تجربة الوحدة المسيحية الالمانية

 

  لطيف الحبيب/ latifalhabib@aol.de

مصطفى القرة داغي/ karadachi@hotmail.com

 

برلين

 

رغم معاناة المانيا طيلة قرون من الصراع الطائفي التدميري بين البروتستان والكاثوليك فأنها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تعطي مثالاً ناجحا للوحدة بين الطوائف الدينية المختلفة لشعب واحد، بالاضافة الى حل مشكلة العلاقة بين الدين والدولة. فالدستور الألماني القائم على ضمان الحرية والديمقراطية يتعاطى بصورة متوازنة مع دور الديانة المسيحية كمرجعية قيمية وأخلاقية للمجتمع، إلا أنه في نفس الوقت يرفض التدخل المباشر للمؤسسات الدينية في العملية السياسية.

لقد تمكنت المانيا بفضل نخبها المسيحية ذات الحس الوطني الالماني، بأن تبني تجربه رائعة للتعايش والتوحد بين البروتستان والكاثوليك. ولعب الحزب الديمقراطي المسيحي ( CDU ) دورا حاسما في عملية التقارب هذه، وكذلك دوره بترسيخ الحياة الديمقراطية في المانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وتعزيز الهوية الالمانية.

 

طبيعة المسيحية الالمانية

 

 

دخلت المسيحية إلى ألمانيا منذ عهد الدولة الفرنجية (Fränkisches Reich) في القرن العاشر الميلادي وفتوحات شارلماني في سكسونيا. وقد عمت موجة التمسيح سويسرا أيضا.

عانت ألمانيا في  تاريخها وخاصة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر من حروب دينية طائفية تكبدت خلالها خسائر فادحة كلفت عدة ملايين، أي حوالي نصف عدد سكان المانيا. وخربت المدن والزراعة والاقتصاد، فدمر أكثر من 35% من مدنها المزدهرة في تلك الفترة كما حرقت مدن أخرى مثل " ماكدابورغ " الذي ابيد غالبية سكانها البالغ عددهم حوالي 30 الف نسمة، كما فقدت نصف سكان مدينتي برلين و "كمنس". وجلب الجيش الاسباني معه الطاعون عندما احتل  مدينة "ميونخ " الذي فتك بأكثر من 10.000 شخص بوقت قصير. ان حرب الثلاثين عاما قضت ودمرت كل المكتسبات والانجازات الزراعية والعمرانية وأعادت وسط أوروبا الى العصور البدائية, وحتى بعد توقف حرب الثلاثين عاما باتفاقية " فيستفال " عام 1648 التي قطعت أوصال ألمانيا الى أكثر من 300 مقاطعة وبعد مرور أكثر من مائتي عام استطاعت ألمانيا إن تستعيد وحدتها .

 

التكوين الديني والمذهبي لالمانيا

 

في الحرب العالمية الثانية كان ثلثي السكان يعتنقون المذهب البروتستانتي والبقية من السكان تعتنق المذهب الكاثوليكي .  يتركز أتباع المذهب البروتستاني في المناطق الشمالية والشرقية الشمالية من ألمانيا وفي إقليم الفورتمبرغ يشكل هؤلاء الأغلبية الساحقة. اليوم يتبع حوالي 66.8 % (55 مليوناً) من الألمان إحدى الكنائس المسيحية. يشكل البروتستانت نسبة 33.4 منهم، والكاثوليك 33.4 . معظم البروتستانت هم أعضاء في الكنائس الإنجيلية (Evangelische Kirche)، كما تتواجد العديد من الكنائس ذات التوجه الحر. يخضع الكاثوليك إلى 27 مطرانية (Erzbistümer) و أبرشية (Bistümer) متواجدة في كامل أنحاء البلاد.

من بين الطوائف الأخرى. ما يقارب 3 ملايين مسلم (أتراك، أكراد، عرب، ألبان، بوسنيون، إيرانيون،..) والذين ينتمون لمختلف الطوائف. وحوالي 100،000 من الأرثوذكس (الصرب، اليونانيون، الروس)، حوالي 380,000 يتبعون الكنيسة البابوية الجديدة (Neuapostolische Kirche)، بالإضافة إلى تعداد اليهود المقدر بـ100،000 والذين يديرون معابد خاصة بهم . كما يوجد العديد من أتباع الطوائف الدينية الصغيرة، وعلى العموم يمكن القول أن كل ديانات العالم ممثلة تقريبا. حوالي 25 % من السكان لا يتبعون أي من هذه المذاهب الدينية.

يضمن القانون الأساسي للجمهورية الألمانية حرية الأديان. لا توجد أقليات دينية مضطهدة رسميا. هناك إتفاقيات بين الحكومة الإتحادية والكنيستين الكاثوليكية والبروتستانية، يحق بموجبه للراغبين من أبناء هذين المذهبين دروسا دينية في المدارس الحكومية. وتعوض الحكومة هذه الدروس باقتطاع نسبة ضريبية على السكان من أبناء هذه المذاهب. قامت الحكومة الإتحادية بعقد اتفاقيات مماثلة مع أبناء الطائفة اليهودية، عن طريق المجلس المركزي لليهود في ألمانيا.

 

الاتحاد المسيحي الديمقراطي  CDU

Christlich-Demokratischen Union

 

 

والشائع عنه اسم (الحزب المسيحي الديمقراطي) رغم انه في حقيقته اتحاد لمجموعات بروتستانية وكاثوليكية، ويُعرّف نفسه بأنه " حزب يملك مفهوماً سياسياً قائماً على التدين والقيم المسيحية وعلى مسؤولية الفرد أمام الله " ويشدد في مقدمة قانونه الأساسي على أنه " حزب ديمقراطي ليبرالي ومحافظ يلتزم بجذور أوروبا التاريخية ".. وهو تعريف لم يمنع الحزب من مواكبة إستحقاقات الحداثة ومتطلبات العصر، بل دفعه الى السعي للحفاظ على نوع من التدين المعتدل وعلى ثقله السياسي بصفته أحد الركائز الأساسية للمنظومة السياسية الألمانية دون التخلي عن أهداف وروح الدستور الألماني الذي يستند على الميثاق الأممي لحقوق الإنسان.  

لقد نجح الحزب في التحدي الكبير لحل المعضلة المتمثلة في الموائمة بين ناحيتين مختلفتين: عقيدته المسيحية، والإجماع الديمقراطي العام الذي يلتزم بضرورة فصل الدين عن السياسة.، لقد نجح الحزب الديموقراطي المسيحي في ذلك الى حد بعيد جعله اليوم من الأحزاب ذات الحضور والثقل السياسي البارز ليس في ألمانيا وحدها بل في عموم أوروبا .

ان هذا الحزب في حقيقته نوعا من الاتحاد بين الكاثوليك والبروتستان. نشأ هذا الاتحاد المسيحي الديمقراطي، بعد تجارب وأزمات قاسية وجد المسيحيون من كلا المذهبين الكاثوليكي والبروتستانت، أنفسهم مضطرين للتوحد في حزب واحد من أجل الحفاظ على رؤية مشتركة للقيم المسيحية.

في عشرينات القرن الماضي  تأسست مجموعات دينية صغيرة بدأت بالتفكير بتأسيس حزب على أسس دينية. سميت هذه المجموعات " بمجموعة دسلدورف ". وقد تعاطف معها اتحاد نقابات العمال المسيحية،  كذلك انظم الى هذا التجمع عدد من موظفي الدولة واتحاد المسيحيين الكاثوليك الشباب، ومحافظ مدينة دسلدورف وبعض رؤساء البوليس ومجموعة من المناهضين للفاشية. كما ضم هذا التجمع رئيس اتحاد العمل وهو شخصية كاثوليكية مهمة. اتفق هؤلاء على بناء جبهة موحدة سياسية تتشكل من عدة تجمعات دينية مذهبية كاثوليكية وبروتستانية بالاضافة الى اتحاد العمال الألماني .

بعد الحرب العالمية الثانية، تم اعادة تشكيل (الحزب الديمقراطي المسيحي الالماني)، ولكن هذه المرة بعيدا عن تأثير المركزية الكاثوليكية التي أدت سابقا الى انهياره وهيمنة الحزب النازي أعوام الثلاثينات. في عام 1945 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، اثمر التعاون والحوار بين النخب الالمانية المسيحية من البروتستان والكاثوليك، والتي تحمل هما وطنيا توحيديا، بتأسيس تجمع دائم في مناطق بوخوم, راينلاند, فستفالن. في البدء تكونت لجنة قيادية من 6 بروتستانت  و8  كاثوليك، بواسطة الانتخاب المباشر. ثم تم تشكيل القيادة العامة في مدينة كولن،  من 24 كاثوليكي من بينهم الزعيم الالماني الشهير " كونراد ايدناور " و7 من البروتستانت. أكدت هذه القيادة بتمثيل كل الطوائف المسيحية في قيادة الحزب.

ان عملية بناء هذا الحزب راحت تجري بسرعة كبيرة في مناطق المسيحيين المحافظين، سواء منهم البروتستان او الكاثوليك.  وقد ظلت صعوبات التأسيس والخلافات تعيق بناء الحزب بصورة كاملة، منذ نهاية الحرب حتى عام1947.

 طورت أفكار وبرامج (الحزب الديمقراطي المسيحي) وساعدت على التخلص من الروح الطائفية الضيقة ومنفتحة على الروح المسيحية الانسانية ومبادئ الديمقراطية، مع التأكيد على ان يكون الحزب فكريا وتنظيميا يمثل عموم المسيحيين من كاثوليك وبروتستانت. حيث تأكد من التجربة السابقة بأن  إقصاء البروتستانت عن الحزب يؤدي الى عزلتهم وبالتالي تعميق الانشقاقات بين المسيحيين الالمان وعموم الشعب الالماني.

اعلن (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) منذ تأسيسه بأنه حزب مفتوح لكل الطوائف المسيحية،  " وأن يكون ملتزما بالتعبير عن الصورة المسيحية بكل ألوانها ". تسنى للاتحاد المسيحي الديمقراطي أن يوحد كل التيارات المدنية والدينية المختلفة الآراء والمشتتة المذاهب، من المسيحيين بالاضافة الى المحافظين والليبراليين الغير ملتزمين دينيا.

طبعا لم تتم هذه التطورات التوحيدية والوطنية الايجابية دون بعض الصعوبات والمشاكل. حيث وجد بعض قادة الكاثوليك بإن هذا التجمع الحزبي الجديد هو بحقيقته قوة للبروتستانت. كذلك حصل نفس الاعتقاد لدى بعض قادة البروتستانت، حينما أعلنوا عن تشكيل تجمع بروتستانتي خاص بهم في منطقة " بلفيلدهيرفورد". ولكن بعد نقاشات واسعة انظم هذا التجمع البروتستانتي الى الحزب الديمقراطي المسيحي.

في البداية واجه  الحزب العديد من الهجمات والانتقادات خاصة من داخله بسبب قيادة " كونراد اودناور "له والمعروف بانتمائه وتعصبه الكاثوليكي منذ العشرينات. ثم أن تحول القوى المسيحية المختلفة الى (اتحاد سياسي جامع للطائفتين) ازعج الكثير من رجال الدين والمؤسسات المسيحية من كلا الطائفتين. القسس اثاروا نقاشات حادة في الأديرة والكنائس وقدمت مقترحات بهذا الشأن وأخيرا توصل الجميع الى تأسيس " الاتحاد المسيحي الديمقراطي "

 

دوره التوحيدي للمجتمع الالماني

 

( نساء مسلمات المانيات)

 

لكن الحزب تمكن عبر الحوار الديمقراطي والتنازلات الايجابية بين المختلفين، ان يفرض وجوده في الساحة السياسية الالمانية، حيث حصل  في انتخابات 1949 على نسبة 31% من الأصوات. وبالتحالف مع الليبراليين تمكن "ايدناور " من الحصول على الأغلبية في البرلمان وانتخب كأول مستشار للدولة الألمانية وانتخب رئيسا للاتحاد عام 1950. ان ايمان الزعيم ايدناور بالمذهب الكاثوليكي وتعميم تعاليم الكاثوليكية الاجتماعية طبعت المجتمع الألماني في الخمسينات وتركت آثارها العميقة في السلوك الاجتماعي في تلك الفترة وخاصة على الاقتصاد الألماني الذي شهد انتعاشا كبيرا أدى الى نهوض اجتماعي بعد الحرب.

حقق الاتحاد المسيحي الديمقراطي في أعوام 1953 و 1957 انتصارات ساحقة في الانتخابات وحكم ألمانيا لسنوات عديدة. في الوقت الحاضر ينتمي الى الاتحاد المسيحي الديمقراطي ما يقارب 544.366 عضوا، متوسط العمر حوالي 55, 7, أعضاءه من النساء 25, 3 وأعضاءه من الرجال 74, 7 وتبلغ نسبة النساء في شرق ألمانيا " ألمانيا الديمقراطية " سابقا 28, 8 أي أعلى من نسبة النساء في ألمانيا الغربية. بالنسبة للتكوين الطائفي لأعضاء الحزب، عام 2005 هناك  51% كاثوليكيين،  و33,3% بروتستانت  و15,7% لا ينتمون الى أي كنيسة.

 بالنسبة لعلاقة الحزب بالمؤسسات القيادية الدينية والمرجعيات البروتستانية والكاثوليكية، فهناك علاقات حوارية معها، وقد تتوافق المواقف بعض الأحيان وتختلف في أحيان أخرى. بل ان هذه المواقف تتناقض احيانا، خاصة في مواضيع السياسة الاجتماعية والتعاليم الاجتماعية المسيحية  وفي البحوث ألبيولوجيه واستخدام الجينات.

عمد الحزب في السنوات الأخيرة الى تقديم نفسه كحزب غير آيدولوجي إلى حد بعيد، فهو يقترب يوماً بعد آخر من عامة الشعب الألماني بكل إنتماءاته، بما فيهم ابناء الديانات غير المسيحية، مثل المسلمين واليهود. فقبل الإنتخابات الألمانية في 2002 صرح 14 % من الناخبين المسلمين بأنهم سيصوتون لصالح إتحاد الحزبين الديموقراطي والإجتماعي المسيحي الألماني.

ثم انه يسمح لفروعه أن تمارس نوعا من الادارة الذاتية وتطبيع سياستها بصورة شبه مستقلة حسب ظروف المقاطعة وحاجات الناس. فهناك مثلا فرع ولاية بافاريا الذي هو حزبا مستقلا ضمن الولاية باسم (الحزب الإجتماعي المسيحي). هنالك مثال آخر، عندما أعلن مجلس مدينة كولون قبل فترة والذي يمتلك فيه الحزب أغلبية، عن موافقته على بناء مسجد مركزي للمسلمين يستجيب لحاجة اكثر من 100 الف مسلم يعيشون في مدينة كولون والى عدد مماثل يعيشون في ضواحيها والمدن والبلدات القريبة منها. أن الموافقة على بناء المسجد تستجيب لحاجة المسلمين المقيمين في المنطقة كما تعبر عن روح التسامح الديني بين ممثلي مختلف الاديان في كولون.. وقال مسؤولوا الحزب الى انهم وافقوا على بناء المسجد على الطراز العثماني أي بمنائر كبيرة، وهو امر كثيرا ما جوبه بالرفض في معظم المناطق بسبب الخشية من إستفزاز المجتمع المسيحي.

 

المراجع

1-  Schlaglichter der weltgeschichte

2-  Lexikon 2000

3-  Geschichte der Deutschlandpolitik

4-  Die Kreuzzüge aus arabischer sicht

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة