ثقافة الهوية والمواطنة

الخطاب القومي الكردي والهوية العراقية

د. ميثم الجنابي -  روسيا

 

 

ان احدى المفارقات الغريبة بمعايير العقل والمنطق ان نرى رئيسا كرديا للعراق ووزراء اكراد في الحكومة المنتخبة من بين الحزبين السياسيين القوميين "الحليفين"، وفي نفس الوقت يعملان على تنظيم "مظاهرة جماهيرية" في اربيل والسليمانية ودهوك تدعو للاستقلال عن العراق!! وهي "مفارقة" يمكن فهممها بمعايير الرؤية السائدة بين الاحزاب السياسية في العراق الحالي، التي لا ترى في السياسة اكثر من قواعد متنوعة للعبة الاحتيال والمراوغة والحصول على مكاسب وما شابه ذلك. بمعنى انها لا ترى في السياسة علما مهمته بناء الدولة. واذا كان هذا النمط من السياسة هو القائم وراء مظاهرات الدعوة للانفصال في ظل الظروف الحالية للعراق، وفي ظل هذا المستوى من مشاركة القوى القومية الكردية في السلطة، وقبيل اعلان "الدستور الدائم"، فانه امر يشير الى قضايا اكثر تعقيدا وعمقا مما يبدو للوهلة الاولى. بمعنى ان من الضروري البحث عنها في نوعية ونمط الذهنية السياسية والايديولوجية للحركات القومية الكردية الحالية في العراق.

فما لا شك فيه، أن الخطاب السياسي للإفراد والجماعات والأحزاب والدول هو المؤشر الظاهري لحقيقة ما تستبطنه. بمعنى إننا نستطيع العثور فيه على ما تريد قوله أو إيصاله أو الإفصاح عنه. وهو أمر طبيعي أيضا بوصفه الصيغة المناسبة لإبلاغ أبعاد "الرسالة" السياسية وأهدافها المعلنة والمستترة. وهي حالة تعبر عن مستوى ارتقاء الدعاية والممارسة السياسية التي تجعل من الكلمة أداة فعالة في الصراع السياسي.

وعندما نطبق ذلك على أوضاع الحياة السياسية في ظروف العراق الآنية، فإننا نقف أمام حالة مزرية من تدني الخطاب السياسي. وهي حالة تعكس أولا وقبل كل شيء انحطاط التقاليد السياسية بشكل عام والثقافة السياسية بشكل خاص. إضافة إلى تقليدية الأحزاب السياسية بالمعنى الفكري والإيديولوجي والاجتماعي. وهي حصيلة كثفت في ذاتها زمن الانحطاط الذي رافق تاريخ العراق المعاصر، وبالأخص في مجرى صعود الراديكالية السياسية بمختلف أشكالها الدينية والدنيوية، الاجتماعية والقومية، والتي وجدت نموذجها التام في البعثية الصدامية.

وقد سبق وان درست هذه الظاهرة بتوسع في كتابي (العراق ومعاصرة المستقبل) على مثال الحركات القومية العربية والإسلامية والشيوعية. وقد أغفلت متعمدا تحليل الخطاب القومي الكردي وذلك لاشكاليته العامة وجزئيته القومية. بمعنى إنني لم أتناوله بسبب خلوه وفراغه من الهمّ الوطني العراقي العام. وهو فراغ يمكن فهمه ضمن المسار العام الذي تعرض له العراق والدولة بعد "عاصفة الصحراء". إلا انه تعرض لتحول وتغير جديد في مجرى الانقلاب العاصف في حياة العراق السياسية، وما استتبعه من "رجوع" القوى الكردية" إلى حضيرة العراق بوصفهم قوة قومية منظمة لها مشروعها الخاص. من هنا خطورتها الفعلية بالنسبة لمفهوم الدولة والوطنية العامة. ففقدان الهمّ الوطني العراقي العام، الذي كان أيضا نتاجا لسياسية الدولة المركزية، حالما يتحول إلى طرف في الصراع السياسي، فانه لا يمكنه العمل بمعايير الرؤية الواقعية والعقلانية. على العكس، انه يكون على الدوام خاضعا لضغط مقدماته الإيديولوجية. وليس هناك من مقدمات إيديولوجية للحركات القومية الكردية تتعدى مضمون المشاريع الكردية و"الكردستانية". وهو أمر بدأت ملامحه تتضح بعد كل حركة "إلى الأمام" في أوضاع العراق العامة.

فقد كانت مشاركة القوى القومية الكردية بعد سقوط الصدامية وظهور ملامح الانتقال الأولي إلى الديمقراطية، ايجابية وفعالة بالنسبة لإعادة بناء "العراق الجديد". إلا أنها سرعان ما أخذت تتحول تحت تأثير الخراب الهائل للعراق وانهيار قواه الاجتماعية والسياسية وسقوط السلطة المركزية إلى مجرد سلسلة مطالب قومية. وهي مطالب يختلط فيها الشرعي وغير الشرعي. ومع كل حركة "إلى الأمام" بدأت معالم المطالب السياسية تتحول شيئا فشيئا صوب الرؤية القومية الضيقة. وهي ظاهرة تشير إلى استفحال الأبعاد القومية المتراكمة في مرحلة "الاستقلال" القصيرة وتحولها إلى نمط عملي تجاه العراق بشكل عام. مما جعل من المواقف والممارسة السياسية الكردية شيئا اقرب إلى الرؤية النفسية منه إلى الرؤية العقلية. بمعنى غلبة المزاج والوجدان على المواقف والسلوك والمطالب. وهو أمر واضح في انتشار مختلف عبارات التهديد مثل "الرد العنيف" و"الانسحاب" و"الانفصال" وما شابه ذلك اثر كل "أزمة" مهما كان حجمها!

طبعا، أن ردود الأفعال المشار إليها أعلاه ليست مجردة عن طبيعة العلاقات الكردية الكردية وصراعها الخفي، إلا أنها تشير، ضمن معايير الحياة السياسية العراقية ككل، إلى استمرار غياب الهمّ الوطني العراقي، الذي نتج عن طبيعة الشرخ القومي المتراكم في مجرى الحرب العراقية الإيرانية وبلغ ذروته بعد انتهاء "عاصفة الصحراء". إذ لم يعد الهمّ العراقي هاجسا ضروريا في الرؤية القومية الكردية. بمعنى استبدال الهمّ الوطني العراقي العام بأولوية المشروع الكردي و"الكردستاني". وهو أمر طبيعي أيضا في حال النظر إليه ضمن سياق العلاقات القومية والسياسية التي ميزت زمن الدكتاتورية الصدامية. ومن ثم يمكن النظر إلى ردود الأفعال الكردية على أنها جزء من بقايا الخلل المترسبة في الوعي السياسي القومي اثر التدمير والتخريب الذي مارسته الدكتاتورية على كافة الأصعدة وفي كافة الميادين.

 

 

الرئيس الطلباني وصوة تذكارية مع عزت الدوري وعلي حسن المجيد

إن استفحال الهمّ الكردي القومي على الهمّ العراقي الوطني هو الصيغة الأولية لردود الفعل المترتبة على طبيعة ومستوى الفراغ السياسي الذي حدث في العراق بعد انهيار الدولة المركزية. وهو تحول يمكن فهمه بمعايير الانتقال المفاجئ للأقلية القومية إلى هرم السلطة. وهي حالة يمكن رؤيتها على مثال عشرات التجارب السياسية التي مرت بها الكثير من دول العالم المعاصر. وهو "استفحال" وهمي لا محالة في تبدده اللاحق، إلا انه عادة ما يمر بطريق الآلام من اجل أن تتكامل الرؤية السياسية بمعايير الواقعية أو العقلانية، أو تضطر أصحابها إلى الخراب والهزيمة. وهي الحالة التي تقف أمامها الحركة القوية الكردية. بمعنى السير "إلى الأمام" في تغليب الهموم القومية الكردية على العراقية مع ما يترتب عليه من ردود فعل سياسي وقومي محتمل، أو السير صوب الاندماج الوطني العراقي بمعايير الرؤية الواقعية والعقلانية. ومن ثم العمل من اجل اجتياز مرحلة الانتقال الصعبة صوب الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. وهما تياران يتنازعان الحركات القومية الكردية في العراق. إلا أن الغلبة مازالت بعد للتيار الأول، والذي أكثر من يمثله حركة البرزانيين. ولكنه يتخلل بدرجات متفاوتة كافة الحركات القومية الكردية الحالية في العراق. وهو أمر جلي في اشتراك أو إجماع مختلف الحركات القومية الكردية بإشكال وصيغ متباينة على "مطالب قومية" متزايدة ومعزولة عن الهمّ العراقي العام. بمعنى خضوعها من حيث المقدمات والغايات إلى أولوية المشروع الكردي و"الكردستاني".

غير أن هذه "المطالب القومية" حالما تصبح جزء من "اللعبة السياسية" في ظروف الانتقال الصعبة والخطرة إلى الديمقراطية والدولة الشرعية، فإنها لم تعد جزء من قضية قومية كردية، بل عراقية عامة. بمعنى أنها لم تعد قضية جزئية بل قضية عامة، وذلك لما لها من أثر مباشر وغير مباشر على آفاق تطور العملية السياسية والعلاقات القومية في العراق ككل. لاسيما وان حصيلة "المطالب القومية" الكردية لا تتعدى في الواقع غير قضية الأرض والثروة! فهما الحافزان القائمان وراء الخطاب السياسي العلني والمستتر. وبما أن قضية الأرض في العراق هي قضية مفتعلة، بمعنى انه لا تاريخ فعلي فيها ولها، من هنا تراكم العبارة الوجدانية والأسطورية في الخطاب القومي الكردي. كما لا يعني بروزها و"تكاملها" في الوعي السياسي القومي الكردي سوى الاضمحلال شبه الكامل للرؤية الوطنية العراقية. وهي حالة بلغت ذروتها فيما يسمى بقضية كركوك وأخيرا الخارطة الكردية في العراق!! (يتبع)

طبعا ليس من مهمة هذا المقال مناقشة "الخارطة" و"قضية كركوك" وذلك لأنها قضايا تخص الوهم القومي الكردي، ومن ثم لا علاقة لها بالعراق من حيث كونه تاريخ وهوية وجغرافيا ودولة. واكتفي بالمهمة الأساسية للمقال، بمعنى الكشف عن طبيعة النفسية والذهنية المتحكمة في الخطاب السياسي القومي الكردي في العراق وأثره بالنسبة لآفاق تطور الدولة والعلاقات القومية فيه. واكتفي هنا بتحليل شعار "كركوك قلب كردستان وقدس الأقداس" بوصفه شعارا نموذجا يمكن من خلاله دراسة فسلجة الوعي القومي الكردي الحالي.

 

محمود الحفيد

 

إننا نعثر في فكرة "قلب كردستان" على أربعة جوانب مختبئة في الوعي القومي الكردي ومتحكمة بآلية لاوعيه السياسي، الأول وهو أن كركوك ليست عراقية. والثاني أنها محتلة. والثالث أن الأكراد لا علاقة لهم بالعراق، بمعنى أن قلبهم ليس في العراق. والرابع، أن الأكراد بلا كركوك هم أشبه ما يكونوا بإنسان بلا قلب، أي بلا شريان الدم. بعبارة أخرى، إننا نرى في هذا الشعار المضمون الخفي لهاجس الأرض "الكردية" "المحتلة"، وشريان النفط الضروري لحياة الأكراد المستغل من جانب قوى غريبة عنه.

والشيء نفسه يمكن قوله عن الشطر الثاني المكمل للشعار، أي لفكرة "قدس الأقداس". إذ نعثر فيها أيضا على أربعة جوانب مختبئة في الوعي القومي الكردي ومتحكمة بآلية لاوعيه السياسي. الأول وهو أهميتها "المقدسة" بوصفها ارض "الآباء والأجداد". والثاني أنها مسروقة من قبل أقوام دخيلة هم العرب والتركمان. والثالث، أنها "كعبة" القومية الكردية الجديدة. ورابعا، أهميتها الروحية بوصفها "قدس الأقداس"!

إننا نقف أمام مجموعة من العناصر الخفية التي تنتج وتعيد إنتاج الوعي العرقي للحركات القومية الكردية في العراق. وهو وعي لا تاريخي وأسطوري وفارغ من ابسط مقومات الرؤية الواقعية والعقلانية. فمن الناحية التاريخية السياسية كان الهدف الأرقى والأعلى والاسمي للحركات القومية الكردية قبل "اقتطاع" بعض من العراق التاريخي الكائن في جسد السلطنة العثمانية المتهرئ، هو السليمانية. وقد جرى اجتزاءها في بادئ الأمر بهيئة "حكمتدارية" جرى دمجها بالعراق الحديث لاحقا. بمعنى أن الحد الأقصى للرغبات القومية الكردية قبل نشوء الدولة العراقية الحديثة لا يتعدى منطقة السليمانية. وهي رغبة محكومة بواقع سياسي وجغرافي وثقافي وديموغرافي آنذاك. إذ لم يكن للأكراد محط رجل لا في اربيل ولا دهوك. أما كركوك فإنها كانت في "غيب" الانتشار الكردي ضمن أراض العراق بوصفهم مواطنين فقط .

والقضية هنا ليست فقط في انه لا كردية في كركوك، بل والعراق بمعناه العربي (الذي كان يضم إلى جانب العراق الحالي أجزاء كبيرة من تركيا الحالية). كما لا يوجد اثر للأكراد حتى ضمن مفهوم "عراق العجم". فالأكراد من الناحية التاريخية هم قوم الجبل. ولا علاقة لهم بالمدن. والتاريخ الكركوكي (العراقي) لا كردية فيه لا بالمعنى الدولتي ولا الحقوقي ولا الثقافي ولا السياسي ولا الفني ولا المعماري على مدار آلاف السنين. أي منذ أن ظهرت إلى الوجود بوصفه مدينة عراقية. أما الانتشار الجديد للأكراد فيها زمن الدولة العراقية الحديثة فقد كان مرتبطا بانتقال "المساكين" الفارين والهاربين من سطوة الأغوات والفقر والقهر إلى أطراف المدن العراقية العديدة بما فيها كركوك. وهي عملية بدأ زخمها بالاندفاع منذ ثلاثينيات القرن العشرين، أي ضمن مسار وتطور الدولة العراقية. وهو نفس الشيء الذي يمكن قوله عن اربيل ودهوك وغيرها من المناطق والمدن العراقية. ومن ثم فان كل ما جرى بهذا الصدد هو جزء من تاريخ الدولة وليس القومية. ومن ثم فان وجود أكراد في منطقة ما لا يعني أنها "منطقة كردية"، وإلا لانقلبت جغرافيا الأمم والأرض! فالجغرافيا القومية هي أولا وقبل كل شيء تاريخ ثقافي وحضاري ولا شيء آخر. فالإفريقي المنقول زمن العبودية إلى أمريكا لا يفترض في وعيه أن يرى في أمريكا افريقستان! انه يمكن أن يكون مواطنا أمريكيا من أصول افريقية. والشيء نفسه يمكن قوله عن الأكراد في أراض العراق. كما يمكن قوله عن كل شخص آخر فيه مهما كانت أصوله القومية.

إن وجود أو انتشار الأكراد في مختلف مناطق العراق هو أول وقبل كل شئ دليل على قلب العراق الكبير ومعرفته لقيمة القدس والمقدسات في قبول البشر بغض النظر عن أصولهم العرقية والدينية. ولا معنى لتحويل قلب العراق الفعلي تجاه الأكراد والقومية الكردية إلى قلب "كردستاني" لا علاقة له بالعراق. أما مطابقتها مع "القدس" فهو اشتراك فيما لا ينبغي الاشتراك به. والقضية هنا ليست فقط في أن مضمون "قدس الأقداس" الكردية موجه ضد العرب، والقدس فلسطينية (عربية)، بل ولارتقاء مضمون القدس في الوعي القومي العربي إلى مصاف المقدس الإسلامي. أي أنها ليست قومية فقط. بمعنى أنها عربية وإسلامية. والأكراد مسلمون، فمن أين للأكراد المسلمين شهية العبارة النصرانية، وكيف يمكن الاشتراك مع يهود الصهيونية في العمل من اجل أسطورة لا توراة فيها ولا عهد قديم ولا قواسم مشتركة؟! إضافة إلى أن ما يدعوه القوميون الأكراد "بكردستان الجنوبية"، أي شمال العراق ما هو في الواقع سوى ارض عراقية آشورية تراكمت فيها منذ ألاف السنين ثقافات سامية عراقية عربية لم يكن للأكراد أثرا فيها على الإطلاق.

 

 

إن سيادة الرؤية الأسطورية والدينية المزيفة عن كركوك بوصفه "قدس الأقداس" الكردية، يحتوي في أعماقه على قوى تخريبية لا تعمل في ميدان الفكر القومي إلا على صنع مختلف نماذج الغلو والانغلاق العرقي، مع ما يترتب عليه من مواقف لا تتسم بأدنى مقومات الواقعية والعقلانية والوطنية. ومن ثم لا يمكنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلا إلى مآس لا يدفع ثمنها في نهاية المطاف سوى الشعب الكردي وليس "قياداته التاريخية".

إن امتزاج الرؤية الأسطورية بالدينية المزيفة في الشعار السياسي هو الوجه الآخر لضعف الحركة القومية وانسداد افقها التاريخي. أما النتيجة فهو انحدارها من منطق الرؤية الوطنية الثقافية إلى نفسية القومية العرقية، ومن الرؤية الواقعية والعقلانية إلى الأحلام الطوباوية واللاعقلانية. وهو الأمر الذي نعثر عليه في التمسك شبه الوثني على سبيل المثال بما يسمى المادة 58 من "القانون المؤقت". وهو قانون لا يتمتع بأية صفة شرعية، مع ما فيه من تناقضات تنبع من فكرة "المؤقت" في "القانون"!! إضافة إلى لغته العربية الركيكة التي تدل على أن من كتبه لا يلم باللغة والقانون على السواء. أما في الممارسة السياسية فانه عادة ما يجري اختزال كل مضمون "القانون المؤقت" إلى المادة الثامنة والخمسين!! وهو مؤشر إلى ما أسميته بهاجس وحافر الأرض والثروة، أي كل ما يتجسد في نفسية الغنية!! وهي نفسية لا تحتوي على أي قدر من الأبعاد الوطنية (العراقية). أما المطالبة بإرجاع العرب إلى أماكن سكنهم الأصلية في العراق، فإنه مؤشر إضافي على هذه النفسية. والقضية هنا ليست فقط في أن كركوك لم تكن جزء من منطقة الحكم الذاتي، بل وفي حق كل عراقي العيش فيها، كما يحق لكل مواطن العيش في كل بقعة من ارض العراق بغض النظر عن أصوله القومية وانتمائه الديني. إن من حق المواطنين العراقيين الأكراد المطالبة بالرجوع إلى مناطق سكنهم التي شردتهم أو رحلتهم أو طردتهم السلطات منها، لا تحويل القضية إلى مطالب بأرض قومية لا وجود لها. إضافة لذلك أن سلوك السلطات لا يخلو من إجحاف بحق فئة ما أو بحق الأغلبية أو حتى بحق الجميع أحيانا، إلا أن هذا يبقى مجرد جزء من تاريخ السياسة وليس من تاريخ القومية. وبالتالي ليس هناك من حق لأي طرف في العراق أن يطالب بترحيل أو إرجاع أو طرد أو ما شابه ذلك من عبارات لمن كان هو نفسه ضحية السياسة المجرمة لنظام بائد. إن الحد الواقعي والرؤية العقلانية بهذا الصدد تقوم في المطالبة باسترجاع الحقوق المدنية للإفراد وليس تحويل فكرة الحق إلى مطالب قومية عرقية. إذ أن فكرة إرجاع "العرب" من كركوك إلى أماكن سكنهم الأصلية تعني بالضرورة أن كركوك ليست عراقية. وهو مطلب غير معقول. لاسيما وانه مطلب سوف يدفع بالضرورة فكرة إرجاع الآشوريين إلى أماكن سكنهم الأصلية في شمال العراق بعد موجات الإبادة الهائلة التي تعرضوا لها قبيل الحرب العالمية الأولى وبعدها وفي العراق الملكي ومن جانب الأكراد بالأخص. كما انه يمكن أن يدفع شعار إرجاع الأكراد إلى مناطق سكنهم الأصلية، أي إلى مناطق الجبال وشهرزور، أي إلى ما وراء الحدود العراقية، كما فعل صدام مرة؟ ولم يحق للحركات القومية الكردية أن تكرر بأسم حق تقرير المصير تكرار نفس ألجرائم الصدامية؟ ثم هل بإمكانها أن تفعل هذا دون تعريض نفسها للدمار؟ ولم لا يجري العمل من اجل فكرة المواطنة الحقيقة وإدراك الخطر الهائل المرتقب في إثارة القومية العرقية عند العرب بعد أن جرى تغذيتها لعقود طويلة بين الأكراد؟

إن الشعار القومي العرقي، الأسطوري وغير العقلاني لا يصنع بالمقابل إلا رديفه المناقض والمتمم في الوقت نفسه. والنتيجة معركة خاسرة للجميع. في حين أن الفوز الفعلي هو لقدس العقلانية والواقعية، أي للنظام الديمقراطي الاجتماعي ودولة المواطنة التامة وحقوق الجميع المكفولة بقوة القانون وليس قوة القومية المزيفة والادعاء الأسطوري عن "ارض الآباء والأجداد"، أي ممن لا وجود لهم!

إن الهوية الحقيقة، القومية منها والوطنية في العراق هي ليست في الدفاع عن أوهام "قدس الأقداس"، بل عن هوية المستقبل. لأن خيار المستقبل هو هوية العراق الفعلية. وهو خيار يمكن للقومية أن تعيش فيه ولكن بوصفها منظومة ثقافية وليس إيديولوجية عرقية أيا كان مصدرها والناطقين بها والمدعين تمثيلها. وتجارب الأمم الحية الكبرى، القديمة منها والمعاصرة تبرهن على حقيقة لا مجال للشك فيها ألا وهي أن الرؤية العرقية هي مصدر السلوك العنصري، أما نهايتها فهو الانحطاط القومي الشامل والهزيمة التاريخية.

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة