فئات الوطن

اكراد العراق  وام كلثوم

 

دلور ميقري / دمشق

dilor7@hotmail.com

 

 

 

الجيلُ الأقدم،  المنتمي إليه أجدادي الأوائل،  قد نازلته مسألة اللغة المزدوجة. وإذاً،  كان على أسلافنا أولئك ـ كأكراد دمشقيين،  الإنكفاء إلى ذواتهم ومشاغلهم،  متخاطبين فيما بينهم بلغة جبلهم الأول،  راطنين أحياناً بالعربية والتركية،  حينما يكون ذلك في مناسبة لا مناص منها. وكم سعدتُ مرة،  حينما كنت أتحرى من أمي بعض شؤون زمنها،  أن أعلمَ بتعشق والدها لصوت أم كلثوم. هذا الجدّ،  المتوفي قبيل ولادتي ببضعة أشهر،  كان وجيهاً موسراً،  كريماً جواداً ؛ إلا أنه بدد ثروته وأملاكه كلها في المغامرات التجارية،  والغرامية. لا أدري،  ما إذا كان جدّي في محنته تلك،  الأخيرة،  التي أنهى بها حياته عليلاً متوحداً مفلساً،  قد واصلَ الإنصات إلى معبودته،  الكلثومية،.. وما إذا كان ثمة،  في حجرة منزله الرث،  المتبقي له من عقاراته العديدة،  المبددة،  قد إستعادَ ذكرى سهرة الخميس من أول كل شهر،  حينما كانت الإذاعة المصرية تحافظ على تقليدٍ تليد،  متمثل في تقديم أغنية جديدة لكوكب الشرق : هناك،  أينَ كان الكوكبُ يتألق بصوته في سماء المنزل الأول،  الفاره،  للجدّ الساهر مع ندماء الكأس وخلانه،  والمتمايلون جمعاً على أصدائه ونغماته المرافقة. من جهته،  وفي مناسبة اخرى،  أقدم عهداً،  سردَ لي والدي بعضَ ذكرياته عن معلمه وصديقه،  الأمير جلادت بدرخان ؛ رائد النهضة الكردية في النصف الأول من القرن المنصرم. حيث فجأني الوالد وقتها بتعلق هذا البك الكرديّ،  المنفيّ،  بفن سيدة الغناء العربيّ وحرصه في حياته على الجلوس إلى المذياع،  في حضرة حفلاتها. تلك المعلومة،  عن ولع الأمير جلادت بصوت أم كلثوم،  الخالد،  كنت قد نقلتها بدوري للصديق محمد اوزون،    (الكاتب المنحدر من كردستان تركية ) ،  ومن قام بعدئذٍ بتسجيلها في روايته " بئر القدَر "،  المستعيد فيها سيرة أميرنا ذاك. في هذا المقام،  يتعيّن عليّ ذكر حقيقة متواشجة بموضوعنا،  وهيَ أنه كان للكرد أيضاً " أم كلثومهم " : إنها المطربة عيشة شان،  ذات الصوت الساحر،  الأخاذ،  والتي تعيّن عليها كذلكَ قضاء أكثر عمرها في المنفى. ومن بغداد قاسم،  أينَ إستقرتْ مطربتنا الجميلة إثر ثورة 1958،  إلى قاهرة ناصر بعدئذٍ مباشرة ً،  حيث سجلت مقطوعات بصوتها للإذاعة المصرية / القسم الكرديّ،  وكانت برفقة أحد عمالقة الطرب من كردستان العراق ؛ حسن الجزراوي : عن هذا الأخير،  ثمة حكاية طريفة،  شائعة بين الكرد،  تزعم أنه حينما تحتم عليه في القاهرة تسجيل أغنيته " كافوكم ليلي "،  الكلاسيكية،  الأكثر شعبية حتى في يومنا الحاضر،  فإنّ مطربات مصريات،  مرموقات ـ مثل شادية وفايزة أحمد وغيرهما ـ إقترحنَ عليه المساعدة في أدائها كـ   (كوْرَس)!  وعلى كل حال،  فمما لاشك فيه أن أغنية مطربنا تلك،  مؤداة برفقة كادر نسائي من الإذاعة المصرية،  كما يتبينه المرءُ من أصواتهن الراطنة بكرديّة عَسِرَة.
وها أنذا،  في كردستان العراق،  أخيراً. في موطن الجبال الحالقة،  العصيّة،  المحتبية أصواتَ الطرب الأصيل تلك،  التي إحتفيتُ بذكر بعضها آنفاً. في موطن " الأنفال " هذا،  كنتُ أتوقعُ إنعدام أيّ أثر للغة الضاد،  ثقافياً كان أم إجتماعياً،  بعد كل ماعاناه الكردُ من آثار الحكم الصدّامي،  العروبيّ،  الوخيمة. ومما كان يعزز ذاك " اليقين " لديّ،  هوَ دأبُ بعض الفضائيات الخليجية وغيرها،  المُغرض،  على إبراز حقيقة إنحسار ـ أو حتى إنعدام إستعمال اللغة العربية في الإقليم العراقي،  الكردي. في فندق " برج أربيل "،  المحروس بهَولة " القلعة "،  الهائلة،  غفوتُ ليلتي الأولى على وسادة ذلك اليقين،  لأستيقظ صباحاً على كونه وهماً،  لا أكثر : فمنذ وجبة الإفطار،  السخية،  وشهيتي مقبلة على الأصناف المقدّمة،  بفعل الأنغام العربية الصادحة من إستيريو صالة الطعام،  الكبرى ؛ أنغام عراقية ولبنانية وسورية ومصرية،  وخليجية أيضاً. كان مريدو الفندق،  وضيوفه،  خليطاً من شتى الأقاليم العراقية،  إضافة لآخرين من الدول العربية ؛ ثمة كانوا جميعاً على المزاج الطيب نفسه،  الرائق،  في أحاديثهم وضحكاتهم ومهاتفاتهم. الأمر نفسه،  لحظته لدى ركوبنا سيارة الأجرة،  وخلال جولتنا على الأسواق القديمة   (البازار) أو المستحدثة وفيها محلات التسجيل والإلكترونيات،  حيث صور نجوم الطرب،  العربي والتركي والكردي والآشوري،  متجاورة على هذا الجدار أو هذه الواجهة. وأم كلثوم،  كانت هناك أيضاً،  في كل من تلك الأمكنة التي ساقنا تجوالنا عبرها. مساءً،  لدى إيابنا للنزل،  إنداح صوتُ كوكب الشرق من مسجّل لأحد الباعة على الرصيف المقابل لسيرنا ؛ وكانت أنشودة " رباعيات الخيّام "،  الملحمية الأداء والعبارة والنغم. في اليوم الذي تلا ذلك مباشرة،  كنت على موعد مع حكاية اخرى،  عن أم كلثوم. ففي " قصر الفن "،  بعاصمة الإقليم أربيل  (هولير،  بلفظها المحلي ) ،  كان من غريب الإتفاق حقاً،  أن ألتقي يومذاك مع الكاتب جلال خضر حسين،  صاحب كتاب " سيرة حياة شهاب هوليري   (1891 ـ 1939) " ـ الصادر بالكردية / الصورانية،  في طبعة خاصة عام 2002 : كان هذا كتاباً عن الشهاب،  الكرديّ،  الذي قدّر له أن يتلاقى،  في سماء الإبداع،  بكوكب الشرق،  العربيّ.


في بغداد عام 1932،    (كما راحَ يروي المؤلفُ لي،  نقلاً عن كتابه ) ،  جرى إستقبالٌ حافل لأم كلثوم،  شعبيّ ورسميّ ؛ هيَ التي كانت حاضرة للغناء في إحدى صالاتها بدعوة من وزارة الإرشاد العراقية. ثمة في أربيل،  كان الحضورُ الكلثوميّ،  الطاريء،  سبباً في تأليب مزاج أكبر وجهاء المدينة ؛ المدعو " ملا أفندي ". هذا الوجيه المرموق،  بلغ من أهميته الإعتبارية ـ كعالم متصوّف،  أنّ الملك فيصل الأول،  بنفسه،  سبق له أن شرفه بزيارة دارته المنيفة. وإذاً،  فالمشكلة تلك كان سببها أنّ طلباً علياً،  من البلاط،  وصل للوجيه المذكور بإرسال مطربه،  المفضل،  إلى العاصمة كيما يكون أحد الفنانين المستقبلين لسيّدة الغناء العربي. مطربنا الكرديّ،  كما سيحدس القاريء،  ما كان سوى " الشهاب الهوليري " ؛ هذا الطاغي إسمه وقتئذٍ على جميع الأسماء الفنية،  في تلك البلاد الجبلية. ورفضَ الوجيه قطعياً،  رغم إلحاح المسؤولين،  إطلاق سراح بلبله،  الشجيّ الصوت،  ولو لليلة واحدة حسب : كان في خلده،  يتوجّس من أن يفقد الشهابَ أبداً،  فيما لو داعبتْ هذا خيالاتُ العاصمة ومغرياتها. ولكن إلى النهاية،  تنازل وجيهنا عن عناده،  الكرديّ،  مشترطاً على نديمه قسَماً،  معظماً،  بالعودة إلى أربيل حالما تنتهي ليلة الطرب البغدادية. ولكي يكون أكثر إطمئناناً،  أمَرَ ملا أفندي رجليْن،  عتييْن،  من حراسه بمرافقة الشهاب في رحلته ذهاباً إياباً!  وإلى العاصمة،  إذاً. إلى منتزه " الهلال "،  البغدادي،  الكائن زمنئذٍ في محلة الميدان بشارع الرشيد،  حيث كانت أم كلثوم هناك على المسرح،  بكل جلالها وأناقتها،  فضلاً عن شخصيتها،  المفعمة معاً بالقوة والثقة والرقة. فما لبثت الأنغامُ أن تصاعدت،  وراحت مطربتنا تؤدي دوراً من المقام،  يقول مطلعه :

" أكذبُ نفسي عنكَ في كل ما أرى

وأسْمِعُ أذني منك ما ليسَ تسمعُ

فلا كبدي لكَ تبلى ولا لك الرحمة

ولا عنك إقصارٌ ولا فيك مطمعُ "

 

 

كان الشهابُ ثمة في مقعده،  على الصف الأمامي،  منصتاً للدور بكل كيانه. فما أن إختتمت أم كلثوم وصلتها تلك،  وكانت بسبيلها للإخلاد لبرهة راحة،  وإذ يأتيها على حين فجأةٍ صوتٌ خافت،  شجن،  راحَ يصّاعدُ رويداً مردداً المقطع نفسه،  الذي إنتهت هيَ للتو من إنشاده : كان هذا صوتُ شهابنا،  الأربيليّ،  المُصدي مسحوراً كلماتِ ذلك الدور،  الكلثوميّ. إثر الإنتهاء من حفلتها،  أرادت كوكبُ الشرق التعرّف بهذا الرجل الموهوب،  الجريء. فتولى التعريفَ الفنانُ العراقي علي فليح ؛ الذي قدّم لها الرجلَ قائلاً : " الشهاب الهوليري،  أكبر ملحني ومطربي المقام ". في تلك الليلة البغدادية،  المشهودة،  وبطلب من الضيفة الكبيرة،  غنى فناننا الأربيليّ مقامات عراقية،  صعبة ؛ من قبيل الـ " راست ". ومن ثمّ إنتقل إلى مقامات اخرى على التوالي ـ كإبراهيمي وحكيمي وناري واوج وخناباد ـ وكأنما لكي يبهرَ سيّدة الطرب العربي بمقدرته الصوتية ومراتبها. ثمّ ما عتمَ الشهابُ أن عادَ إلى المقام الأول،  الراست،  منشداً دوراً موشىً بكلمات المتنبي،  العظيم :

" كم قتيل كما قتلتِ شهيد

لبياض الطلا وورد الخدودِ

وعيونُ المَهى ولا كعيون

فتكتْ بالمتيّم المعمودِ "

يتضرج إذاكَ وجهُ أم كلثوم تأثراً،  كما روى شهود اللقاء،  ولا تتمالك هيَ إلا أن تهتف بلهجتها المصرية،  المحببة : " إيه ده،  ده شيء عظيم!  ". وبلغ إحتفائها بالشهاب،  أنها نادته بتواضع وإلفة : " أستاذي "،  ملحة عليه في مرافقتها إلى القاهرة،  ضامنة له أن يُصبحَ ملحنها الخاص. ولكنّ فناننا الكرديّ،  بخلقه السويّ النبيل،  يعتذر عن تلبية طلبها،  بسبب القسَم الذي قطعه لراعيه،  ملا أفندي،  بالعودة إليه في أربيل. هكذا خسرَ الإبداعُ فناناً أصيلاً،  بشخص الشهاب الهوليري،  كان من الممكن أن يُضافرَ عبقرية أم كلثوم بألحانه وثقافته،  المتنوعة ؛ هوَ الذي كان ينشد المقامات بالكردية والعربية والتركية والفارسية،  على المستوى نفسه من التمكن والجودة وحسن الأداء. لكأنما إسم فناننا قد تقمّص مصيره،  وعمره المنقضي مبكراً في سنّ الثامنة والأربعين : كان كالنجم الشهاب،  المندلع في حياته مضيئاً متوهجاً،  والمتهاوي من ثمّ،  سريعاً،  مخترقاً عتمة الأبدية.

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة