تاريخ الفن

 

الثابت العراقي في عمارة الشعوب الإسلامية

المساهمة العراقية في المنتج المعماري العالمي

 

د. معمار. علي ثويني- السويد

 

برج بابل

 

على هامش حضورنا الى مؤتمر المعماريين العرب الذي عقد في مدينة حلب السورية في أواسط شهر تشرين الثاني-نوفمبر-2006، و بمناسبة إختيار حلب عاصمة للثقافة الإسلامية لهذا العام، تسنى لنا متابعة  أحداثه والإطلاع على ما طرحت به من أفكار، ورصد توجهاته.وقد  تحاشى البعض إثارة نقد لتشريع أو جهة فاعلة أو ممارسة عمرانية أو معمارية على الأرض،   أو سعى لتاسيس آلية نقدية بنائة تصوب الأخطاء الفادحة حد الكوارث، نلمسها وقد أصابت البنية العمرانية العربية  كالهدم المنظم للتراث وتشويه المدن وتوسعاتها السرطانية، وإشاعة الإبتذال السوقي والتلوث البصري،  وأنعكس الأمرعلى طبيعة المجتمعات، فامست ضائعة،  حيرى بين التشبث بالتراث أم إقتفاء الحداثة المنفلته.

  وفي مداخلة لنا لتوضيح رأينا، بصدد ما تبنى منظر العمارة المصري الدكتور صالح لمعي،  الذي يشكل واحد من   حرس التدوين القديم،  وأردنا لفت النظر لمفهوم الثابت والمتغير في كنف الثقافات،  كون العمارة وجه وممارسة مادية فيها،  والأمر نابع من رصدنا ان ثمة رسوخ في المنجز المعماري لكل إقليم،  و العراق مثال صريح على ذلك،  حيث يستنتج المعاين،  أن ثمة محاكاة وإسترسال  بين المشيدات السومرية والبابلية مع وريثتها العباسية والإسلامية اللاحقة،  بعدما أعتمدت على خامات مشتركة ووظفت عناصر هيكلية ومعمارية وفنية بعينها. ولا نختلف مع من يذهب الى أن ثمة إختلاف في ماهية التفريغ الفني،  والأمر  أملاه ما طرأ على الفكر والعقائد من تغيير، وكذلك على وسائل وأنظمة التقانة المتاحة التي تخص كل زمن وتتغير تبعا له.  وبالرغم من ذلك فأن ثمة الكثير من المشتركات الفنية في الخامة و الشكل والموضوع  واللون والملمس والتشكيل.

العراقيون القدماء بنوا قبل الإسلام مثلما بعده،  ولم يخذلوا تراثهم إلا في الأزمنة الحديثة،  حينما غزتهم الحداثة. وان العراق والشام و مصر كانوا معلمين موهوبين للأغريق والرومان وخليفتهم بيزنطه من جهة والفرس وآخرهم الساسانيين من جهة أخرى، وأن هؤلاء كانوا دائما مستعيرين ومستهلكين للعمارة أكثر من مبدعين ورواد لها،  بالرغم من الإبهار الصرحي،  والترويج المقصود ممن نظر للعمارة ونقلها معلومة لرواد التنظير الحديث عندنا.

وبذلك فأن عمارة الشعوب الإسلامية مكثت أمينة على الثابت المعماري الإقليمي لسالف العهود، وأنها جددت نفسها وتوائمت مع الإرتقاء الجديد،  بعد أن جدد الإسلام حركية الحياة لتلك الشعوب التي قبعت ردحا في الظل والإستغلال،  ووهبها إنطلاقة جديدة وسمى بمقدراتها وكرس حدا مقبولا من الممارسة الاخلاقية في ثناياها  ولاسيما العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وهكذا فأن العراقيين وأهل الشرق القديم ولاسيما الشاميين،  أكثر من أملى منظوماته المعمارية على عمائر الإسلام، ونجزم في تلك الشجون أن هؤلاء الرواد لم يتسولوا أو يستعيروا طرزا من بيزنطه وساسان كما يذهب الخطاب الإستشراقي في تفسيره للظاهرة المعمارية الإسلامية،  بسبب إكتفائهم بما لديهم من تراث دهري.

وبما أن التسقيف كان ويبقى غاية العمارة ومقصدها،  فقد سقفوا العراقيون بمعين العناصر الثلاث،  العقد  (القوس)  والقبة والقبو (الطاق) .ومن الجدير ذكره في السياق الإصطلاحي فأن كلمتي  (قبو وقبة)  تمتا الصلة لنفس الأصل الإيتمولوجي.وكان العراقيون رواد اختراع أول مادة بناء وهي الطوب و الآجر  (والكلمتان سومريتان أسترسلتا في العربية) . لقد أملت ظروف البلد الطبيعية في بيئة السهل الرسوبي تلك الظاهرة البنائية. وبفقدانهم سخاء وسهولة تداول الحجر والخشب الغابي في التسقيف لجأ القوم الى خداع المدر أو الطين المهين،  الذي لايتمتع بقدرات بنائية صارمة ومتحملة، فصنعوا منه قطعا وجففوها تحت وهج الشمس أو أحرقوها في آتون،  ليكون أصلب وأجلد. ثم راكبوه وشكلوه تباعا ليصنعوا منه العناصر الإنسيابية الآنفة الثلاث.ولم تكن غايتهم  كسب جماليات شكلية،  بقدر الإحتيال عليها من خلال رص قطعها بملاط الطين أو الجص وتثبيتها متراكبة ومتكأة ومحصورة مع بعضها. وما التطاول لتلك العناصر إلا رغبة في تطويل المسافات بين البحور والمرتكزات الناقلة للعزوم نحو الأساسات و تسريبها الى الأرض.  وما عملية التكوير إلا بغرض إنسيابية وإنحدار تلك العزوم دون زوايا.وبذلك تقل قيمتها أو تضمحل و يمكن السيطرة عليها،  ويضمن من خلاله ثبات السقوف دون خطر الإنهيار، بالمقارنة مع لو كانت بشكل أفقي، كما هو حاصل اليوم مع معطيات مادة الخرسانة المسلحة التي عمل التسليح بالحديد فاعلا في إستقامتها.

 

 ونجد تفسير فلسفي جميل للمعمار والفنان الإيطالي ليوناردو دافنتشي في تعريفه للعقد بأنه إتحاد بين قوسين واهنين،  يسقطان لو بنيا كل على حدة،  ولم يتكئا على بعضهما. وهكذا أمسى الشكل المكور والإنسيابي لتلك العناصر نتيجة شكلية لمغاز هيكلية، لم يحللها الإنسان ميكانيكيا في تلك الأزمنة، ولم يدون مبرره في صنعها، ولم يفقه كنه العزوم وإنتقالها أو إضمحلالها كما في قوانين الميكانيك في زماننا،  بقدر كونها إرهاصة تجريبية تهاجن مع الفكر والرصد. و بالرغم من أن المعمار المصري حسن فتحي نصح بأن ننظر الى قبة السماء ونبني مثلها،  لكن الثابت أن الإنسان قلد بالأساس أشكال وتجارب عضوية حيوانية أو نباتية من بيئته.

العمارة المسيحية

من الطريف والمخفي عن حيثيات التاريخ الذي ملئ بأخبار الملوك وبطانتهم،  بأن الحواري توما (توماس باليونانية ويعني التوأم بالآرامية) ،  والذي نشر البشارة المسيحية في العراق والهند كان معمارا أصلا. ولاغرابة كونه  شاميا وجاء للعراق بسبب وحدة الثقافة الآرامية،  ولكن ماذا جعل الرجل يذهب الى الهند المترعة بالروحانيات والأديان، والأهم أنها تتكلم لغات أخرى شتى جلها سنسكريتيه.

لقد كان توما (طعمه)  معمارا مرموقا،  وسمع بموهبته أحد ملوك الهند أسمه  (كوندفارGundaphar ) ،  فأستدعاه، وتقاول معه أن يبني له قصرا منيفا،  ولكن  (توما)  أستأثر بالأمر لنفسه،  ووزع الأموال المخصصة لبناء القصر على الفقراء والمنبوذين الهنود، وكسب حظوة وكسب أتباع وشاعت سيرته وبشارته،  حتى سبب إمتعاض الملك منه. ومن الطريف في سيرة  (توما) ، انه كان على خلاف مع الحواريين وحتى مع النبي عيسى المسيح (ع)  نفسه في بعض الاحيان،  كونه كان قليل الإيمان والتصديق بالمبالغات الغيبية وسلسلة تناقل الألسن للمعجزات، وكل ما ينأى  عن العقل اللبيب،  والسبب كامن في أنه معمار أساسا،  ويتعامل مع الأمور بعقل ومنطق هندسي،  اكتسبه من خلال تعامله  مع منطق  البناء والإنشاء.

ولابد من الإشارة هنا الى أن أول دولة دخلت المسيحية لم تكن بيزنطه كما يشاع،  بل كانت دويلة صغيرة منسية عاصمتها حران  (أسمها الرها السريانية أو أورفا التركية أو أوديسا اليونانية) ،  وهي مدينة رافديه،  رحل إليها من أور سيدنا إبراهيم (ع) . وتدعى تلك الدويلة  في المدونات السريانية القابعة في النسيان  (Osrhoene) ،. وكانت تشمل أصقاع الجزيرة الفراتية العليا،  والأمر برمته محض مصادفة حينما تنصر مليكها الذي أستهوته معجزات السيد عيسى المسيح (ع)  الطبية، وكانت له معه مراسلات وإستفسارات، مازالت محفوظة ومنسية. وربما تعود قصة أهل الكهف القرآنية الى ثلة من قومه النصارى الذين أضطهدهم الرومان أو الفرس بعد ذلك في نفس البيئة.وكان هذا الأقليم كاف أن يمد بيزنطه بالمبشرين ومن ضمنهم البنائين الحاذقين، بعد بيان ميلانو الشهير وقبولهم المسيحية دينا لهم عام 309 م. و أستجلبت جموعم ولاسيما من بناة الكنائس لينقلو حتى كلمة كنيسة الى لغات العالم الغربي، والتي أصلها  (كنوستو Cnoushto)  الآرامية التي تعني المحفل، و التي أصبحت  (أكليس أو أكليسيا Eglise- Eglisia ) في اللغات الأوربية،  على خلاف الحبشية، وهي جنوبية وبعيدة عن هذا التأثير،  حيث يطلق على الكنيسة حتى اليوم إصطلاح  (ماكوراب Mekurab) ، وهي تحاكي كلمة  (محراب)  العربية، بالرغم من أن هذه الحنية المسقفة بنصف قبة وردت عمارة المسلمين،  واسمها  في الكنائس الغربية  (ألطار Altar)  أي المذبح،  وهي محرفة من كلمة شرقية قديمة، والطقس يعود لديانات الشرق ونحر القرابين. أما محراب الوارد من  (ماكوراب)  فأصله من  (باك)  آله الخير والإحسان لدى البابليين الذين نقلوها وأطلقوها على مدينة إسماعيل مكة وهي في حقيقتها  (بكة) ، كما ترد في القرآن الكريم، وصلات بابل بالحجاز قديمة ولاسيما في أحداث آخر ملوكها نبونيد الذي كان عند سقوط بابل يعيش في واحة تيماء الحجازية. ومن نفس المصدر وردت  (بعلبك)  اي الآلهة بعل الطيب،  وأنتقلت الى الفارسية، حتى لنجدها اليوم في تسمية الصحابي الجليل سلمان الفارسي  (سلمان باك)  أي سلمان الطيب، وجاءت في الأردوا تباعا حتى سميت بها دولة (باكستان)  وتعني بلاد الخير.كل ذلك وغيره من الإصطلاحات في عمق المسيحية الغربية ثم الإسلام المعماري،  يدلل على الأثر الآرامي الشرقي في صلب الإصطلاح، وشاع بأنها غربية المصدر،  وصدقتها الجموع صاغرة دون تمحيص.

 وبذلك قام الرعيل الأول من المبشرين  بنقل تراثهم وأعرافهم البنائية ولاسيما التسقيف بالقباب "الفراتية"الى الكثير من مناطق البلقان وأرمينيا والقوقاس وأبعد من ذلك الى أصقاع شتى،  أرتضت بالمسيحية دينا كما روسيا وشرق أوربا.ومن الجدير ذكره أن القرى الفراتية مازالت أمينة على أعرافها البنائية،  وأن فلاحوها يبنون القباب على سجيتهم البنائية، ويمتد هذا العرف المعماري حتى يصل تخوم حلب وقراها التي تبني بيوتها بنفس الطرق الموروثة حتى يومنا هذا، دون أن يتدرب أحدهم على يد الرومان أواليونان،  بعد العزلة التي أحاطتهم، ولاسيما إذا ثبتنا أن أنصب إهتمام الفاتحين بطرق القوافل ومحطاتها أو حتى مدن السواحل بعد حين على حساب الإهتمام بتلك القرى. ومكثت تلك الأصقاع معزولة معماريا تشتر مما تعلمته من القدم مثلما  (اهوار العراق)  وصرائفها، والأهم أنها أمست مصدر سخي للخبرات البنائية التي تمد الملوك في كل الأزمنة، حتى وطأت ممارسات المعمار سنان الحراني إبان العثمانيين. واستمر استخدام القباب في العصر المسيحي في الشرق والغرب وأختص بمباني الأضرحة وبيوت المعموديات. وهناك نموذج حي على ذلك هو كنيسة سانتا كوستانزا بروما التي يرجع تاريخها إلى عام 350 ميلادية، و كانت هذه الكنيسة أساسا مقبرة لابنة الإمبراطور قسطنطين الأكبر.

 وهكذا تعلم البيزنطيون تقنية وتفاصيل بناء القباب من أصولها الرومانية والشرقية على حد سواء. ونجد في عاصمتهم القسطنطينية،  سلسلة كنائس مقببة وقد بلغت أوج ذروتها متمثلة في كنيسة آيا صوفيا التي بنيت بين عامي 532 و537 ميلادية. و بنيت في زمان الإمبراطور جوستينيان الأول. ويبلغ عرض قمتها المسطحة  (31)  مترا وتحيط بها النوافذ من قاعدتها وترتكز على أربعة مثلثات كروية يسندها دعامات خارجية ضخمة وسلسلة من الأشكال شبه المقببة. ومن الجدير بالذكر أن بناتها هم المعماريان إيزادور المليتي Miletus of Isidoros وأثيميو التراقي Athemius of Tracies وكلاهما وردا من آسيا الصغرى، وتحديدا من جنوبها الفراتي.وقد قصد جستنيان من توكيل الرافديين أن يبين لروما أنه يمكنه الاستغناء عن معمارييهم،  ثم إنعتاقه السياسي عنهم وتبعيته الحضارية لهم بمعين أهل الجنوب في مملكته.

 

 

القباب Cupola - Dome

كانت القبة إحدى نتائج التكوير،  و سقفت بها الأكواخ الدائرية المبنية بالطوب اللبن في منطقة الجزيرة الفراتية شمال العراق وأجزاء من سوريا وجنوب تركيا الحالية، في الألف الرابعة قبل الميلاد، ومازال ثمة مثال حفري (أركيولوجي)  يقع قرب مدينة زاخو العراقية يعود الى تلك الحقب.ومكث هذا العرف يمارس لدى العراقيين والشاميين لألفين وخمسمائة عام،  حتى أنتقل في  القرن الرابع عشر قبل الميلاد،  الى  اليونانيين عن طريق البحر الفينيقي أو عن طريق حران والجزيرة الفراتيه وآسيا الصغرى التي كانت صلة الإقتباس بين اليونان والشرق القديم. وقد تسنى للأغريق نقل ذلك العنصر  و أستخدموه أول مرة في مقابرهم على شكل قباب منحدرة مدببة، كونها كانت جديدة على بيئتهم البنائية التي أستغنت عنها بخامة الحجر وسياقها في الأطر الحجرية  (عمود- جسر)  الذي برع به المصريون والكنعانيون. وفيما عدا ذلك لم تحضى القباب بأهمية كبرى في العمارة اليونانية القديمة، ولم تتطور لديهم،  حتى جاء الرومان عاشقي الشرق ومقلديه بأمانة.

ويعود الفضل للآشوريين و الشاميين أنهم وائموا هذا العنصر ليبنى بخامة الحجر، دون أن يكون لها جدوى بنائية، لكنها أثبتت تباعا كفائتها و نجد اليوم أقدم أثر لتلك الموائمة في القصور الآشورية التي غطت بها البهوات والقاعات،  وبذلك أسبغت فضلها على عمارة المسلمين تباعا. وكذلك الحال مع خامة الخشب في بناء القباب، كما القبة الخشبية الموجودة في كنيسة القديس سمعان،  و التي يعود إنشاؤها إلى عام 500 م. وهكذا أنتقل التقليد في إستعمال الهيكل الخشبي للقباب الى العمارة الإسلامية،  وبنيت بها قبة الصخرة عام 692 م، في نفس البيئة المعمارية وبنفس التقاليد المتوارثة، دون أن يكون لبيزنطة فضل فيها.

و تحولت القبة من تغطية للحجرات المدورة في العراق القديم بسبب سهولة الإنتقال من الدائرة للدائرة، لكنها خلقت إشكالا حينما وظفت في المسقط المربع للحجرات، و أقتضت إيجاد حلول للإنتقال من زوايا المربع الى المثمن، و الذي شكل رقبة  (طنبور)  القبة تباعا،  فجاء بحلين أحدهما شامي بالمثلثات الكروية والثاني عراقي بالمقرنصات البدائية،  تبعا لما تسمح به خامة البناء  (الحجر أو الآجر)  والتي نسبت كعادتها لتسميات (بيزنطية وساسانية) . ومن الجدير ذكره أن تلك السنة البنائية تسنى لها أن تنتقل من قرى الجزيرة الفراتية الى شمال أفريقيا والأندلس، ونجد اليوم مثلا جميلا لمدينة وادي الصوف في شرق الجزائر،  التي تشكل القباب العنصر الأساس في تسقيف حجراتها. ومازال القوم يطلقون في المشرق وبعض المغرب على الحجرة أو الغرفة أسم قبة.

لقد أقتبس وطور الرومان القباب الحجرية تباعا ووصلوا الى أفضل النتائج بمؤازرة بنائين جلبوهم من الشرق في سنة  (الليثوروجيا)  المتعارف عليها في إستقدام الحرفيين. ولايمكن أن نجهل جهد المعمار الشامي أبولودور الدمشقي (60-125م)  الذي استعمله الأمبراطور تراجان Trajan،  و كسب لديه الحضوة من خلال كم ما أنجز وكذلك تقديرا لكتابه الذي ألفه لمليكه عن العمارة العسكرية، والجسر الذي أنشأه على نهر الدانوب لمرور الجيوش الرومانية في إحتلالها لشماله (بلاد الداق أو رومانيا الحالية) ، والذي أمسى أسطوريا بسبب صعوبة المكان وبحره الشاسع،  وأثبت فيها حذاقة وفطنة حينما راكب خامتي الحجر والخرسانة في الركائز وبين الخشب في الجسور الجاسئة بينها. والدمشقي كان حظه أوفر من  رهط  بنائي الشام الذين علموا الرومان كيف يبنون  قبابهم،  والتي وصلت  أوج تطورها في معبد البانثيون الذي بناه الإمبراطور حادريان Adrian بين عامي  (118-128 ميلادية) ،  حيث ترتكز القبة على أسطوانة دائرية ضخمة يبلغ سمكها ستة أمتار تخفي في ثناياها ثمانية دعامات حجرية متداخلة وترتفع القبة  (43)  مترا مكونة نصف كرة تامة بينما فتح في مركزها كوة ومنور.

وهنا نشير الى أن المعمار العثماني سنان  (1490-1588 م)  قد ورد من نفس بيئة المليتي والتراقي بعد ألف عام،  وتسنى له أن يبني بما تعلمه من بيئته الأولى في قرى حران الفراتية، من أين أستق المبدأ والأسرار الأساسية، لكنه أفتقر الى الوسائل التي وفرها له وجوده في كنف سلطنة مترعة بالثراء، ومغدقة على البناءين فكان نتاجه في قبة مسجد السليمانية التي غلبت بحر آيا صوفيا،  وكذلك الأثر في 441 عملا معماريا أنجزه،  جله مغطى بالقباب،  وفي كل ذلك النتاج لاقح سنان بين حرانيته الفراتية وعثمانيته الأسطنبولية، ولم يكن يقلد آيا صوفيا البيزنطية البته،  كما أشاع ذلك المستشرقون ومن أقتفى أثرهم.

 

 

القبوات  (الطاق)  Vault

يعتبرالقبو العنصر الأكثر رسوخا في عمائر الشرق، و أنتقل مسترسلا في حيثيات العمارة الإسلامية. وهو عنصر هيكلي تسقيفي وعماري مكور إنسيابي، ويعني العقد الطويل او السقف المعقود أو الوجه الداخلي للقبة وشكله نصف إسطوانة.وفي العمل الإنشائي يمكن تصوره ككتلة واحدة تعمل كالجسر (Beam)  بكفاءة ومقاومة عالية،  ولهذا تغطى به البحور الكبيرة في البناء. وللتفريق عموما بينه وبين القبة، فانه يستعمل لتغطية المساقط المستطيلة، بينما القبة تستعمل في المساقط المربعة،  وثمة نوع من القبوات يدعى المتصالب،  يبنى فوق دعامات على مساقط مربعة كذلك.

وقد يدعى القبو (الإيوان)  واشتهرت به العمائر الإسلامية في هيئة او  (حل)  متعدد التوظيفات يدعى  (الإيوانات الأربعة المتصالبة)  التي تحصر بينها مربعا أو مستطيلا سماويا مكشوفا. وقد  شاع تداول هذا الحل إبان الحقب السلجوقية والمملوكية وبعض العثمانية في العمائر الدينية كالمساجد والمدارس والتكايا وكذلك في الدنيوية كالقصور والبيوت والخدمية كالخانات ولاسيما في آسيا الوسطى و فارس والعراق والشام ومصر والحجاز. ودعاه المستشرقون  (الإيوانات الفارسية) ،  بالرغم من أن ثمة مثال باق أقدم من الإسلام يعود الى  حوالي عصر الميلاد المسيحي،  مازال يرتع حيا في موقع  (الحضر Hatra)  أو  (مدينة الشمس)  والواقعة في البادية العراقية الغربية،  على خط القوافل التي يربطها مع تدمر.وجسد هنا من خامة الحجر الرملي من ضمن سياقات الأعمدة والحيطان والأكتاف. وتكرر في مبانيها عنصر الإيوانات المتصالب وأحسنه وأوسعه موجود في معبد شحيرو في الحضر.و كان هذا الحل الأنسب للعمائر المسيحية بعد قرون، حينما نضج حل المسقط المتصالب الرمزي للكنائس.

والقبو في كنهه هو عقد مكرر ومسترسل طوليا، ويعود الى نفس الفترة التاريخية في بناءات الشرق القديم أي أكثر من 3000 سنة قبل الميلاد. ويجمع علماء الآثار اليوم ولاسيما الغربيين،  ممن درس عن كثب التقادم الزمني لهذا العنصر وتواجده وريادته،  بأنه وكذلك العقود لم تكن يوما محسوبة على الحضارة الرومانية، حينما تجسدت في ملاعب (الكوليسيوم) ، والحقيقة النقلية والعقلية تثبت أنهم أخر من استعمل هذا العنصر وليس أولهم. و نشأت في الأصل في أهوار العراق ثم تبعها بعد قرون في مصر السفلى وكان النموذج الأول يتمثل في بناء من حزم القصب التي  تغرس في الأرض بصورة مستقيمة ومنحنية الى الداخل وتربط أطرافها العليا لتكون هيكل البناء الذي يغطى بحصرعراقية  (باريه) ، ولنا دراسة عن هذا النوع من البناء عنوانه  (عمارة القصب) ، عسى أن ننشره في عدد خاص عن الأهوار.

وبالرغم من أن المباني القصبية القديمة قد اندثرت إلا أن أسلوب استخدامها لا زال قائما في جنوب العراق اليوم حيث يعيش  (الشروقيه)  أو  (المعدان) ،  ولا زالوا يقيمون مبان كبيرة تستخدم فيها تلك الأقبية القصبية.وقد ذهب  (ليونار وولي)  الذي نقب في آثار سومر وتحديدا في أور،  وكتب عنها الكثير، بأنه يرجح أن شكل  (الصرايف)  أو العشش القصبية التي بنى بها السومريون بيوتهم والتي مازالت حية،  كانت قد تطورت، حينما ليّست أو غشيت من الخارج بطبقة من الطين  ("التطيين " daub) بسمك معقول ليحملها الهيكل،  ثم يتم حرق القصب في داخل الصريفة (العشة)  ويضحى به كـ (قالب ضايع) ، لتمكث طبقة اللياسة قوية ومفخورة من جراء الحرق، ومن تلك الآلية نشأ عنصر القبو، الذي تدعم بعد حين بإستجداد خامة الطوب ثم الآجر، التي جعلته يتطور من جراء الإبتكار والحذق. وهذا الطراز من البناء،  يعرف باسم  (الوتل) ، ويذهب الباحثون على أنها كانت تمثل مرحلة وسيطة من مراحل تطور بناء الأقبية. وفي خاتمة المطاف تخلص معظم البنائين في العراق من استخدام القصب بسبب عدم توافره إلا في  (الأهوار) ، والأهم أنه خلصهم من هواجس الحريق التي مكثت في سجاياهم حتى اليوم. ويمكن أن يكون قد حكم عليهم عامل انتقالهم أبعد قليلا في اليابسة،  وبعدما أخذوا يعتمدون على مادة بناء أطول عمرا وأرسخ مقاومة،  يمكن استخدامها في المباني الكبيرة وهو الطوب الطيني المجفف بحرارة الشمس  (الطوب الني أو اللبن) .

وقد استغلت الإمكانات البنائية التي تتيحها العقود والأقبية النصقطرية في العراق القديم،   حيث أنها تطورت بصورة مستقلة عما كان يجري في مصر القديمة. وأقدم مثال على ذلك هو الصالة التي بنيت في "تبة كورا" Tepe Gawra الواقعة قرب مدينة كركوك العراقية،  في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد،  عند ظهور الحضارة السومرية وفي "أور" Ur. إلا أن أكثر ما يثير الإعجاب في العقود والأقبية النصقطرية في بلاد ما بين النهرين تلك التي وجدت في "تل الرمة"  (Tell al Rimah)   التي يعود تاريخها إلى نهاية الألف الثالث والنصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد. واقدم النماذج في الشام من نوع في  "the Levant" يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد،  وجد في تل دان في فلسطين ويتألف من ثلاثة مسافات أو طبقات متحدة المركز من حيث سماكتها من طوب العقود.

و من الأقبية الشائعة هو النوع  النصقطري،  الذي استعمل فيما بعد في العمارة الرومانية بعد صنع قالب خشبي له وهو ما يعتبر من عيوبه، التي تخطاها العراقيون منذ أزمنة غابرة بالبناء دون خشب (woodless architecture) ، بسبب شحتها في بيئتهم.  أن العقد أو القبو يحتاج الى "تركيز" centering أو دعم مؤقت حتى يجف. ونظرا لتحاشي القالب،  فإن أكثر أنماط التركيز الشائعة في ذلك الوقت "ربما" كانت تقوم على مجرد كومة من الطوب الطيني غير المثبت بالملاط،  وقد تكون مغطاة بطبقة من القش. لذلك فان عملية ملء المدخل أو الحجرة بأكملها بالطوب ثم إزالة الطوب بعد أن يجف العقد أو القبو،  لا بد وأنها كانت عملية تستغرق الكثير من الوقت والجهد.  والطريقة الثانية التي استخدمت في بناء الأقبية تعرف باسم "طريقة الطوب المائل " “Pitched brick method التي تجنب فيها البناءون عملية التركيز. والطوب المستخدم في الأقبية المبنية بالطوب المائل أخف وزنا من مثيله في الأقبية النصقطرية،  لأنه اصغر وأقل سمكا بصورة عامة وكذلك بسبب زيادة نسبة القش في صناعة هذا الطوب.

 و البراعة هنا تكمن في الحذلقة التي أتبعها العراقيون حينما توقف اللبنة الواحدة على أحد اطرافها وتميل أو تحنى على أحد الجدران النهائية للقبو. وتميل في الوقت نفسه نحو الداخل،  مثل الطوب في القبو النصقطري،  باستخدام الحجارة أو كسر الأواني الفخارية التي توضع تحت أطرافها الخارجية. وبذلك فالقبو الكامل كان يتألف من سلسلة من أقواس الطوب المائلة. والفتحة المتبقية عند الجدار النهائي المقابل كانت تملأ بأقواس أصغر وكسر الطوب وكسر الفخار والحجارة والملاط.ولما كان كل قوس يدعم القوس الذي يليه فإن بناء القبو بطريقة الطوب المائل يمكن ان يوقف عند أي حد ويظل القبو قائما بدون دعم داخلي. وكان نشر الملاط الطيني بكثافة بين الأقواس يمنع الأقواس من الانزلاق. كما كان الطوب المستخدم يمتاز بخاصية هامة تعزز عملية امتصاص الملاط الرطب. ففي أحد جوانب اللبنة الواحدة  (وفي مصر في جانبيها)  كان البناء يعمل تجاويف عميقة يشكلها بأصابعه عندما يكون الطوب لا يزال طريا. وهذه التجاويف كانت تسمح للملاط بالانتشار على مساحة أكبر الأمر الذي يزيد عملية الامتصاص وبالتالي يتماسك الطوب بصورة أكبر.وكان لخاصية الجص المستعمل كملاط مثبت في العراق وملكته في الشك (الجفاف)  السريع،  عاملا مهما في تثبيت قطع الآجر وحبكتها،  والتي مكثت ثابتا تقنيا يتداولها أساطين الحرفة حتى اليوم، ووائموها مع الطفرة التي أحدثها تداول الجسور الحديدية مقطع  (I)  (شيلمان)  بعد أن نقلها الألمان إبان بنائهم لمرافق سكة حديد  (برلين-بغداد)  في بواكير القرن العشرين.ومن الطريف أن العراقيون إبان الحصار الظالم في تسعينيات القرن العشرين، لجأوا الى طريقة عقادة أستخدموا بها ملاط الجص بغزارة في صنع قبوات دون حديد، حينما شح إستيراده في حينها،  فعادوا الى سابق أعرافهم لائذين بتراثهم الواقعي.

 لقد لوحظ وجود عدد من الاختلافات في استخدام أسلوب الطوب المائل. ففي بعض الأحيان كان يبنى القبو بدءا بالجدارين النهائيين،  ولم يكن هذا بالأسلوب الأمثل،  لأنه كان يتوجب على البناء أن يملأ حيزا إهليجيا أكبر في الوسط حيث تلتقي الأقواس المائلة المتقابلة بدلا من أن يملأ حيزا صغيرا مثلث الشكل. وفي بعض الأحيان،  بعد أن يتم تغطية حجرة ما بطبقة معقودة من الطوب،  كانت تتم عملية  زيادة سمك القبو بطبقات إضافية فوق الطبقة الأصلية. وفي العراق كان الطوب المربع الشكل (الفرشي)  هو الذي يمثل القياس المتعارف عليه،  فقد كان يكفي إضافة طبقة واحدة لتحقيق السمك المطلوب. أما في مصر حيث كانوا يفضلون الطوب الضيق المستطيل الشكل فقد كان سمك القبو يصل إلى أربع طبقات أو أكثر. والطبقات المتعاقبة كانت تميل في اتجاهات متضادة. فالطبقة الأولى تميل نحو الحائط النهائي الأول والطبقة الثانية نحو الحائط النهائي الآخر وهكذا. 

وعلى النقيض من ذلك فقد ظهرت " الأقبية البرميلية barrel vaults التي تبنى من الطوب المائل المستطيل الشكل،  ومورست في التاريخ المصري من القدم ر حتى الوقت الحاضر،  وفي مجالات البناء المتعددة،  كدعامات للسقوف والأسطح في البيوت العادية،  وفي فتحات التهوية المقببة الشكل على السطوح المستوية،  وكدعامات للسلالم وتغطية لها وفي المستودعات والبناءات الدينية. وفي نهاية المطاف حلت أقبية الطوب المائل محل الأقبية النصقطرية،  بيد أن التصميم النصقطري ظل الخيار الأمثل للمداخل و القبوات المفتوحة من الطرفين والتي ينقصها الجدار النهائي اللازم قي التصميم الخاص بالطوب المائل.

 إن العمل الذي بلغ الذروة في بناء أقبية الطوب المائل والذي الهم الكثيرين من المعماريين المسلمين يتمثل في ماسمي "طاق كسرى" Taq Kisra وهو في حقيقته القاعة الكبرى في قصر  ("طيسفون " (Ctesiphon أو المدينة البيضاء أو  (المدائن)  العربية،  الواقعة 25 كلم إلى الجنوب من بغداد داخل الطين العراقي الذي بني منه.لقد بني هذا الطاق ما بين القرن الثالث والسادس للميلاد. و استخدم الآجر  (الطوب المحروق بالنار أو الطوب الأحمر)  وليس الطوب الني، وما زال قائما بارتفاع 28، 4 متر وباتساع 25، 5 متر،  مما يجعله أكبر اتساع لقبو واحد من الآجر غير المدعم على سطح الأرض قاطبة، و إشارة على ريادة عراقية. وفي القرن العشرين حضي هذا النوع بتقدير حينما أعاد له الروح  المعمار المصري حسن فتحي،  دون أن يعيها معماريوا العراق الغارقين بالحداثة المنفلتة. بالرغم من أن مزايا الطوب الطيني وبناء القبوات هو نزعة عالمية تقتضيها المناحي البيئية وأزمة الطاقة.

وفي سياق أنواع القبوات فأن  إدخال طوب العقد الإسفيني الشكل يمثل في نظر الباحثين أعظم تقدم تقني في أقبية الطوب المائل،  الذي قضى على الحاجة لإدخال كسر الأواني والحجارة والخبث  (الشنك)  تحت الأطراف الخارجية للطوب. والأقبية التي استخدم في بنائها طوب العقد الاسفيني الشكل من المحتم أنها كانت أقوى من غيرها لأن اللبنات تكون متلامسة تماما بعضها مع بعض مما يؤدي إلى ضغط الملاط في نقاط الاتصال  (المفاصل) الضيقة جدا. والطوب الاسفيني الشكل يجعل من الممكن تسطيح القبو، وإعطاءه شكلا آخر غير شكل القوس شبه الدائري. وهذه المرونة،  من جانبها،  تمكن المعمار من تصميم الغرف المقببة ببحور مختلفة،  مع الإبقاء على السقف أو الأرضية العليا على ارتفاع موحد. وقد كان قد بدا هذه الطريقة معمار آشوري عراقي في حوالي عام 675،  ق. م. عندما قام بتصمبم سرداب بناية كبيرة في  (تل جمّة) ،  حيث عثرت على أقدم أقبية معروفة بنيت بالطوب الإسفيني الشكل. وقد استخدم هذا الأسلوب بصورة موسعة في "نوشي جان "Nush-i Jan وهي موقع في إيران على تخوم الأراضي العراقية اليوم،  ويعود تاريخه الى ما بين 750 و600 ق.م. وطوب الأقبية الذي استخدم هناك كان بالغ الضخامة،  إذ يبلغ طول الواحدة 1، 2 متر. ومن الطبيعي أن نتصور أن يكون هذا الطوب الطويل أكثر عرضة للكسر ولكنه في حقيقة الأمر على قدر من القوة بما يسمح له بدعم أرضية حجرة علوية في المعبد المركزي. لقد كان اختراع العقود والأقبية المبنية بالطوب الطيني إنجازا فذا،  وبناء الأقواس لم يندثر تماما في أي وقت من الأوقات في عمارة العراق، وأستمر تصاعديا خلال العمارة الإسلامية التي سمت بأشكاله "وليس مبدئه" الى فذلكة وروعة.

 

 

ساسان والإسلام

تماشيا مع الخطاب القومي الذي عم أوربا بعد  (حقبة الأنوار)  إبتداءا من أواسط القرن الثامن عشر،  فأن المستشرقون أقروا أن طاق المدائن (كسرى)  من إبداع فارسي،  غزلا مع فارس التي صنفوها مع العرق الآري القادر على صنع الحضارة، على عكس الشعوب مايدعى (السامية)  التي تتسم "بحسب تصانيفهم" بالإنصياع والخنوع والتبعية والتقليد. مع عطفهم وتعاطفهم مع العنصر  (الحامي)  كما المصريين كونهم متوسطيون  (فارزيهم عن البربر مثلا) . وقد أنتقل حمى فرز الدماء والأعراق إلى الفكر والعمارة. وهكذا صنف كل ماهو عراقي الى ساساني بالرغم من أن الساسانيين طارئين على التاريخ العراقي،  ومكثوا فيه أربعة قرون قبل الفتح الإسلامي وأختفوا منه مثلما ظهروا. و سيرت النظريات العلمية على أهواء ومغالطات تقمصها رعيل من المتنورين العرب، و رددوها دون تمحيص أو مراجعة.

و العمارة العراقية بدأت قبل فارس وساسان في السهل والجبل بثلاثة آلاف عام بحسب كل المعطيات الحفرية.ويذهب بعض الباحثين بأن  الفرس لم يقدموا للعمارة جديدا أو لم يكن لهم فيها ريادة وباع،  قبل سقوط بابل على أيدهم عام 539 ق.م، وهو زمن متأخر بمعطيات التاريخ، وأن برسيبوليس مدينتهم هي إستنساخ حاذق لمدن آشور ونينوى، وأن سرفستان تقليد لسومر وبابل.ومن الطريف أن الألمان الذين سرقوا بوابة عشتار من بابل على يد المعمار (روبرت كولدوي 1855-1925) ، كان مبرر بحثهم في آثار المدينة العراقية،  أن يعرفوا سبب وجود الطوطميات الناتئة المنحوته في آثار برسيبوليس، كونها رمز إبداعي  (للآريين) ، فوجدوا في بابل خيبة كبيرة شملت مجمل نظرية الأعراق القومية التي أنتجوها (وهي أساس الفكر القومي) ،  والتي صنفت أهل بابل من الشعوب المقلدة،  فأثبت بحثهم أنهم شعوب رائدة مبدعة.

وطرقا للمقارنة فأن بواكير إنشاء المدن في السهل الرسوبي العراقي (ثورة المدن)  تعود الى 3500 ق.م،  بينما أقدم مدينة في الهضبة الإيرانية، و هي أقبطان الواقعة على تخوم همدان الحالية (336كلم جنوب طهران) ، و تعود بتاريخها الى سنة 800 ق.م ويعتبرها  (آرثر يوفام بوب)  في كتابه  (العمارة الفارسية)  بأنها الأولى التي استعملت مبادئ تخطيطية عمرانية ومعمارية. اما أقدم زقورة (معبد برجي)  في إيران فانها تقع في خوزستان (عربستان)  المتاخمة اليوم للسهل العراقي والتي تشكل تاريخيا وجغرافيا جزء منه،  حيث أنشأها الملك العيلامي  (جوكا زنبيل Choga Zanbi) ، وبنيت في عهد الملك  (يونتاش Untash)  قرب سوسه أو الشوش عام 1250 ق.م،  بينما أقدم زقورة في العراق باقية في أور السومرية المخصصة لعبادة الآلة  (سن)  وتعود الى 3100 ق.م. لهذا يمكن إعتبار أن ثمة الفيتين من السنين بين نشوء البنيان بين شقي القطرين، وهي ليست بعامين أو ليلتين.

وهكذا نجد أن العمارة العراقية تكرست في فارس وتجسدت بعمران وعمارة  (أصفهان) أجمل مدن الإسلام وإيران التي طوروها الصفويون وهي مبنية بالآجر بالرغم من وقوعها في بيئة طبيعية جبلية صخرية. وما عمارة العتبات المقدسة في كربلاء والنجف وسامراء في العراق إلا نموذج لها، ونعتبره إعادة الروح لعمارة الأصل العراقي الذي ترنح من جراء سطوة الزمان وخراب الدنيا ومناخات السياسة. ويجدر بنا أن نذكر في هذا السياق ما استخلصه مؤرخ العمارة الإسلامية المصري الدكتور فريد الشافعي  في كتابه  (العمارة العربية في مصرالاسلامية –عصر الولاة.الصفحة 162)  مستندا ومؤكدا الأصل العراقي لتلك العمائر  في ثلاث نتائج هي:

1.   أن العمارة الأخمينية التي سبقت العهد الفارثي والتي وجدت أثارها في فارس هي من أصول مشتقة من التقاليد والأساليب الآشورية القديمة التي موطنها العراق.

2.   إن العمارة الفارثية التي لم يعثر على أمثلة منها خارج أراضي العراق إلا من النادر القليل المتناثر في الأجزاء الغربية من بلاد إيران المتاخمة للعراق.

3.   إن الآثار الباقية من العمارة الساسانية تتركز بصفة خاصة في منطقة العراق، بينما يوجد القليل منها في فارس بل معظم هذا القليل يقع متاخم للحدود العراقية.

وفي ذلك دليل على أن أصل الطرز التي تجسدت تحت حقب الدول الفارسية هي طرز عراقية محظة،  وكانت تحتل موقع القيادة والريادة خلال ثلاثين قرنا قبل ميلاد المسيح،  حتى نهاية العهد الساساني وحلول الدول  الإسلامية. ويقول في ذلك الشافعي  (لم تمكث فارس في مكان القيادة إلا أكثر قليلا من قرنين في العصر الأخميني  (550-331 ق.م) ، ثم عادت بلاد العراق بعد تلك الفترة الى مكانتها القيادية السابقة وذلك منذ بداية العصر السلوقي) .

ومن غريب ما سمعناه من الدكتور لمعي،  بأن ثمة فرق بين العقود المبنية بأسلوب وهدف هيكلي هندسي، كما القبوات والعقود الرومانية،  وبين العقود والقبوات الساذجة التي بنتها شعوبنا في الشرق القديم.ولم أجد في ذلك مبررا مقنعا،  حيث أن الوسائل هي التي تغير في كنه العنصر، بينما مبدئه يبقى ثابتا حتى بعد تطوره،  فالسيارة التي صنعها هنري فورد ، تحمل نفس مبدأها اليوم ماعدا تغير الوسائل التقنية والخامات التي نقلتها من طور الى طور. ولدينا مثال أقدم في الكتابة التي أخترعها السومريون،  وبالرغم من التغيرات والتطورات التي جرت عليها، لكن المبدأ ماكث حي يرزق.

 

 

إستخلاص من سجال المفاهيم

نجدالكثيرين  مثل الدكتور لمعي وجلهم من الشقيقة مصر، تبنوا خطابا ورد من كنف الخبث الإستشراقي، الذي لم يعد مقنعا البته بعدما نأى عن اللبابة. وهذا الخطاب مفاده أن العمارة الإسلامية محض إقتباسات ومحاكاة لعمائر وعناصر بيزنطية رومانية حينما يتعلق الأمر بالأرث الشامي، أو ساسانية فارسية، حينما يتعلق الأمر بالأرث العراقي. ويتفق معنا بهذا الصدد المصري محمد شعبان محمد في مقاله (العمارة الإسلامية من يعيد لها الإعتبار)  حينما يذكر:  (لقد نسجت اوروبا لنفسها تاريخاً مركباً وملفقاً احياناً وضعت نفسها في سدته،  وقامت بترتيب الحضارات والثقافات والشعوب الأخرى وفقاً لعلاقتها بها على مر الزمن،  وفي مجال العمارة نجد أن عصر التنوير صنع لأوروبا سلسلة تاريخية متميزة ومتصلة من بدايات مصرية "مفترضة" الى كلاسيكية الإغريق والرومان الى البيزنطيين والمسيحيين الأوائل ففترتا الرومانتك والقوطية الى عصر النهضة وما تلاه من الباروك والروكوكو والكلاسيكية المجددة حتى العمارة الحديثة وما بعد الحديثة والتفكيكية،  وقد تم استبعاد كل ما يمكن ان ينسب الفضل في بعض انجازاتها الى غير الحضارة الغربية وفقاً لتطور معرفة اوروبا لنفسها وللآخر سواء كان هذا الآخر معاصراً أم بائداً،  مسلماً أم مسيحياً أم هندوسياً أم بوذياً أم شرقياً أم افريقيا أم امريكياً أصلياً،  وهذا ما حدث مع العمارات الرافدية والآرامية والفينيقية التي انمحت من مجموعة العمارات المؤسسة الرئيسية بالرغم من اسبقيتها الى الكثير من الابتكارات المعمارية ثابتة اركيولوجياً وتاريخياً وقد حلت محلها في السلسلة التاريخية الأوروبية عمارات غربية متأخرة نسبياً أو متبناة من الغرب كالـ (الحيثيين)  في الأناضول والمينوين في كريت والإيونيين في اليونان القديمة ) .

ربما يكون الأمر برمته  متداعيا من الدعة الحضارية التي نحن فيها، حيث إن الحداثة التي مازلنا نتخبط بين حيثياتها هي حداثة غربية محضة وليس حداثتنا البته،  و جاء الخطاب الإستشراقي جزء من سياقاتها التي أنكرت مبدأ الثابت في ثقافات الأمم. وهكذا تصاعدت نزعة التنكر للماضي حتى وطأت التفكيكية التي أعلنت حاجة الغربيين لمسوغ يداروا بها خيبتهم في فشل الحداثة،  بعدما لم تطأ ثابت ثقافي،  وأحجمت عن تفسير الكثير من الأمور الروحية،  أو حتى إقناع أهلها. ويرصد المتتبع أن الحداثيون العرب يصرون على تصدير آفات هذا الفصام الذي يعيشونه الى مجتمعاتهم من خلال فرض مبدأ القطيعة مع التراث،  كما سعى له المنهج التفكيكي الذي طبل له الحداثيون دون أن يكلفوا أنفسهم عناء مراجعته وتكييفه مع واقع مجتمعاتهم، كما سبق وحدث مع الماركسية والليبرالية التي تعاملوا معها بعقلية كسولة ترتضي المسلمات و (الصندوق المقفل) ،  ومثالنا في ذلك رهط الدكتور لمعي الذي لم يتجشم حتى مراجعة الخطاب الإستشراقي.

وهنا نلفت نظر كل المتشنجين والمتعصبين للنظريات الإستشراقية،  بأن   (النظريات)  تمكث  إسقاطات فكرية إبداعية،  لكنها ليست الحقيقة العلمية المطلقة،  لأنها لا تعتبر بديهيات ثابتة. كما أن العلم هو وسيلة من وسائل المعرفة لإدراك الظواهر وتفسيرها،  لكنه في الغرب اتخذ أبعاداً أكبر من حجمه،  فأصبح مصدراً وحيداً للتشريع كدين جديد لا يعترف عداه بالأخلاق،  فتم استخدامه في إرهاب الشعوب الأخرى،  وإركاعها لإرادته المركزية التي مازلنا نعاني منه بما نسميه (سلطة المعرفة) . وهنا ألفت نظر البعض الى أن لولا ظهور نظرية الأنكليزي  (مارتين برنار)  في كتابه  (أثينا السوداء)  عام 1989،  وتأكيده بالدليل البحثي المتأني الدامغ،  بأن اليونان وثقافتها وآلهتها وحتى عمارتها إلا إقتباسات مصرية وشامية وعراقية،  لكان الكثير من أصحابنا مازالوا يعتقدون أن العراق ليس هبة النهرين بل هبة روما وأثينا.

 وعلى هذا الأساس وبموجب هذا الخبث،  أمست عمارة الشعوب الإسلامية التي نشأت في الشرق القديم وجل عناصرها عراقية،  لاتمت الصلة بأصلها وغريبة عن جذورها في تلك البيئات، كي تكون مرجعيتها  وقطبها غربي محض مثلما مجمل الأمور، ليفقدنا بالنتيجة حاضرنا الضائع بلجة الحداثة وتراثنا الذي حرفت حقيقة إنتماءه، وهكذا، سوف نمكث الى  ماشاء الله نقبع في التيهان والتخلف،  ولاسيما إذا اعتبرنا أن إستلهام  التراث وسيلة فاعلة في كل النهضات،  وهذا ما أعتبره الغرب حقيقة دامغة، حينما تعلق الأمر بنهضتهم التي أستلهمها رعيل  (ميديتشي)   من أرث روما وعمارتها.

ثمة إلتفاته نبيهة للسعودي الدكتور مشاري عبدالله النعيم في كتابه  (العمارة والثقافة ص46)  يشير الى أمر هام في الفرق بين مبادي الحضارة العربية-الإسلامية والحضارة الغربية  بأن الأولى أتخذت طابعا مركزيا، وتقدمت على أساس أنها تدور حول نواة القيم وإستخداماتها في التقدم،  بينما الغربية أتخذت وأعتمدت في تقدمها على الشكل الخطي التصاعدي مبتعدة عن القيم التي لم تهم غاياتها في لجة مغريات التقانة وبريق المادة. وهذه حقيقة أستلهمتها العقلية الإسلامية من ثقافات الشرق القديم، حيث أن ظهور الأديان وتداخلها مع نشوء المدن،  وتبنيها للتوحيد الإبراهيمي الذي سار الإسلام على هداه،  ومن قبله اليهودية والمسيحية وهي من أمهات نتاج العقلية الشرقية، كان له كبير الأثر حتى في ثقافات الدنيا.والأمر يتجسد كذلك في سياقات العمارة القديمة، حينما سعت أن تكون قميصا يقي الإنسان الحر والزمهرير والشمس والمطر والثلج،  وتهبه الأمان والراحة وتحميه وتستره،  وكلها مرام قيمية أخلاقية وإنسانية محضة. وفي تلك المقاصد وبثقة وإعتداد،  لم تعر تلك المنطلقات الفكرية أهمية للجانب الشكلي، وأعتبرته نتيجة ومحصلة غير ذي شأن، ماعد ما أملته إستثناءات بعض المقاصد المعمارية المكرسة لإنعكاسات نفسية كما الحال في صرحية المعابد مثلا ومعالجاتها الفنية المبالغ بها،  ثم البهرج الذي  أقحمه الأمويون ثم العباسيون في المساجد و عمارة المسلمين، والدين  منها براء.

لقد أقتبس الإسلام ذلك المفهوم فامست العمارة لديه مغلف يقي الإنسان ما لايناسب طبيعته وطاقته،  وما يكسبه الراحة الجسدية و النفسية،  التي كانت غاية بحد ذاتها.و أمسى الشكل المعماري نتاج وليس سبب ولم يعره أهمية، وهو ما نجده قد تبنته الحداثة ومنهم المدرسة العضوية إبتداءا من الأمريكي سوليفان ورايت،  حينما أقرا أن  (الشكل يتبع الوظيفة) .

وفي سياق الثابت الثقافي لا نستبعد أن الإسلام جاء بالكثير من المنطلقات الفكرية ومنها مثلا وليس للحصر  (مشاعية الثقافة  mass culture) ،  التي كانت سنة طبقها السومريون،  وجسدوا الأمر حينما أسسوا أول مدارس نظامية، وأعتبروا الكتابة والمعلومة منة سماوية و ملك للجميع، ولا تقتصر على لفيف أو طبقة أو فئة، والأمر عينه تبناه الإسلام الحضاري، ونجد حديثا للنبي الكريم  (ص) ، جاء فيه (من كتم علما يعلمه جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار)   (أخرجه أحمد في مسنده - رقم 10192) .وهكذا تسنى للإسلام الحضاري أن ينقل تلك النفحات الإنسانية الى ألازمنة الحديثة، حتى يمكن إعتبار الحضارة الحديثة  جذورها إسلامية،  ثم أعمق من الجذر القيمي الوارد من ثراء الشرق القديم الروحي والمادي، وكأننا نشّبه الإسلام كواسطة أمينة ومخلصة في إيصال بوتقة الفكر القديم إلى أزمنتنا. 

وهنا نشير الى أن إصطلاح  (العمارة الإسلامية)  نفسه مفهوم إستشراقي،  ونحبذ أن يكون  (عمارة الشعوب الإسلامية)  كون بعض جوانبه ولاسيما الجانب الصرحي والبذخي والخيلائي،  لايمت الى جوهر الزهد والتواضع الديني بصلة. وبذلك نخلصة من تلك التبعية القسرية،  ناهيك  عن أن ثمة الكثير من الشخوص والجماعات غير المسلمة التي شاركت في التراث المعماري إبان الحقب الإسلامية، ومنهم وليس للحصر  (دليل بن يعقوب النصراني)  المعمار المسيحي العراقي القادم من الحيرة الفراتية  معمار مسجد ومنارة الملوية في سامراء. وهكذا نتلمس تعمية متعمدة و طمس خبيث للأثر العراقي الوارد من أرث الشرق القديم في صلب العمارة التي صنعها الإسلام، ونجد من القوم من يفضل أن ينسب الأمور الى بيزنطة وفارس نكاية بميراث تلك الشعوب المفترى عليه.

كل ذلك يستوجب أن نركز جهدنا على إثبات مفهوم الثابت الجغرافي  والمتغير التاريخي في الثقافات ونتاجها الروحي والمادي، ومنها العمارة. فالشعوب تبني بمعطيات وسطوة البيئات الطبيعية والإجتماعية،  وتوائم وتجانس بينها، لكنها لاتشذ عن محورية صريحة للثبوت يكرسها ثبات  (العقلية mentality) ،  يمكن إعتمادها في سلسلة حلول بحثية لتخليص التنظير المعماري من سطوة التصانيف القومية العرقية أو الدينية الطائفية، أو حيثيات السياسة والدول وسطوة أسماء السلاطين والولاة الذي تجدهم فرسان التاريخ دائما. والأجدر في ذلك إرجاع حق الشعوب والأفراد من خلال  سلوك منهجية تعتمد الثابت والمتغير في البيئات الإجتماعية والأقاليم الجغرافية المعمارية.

   

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة