوركيس ورهط طويل رسموا مجدا كرويا عراقيا لايدانى .

يعرفه الجميع أنه لم يختر أشباله من اللاعبين إلا لكفائتهم ومهارتهم، ولم يتمترس وراء إنتساب أو هوية قومية أو دينية أو طائفية. كلمناه فوجدناه يتكلم البغدادية بأجمل لكنتها بالرغم من لكنته الآشورية الصريحة ، ويعتبر نفسه بإعتداد أنه يتكلم "الأشورية الفصحى" بالمقارنة مع من قابلهم من آشوريي المهاجر . مازحناه وكان أهلاً للتلاطف ومبادراً للنكتة، حتى طفق يتكلم "اللهجة"الشراوية" مثل أهلها تندراً.

لقد عانى من الإجحاف والإذلال على يد سلطة البعث البائدة. وهاجرت عائلته هاربة بسبب ما أصابها وأصاب الجميع إبان الحصار الظالم في التسعينات.  لكنه مكث يعاني الضيم والوحدة، وتسائل الجميع عن سبب إصراره على البقاء في بيئة قاسية، وظروف غير مستتبة إبان الحصار وما بعد الاحتلال. لم يبرح بلد وهبه عمره، ولعب بقدمه من إجل إعلاء سمعته وسعى بكل جوارحه لبناء أجياله. كل ذلك وقوبل بالإجحاف من طرف سلطة البعث ، حتى تجسد"عرفانها" له أن بترت أصابع ذلك القدم الذي قدم الكثير للرياضة العراقية، من جراء  مرض(كنكرين) ألم بها، بسبب ما عاناه من إهمال  وعدم تناوله الطعام والدواء الخاص بمرضى السكري في فترة الحبس التي ظلمه بها عدي إبن الطاغية صدام بما عرف عنه من نزق الطغاة وهوسهم ودون أي مبرر، إلا بسبب شعبيته وحب الناس له، وهو أكثر ما كان يؤرق صدام وعصابته، والسبب معروف .

لم يدر في خلد الجميع أن هذا الرجل، وبالرغم من كل ما جرى ويجري له من إهمال، يتنفس برئة أسمها العراق، وأمسى سمكة مائها العراق، فلن يرضى خيار الاغتراب، وقابل بالرفض جزيل المغريات التي عرضت عليه في أصقاع الدنيا، وسمعناه دائما يردد على المسامع: عشقي للعراق ومحبتي للناس ومحبتهم لي تهون علي أي صعوبة ومعاناة الشيخوخة والمرض ونأي الأحبة والوحدة والإهمال. كان يمكنه أن يستغل مظلمته مع السلطة البائدة، ليتبوأ منصباً ويستجدي مجداً، كما فعل الكثيرون، لكنه رفض الأمر، حتى عرض عليه أن يكون وزيراً للرياضة، لكنه اكتفى بمدرسته الكروية الزاهدة التي يقيمها في ملعب الشعب، والتي يدرب فيها الفئات العمرية الناشئة، ولاسيما صغار السن والأشبال، من أجل رفد الحركة الرياضية العراقية بنجوم وموهوبين متصاعدين. الرياضة تملكت كيانه،حتى أمسى مدرسة متحركة لكثرة الفقه بشجونها.

 

 

كان ومازال شباب وربيع هذا الرجل هي انتصارات وجمهور صاخب ملئ ارض العراق وخارجه طيلة نصف قرن ونيف. رحلة عمو بابا طويلة وثرية وذو شجون، فقد  أبصر النور في بغداد عام 1934 ،فهو بغدادي العقلية، ونتذكر جميعا أن العراقيون كانوا إذا سقط على الأرض يقفون فزعاً ، وإذا ما انطلق بالكرة نحو الهدف يضجون بنشوة النصر التي طالما حلموا بها، وإذا راوغ بالكره وناور، يقولون هذا هو عمونا.

نشأ في منطقة الحبانية و احب كرة القدم منذ صغره وشجعته المرحومة والدته حتى تبوأ صدارة أعضاء الفريق الإنكليزي المتأسس في قاعدة الحبانية الجوية.

يتذكر عمو بابا طفولته ويقول  : لم اكن حاذقاً  في المدرسة ، وكنت أختلق حجج واهية لأذهب للتدريب، وكنت أجيد جملة رياضات ونشاطات، ومنها حتى في الساحة والميدان ، فكنت بطل العراق في 400 م موانع ، وبطل الرصافة بالتنس زوجي ، وبعدها ركزت على كرة القدم وسببت لي مشاكل إذ كانوا يعاقبوني لعدم التزامي في المدرسة، لكن الأساتذة كانوا يحبوني كرياضي نشط ، واكتشف موهبتي عام 1949-1950 المرحوم إسماعيل محمد وهو من أوائل المدربين العراقيين. وأذكر أني كنت في كل لعبة يحملني الجمهور مع سيارتي وكان الناس يحبوني كوني أعطي اللعب حقها، وأؤدي مهارات فردية يتلطفها الجمهور ، وكنت أول لاعب ينفد ضربة (double click) .

كانت نهاية مطافي عام 1965 حينما كنا في مصر وتعرضت لضربة قاتلة من لاعب المنتخب المصري، الذي جعلني لا أشارك في كأس العرب عام1966، والذي يذكره الجيل الستيني بشغف، حيث يعتبره المؤرخون نقطة إنطلاق حقيقية للكرة العراقية وشعبيتها. لقد  تخلفت عن تلك المناسبة للأسف. وهكذا مكثت لدى الجيل القديم لاعباً وللأجيال الصاعدة مدرباً، ومتصيداً لمواهب اللاعبين، وإذ مازالت لدي ملكة وفراسة توحي لي بموهبة اللاعب وتميزه عن أقرانه، وعلاقتي الإنسانية وعطفي الأبوي جمعني بهم وجعله سبباً وراء النتائج الطيبة التي حصدتها معهم في حياتي، فقد كنت أعطي كل منهم ما يناسبه من المعاملة والدور في اللعب.

يتذكر ويقول: تزوجت قبل عام 1960 من ابنة خالي جوزفين، وأنجبنا أولادي سامي ومنى ومي ، وما زلت احب أم سامي رغم ان المشاكل الدينية فرقتنا كوني غير متعصب بينما أم سامي كانت متعمقة بالدين ولها إلمام بالكتب المقدسة ودائماً تقول لي أن يكون يومي مع الناس دون مشاكل أو ازعاج ، وهي معلمة ومثقفة، وبعد خروجها من الوظيفة قررت الذهاب إلى زيارة سامي في الخارج والذي أثر عليه هو الأخر بعض المغرضين .

ويسترسل قائلاً: بالرغم من آصرة المحبة التي جمعتني مع عائلتي لكني أشعر بالتقصير من ناحيتهم  وكلما أتذكر ولدي سامي أجهش بالبكاء وأتمنى أن أقول له "أنا مقصر لأني لم أوفر له أي شئ كباقي الآباء" ،وكنت منشغلاً بمسؤولياتي الرياضية.  ودائماً ما ينتابني شعور ففي الوقت الذي ربيت فيه أولاد الناس تركت بيتي وأولادي، وكان المفروض أن أهتم ببيتي أكثر من اللاعبين ، وأنا أقول للآباء ناصحاً أن يولوا أولادهم وبيوتهم الاولوية والإهتمام، لذا كان من حق أولادي تركي لأن المادة ليست هي الأهم . ومما أثر بي خلال آخر الأيام أني فقدت طيور الكناري التي كانت هدية من زوجتي ام سامي لذا أعتبرته فأل سئ .

تعرض قبل فترة الى السطو المسلح، وسلب كل ما يملك في داره ، بالرغم من أن سراقه يعرفوه جيداً  ،لكنه مكث مرابطاً ولم يهجر العراق في ظروف الاضطراب وغياب الأمن. ومن ذكرياته أنه تعرضت الحافلة التي أقلته من الأردن خلال العامين الماضيين الى قطاع طرق على الطريق السريع في الفلوجة، لكنهم عندما أنزلوا الركاب لسلبهم، لاحظوا وجود عمو بابا بينهم، فتراجعوا وخجلوا وأعتذروا من الجميع كون عموبابا معهم، وتركوهم لسبيلهم . يعيش اليوم  بين الذكريات الثرية والصور القديمة وأصوات الكناري وكأنه يصنع عالمه المفقود ويرسم شكل حياته ليعيش وتستمر الحياة .

يقول عمو بابا : أنا اعتز بأبنتي الكبرى منى وأحفادي داني وداود وعمانوئيل الذي أسموه على اسمي ، وأتمنى أن يحلوا محلي  ويكون أحدهم رياضي ويأخذون مكاني كلاعب جيد . قمت بتهيئة مركز لإعداد اللاعبين من عمر 8-14 سنة لننقلهم الى منتخبات الاتحاد كناشئين وشباب ، وهذه حالة إيجابية لتطوير الكرة ، إذ قمنا بضخ 60 لاعب للمنتخبات ، وأنا أعتبرهم أولادي لأني لم أسمع أولادي ينادوني بابا وأنا احن لهذه الكلمة ، فقبل 10 سنوات سافرت أم سامي والأولاد مما أثر على صحتي وأنا حالياً لا أتحدث مع أحد لأني وحيد ومريض دون مساعدة في البيت وأحتاج لشخص معي وهذه حالة صعبة ، وأنا أطبخ لنفسي لكن لا أجيد كل الأكلات أحياناً أنسى الطعام على النار فيحترق . لقد علمتني الحياة أشياء كثيرة .

سافر أخيراً للعلاج في الأردن، وعانى من إهمال السلطة الجديدة، ويروم السفر الى لندن للعلاج، بعد معاناة حقيقية مع المرض. دعواتنا للهامة العراقية المتميزة والمبدع والعلم عمو بابا بطول العمر وراحة البال، وأن يلتفت إليه العراقيون بالتكريم والحظوة، ويقدموا له ما يستأهله عرفاناً بما قدمه للرياضة والوطن العراقي .

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة