ماذا جنى العراقيون من الخلاف الشيعي ـ السني؟

 

د.علي ثويني/ السويد

thwanyali@hotmail.com

 

 

كنت أقابل من بناتي بسؤال محرج، أجد غضاضة في الإجابة عليه : هل نحن شيعة أم سنة ؟ وعادة ما أجد أن القرار والتصريح يحتاج الى تمحيص وقوة قناعة بالأمر، بعدما تبعت الى جيل عراقي يسمع عن السنة والشيعة ولايميز بينهما سوى أن أحدهم يسبل يديه والآخر يكتف في الصلاة. والحال ينطبق على سواد عراقي واسع أنحدر لوالدين من "نسل" أحد المذهبين أو كليهما، ولم يتشيع لأحدهما . فقد كانت المذهبية محل تندر ممن سبقونا في الوعي، وسرنا بها قدما، ونتذكر كيف كنا نستسيغ "دعابة"(نعله على مذهبك) العراقية المحضة بطيب خاطر.

حينما عدت الى العراق بعد الاحتلال الأمريكي الذي خلف الاحتلال البعثي، وبعد ثلاث عقود من الغربة القسرية، أو "المنفى الجميل" كما يشاع، وجدت أن من تركته من أقراني بعمر 18 عام ، قد كهل وأمسى(أبو فلان)،ونسي طبعه الوديع وتبدل شكله الجميل وغزى الشيب شعره أو أنحسر.  ورصدت أن ثمة روحاً عدائية مذهبية قد وطأت الجموع، وتداعت أن تكون نظرية تفسر على ضوئها كل ظواهر الحياة.

قرأنا عام 1992 بحثا للمفكر العراقي اليساري هادي العلوي عن الطائفية، كتبها حينما أصبحت ورقة البعث في عداد السقوط المبرم بعيد الحروب الكارثية والإنتفاضة الشعبية، محذرا بأن الطائفية ستكون الورقة الأخيرة التي سيلعبها البعثيون قبل غروبهم. ثم بعدها بدأ تحول الخطاب القومي السقيم وشعاره (بوابة العرب الشرقية والحرب على الفرس المجوس) الى شعار (الحملة الإيمانية) و(عبدالله المؤمن)، في سياق التحضير الإبليسي لتلك اللعبة الطائفية الخبيثة.

بعد سنوات طويلة حينما حل الأمريكان وجدوا الأرضية ممهدة والنفوس محضرة وقانعة والمرجل الطائفي محتقن. فهاجت النفوس وماجت وأظهر الشيعة ترحيبا بالمتغيرات كونهم لايفقدون أكثر مما فقدوا، وطفق قادة التسنن يعلنون إحصاءات يزعمون فيها الغلبة العددية وشعارات مبطنة تعلن (ألكم اللطم وألنا الحكم).

 

الفطرة والعقلية العراقية

 

جدير بمن يدرس الظاهرة الطائفية في العراق أن يعود للمنظور التاريخي المتأخر ،لأربعة قرون خلت من الصراع بين التسنن العثماني والتشيع الفارسي(الصفوي والقاجاري). وكانت أرض العراق خلالها مسرحا للوغى وأمست دماء أهله قرباناً لها. ثم تلتها السلطة الملكية التي صنعها الإنكليز بعناية ونصبها دولة قومية عروبية وطائفية، وكان عمادها البيوتات والأفندية الذين جلبهم فيصل الأول من شتات وفتات ما مكث من العثمانيين. وربما تكون ثورة عبدالكريم قاسم 1958 الاستثناء الذي يمثل القاعدة بعدما  لمس طريق الصواب فرام أن يرمم الخراب ويقيم دولة المواطنة والقسطاس، دون أقوام وطوائف وطبقات . لقد هاجم تلك النبتة كل أعداء العراق، حتى أجهضت التجربة مأسوف عليها، ليحل مكانها دولة قومية عروبية شمولية وطائفية من جديد.

لم تقم دراسة وافية للظاهرة العراقية إلا من نتف وردت في إجتهاد المرحوم علي الوردي ، بالرغم من محدودية طرحها مقارنة مع واقع الحال المرير. وجدير بالرصد أن الأمة العراقية لها ميزات وخصوصية، لاتنطبق عليها نظريات الإجتماع العالمية لماركس وفيبر ورهط روجت لهم النخب، فقد عكسوا هؤلاء تجارب مجتمعاتهم ولاسيما الغربية، بالرغم من إقرارنا موائمة نتف من حيثياتها علينا . وأهم ما يمكن استخلاصه من رصد الاجتماع العراقي أنه روحاني بالسليقة. ولايعني أن العراقيين متدينون، وثمة غضاضة في تركيبة تداخل الروحانية مع التدين، فالإنسان الكهفي كان روحاني كذلك لكنه لم يعرف الدين، والدين ولد حينما أنشأت المدن في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد في العراق السومري، وأمسى الدين(قانون العدل) لتنظيم معاشر المدينيين، وأستفاد من هواجس النفس ووظفها لصالحه في معادلة(الغيب-الأخلاق) الفذة.

لقد آمن العراقي يوماً بالنجوم والطوطميات والغيب الأسطوري(الميثولوجيا)، وكانت آلهته (أنانا) السومرية ثم عشتار البابلية الآشورية إناث مجسدات، ثم أخلص ديناً للنصرانية، وتبعها إيمان راسخ بعقيدة ماني البابلي(213-277م) وختمها برسالة العربي الكريم محمد بن عبدالله(ص) (570-632م). وهكذا أنتقل العراقي بإنسياب بين الديانات دون أن تتغير هواجسه الروحانية، وتسنى له دائما أن يوائم أي ديانة لاحقة مع معطيات روحانية سابقة، بما يدخل في كنف جدلية (الثابت والمتغير) بالثقافة الواحدة، أي ثابت الجغرافية ومتغير التاريخ.

وكانت جل ديانات العراقيين محلية أومتاخمة، وحتى المسيحية والإسلام لم يشكلا إلا جزء من الهالة الثقافية والحضارية للعراق في الشام والحجاز. وهنا نشير الى أن ثمة إله واحد تتبعه اليهودية والمسيحية والإسلام على حد سواء، بتغير التسميات ، بيد أنها جاءت فروع وشروح متباينه لأصل مشترك ثبته إبراهيم الخليل(ع)، الأوري الأكدي. وبذلك وعلى خلاف كل الأمم لم يستعر العراقيون أديانا من بعيد مثلما فعلت الكثير من الحضارات مثل اليونانية والرومانية والهندية والصينية، حينما استوردت لها إلهاً وديناً من ثقافات أخرى. ونجد بهذا السياق أن للعراق أطار ثقافي أشعاعي يتعدى الحدود السياسية للدول ويشمل الخليج العربي والجزيرة وإيران والأناضول والشام.

والطبيعة النفسية العراقية شكوكه وقلقة بإيجاب، والعراقي لا يقيني بطبعه، وغير متوافق مع الآلهة وذاعن لها بالمطلق، حتى تكتنف علاقته بها نوع من الجدل. وبالرغم من أن كثير من العراقيين يحتسون الخمرة مثلا، لكنهم روحانيون في سجاياهم، مثل بعض الشعوب. والعراقي لا يؤمن بمسلمات الأمور لذا لم ينتشر في أوساطه الفكر السلفي، كونه مرتاب من النص، يحاول أن يجد فيه مخرجا منطقيا وموائمة مع قناعاته المتوافقة مع بيئته. ومن جراء ذلك التقلب والمحاورة والجدل تطور لديه الجانب العقلي على حساب النقلي وعمق لديه العمق العرفاني المعتمد على المحتوى أكثر من الشكل. فأوجد للوثنية وللمسيحية ثم الإسلام طوائف ومذاهب تشمل شروحات تنبع وتتبع السجايا والذاتية. ونجد في هذا السياق أن كل التيارات الفكرية، وبغض النظر عن الأديان المنتمية لها تحاكي بعضها ضمناً، فالنسطورية واليعقوبية مثلما هو التسنن والتشيع لدينا اليوم. كذلك نجد الكثير من الملامح المشتركة بين التسنن واليعقوبية، والتشيع مع النسطورية، دون تطابق تام، بسبب تبعيتهما لتلك الحركة الفكرية التي جبل عليها العراقي.

والأمر عينه حدث مع الإسلام الذي توائم مع العراقيين بشكل ملفت للنظر، وأستطاعوا أن يجدوا خلاله ضالتهم ومداهم الفكري ووهبهم حافز الإجتهاد حتى خرجت من كنفه جل إذا لم نقل كل المذاهب الإسلامية. وهذا يعني أن الإسلام لم يأتي بحد السيف "كما يتهمه البعض" ،والدليل أن العراقيين أنساقوا له راضين، وتفانوا من أجله، وأمطروه علما ومنتجا حضاريا.

وهنا نشير الى أن النفس العراقية عنودة بسليقتها، وتعمل دائما عكس الشروط المفروضة قسرا ،وربما تذعن ردحا تحت مقتضيات(التقية) التي أوجدوها حلا لسلامتهم من الطغاة . ودليلنا في ذلك أن التشيع في العراق قد شاع وطغي إبان الحقبة العثمانية أكثر من أي وقت مضى، عنادا وردا على التسنن القسري. وشهد القرن الثامن عشر تشيع الكثير من العراقيين كما أورده فصيح الحيدري في كتابه(عنوان المجد في تأريخ البصرة وبغداد ونجد) الذي كتبه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحدث قبيلها أن تشيعت عشائر (بني حضيم من الزبيد، والشبل من الخزاعل وآل فتلة وفرعهم من الدغارة من الدليم وبني حسن من بني مالك ، والعفك..الخ). بينما تشيع العبيد وفروع من شمر والظفير وبني تميم قبيل هذا التاريخ بقرن أو أكثر. بينما لم تتشيع اتحادات العراق العشائرية القديمة إلا ابتداءاً من أواخر القرن الثامن عشر مثل(المنتفق والزبيد والدليم والبو محمد وخزعل وبني لام وربيعة وكعب). وهذا يدل على أن العراقيين عنيدون بطبعهم ولا يمكن قسرهم عن شئ، وأن قناعاتهم هي التي تسيرهم، بل أن من يقسرهم سوف ينتظر منهم عكس النتائج ويجني ما لا يحمد عقباه، ولدينا مثال سلطة البعث.

 

مما يؤسف له أن الكثير من النخب الثقافية لم تقرأ سليقة العراقي الروحانية وأرادت أن تغيرها"شموليا". ولنأخذ الشيوعيين مثلا، وهم من  كان يوماً يملك سطوة على الشارع الثقافي العراقي بالمطلق. لكن وبسبب عدم قرائتهم المتأنية لهذا الجانب، جعلهم ينصبوا العداء للروح، وأثبتت الايام عكس ماظنوا، فها هو العراقي اليوم، وبرغم إقرارنا بالتشويه الذي حصل على طبيعته الروحانية لكنها مكثت ثابتا فيه. وكم من فائدة جنيناها ونجنيها من تلك النزعة، حيث عادة ما أذكر بأن لو أهل السويد تعرضوا لهزات مدمرة مثلما تعرض لها العراقيون، فأنهم سيهجرون وطنهم عن بكرة أبيهم ودون رجعة، لكن صبّر العراقي جاء من طاقة الروح وسطوة الغيب.

وفي خضم الهجوم العربي على العراقيين والتشكيك في هويتهم العربية والإسلامية فقد فات النخب أن تعلن الحرب المضادة الفورية، وتهاجم ولا تهادن، وتسوق بالدليل الدامغ أن العراقيين أولى منهم وأسبقهم بالعروبة والإسلام تبعا لما قدموه من منتج أثرى الإسلام  بعدما خرج من الجزيرة العربية محدوداً وشحيح المراس في الجانب الفكري والحضاري وبالرغم من ثراءه الروحي والأخلاقي. فللعراقيين فضل على منظومات الفقه بالدين وعلوم اللغه والفلسفه والعرفانية الصوفية والعقلانية الإعتزالية. وأسس العراقيون مدرستي الكوفة والبصرة ثم تبعتهما بغداد وسامراء والموصل، وسمى بها جهابذة العلم ورجاله ممن أرسى للإسلام كياناً مثقفاً بارى وغلب أكبر الحضارات المثقفة في التاريخ، وتسنى له أن ينقل بوتقة المنتج البشري الفكري بأمانة الى أيامنا الحاضرة.

لقد انتجت العقلية العراقية قراءات متعددة لنفس النص، بما يتماشى مع مستوى وذاتية إدراك الأمور. فظهرت الصوفية (طرقها الرئيسية) والزهد والتشيع (الخمسي والسبعي والإثنا عشري) وفرق المعتزلة والاشعرية والخوارج بألوانهم (الأباضية والصفرية والأزارقة)، وإجتهادات فكرية متنوعة، لم نجد لها نظير في أقطار الإسلام قاطبة، بل أن المنتج العراقي طغى هواه على الأصقاع كافة، ومازال القوم يعرفون ويعترفون أن جهابذة مذاهبهم قد وردوا من العراق أو تعلموا به . ومازال أعلام العراق يرتعون بالمجد، كما أبو حنيفه النعمان وأحمد بن حنبل، وزيد بن علي والحسن البصري وواصل بن عطاء وعبدالله بن أباظة التميمي، وأجيال ممن طوروا الفكر ووسعوه كما هم الشريف الرضي ورابعة العدوية والحسين الحلاج وأحمد الرفاعي وعبدالقادر الكيلاني وعمر السهروردي ومعروف الكرخي، ورهط مكث يحمل دلالات الحظوة في الأفاق.

 

ماهية التسنن والتشيع

 

(الملك فيصل الاول رغم انه لم يكن عراقياً، الاّ أنه أكّد كثيراً على الهوية العراقية وعلى التقارب الشيعي السني)..

 

وبغض النظر عن إدعاءات الفرقاء، فأننا نعتقد أن التشيع ظهر في العراق قبل التسنن، كموالاة للإمام علي(ع) خلال خمس سنوات من تواجده في الكوفة (655-660م). وبدايات التشيع كان سياسيا محضا وليس فقهيا، حيث أن الإسلام كان في بداياته متجانس وموحد التوجه الفكري، والتسنن عنى للجميع إتباع سنة الرسول الكريم. بيد أن الخلافات كانت ومكثت سياسية ووجدت لها مبررات فقهية واهية دائماً. ونجد أن وسع التيارات ومشايعيها تبع مناخات الدول والسلاطين. فمثلما كان المأمون متسامحا مع الشيعة، فعم التوجه الشيعي وتداخل مع نتاج المعتزلة الفكري، ثم جاء المتوكل وخلفاء سامراء ليعلنوا قطيعة معه فطفح إلى السطح التيار السلفي السني، وكان مرتعا رحبا لأفكار أحمد بن حنبل (164-241هـ / 780-855م) وطبقات الفقه بمذهبه.

وثمة أمر هام يتعلق بالاصطلاحات التي تتداولها (المعايرات الزقاقية) المتلبسة بورع المذهب ، ومنها مثلا تهمة (النواصب) التي يطلقها غلاة الشيعة على السنة، وهم في حقيقتهم مجموعة من المسلمين ظهروا في زمن عبد الملك بن مروان بقيادة مولى عبدالله بن عباس. وكان الأمويون يشجعون سب الأمام علي (ع) في المنابر على يد هؤلاء، واستمر الحال حتى عهد عمر بن عبد العزيز الذي منعها ، وأصدر أمراً يعاقب علية كل من ينصب العداء لأهل بيت النبي . أما اصطلاح (الروافض) التي يعير بها غلاة السنة أهل التشيع، فهم في حقيقة الأمر السحرة الذين يذكرهم القرآن ممن آمنوا برب موسى وهارون ورفضوا آلهة فرعون، ولم يكن الأمام علي منهم أو لم يكتب عنه أنه رفض  ولا أحد أصحابه بيعة الخلفاء أبي بكر أوعمر(رض).

وأسم المذهب الجعفري ورد بغرض التفريق بين الإثنا عشرية خلافا للسبعية الإسماعيلية أو الخمسية الزيدية، ويرجعوها إلى إسم الإمام جعفر الصادق، وبعضهم الى  جعفر بن محمد الطوسي قائلين أن جعفر الصادق لم يكن إمام طائفة وإنما هو أمام المسلمين كافة مثل جده. ويذكر الدكتور علي الوردي في لمحاتة الإجتماعية بأن مؤتمر النجف للتقريب بين المذاهب الذي نظمه نادر شاه أفشار القاجاري(التركماني)(حكم بين 1736-1747) هو الذي أطلق (الجعفرية)على الشيعة أول مرة. وهنا نشير الى أن ثمة فرق شيعية مغالية منها من ألهّ الإمام علي ورفضتها جموع الشيعة، كما هو حال السبئية والخطابية والغرابية والحلولية.

أما إدعاء أن أبو حنيفة تبنى التسنن على خلاف "شيخه" جعفر الصادق فهو محض مبالغة كون أبو حنيفه نفسه كان شيعيا(مناصراً لثورة زيد بن علي)، ومن تداعيات ولائه لها أنه سجن ومات في بغداد أبو جعفر. وكان بين جعفر وأبو حنيفة تجانس وتطابق ومحبة كونهما بنفس العمر (الإمام الصادق أكبر بعام). وتذكر التواريخ بأن الأمام أبو حنيفة عندما ذهب إلى الحج مر على مجلس الأمام الصادق, في المدينة فسأله الصادق من أنت كونه لا يعرفه، فأجابه: أنا أبو حنيفة النعمان, قال له: هل أنت مفتي أهل العراق, قال نعم . وهكذا أمسا خليلين. وكان أبو حنيفة صاحب مدرسة الرأي وواضع نظرية القياس وهذه لم تكن في فقه الأمام الصادق. وعادة ما كني فقه أبو حنيفة دائماً (بمذهب أهل العراق)، ولم يكنى فقه الصادق بأي مذهب.

والجدير بالمراجعة أن أصل التشيع لم يكن يوما فارسيا بل عراقيا كما أوردنا، حتى ورود البويهيون ثم تباعا الصفويون الفرس. ويقول المستشرق أدم ميتز في كتابه (الحضارة الإسلامية) ص 112 : (أما إيران فقد كانت كلها سنة ما عدا( قم)، بل كان أهل أصفهان يبالغون في حب( معاوية) حتى أعتقد بعض أهلها بأنه نبي !!. وأن أئمة السنة جاءوا بعضهم من بلاد فارس وجلهم من بلاد الترك(وسط آسيا):  كالأمام البخارى والترمذى وابن ماجه والنسائى والنسفى والرازى والبيضاوى والزمخشرى والتفتازانى والغزالى والنيسابورى والبيهقى والجرجانى والراغب الأصفهاني والبيرونى ...... الخ.

وشاع التشيع السياسي في العراق إبان إمارة بني مزيد في الحلّة والنيل، وبني شاهين في البطائح(الهور)، وبني حمدان وآل المسيّب في الموصل، ونصيبين، كما هو الحال بعد سقوط بغداد على يد التتر، حيث أن دولتهم أمست شيعية على يد محمّد خدابنده الذي بنى السلطانية على تخوم تبريز، وابنه أبي سعيد، وأمّا محمود غازان فقد قيل بتشيّعه، وكذلك الحال مع الدولة الجلائرية التي أسّسها الشيخ حسن الجلائري أحد قوّاد المغول وابن أُخت محمود غازان. كل ذلك كانت نتيجة لجهد العراقيين كما هو الشيخ نصير الدين الطوسي حيث كان لعلمهم السطوة في إقناع حتى غالبيهم بمذهبهم. والأمر عينه ينطبق على حالة التشيع في إيران قاطبة، فالعراق كان الأصل كما كان دائما مصدر الدين والفقه لإيران خلال آلاف سنين خلت. ولاغريب أن يتبع الفرس آلهة بابلية أواعتنقوا المانوية بصيغتها المزدكية، ثم هبوا مخلصين للإسلام كونه ورد من العراق .

 

التشيع الصفوي والسجية التاريخية

 

 

لقد  تشيع الإيرانيون على أيدي الصفويين، التي حكمت دولتهم بين أعوام (1501 -1722م). والصفويون أتراك وليسوا فرس كما يحلوا للبعض نسبهم غمزا، وهذه من ضمن التركة الدعائية التي أشاعها العثمانيون وكرسها الرعيل العروبي في الحقبة الملكية وشكلوا صورة مشوهة عنهم . وثمة خلط وتجهيل في التمييز بين الشعوب التي تقطن بلاد فارس كالفرس والترك والكرد والآذريين والبلوش واللر والعرب بشعب واحد عندما يطلقون عليهم بـ (الصفويين)، وهم أكثرعددا عرقيا من العراق . والصفويون سلالة تركمانية، وكلمة التركمان هنا تعني التركي المؤمن أوالمسلم فهي مشتقة من الكلمتين تورك وإيمان، وأطلق على المسلمين الأوائل من أتراك الاوغوز-الغز- في تركستان.

وكانت الحركة الصفوية في بواكيرها طريقة صوفية لصفي الدين الأردبيلي السني الشافعي (650 هـ -1334م) نشأت في أردبيل ثم شاعت في تبريز شمال شرق ايران (آذربيجان الإيرانية). وقد نجح أحفاد الشيخ صفي الدين وخاصة الشيخ جنيد 1447-1460م وابنه الشيخ حيدر 1460-1448م في نشر المذهب الشيعي بعدما تشيعوا لأهداف سياسية محضة، وأصبحوا قادرين على المشاركة في الأحداث السياسية في آذربيجان وإيران وتحولوا من شيوخ طريقة إلى دعاة دولة لها أهدافها السياسية.

ومنذ ذلك الحين كان الإسلام الشيعي دين الدولة في إيران، وكان التشيع فرصة استفاد منها الصفويون واستغلوها لكسب المزيد من الاتباع في عهد الشاه إسماعيل الأول بعدما كانت كل ايران سنية المذهب، ولم يكن فيها سوى أربع مدن شيعية صغيرة هي: آوه، كاشان، سبزوار، قم. وعقب تتويج إسماعيل الصفوي ملكا على إيران أعلن فرض المذهب الشيعي مذهبا رسميا للدولة، وأكره الناس عليه. لذا أنبرى المفكر(علي شريعتي) قبل عقود للتفريق بين (التشيع العلوي والصفوي) مما  أغاض المعممين في إيران، ودفع الرجل حياته ثمنا لطرحه المسألة بصراحتها وأخلاقياتها ونصابها (التأريخي- الفقهي).

ويعاني الوعي العراقي اليوم من خلط يستوجب إعادة قراءة التاريخ على منهج عقلي وأخلاقي يشذب ما علق به من تناقضات، وبالنتيجة المساهمة في حل إشكال وطني يتعلق بماهية أمة. ومن المفارقات أن غلاة السنة يعيرون الشيعة بأنهم فرس أو(صفويون)، وبذلك حرموا أنفسهم من فخر أن التشيع الإيراني كان قد ورد من العراق وليس العكس. كون التشيع العراقي يتطابق في جل أوجهه مع المفاهيم والطقوس العراقية السابقة للإسلام، كما هي البكائيات والولولة على دموزي في أيلول، التي أنتقلت الى مرثية الإمام الحسين(ع)، أو حتى التوقف عند الأئمة الإثناعشر، وهو محض مفهوم روحي للأرقام أرتبط بالأبراج والنظام الستيني السومري، ونهلت منه اليهودية بالأسباط والمسيحية بالحواري. ونلمس مفارقة هي أن التشيع المغالي فارسي والتسنن السلفي عربي المنشأ بسبب البيئتان الرعويتان اللتان صدرتهما، وهما في جوهر الأمر لا يمتان بالصلة للطبيعة العراقية المتسامحة بإنتمائها الفلاحي الطيني التي أملت على أهلها عقليتهم المهادنة الراضية المرتضية.

وجدير بالإشارة إلى أن تقليد تبديل المذهب للجموع كان ساريا في كل الأصقاع وأن جل شيعة العراق كانوا يتمذهبون على فقه زيد بن علي وشروح جعفر الصادق، وليس على الفقهاء الإيرانيين. وكان المذهب السني الشائع في العراق هو الشافعي حتى روج العثمانيون للمذهب الحنفي، بسبب كون أبو حنيفة قد اجاز أن يكون الخليفة من عرق غير قريش، وراق الأمر للأتراك فأين هم من قريش العدنانية الحجازية.

والتشيع السلطوي في العراق كان تحريفات وموائمات فقهية من مصادر شتى، ساير رغبات ونزوات أملتها الأحداث السياسية بين الصفويين القاجاريين من جهة والعثمانيين من جهة أخرى. وهنا نشير الى أن الخلاف بين من سكن الهضبة الفارسية وآسيا الصغرى هي سجية تاريخية أو غريزة جماعية للقطرين. حيث تعارك الفرس والأغريق ثم الساسانيين والبيزنطيين، وفي أزمنة الإسلام دب الخصام بين السلاجقة والبويهيين ثم الصفويين والقاجاريين ضد العثمانيين. وانتقلت حمى الأمر الى المنافسة الحالية بين تركيا وإيران. ونعزي الأمر الى منافسة تاريخية في الاستحواذ على خط الحرير التاريخي الذي يمر في البلدين ويكون العراق مساره، ناهيك عن أساس الطمع في واحة الرافدين. والأمر لايهمنا لو كان بعيدا عنا ولا يصلنا شرره، لكن سطوته سيرت أحداث التاريخ لدينا، حتى يمكن اعتبار تاريخ العراق جزء جوهري من تلك الجدلية التاريخية.

لقد تعرض العراق الى هجرات بشرية ترده من الصقاعين القاحلين؛ الهضبة الفارسية من جهة ،والبادية العربية من جهة أخرى طمعاً في رغده وخضرته. وأمست الهجرات المتأخرة تعني مذهبياً تسنن من الغرب وتشيع من الشرق. وبذلك فأن المنافسة في الاستحواذ على العراق تدخل من باب تلك (الغريزة التاريخية)، والصراع بين من سكن الصقاعين. وأن حجج وترويجات أحقية التشيع والتسنن ما هي إلا إذكاء وتحريض يصدر من الصوبين المتحاربين أي العرب والفرس أوبالاسماء اليوم بين السعودية ومن ورائها وإيران وجماعتها. ومن سخرية أقدار السياسة أن صدام كان يختال بأنه حارب الفرس نيابة عن العرب. وكأن قدرالعراقيين الحرب بالنيابة والتضحية بدل الآخرين المتناحرين بالسليقة.

وقبل خمسة أعوام حدث أن دخل منافس غريب للأستحواذ على العراق وهم الأمريكان، وحينها  أختل النصاب، وها نحن نسمع العجب العجاب حين تساند إيران قوى سلفية سنية(القاعدة) في ديالى،  أوالسعودية تدعم جماعات شيعية مثل (جند السماء) في الفرات الأوسط. وأمسى العراقي قنطرة تعبر عليها المآرب والخصومات، وبذلك لم يعد للتسنن والتشيع قاعدة راسخة وثابته. وما يحدث محض صراع على غنيمة سهلة وبلد مهيض الجناح وشعب خائر القوى ومشتت الوعي. ويتذكر جلنا كيف أراد الأمير حسن الأردني أن يأتي ليتنصب ملكاً على العراق، وحينما سؤل لماذا؟: قال أنا أحسن من بريمر الأمريكي. لكن الرجل صقر ولم نسمع عنه بعدما تخطته الأحداث وكثر خطاّب ومبتزي العراق.

ومن المفارقات المضحكة أن الجهات الخارجية الداعمة بالسليقة للتشرذم العراقي والمتاجرة بطوائفه، لم يعاضدوا العراقيين إبان ظلم البعثيين لهم، ثم نكلوا بمن فر ولجأ إليهم. وسمعنا قصص تروى عن إستهانة إيران بشيعة العراق، والحال ينطبق على عرب الشام ومصر والخليج والجزيرة والكويت التي أوصدت بيبانها مع العراق، وأمسى العراقي غير مرحب به و ضيف ثقيل الظل، حتى سمعنا أحد التعليقات تقول: الحمد لله الذي لم يجعل كل الدنيا عرباً وإسلاماً، فلو كان الحال كذلك فأين يهرب العراقي ؟.

 

الحقائق والمغالطات والمفارقات

 

 

وللحقيقة نقر بأن شيعة العراق أكثر إلتصاقا بأرض بلادهم عن غيرهم، فقد تداخل لديهم الوطن ووجود أضرحة أئمتهم على ثراه، وتعمق في ما حدث تاريخيا كما هوحادث استشهاد الإمام علي في الكوفة والحسين في كربلاء، لذا أخذت العلاقة بعدا عاطفيا وأمست محبة الوطن متواشجة مع محبة أهل البيت وتأريخهم وعتباتهم. وأتذكر أن الصديق الشاعر عبدالرزاق الربيعي، طلب مني أن أصلي على (تربة)، فأبديت إعتذاري لتعودي الصلاة دونها، فمد يده نحوي بها وقال لي بتركيز: خذ وصل على أرض العراق. وقد أثارني عرضه وشعرت بإحراج مع نفسي لم أعهده.  وعلى العكس من ذلك فقد تطلع رهط من العروبيين الى الغرب العربي كملاذ لهم. أليس هم أولاد عمومة وأرومة واحدة؟!.أليس العراقيون بحسب زعمهم محض نسل عدنان وقحطان؟.ونقف على مغالطة أخرى حينما نعلم اليوم أن أقدم حضارة في اليمن أو بلاد قحطان؛ هي المعينية ثم السبأية، ولا تعود لأكثر من سبعة قرون قبل الميلاد بالمقارنة مع حضارات العبيد وسومر السابقة لها  بثلاثة آلاف عام على الأقل، وهنا غرر بالعقل وغشم، حينما أنتسب العراقي للذيل وليس للرأس، للفصل وليس للأصل، للنتيجة وليس للبؤرة.

وشكل ذلك الهراء قاعدة للوعي السياسي العراقي، فأتبع القوميون العروبيون التسنن وأتبع الشيوعيون التشيع، بالرغم من لادينية كلا الطرفين. ويتذكر الجميع بأن مناسبة المولد النبوي جيرها القوميون والبعثيون لصالحهم، بينما فعل الشيوعيون الأمر عينه في تعازي عاشوراء. ونتذكر الرئيس العراقي العروبي عبدالسلام عارف، صرح يوما بأنه يتطلع الى يوم الوحدة العربية ليس إلا ليجعل شيعة العراق أقلية في دولة الوحدة السنية. وهكذا لم ترتق النخب في الأزمنة المتأخرة الى فهم حقيقي لواقع الحال وطبيعة الصراع.

لقد شكل قانون الجنسية العراقية 1924 أساس الخراب العراقي اللاحق مثلما هو دستور العراق اليوم بالتمام والكمال، بعدما تبني في حينها القومية العربية والطائفية السنية على حساب المواطنة.  وبذلك تم خلق مفهوم الأقليات والأكثريات، وأمسى الشيعة يشكلون سواد البلد وأمست السلطة تشكل الأقلية. فلجأت الأقلية غريزياً للإحتماء بجوشن الدعم الخارجي، وبذلك ارتضت ومهدت السلطة الملكية للسطوة الأنكليزية عليها، والبعثية بالحماية الأمريكية والغربية لها. وتنافس الطرفان المتصارعان طائفياً على تقديم تنازلات أكبر ولكسب حظوة وسند، حتى على حساب مصلحة الوطن. وهذا كله كان وراء أنخراط الشيعة طائفياً والأكراد قومياً تحت جناح الأمريكان لإسقاط السلطة البعثية السنية طائفياً والعروبية قومياً. وهكذا أمسينا في متاهة ونكوص قيمي، فكل منا مستعد أن يتعاون مع الشيطان من أجل رد الاعتبار لنفسه و"مصالحه" الأنانية.

أن التسنن والتشيع العراقي أخضع لنزعة الدونية النفسية، التي هي إرهاصة لتقمص شخصيات أوعوالم أخرى ووضعها موضع القدوة، وهو أمر يشترك به العراقيون مع الكثير من الشعوب. وبذلك أمسى التسنن العربي"أرقى" من العراقي بالرغم من ثراء المساهمة العراقية، والتشيع العراقي لاقيمة له أمام التشيع الإيراني، حتى عد القوم أي مقرئ "آخون" إيراني ساذج، أحسن منهم. وتداعى الأمر بعيداً وسرى حتى على إعلان هلال العيد ورؤياه في سماء العراق، حيث فضلوا رؤيته في سماء  قم ومشهد النائيتين.

وفي الجانب الإيراني حدث العكس، فأن أقطاب التشيع الصفوي يعاملون التشيع العراقي كذيل وتابع، والأمر ينطبق حتى على الكثير من ورد منهم للدراسة في الحوزات العراقية وتبوأ درجة رفيعة. وأن الإيرانيين يعدون تشيعهم هو النموذجي حتى ورد مثل شعبي لدى عامتهم مفاده( شيعة العراق سنة، وسنتهم كفار). ومن المضحك المبكي بأن العراقيين يندبون حظهم ويجلدون ذاتهم على أنهم قتلوا الحسين بنزعة (مازوكية)، بينما الايرانيون يشددون على أنهم من نصر الحسين وأن العراقيين هم من أجرم به، ولقنوا القراء(الآخونية) أن يدبجوا خطبتهم بقولة (لعن الله أمة خذلتك وقتلتك، وياليتنا كنا معكم سيدي..الخ) والإشارة المبطنة هنا موجهة للعراقيين حصراً. وقد سوق العراقيون تلك الأحجية من باب جلد الذات وحث عليها الإيرانيون من باب التشفي أوالإيغال في الإستعلاء والمتعة بالإذلال، بما يسمى في علم النفس(سادية). وهنا نقف عند الفارق بين نوعي التشيع العراقي والإيراني، بأن الأول ملام والثاني متشفي. ويعود السبب بالأصل الى أن التشيع العراقي مثل سواد العامة، بينما الإيراني شكل سلطة الشاهات والتوجه الرسمي، وهي سليقة في الحكم تعود بنا الى أخبار الساسانيين حينما كانوا يتلذذون ويفتخرون بإذلال رعيتهم حتى أمسى ميزان عظمة الملك بقدر تذلل الناس له. وبالإجمال فان الحالتين تعكسان تناقضا وحالة مرضية والعياذ بالله، تنأى عن سوي النفس وعبّر التاريخ وروحانية الموقف، وتحتاج الى طبقة من المتنورين الشيعة لأجتثاثها، وإحلال العقل اللبيب محلها. وتصحيح الواقع والوقائع من طرف النخب ضرورية في نزع إزدواجية النفس.

أتذكر في الصغر كيف كان المنهاج الدراسي لدينا يمجد أشخاص وجهات بعينها، في حين تعامل المجتمع معها بازدراء ونقد لاذع . فقد كانت ثورة الإمام الحسين(ع) مثلا تؤجج الحماس الديني وتثير العواطف والإهتمام لدى الشيعة، بيد أننا وجدناها في مسارد التاريخ المدرسي حدث عابر، أكتفت سطور شحيحة في تغطيته، وعدتها المناهج"الخلدونية" فتنة عابرة ضد الخلافة الأموية الإسلامية السوية. كل ذلك خلق لدينا منذئذ نزعة الازدواجية الفكرية والنفسية، وربما هي التي قصدها المرحوم علي الوردي الذي لم يطلع بأن جل شعوب الدنيا تعاني من الازدواجية النفسية التي قصدها.

لقد مارست سلطة البعث طائفية مكشوفة، ولاسيما بعد ظهور تنظيمات سياسية شيعية هددتها بالعمق في السبعينات والثمانينات، فنكلت بهم، وتداعى الأمر أن تكون إشارة للتنكيل بالشيعة في الوقت الذي كان البعثيون ينكلون بالأكراد وهم من أهل السنة والشيوعيين وهم لادينيين، أو حتى العرب السنة المعارضين لهم، وحدث مع أقطاب قياداتهم . فالبعثيون بالمحصلة نكلوا بمن نافسهم على السلطة أكثر من المذهبية، وتصاعد الأمر في التسعينات إبان ما دعوه( الحملة الإيمانية) ذات التوجه السني أوالطرقي الصوفي، وتجسد ببناء المساجد الفارهة، وأعلن قطيعة تامة مع السواد، بعدما كان في الثمانينات يحمل غزلا مبطنا، حينما كني صاروخي صدام (العباس والحسين) وأصبح صدام نفسه سيد وشريف علوي!. ومن المضحك أن صدام قال في خطاب متلفز بنهاية السبعينات: (أن حصانة البعثي عندي أكبر من حصانة عمر بن الخطاب). وهكذا أهان صدام عمر وعلي على حد سواء كرموز للتسنن والتشيع، وإذ اتسائل اين كان عتاة التسنن منه حينئذ حينما أهان الصحابي والخليفة الراشد الجليل عمر الفاروق. ونذكر إبان ذلك الإيغال في ترويج التسنن البعثي كما كان أيام عبدالسلام عارف في أواسط الستينات، حيث صادروا أرض لأصحابها وبنوا مسجدا سنيا في مدينة كربلاء (مسجد الحسن بن علي)، بالرغم أن المدينة مغلقة لأصحاب المذهب الشيعي. وهكذا تطور التظلم الشيعي على خلفية استباحة دمائهم ثم إنتهاك حرمات مذهبهم، وهو ما دفعهم الى الإيغال في التعصب وقبولهم المحتل ذاعنين.

وبالرغم من أن السلطة مكثت سنية وأن "الشعوب على دين سلاطينها" لكننا نلمس تشبثا عجيباً بالتشيع العراقي بما عاكس القاعدة في انتشار المذاهب . وجدير أن نشير الى حقيقة أن السني العراقي متشيع دون شعوره بذلك، بالمقارنة مع غيره من المسلمين وأن السني العراقي يبجل أئمة الشيعة أكثر من أئمته. ونلمس ظاهرة عراقية أخرى بأن الكثير من السنة قد تشيعوا، بينما نادراً ما تسنن شيعي، والأمر ذو دلالات في الفطرة العراقية بغض النظرعن الاعتبارات الفقهية. ومن الطريف أن النصارى أوالصابئة العراقيين حينما يعتنقوا الإسلام فأنهم يتشيعون آليا، ولم نجد أحد منهم قد تسنن، بما يحير الألباب، فكيف تملك الكل وترضى بالجزء .

 

دور النخب والتصحيح المرتجى

 

 

أنتقل التسنن والتشيع من مرحلة التجارة الفقهية الساذجة والكسب المباشر من حيثيات (سلطة الكهنوت)، واللعب على التحالفات مع السلطات المتوالية، الى شرذمة وضبابية تسلل خلالها أصحاب ولاءات شتى، ومنهم من لايؤمن بأن العراق واحد، وطفق يروج الى الحل الفيدرالي متذرع بالمظلومية الطائفية "او القومية"، ومشددا على أن عائلته فقدت كذا من الضحايا، وكأن بقية العراقيين لم يفقدوا شئ، ويوحي بأن أهله أفضل منهم. وهكذا أمسى الترويج للفيدرالية الطائفية يتخذ شكل طبقي وفئوي وجهوي اكثر مما هو فقهي، ففي الوقت الذي يشكل الشيعة سواد المجتمع العراقي الغالب، وأنهم متواجدون على أرضه من الموصل حتى البصرة، فأن بعض رموز و"مرجعيات" الطائفية يطالبون اليوم بالإكتفاء بالجزء لهم، وبذلك أكسبوا الشيعي شعوراً بالانتماء للأقلية أكثر من انتماءه للوطنية التي يشكلون صلبها ومصيرها.

وعند مراجعة التاريخ القريب نجد أن تلك الطبقات كانوا وراء كل النكوص التاريخي للعراق الوطني، من خلال إبتزاز الناس بأموالهم بأسم الدين والمذهب وعدم تقديم أي خدمة لهم وهاهي أحياء مدن الشيعة وأحياء بغداد مثل الثورة والشعلة ومدينة الحرية والبياع شاهدة. ومن جراء تحالفاتهم المشبوهة أجهضت كل التجارب الوطنية العراقية وسرقت كل أفراح الإنعتاق الإجتماعي، كما هو الحال في ثورة العشرين وكذلك ثورة 14 تموز 1958، وإنتفاضة الشعب الشعبانية في ربيع 1991، وصولا الى الإنعتاق العراقي اليوم من الإحتلالين البعثي والأمريكي ترادفاً.

وهنا نقر بأن تلك الطبقات تمكث متحفزة وهي عالمة علم اليقين أن إقامة دولة المواطنة  والقسطاس القومي والطائفي والطبقي أن أريد لها أن تكون، فأنها لاتصب في مصلحة هؤلاء، وأن إقامة دولة ممركزة فاعله وقوية، سوف تستقطب الناس بعيدا عنهم، وهوما يؤرقهم بالصميم، وسيكون سبب في جفاف منابع العافية التي يرفلون بها. كل ذلك دعاهم أن يتمترسوا في جوشن مشترك، ويتحالفوا مصيرياً بالخفاء والعلن، ولا يمكن أن تفوت اللبيب حميتهم ومداهنتهم ومحاباتهم لبعضهم، كون سقوط  نصاب أحدهم (قوميا أم طائفيا أم سياسيا أم طبقيا) يعني سقوط البقية كونهم سلسلة متكئة ومرتبطة ببعضها. كل ذلك يدعوا تفكيك عرى تلك المصلحة وكشف وفضح عورات مفاصلها، وفي ذلك تكمن المراهنة الكبرى للوعي العراقي في تقويضها من الجذور.

لا جدال في أن ظهور الطوائف في المجتمعات الإنسانية يعد أمرا طبيعيا، ولكن البعد الطائفي عادة ما يظهر بقوة على السطح في حالات القلق الاجتماعي والتحول السياسي وانهيار الأمن وغياب العدالة الاجتماعية. ونجد في التراث رأيا لعبدالله إبن المقفع في كتابه (الأدب الكبير) فصلُ ما بين الدينِ والرأي قائلاً  : ( أن الدين يسلم بالإيمان، وأن الرأي يثبتُ بالخصومةِ، فمن جعل الدين خصومةً، فقد جعل الدين رأياً، ومن جعل الرأي ديناً فقد صار شارعاً، ومن كان هو يشرعُ لنفسهِ الدينَ فلا دين لهُ). وبذلك فأن الطائفية بدأت في الأصل صراعا على السلطة ارتدى عباءة الدين وتطور إلى عصبية أدت في لحظات الاحتقان والتوتر إلى رفض التعايش مع الآخر وإنكار حقه وإقصائه، وقد يتخذ هذا الإقصاء شكل التهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بدرجة تؤدي إلى الاضطهاد والإخلال بالتوازن الاجتماعي على نحو يفتح الطريق إلى التدخل الخارجي. وبعبارة أخرى فنحن بإزاء حلقة مفرغة من صراع على السلطة يفضي إلى اختلافات مذهبية تتحول إلى دفاع عن مصالح الطائفة على حساب مصلحة الوطن وتمييز طائفة على طائفة أخرى.

إذا كانت اليهودية والمسيحية والإسلام أتحدت في رب واحد ومفاهيم مشتركة، فما بالكم بفرق بين فرق في إسلام واحد . حيث يقر كل الفقهاء بأن ما يجمع السنة والشيعة هو 99% من الفقه، وإن الخلاف الوحيد هو في الولاية، وبما أن الولاية أمر سياسي، ونحن نعيش وضعاً أخر دون خلافة ولا ولاية، وبذلك يبطل الواحد المتبقي، حتى لوبرره البعض، وان المذهبين السني والشيعي متطابقا 100%. ونعلم أن الإسلام يمثل 95% من العراقيين، ويلغي الفوارق الطائفية والقومية التي يتاجر بها البعض ويؤججها المحتل المختبئ وراء ضبابيتها لنهب العراق وإذلاله. لذا نرى أن تكوين تجمعات دينية ذات صبغة وطنية إصلاحية واعية والأهم لا طائفية بالمطلق، وتشمل وتحتضن حتى المسيحي والصابئي، ولا تفرط بالمواطن مثلما هي تجربة الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني، الذي أنقذ البلاد من حروبه الطائفية التي قضت حينئذ على نصف سكانه. 

ثمة إقرار واسع الهوى اليوم بأن الإسلام جاء دون مذاهب وهو برئ من التناحر الدنيوي والسلطوي، ولا حاجة لنا بتسنن أوتشيع لا يغني ولا يبني ولا يقرب بين سواد العراقيين. وها نحن اليوم ننزف من الهوان وجدير بنا أن نجد قاسما مشتركا يوحدنا، وإذ نرى أن الحاجة اليوم قائمة بلقاء الأطراف، ومحاولة صياغة مبادئ فقهية تدمج الفقهين أوتقارب بين المذهبين، بما يجعل أهل العراق ينتمون الى مذهب عراقي واحد عضوي متجدد. وتبقى المراهنة قائمة على عامل الزمن ونمو الوعي في تحقيق ذلك، وجدير بالنخب أن تعي أن ثمة مكيدة وفخ منصوب لهذا البلد والشعب بأن لا تقوم له قائمة، وأن تعلن مقاطعتها لكل من يتبنى أو يدعوا ويروج الى طائفية والوقوف ضد أي مرجعية سياسية أم دينية أم ثقافية تدعوا الى التشرذم والفرقة.

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة