أعراف وتقاليد اجتماعية

 

"الماجينة" و " المحيبس"

رمضانيات مفقودة في ليل العراق الجديد

 

محمد مظلوم - سوريا

 

 

خارج الإطار الواسع " للفجيعة والكارثة" التي تنمط محتوى صورة العراق حالياً ، والتي أضحت تثير الملل واليأس وهي في إطارها غير المُعبِّر هذا، وأصبحت مثالاً نموذجياً متقدماً للسخرية من ديمقراطية المحافظين الجدد، خارج هذا الإطار الذي يزداد قتامة كل يوم، ثمة مساحة من غموض وحيرة وذهول في تعليل لما يجري من مشاهد وتأويل لما سيأتي من أحداث، لا تكفي مشهديات القتل اليومي وحدها لتحميل الاحتلال الأميركي مسؤولية توسيع بُركة الدم داخل الصورة لتتحولَ إلى بحيرة يسبحُ فيها كثيرون ولا يكاد ينجو منها أحدٌ!

لكن مشهديات الحياة اليومية نفسها أضحتْ أكثر غموضاً، وصار المجتمع العراقي مجتمعاً مقطَّع الأوصال لا يتمدَّدُ نسيجه بل يتكوَّر، ولا تتواصل أطيافه وأمكنته بل تتصلب كوابيسَ وكهوفاً وغيتوات مُستريبة، لا يكاد يعرف فيها أبناء الحي ما يجري في الحي المجاور، ناهيك عن الزقاق الملاصق، إلا كما يعرفه من هو خارج العراق من خلال الفضائيات والأخبار العاجلة، بهذا المعنى يكاد الشهداء يكونون وحدهم الشهود لما حدث، لكن من أين للشهداء أن يخبرونا عن وجه القاتل؟

هذا الانقطاع في التواصل الذي سببته أعمال العنف الطائفي، التي يمكن تسميته اليوم بلا تردد بأنه حرب أهلية، هو انقطاع غير مسبوق في طبيعة المجتمع العراقي القائمة على صلات خاصة بين الأحياء، مما جعل من انغلاق الأحياء على نفسها، خاصة في بغداد، لوذاً بأهون الأخطار من أسوأها، ذلك أن بغداد التي تعدُّ واحدة من أكبر أربع عواصم إسلامية في العالم، لا تجد فيها اليوم ما يوحي بذلك حقاً، إنها مدينة لائذة بالحصون، تماماً مثل مدن الشعوب القديمة التي تنسحب عند الأخطار وتركن عند الحروب إلى حصون وقلاع عالية أو كهوف معزولة تاركة حقول الأرياف ومراكز المدن ساحة للمتحاربين.

وفي شهر رمضان تحديداً تبدو صورة بغداد من الداخل، بوصفها عاصمة كبرى، لوحة معبرة عن اختلاط السخرية بالفجيعة، فما بين شهر الصوم ببعده الفرائضي وبما وما يعنيه من رياضية روحية وجسدية وما يحمله من رسائل قديمة واستعادة لذكرى تحضر باستمرار، وما بين "العهد الجديد" برياضاته وفرائضه ووصاياه هو أيضاً، وما جاء به من تباشير كاذبة بل وقاتلة، تكمن المفارقة التي تضيع فيها الهوية البغدادية للعاصمة.

على أن صورة رمضان في كل البلدان تختلط فيها العبادات بالطقوس، الديني بالفولكلوري، بل أن ثقافاتٍ وأدياناً متعددة تلتقي في تلك الطقوس، ولعل رمضان العراقي إلى جانب رمضان المصري، من أكثر المناسبات التي تختلط فيها الثقافات خاصة الشرقية منها.

من بين تلك الطقوس التي تبدو اليوم ضائعة بفعل واقع المدينة لعبة "المحيبس" وهي اللعبة الشعبية الوحيدة المرتبطة بشهر رمضان وواحدة من بين أبرز طقوسه الليلية في بغداد، لكأنها ملتصقة بالزمان والمكان، وهي رغم امتدادها إلى بعض مناطق الجنوب العراقي وعربستان في إيران وبعض دول الخليج المجاورة، إلا أنها لعبة بغدادية المنشأ بامتياز ذلك أن العناصر الرئيسية التي تشكل طقوسية اللعبة هي بغدادية النكهة والتفاصيل.

تقوم لعبة "المحيبس" والمحيبس هنا تصغير ( للمحبس أي الخاتم) بين فريقين يتكون كل منهما من عدد غير محدد من اللاعبين يتجاوز العشرات في الغالب وربما يصل إلى بضع مئات، ويجلس كل فريق في مقابل الفريق الآخر بينما يقوم أحدهما بتبييت المحيبس، أي أخفاؤه في يد أحد اللاعبين، وذلك خلف حجاب تستخدم فيه الأغطية عادة، ثم يرفع جميع اللاعبين الآخرين أيديهم خلبية بعد أن يغلقوا قبضاتهم وكأن كل واحد منهم يحمل المحبس، بينما يقوم أحد لاعبي الفريق الخصم  بمحاولة الوصول إلى الخاتم بتخمين اليد الذي جرى تبييته فيها،بطرح تدريجي للاعبين طالباً ممن  يستنتج أن الخاتم ليس عنده بفتح كفيه بالتدريج، ليصل بعد وقت ليس بالطويل بالطلب من أحد الباقين ممن يعتقد أنه يحمل الخاتم بأن يعطيه إياه.

أهمية هذه اللعبة تكمن أساساً في وجود لاعبين معروفين، يستطيعون استخراج الخاتم من بين مئات الأيدي، وذلك بفعل فراسة خاصة وقراءة للوجوه والانفعالات وتحليل ارتباك من يحمل الخاتم، فيما يقوم أعضاء الفريق الآخر بكل محاولات التضليل على اللاعب بان يتظاهر أحدهم بأنه مرتبك كي يظن الآخر أنه يحمل الخاتم، لأن الخاتم ثقيل على حامله وفي قوة تأثيره كما يقولون، أو يضبط ثان أعصابه وكأنه لا يحمل شيئاً بينما يكون "المحبس" في يده وحالما يطلب منه أن يفتح يديه، يصرخ بكل ما أوتي من صوت ملوحاً بالخاتم أمام الجميع: ( بات ) أي أن فريقه سجل نقطة بعد أن فشل اللاعب الآخر في الحصول عليه وسيبقى الخاتم عندهم ليجري تبييته من جديد وهكذا حتى حصول الفريق الآخر على الخاتم لتبدأ عملية معكوسة فيسعى الفريق الآخر للحصول عليه من جديد، وهنا يبدأ فاصل جديد من الطقوس المصاحبة للعبة حيث تقدم وصلة من أغنيات ( المربع البغدادي ) التي تعتمد إيقاعاً خاصاً.

 

 

شكلت لعبة ( المحيبس ) خلال عقود طويلة من تاريخ بغداد، جسراً مهماً للتواصل بين الأحياء، وكانت قبل أن تشيع لعبة كرة القدم بعد الاحتلال البريطاني هي اللعبة الشعبية الأولى رغم أنها لا تمارس إلا في شهر رمضان وحده، وظلت الأحياء العراقية تتنافس في هذه اللعبة إذ ينتقل مئات بل آلاف الأشخاص بينهم الجمهور، من حي بغدادي في جانب الكرخ  إلى جانب الرصافة لمواجهة أحد فرقها وبالعكس، حيث تجري المنافسة في المقاهي والأماكن المفتوحة، ومن بين أشهر فرق المحيبس في العراق هما فريقي حي الأعظمية وحي الكاظمية على جانبي دجلة، ظلا يتنافسان كي ينسجا سيرة مشتركة من الرفعة والسمو وعلو المكانة، على غرار ما أعطاه خاتم السحر للنبي سليمان من سطوة ومعجزة.

وتنتهي اللعبة التي تمتد من بعد الإفطار الرمضاني إلى السحور بروح رياضية وبكرم ضيافة، فيقوم الفريق المضيف بجلب صواني الحلو الضخمة من ( زلابية وبقلاوة ) فيما يسهر قريباً منهم بائع الزلابية الذي وصفه ابن الرومي ذات يوم وكأنه في هذا اليوم.

وَمْستقِرٍ على كرسيِّهِ تَعبِ         رُوحي الفداء ُله من منصبٍ نصب

رَأيتهُ سَحراً يقلي زَلابيةً       في رقةَ القشر والتجويف كالقصب

كأنما زَيتُهُ المقليُّ حينَ بدَا         كالكيمياء التي قالوا ولمْ تصبِ

يُلقيِ العَجينَ لُجَيْناً من أنامِلهِ         فَيستحيلُ شبابيكاً من الذهبِ

ومثلما لكل لعبة نجومها فإن للعبة المحيبس في العراق نجومها أيضاً، وهناك من بينهم من يعتقد بعض العامة أن لديه خرزة تدله على مكان الخاتم فيما يرى البعض أنه لا بد يعتمد على السحر في كشف الخاتم خاصة عندما ينتزع الخاتم من يد أحد اللاعبين من فريق يتكون من مئات  الأيدي التي كانت مغلقة القبضات ويقولكل منها له هنا الخاتم!

بيد أن أحياء بغداد اليوم أبواب مغلقة حتى ما قبل الإفطار، وبيوت مكبوسة يكتفي ساكنوها بمشاهدة لعبة "المحيبس" على شاشات التلفزيون بعد أن كانوا هم أبطال اللعبة، أما اللاعبون أنفسهم فقد فقدوا عفويتهم أمام الكاميرا، وبدوا أشباح أبطال وبفراسة هشة بعد أن كانوا يحزرون المحيبس في ليالي بغداد، كما يلمحون ضوء القمر، وهو يتشكل رويداً رويداً في ليالي رمضان.

وفي الوقت الذي تكون فيه للكبار ألعابهم الشعبية التقليدية وسهراتهم خلال رمضان فإن للصبية البغداديين، طقوسهم الجماعية التي تجعلهم مشائي ليالي رمضان في حارات وأحياء متعددة يعرفونهما للمرة الأولى وهم ينقلون خطاهم تحت أضواء الليالي الرمضانية تحت ضوء القمر، في منتصف رمضان.

شهر رمضان هو موعد "بابا نويل" في بغداد ليس فقط في كونه الشهر الذي يسبق حلول العيد فقط وإنما لأنه شهر الهدايا والعطايا المتصلة خاصة بعد منتصف الشهر، لكن "بابا نويل" ليس هو من يأتي  ويضع الهدايا على عتبات البيوت، بل أن الأولاد أنفسهم هم من يذهبون إلى البيوت بحثاً عن هداياهم.

"الماجينة" هي جرس "بابا نويل" إنها لعبة تنتشر في بلدان عربية عدة، بتسميات شتى، لكن لا أحد يعرف على وجه التحديد من أي جاءت كلمة ( الماجينة ) إلى بغداد.

يتجمع صبية وأطفال الحي بعد الإفطار وفيما يذهب آباؤهم للبحث عن خاتم سليمان أو من أجل إخفائه عن الطامعين به. فإن الأبناء لا يبكون على الحصرم الذي أكله الأباء قبل الفجر، ولا يضرسون في غروب عزلتهم، بل يلهجون في الشوارع بأناشيد كأناشيد كشافة الظلمات وهم يؤدون تلك الطقوس الرمضانية التي لا تتكرر إلا مرة واحدة في السنة.

يحملون الصواني التي تتقد فيها الشموع وتفوح منها رائحة الحناء وهي توضع في صحون صغيرة، وإلى جانبها قطع السكاكر،وعبق الياسمين وهم يقفون عند أبواب المنازل وهم ينشدون تلك الأنشودة الني تستهل باسم غامض، أو فعل مركب ( ما جينة يا ماجينة.)

هل هي الميجنة الشامية؟ خاصة وأنها ذات إيقاع أكثر صخباً  ومرحاً مما يعرف عن التراث الغنائي العراقي .

ما جينة يا ماجينة

حلُّيْ الكيس وانطينا

تنطونا لو ننطيكم

بيت مكة نوديكم

ليخرج أحد أهالي الدار ويضع قطعة نقدية محل قطعة السكاكر التي يأخذها متباركاً بها وكأنها تباركت بهذه الأنشودة، وبروائح ما حولها من أطياب كأن بها نسمةً من القداسة. أو يغمس إصبعه بصحن الحناء كأنه أدى فرضاً أمام ملائكة!

وإذا ما تأخر أهل البيت في الاستجابة لمطلع ( الماجينة ) فإن الإيقاع عند الأبواب الموصدة سيتعين بجمل أكثر تأثيراً على أهل البيت فتتعالى الأصوات كورساً ومنشدين:

الله يخلي ( راعي البيت ) آمين

بجاه الله وأسماعيل آمين

وعادة ما تستبدل ( راعي البيت )  باسم أحد الأبناء في البيت المقصود إذا كانوا يعرفونه بالاسم، فيضعونه بصيغة التصغير بدل عن راعي البيت، وتستمر دراما الماجينة أمام هذا التغاضي من قبل أهل البيت، فيطلق الأولاد جملة بموسيقى الكلام وسجع الجملة واستفهامها الطويل.

 

يا أهل السطوح

تنطونا لو نروح؟؟؟

 

 

ومن المفترض أن تكون هذه الجملة نهاية الفصل والانتقال إلى باب منزل آخر، لكن شقاوة الأولاد تمتد لتغدو إزعاجاً بالإصرار على تكرار الماجينة أمام باب المنزل، عندها تصعد ربة البيت إلى السطوح وتسكب الماء على رؤوس الأولاد المجتمعين عند الباب بنوع من أصول اللعبة من أجل تفريق تجمعهم ذي المطالب التي لا تنتهي والطوابير التي لا تنقطع، وإزاء هذا المطر غير المتوقع تتفرق عصبة الأولاد منتفضة بصراخ لا يخلو من هجاء :

كبّوا علينا الماي

بيت أهل الفقر

الغائب الثالث عن ليالي رمضان هو ( المسحراتي ) أو المسحرجي باللهجة العراقية، فرغم أن وسائل التوقيت والتنبيه تعددت في العصر الحديث إلا أن الجانب الفولكلوري المتصل بذاكرة حميمة ظل يحرك هذه الشخصية في العديد من البلدان العربية، ومع أن هذه الشخصية هي القاسم المشترك لرمضانات محلية عربية متعددة، لكنه غاب هو الآخر عن ليل بغداد لأسباب لها علاقة ( بالعراق الجديد ) .

 

 

ليل رمضان في بغداد، أحياء معزولة عن بعضها لا تسهر  الليل إلا بصحبة الذعر والدعاء لأجل استمرار الحياة فحسب، ولا تتزاور عوائلها داخل الحي المشترك ولا حتى الشارع الواحد، فأين منها حشود "المحيبس" ما بين أحياء الفضل والكرادة، والثورة والزعفرانية، والدورة والجعيفر، والعطيفية والرحمانية..

الأميركان والحرس الوطني يمنعون الناس من التنقل بعد السادسة، والتيارات الأصولية حرمت لعبة ( المحيبس ) وكفرت لاعبها ومتابعها على حد سواء. ومثلما أضحت أصوات مدافع الإفطار ضائعة بين أصوات العبوات الناسفة وانفجار السيارات المفخخة، التزم الجميع بيوتهم بعد الإفطار، لا إيقاع "الماجينة" عاد يسمع على شفاه الأولاد ولا صرخة "بات المحيبس" المختلطة بأهازيج المربع، تضج بها أصوات الآباء، ولا سواد ملابس الأمهات الأشد حلكة من الليل تطل من السطوح حين ترش ماء الورد على رؤوس الأولاد المشاكسين، أما "المسحرجي" فإنه فقد مهنته لصالح أعداد "الهاون" وقذائف الكاتيوشا التي دخلت خلال السنة الأخيرة عنصراً جديداً في معارك الضواحي، بعدما تم تهجير "الأغيار" منها وفرزها طائفياً. وبعد أن كانت القبضات تتنافس للتشبث بالمحيبس صارت تنبسط برمي القنابل وزرع العبوات، وبينما كانت الأزقة تتواصل بالماجينة، صارت تتبادل الحقائب الملغومة، لتصبح المحيبس لعبة مهاجرة ومنفية إذ يمارسها أبناء الجاليات العراقية المهاجرة، بينما لا تجد في موطنها الأصلي، إلا الحسرة بوصفها حياة عصية على الاستعادة وذاكرة مهدورة في دوامة العنف.

أغلب الظن أن رمضان في العراق الجديد، ليس له من رمضان القديم إلا فكرة الصوم بالمعنى الديني، بينما ليس ثمة ما يوحي بخصوصية إنسانية طقسية تمنح الفرائض الإلهية والشعائر الدينية بعداً إنسانياً، لكن رمضان ليس إمساكاً على الأكل والشرب فحسب، وليس سهر الليل في أداء التراويح فحسب، إنه منظومة اجتماعية كاملة حتى بمعناه الديني، أليس ثمة حديث نبوي صحيح يقول (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش،ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر) .

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة