رأي وتحليل

إشكالية الوضع العراقي بين مفهومي الشراكة والتعايش

 

مصطفى القرة داغي

 

 

في الوقت الذي يحاول فيه البعض أن يصور مايحدث اليوم في العراق على أنه صراع طائفي إلا أن الحقيقة هي أن مايحدث فيه هو صراع سياسي يتكأ على مفردات وأجندات طائفية بين قوى وأحزاب سياسية وظّفت الإنتمائات الطائفية لأبناء الشعب العراقي في صراعها مع بعضها البعض من أجل الوصول الى أهداف سياسية تتمثل بالإستحواذ على السلطة السياسية والموارد الطبيعية للعراق.. إلا أن إنجراف بعض العوام بوعي أو بدون وعي كالإمعات وراء الخطاب الطائفي لهذه القوى والأحزاب هو الذي نقل هذا الصراع من أروقة المنطقة الخضراء وشاشات الفضائيات الى شوارع المحافظات العراقية بل والى أحياء وأزقة ودرابين العاصمة الحبيبة بغداد. إن الدليل على هذا الكلام هو الخطاب الإعلامي الذي تتبناه أغلب هذه القوى والذي يكثر فيه إستخدام مفردة   (الشراكة) بين مكونات الشعب العراقي وهي مفردة خطيرة جداً إذا تمعنا فيها جيداً لأنها تصور العلاقة بين أبناء الشعب العراقي على أنها صفقة تجارية وهذا غير صحيح وتدحضه قرون  (التعايش) السلمي بين شرائح ومكونات هذا الشعب وصلات القربى والنسب والجيرة والصداقة التي تربط بين أبنائه منذ مئات إن لم نقل آلاف السنين.. إلا أن هذه المفردة وفي نفس الوقت تعبر بصدق عن طبيعة العلاقة بين القوى والأحزاب السياسية التي تستخدمها والتي تُتاجر بالفعل وبشكل سافر بإنتمائات ومآسي شرائح الشعب العراقي التي تدّعي تمثيلها للإستحواذ على أكبر عدد ممكن من أسهم   (مؤسسة العراق التجارية) بكل خيراتها من نفط ومياه ومعادن ومعالم سياحية أثرية ودينية والتي يجري اليوم بالفعل صراع دموي بين بعض هذه القوى في سبيل السيطرة عليها.. فهذه القوى لاتنظر الى العراق على أنه   (وطن واحد) يعيش فيه   (شعب واحد) ولو كانت كذلك لإستعملت مفردة   (التعايش) لأنها الأنسب والأصح لوصف الحالة التي كانت ولاتزال وستبقى موجودة بإذن الله بين أبناء هذا الشعب إلا أنها لم ولن تفعل هذا لسبب بسيط وهو أن ذلك سيكون بمثابة إنتحار لها كونه سينهي دورها الذي تدّعيه اليوم على أنها ممثلة لهذه الشرائح وأن هدفها هو البحث لها عن شراكة مع الشرائح الأخرى من أبناء العراق المتعايشين أساساً مع بعضهم البعض.. فالمشروع الذي تعمل هذه القوى السياسية على تحقيقه في العراق هو ليس مشروعاً وطنياً لبناء دولة مواطنة   (يتعايش) فيها الجميع ولهم فيها نفس الحقوق والواجبات بل هو مشروع يهدف لتحويل العراق الى كانتونات طائفية وعِرقية تقودها وتتحكم بها هذه القوى وتسكنها مجاميع بشرية أحادية الإنتماء يراد منها أن تكون بمعزل عن بعضها البعض ثقافياً وإجتماعياً وسياسياً والأهم إقتصادياً ولايربط بينها سوى إنها ضمن كيان إسمه العراق ربما يصار في المستقبل الى إلغائه وبالتالي فإن مفردة   (الشراكة) هي الأنسب لدعاة هذا المشروع وهي التي تُعبّر بحق عن نوعية العلاقة التي تربط بين هذه القوى والأحزاب والتي يطمح هؤلاء أن تسود من الآن فصاعداً بين جميع العراقيين من أبناء الوطن الواحد.. لذا فقد بدأت هذه القوى والأحزاب ومنذ لحظة دخولها الى العراق وعبر صحفها وقنواتها الفضائية وأقلامها المشحوذة لهذا الغرض بحملة تثقيف لإقناع أبناء هذه الطوائف والقوميات بأنهم من دين أو طائفة أو عرق خاص يختلف عن  (الشركاء) الآخرين في العراق وإنهم يعيشون معاً        (مجبورين ومِن لا  جارة) وأن لهم مناطقهم التي فيها خيراتهم الخاصة التي هي ملكهم ومن حقهم وحدهم لأنهم من سكان تلك المناطق وإن حدَثَ وإضطروا لمشاركتها مع الشركاء الآخرين في الوطن فيجب أن يتم ذلك بشكل عملي ومصلحي ومنفعي بحت وعلى أساس الصفقات التجارية أي على طريقة   (شيّلني وأشيّلك) و  (إعطيني وأعطيك) و   (أتغدى بك قبل أن تتعشى بي ) ..

 

 

وقد بدأ بالفعل الكثير من زعماء الأحزاب السياسية وقادة العراق الجديد ومنذ زمن يتحدثون بلغة  (نحن لدينا النفط وهم لديهم الماء) والعكس مما يكشف طبيعة النظرة التي تنظر بها هذه الزعامات السياسية للعراق فهو في نظرها ليس سوى منجم للذهب وكنز دفين لاينضب تسعى للإستحواذ عليه بشتى الطرق.. لهذا يحاول كل تيار منها أن يفرض سيطرته على أكبر مساحة ممكنة من أرض العراق ليساوم بخيراتاها الآخرين فيما بعد على أساس الشراكة لا التعايش فالقضية بالنسبة لهم في النهاية هي تجارة في تجارة وليس لها علاقة لا بالدين ولا بالأخلاق ولا بالقيم ولا بالعراق. ولكي نفهم طبيعة العلاقة التي تربط بين أبناء الشعب العراقي الواحد ونحدد ماهيتها أهي تعايش أم شراكة دعونا نأخذ مثالاً إفتراضياً لا أعتقد بأن هنالك عراقي لم يعايشه أو لم يكن جزءاً منه في يوم من الأيام.. لنأخذ مثال رجل كردي سُني يتزوج من إمرأة عربية شيعية ثم ينجبان شاب وفتاة بعدها يتزوج الشاب الذي هو نصفه عربي شيعي ونصفه الآخر كردي سُني من فتاة آشورية مسيحية لينجبا أطفالاً نصفهم عربي كردي مسلم ونصفهم الآخر آشوري مسيحي وتتزوج أخته التي هي من ناحية عربية شيعية ومن ناحية أخرى كردية سُنية من شاب تركماني شيعي لينجبا أطفالاً نصفهم عربي كردي شيعي سُني ونصفهم الآخر تركماني شيعي وهلم جرا ولنفترض أنهم يعيشون اليوم جميعاً في العراق الجديد الديموقراطي التعددي الفيدرالي الدستوري الموحد   (وصلّحوا) الذي يطرح ساسته   (الذين يهيمون حباً بالعراق! ! ! ! ! ) مفهوم   (الشراكة ) .... فهل هذا يعني أن على كل واحد من هذه العائلة الواحدة   (المتعايشة) أن يبحث اليوم عن   (شراكة) مع الآخر الذي هو أبوه أو أمه أو أخته أو أخيه أو إبنه أو إبنته أو حفيده أو حفيدته! ! .. وهل هذا يعني أنه من المفترض على الزوج الكردي السُني أن ينظر الى نفسه على أنه أقلية وأن ينظر لزوجته العربية الشيعية التي أحبها و  (تعايش) معها دهراً على الحلوة والمُرّة على أنها أكثرية وإن عليه من الآن فصاعداً   (أن يحترم نفسه) ويبحث لنفسه معها على  (شراكة )! ! .. وهل هذا يعني أنه من المفترض على الفتاة الآشورية المسيحية المتزوجة و  (المتعايشة) مع شاب عربي كردي مسلم أن تنظر الى نفسها على أنها أقلية وأن تنظر لزوجها على أنه أكثرية وإن عليها من الآن فصاعداً   (أن تحترم نفسها) وتبحث لنفسها معه على   (شراكة)! ! .. وهل هذا يعني أن على الزوج الكردي الذي يمتلك الماء أن يساوم زوجته الشيعية التي تمتلك النفط ويوقع معها إتفاقية شراكة لتبادل الماء بالنفط والعكس! ! .. وإن حدث ولم يتفقوا هل يقطع هو عنها الماء وتقطع هي عنه النفط! ! .. ثم ماذا يفعل كل واحد من هؤلاء الذين ذكرناهم بنفسه وروحه وذاتِه ألتي ) تتعايش) فيها أصلاً كل الأديان والطوائف والقوميات الموجودة في العراق! ! .. هل يُقطِّعها الى أجزاء ليبحث كل جزء منها عن  (شراكة ) مع الجزء الآخر! ! .. ثم ماذا عليهم أن يفعلوا في الإنتخابات! ! .. هل يُقطِّعوا أنفسهم الى أجزاء لينتخب كل جزء منها إحدى القوائم المقننة والمعلبة والمتخندقة التي طغت على أجواء الإنتخابات التي شهدها العراق مؤخراً والتي تلبي كل منها طموحات الطائفة الفلانية فقط أو القومية العلانية فقط في حين يختزل هو كل هذه الطوائف والقوميات والأديان في روحه وذاتِه وشخصه الذي يمثل العراقي الحقيقي! !  أي شراكة هذه التي تبحث عنها هذه القوى والأحزاب لهذه الطائفة مع تلك ولهذه القومية مع تلك ولهذا الدين مع ذاك والكل يعيش أصلاً ومنذ مئات السنين جنباً الى جنب في وطن واحد وتربطهم عبر هذه السنين صلات نسب وزواج وجيرة وعمل وصداقة وقربى! .. فهل تبحث لشراكة بين الزوج وزوجته وشريكة عمره؟ .. أم بين الصديق وصديق عمره؟ .. أم بين أبناء العمومة والخؤولة؟ .. أم بين الجار وجار عمره؟ .. فإذا كان هنالك   (تعايش)  بين شخص وآخر فما الداعي بعد ذلك أن يبحث كل واحد منهم عن   (شراكة) مع الآخر؟  صدقوني هذا هو مايريده ويسعى لتحقيقه السياسيون.. تدمير المجتمع العراقي وتفتيت روابطه الإجتماعية وبث الفرقة والكراهية بين أبناء الوطن الواحد والمحافظة الواحدة والمنطقة الواحدة والبيت الواحد لأنهم يعتاشون على هذه الأوضاع وهي عنوان وأساس بقائهم وإستمرارهم في الوجود كقادة وكزعماء سياسيين ودينيين.. فلو إعترفت هذه القوى والأحزاب بمفهوم التعايش الموجود من الأزل بين العراقيين ورددته في أدبياتها وخطاباتها الإعلامية لإنتفى مفهوم الشراكة الذي تطرحه من الأساس ولإنتفت الحاجة الى وجودها هي أصلاً ولتبخرت وتلاشت من الواقع السياسي العراقي. ماهذا السخف والهراء! .. ألا يستحي السياسيون الذين نظّروا ويُسَوِّقون اليوم لمفهوم الشراكة بين العراقيين من ترديد هذا المصطلح على ألسنتهم! ! .. ألم يعايشوا أو يسمعوا أو يكونوا يوماً جزئاً من المثال الذي ذكرناه؟ .. وإن كان الجواب بلا.. فمن أين جائونا إذاً؟ .. أمِن القمر! ! ! !  أظن ذلك.

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة