نحو "أنسنة" العلاقة السنية الشيعية

 

جعفر المزهر/ لوزان

J.almouzher@yahoo.com

 

 

منذ أمد طويل تعرضت العلاقة بين المسلمين لأزمات داخلية عنيفة أدت لنشوب صراع لم يخمد أواره حتى هذه اللحظة، فدفع كل هذا، أن يتحفز المختلفون وعلى مر العصور في ابتداع كل الوسائل التي تعري الآخر، وتجعل إسلامه ومرتكزاته الفكرية باطلة، متبادلين فيما بينهم وبإصرار عنيف، القذف والاتهام وطاعنين كل منهم بإسلام الآخر، ومستغلين – في سبيل هذا الأمر – السيئ من التاريخ؛ لدعم كل منهم وجهة نظره في إقصاء الآخر وتجريده من انتماءه الى الإسلام! علما بأن الاسلام ديناً وحضارة وثقافة أوسع وأشمل من التمايز العبادي والمذهبي . فأصبح كل طرف وفي مختلف المراحل الزمنية ينبش التاريخ نبشاً ليحصل على مثلبة يمحق بها الآخر، متناسين في ذات اللحظة " الوجه الإيجابي" للتاريخ، والذي فيه صور ناصعة تظهر روعة العلاقة والحراك الذي كان يسود  " الرموز والشخصيات الدينية والقيادية " والذين نتخذهم اليوم بيارق وحجج للتناحر والتقاتل.

وبعد هذه المأساة الناتجة عن عملية إسقاط التاريخ بزمانيته الغابرة الساكنة، ادخل إلى ساحة الصراع أمرٌ مضاف للنزاع التاريخي: انه التنوع الفقهي والفكري العام. فبدلاً من أن يأخذ هذا التنوع دوره في أغناء التطور والتفاعل الايجابي بين كل المسلمين، أصبح تنوع نقمة وتهاترالكل، سنة وشيعة – والذين يشكلون القطبين الرئيسيين في التنوع المذهبي – أحدثوا عملية خلط عجيبة وتداخل بين " السيئ من التاريخ " وبين " فقه المعاملات والعبادات " المختلف (بالكسر) فيما بينهم، من أجل رفع حدة الصراع والتناحر. لقد تناسوا – عن قصد أو دون قصد –  بأن طبيعة الفقه قائمة على قراءات واجتهادات مختلفة واستنطاقات للسنّة النبوية وتأويلات لغير المحكم من القرآن وفق أصول وقواعد تختلف من مذهب إلى آخر. ورغم أن  هذه الأصول والقواعد تتنوع في الاستخدام من فقيه إلى  آخر حتى داخل المذهب الواحد، لكنها تحولت بين المذاهب إلى عوامل تصادم ونزاع، وهذا الاختلاف بين فقهاء المذهب الواحد أوبين فقهاء المذاهب في الفقه، يمثل حاجة إنسانية وعصرية غايتها  مواكبة التغيرات الزمانية والمكانية ( اللتان نعيش اليوم خارج  حاضريهما!).

ما العمل؟

لابد لنا نحن الآملون والساعون في طريق "انسنة" العلاقة السنية الشيعية، أن نفصل بين ما هو تأريخي – وهو في جانبه الايجابي مادة شغلنا لدعم اللحمة السنية الشيعية – وبين فقه المذاهب الذي لا يمثل ضررا، بل هو بتنوعه وتطوره " المنشود " يمثل حاجة للمتعبدين بهذا الفقه أو ذاك. وعليه لابد من :

أولا : إبراز صور ونماذج التعايش الايجابي التاريخي لتصرفات ومواقف الرجال – الذين محورت المذاهب خلافها حولهم – وطريقة تعاملهم فيما بينهم؛ وهي صور وتعاملات في جلها تنتمي إلى أخلاق الإسلام (الدين الجديد آنذاك). إن هذه الخطوة مهمة في حلحلة أزمة العلاقة بين السنة والشيعة وخصوصاً أن هذه الأزمة قد أنتجت خراب وضياع يعيشه اليوم شعبنا العراقي بشيعته وسنته. فحريٌ بشيعة وسنة العراق أن يتأملوا تاريخية العلاقة بين أفذاذ الإسلام، ويدرسوا بجد روح هذه العلاقة من خلال ما سطره لنا التاريخ في هذا الجانب، بدون إسقاطات نفسية وسياسية على المادة التاريخية. وكما عبر عن ذلك بصورة جلية السيد محمد حسين فضل الله:

" إن تاريخنا ككل تأريخ كان حصيلة أدوار مختلفة من حياة الأمة بين ارتفاع وانخفاض ، فهو الصورة التي تنعكس عليها الحياة بما فيها من ارتباكات، فإذا أردنا أن نفهمه على أساس واقعي، فيجب علينا تعريته عن كل لون من ألوان الخيال والدعاية والزهو، وملاحظته كمادة خام لدراسة علمية واقعية عميقة "(1) .

ثانيا : رفع اللبس الذي ساد عند الكثيرين حول معتقدات بعضهم لبعض بخصوص نشأة المذاهب وتطور مراحلها، وما أنتج هذا اللبس من تنابز نعيشه منذ قرون، والذي تحول إلى ثقافة اتهام شعبية ضد الأخر لتجريده من دينه وفق سياقات وتصعيدات وعناوين "مثل الصفوية والنواصب وطعن الصحابة...". وهي عناوين اقل ما يقال فيها أنها ساذجة، ولا تخدم أحداً في ظل هذا العصر المتحرك بجنون نحو آفاق وعوالم مستقبلية، وهي أفاق وعوالم ستسحق من سيبقى مستغرقا في خلافاته وساعيا لاحتكار الجنة له ولجماعته والله؛ يحدثنا خلاف ما يحتكرون، ويصيح بنا أن كرسيه وسع السموات والأرض!.

إن السعي نحو خلخلة الحواجز النفسية بين السنة والشيعة، من خلال إبراز الجوانب المضيئة في التاريخ، ورفع اللبس الذي ترسخ في نفس كل طرف اتجاه الطرف الآخر سوف يلاقي تشنيعاً من كل الأطراف المتعنتة والمعتاشة على هذه الخلافات من قرون، وسيتم تعريتنا من كل ما فيه خير، ويتم تصويرنا على أننا ساذجون نريد أن نخرب عقيدة طرف لحساب طرف آخر، سواء كان هذا الطرف سنيا أم شيعيا؛ وهذا ما يلعب به زعماء التفريق على مر العصور عندما يثيرون أفراد الطوائف ضد من يريد أن يخلخل هذه الحواجز النفسية السيئة التي قامت بسبب قراءات أيديولوجية مجتزئة من أغلب المفاصل التاريخية المهمة.

إن وحدة المصير السياسي والحضاري تحتم على العراقيين سنة وشيعة، والمسلمين بشكل عام تكثيف المبادئ المشتركة وتعميقها بمستوى عالي من الوعي، ليكونوا قادرين على تجاوز التراكمات السيئة، وهناك شواهد في هذا الصدد لأمم استطاعت أن تتطور وتتعايش عندما تحسست قيمة وفعالية توحدها السياسي والحضاري، ومنها دول أوربا التي جدّت في نبذ كل الرواسب التاريخية السيئة بينها: مثل حروبها الدينية والقبلية في القرون الماضية وفي القرن العشرين وحربيهما العالميتين الاولى والثانية.  وهذه الرواسب كانت تفوق الرواسب السيئة بين السنة والشيعة عشرات المرات .

 

نماذج التعايش الايجابي بين المسلمين الأوائل

 

 

صحيح أن التاريخ ثبت لنا أن علياً (ع) عبر في مراحل كثيرة عن أحقيته في موقع الخلافة الإسلامية، وأنه الأقرب إليها، وان الشيعة لم يفتعلوا هذه الأحقية، وإنما تبنوها وطوروها مفاهيمياً، لكن الفصل بين التعايش وبين الأحقية لم يتم عند الشيعة مثلما تم عند الإمام علي .

فالإمام عليٌ لم تدفعه أحقيته في الخلافة كما عبر هو عن هذا في خطب عديدة، أن يتقوقع على نفسه، أوأن يتخذ موقفا مغايراً من الخلافة أو أن يسقط رفاق مسيرته – الخلفاء – من حياته كلها من أجل أحقيته، وإنما تفاعل معهم، وعبرعن هذا التفاعل بنص يحمل في داخله عظم المسؤولية التي كان يحملها  اتجاه الإسلام فيقول في هذا النص :

"لأسلامنا ما سلمت أمور المسلمين "

فهو لم يكن سلبياً وغير متفاعل مع الخلفاء من قبله سواء على (المستوى الإنساني)، أوعلى (المستوى الديني) أوعلى (المستوى السياسي) وهذا ما تشير له المصادر التاريخية بشكل جلي لا لبس فيه :-

ـ  المستوى الإنساني:  لم يهمل ألإمام علي(ع) أصحابه ورفاق مسيرته من حياته فلقد جعلهم جزءاً من حياته، يُصبح ويُمسي عليهم من خلال تسمية بعض أبناءه بأسماء صحابته. يسجل المسعودي في تأريخه في باب ذكر أسماء أبناء الإمام علي أنه كان له ولدين واحد إسمه أبو بكر وآخر إسمه عمر وهو ذو عقب – أي أن له ذرية ترجع إليه في النسب. (2) .

إن هذه الوثيقة التاريخية البسيطة في شكلها والعميقة في دلالتها، تمثل المدخل الأول لفهم التعايش الإنساني الذي كان يسود حقبة ما بعد النبوة. إن هذا الانجذاب من قبل ألإمام علي إتجاه إسمَي أبوبكر وعمر لم يكن وليد لحظة عاطفية عابرة، أوقبل أن يتبوآ "أبو بكر وعمر" الخلافة حتى يستطيع أحد أن يدخل التأويل على هذا الانجذاب، ويحرفه عن خطه الإنساني العام، بل أطلق هذين الاسمين على اثنين من أبناءه بعد خلافة أبو بكر وعمر، وبعدما ثبت أنه أحق بالخلافة، لكن تجليات ألإمام علي الإنسانية جعلته يفكك التداخل بين الأولويات، ويفرق بين حبه لصحابته، وبين أحقيته التي حولها إلى بعد إرشادي حامي للشريعة من خلال فعله المنسجم مع قوله: "لأسلامنا ما سلمت أمور المسلمين" والتي تجسدت في النصيحة والموقف المؤازر لصحابته الخلفاء، وهذا ما عبر عنه الخليفة عمر(رضي) بشكل جلي في مؤازرة الإمام علي له : "اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب".

فإنسانية ألإمام علي أكبر من أن تحجم في موقع سياسي أوقيادي. فهو كبير بمواقفه الخالدة التي جسدتها روحه الفياضة اتجاه إخوة المصير والرسالة وهو صاحب القلب الدامي عندما يفارق احدهم، فهذا لسان حاله عندما توفي الخليفة أبي بكر(رضي) :

" رحمك الله يا أبا بكر كنت والله أول القوم أسلاما، وأخلصهم إيمانا وأشدهم يقينا.. صدقت رسول (ص) حين كذبه الناس، وواسيته حين بخل الناس، وقمت معه حين قعد الناس ... كنت والله للإسلام حصنا وللكافرين ناكبا، لم تفلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كالجبل لا تحركه العواصف.. كنت والله كما قال الرسول(ص) فيك: ضعيفا في بدنك، قويا في دينك، متواضعا في نفسك، فلا حرمنا الله أجرك.. ولا أضلنا بعدك " (3).

وها هو في تأبين عمر(رضي) يقول:

" لله بلاء عمر فقد قوّم الأمد، وداوى العمد.. خلف الفتنة، وأقام السنة.. ذهب نقي الثوب... قليل العيب.. أصاب خيرها وسبق شرها.. أدى إلى الله طاعته، واتقاها بحقه " (4) .

هذه هي روح ألإمام علي التي حريٌ بشيعة علي اليوم أن يقتفوا أثرها ويعبروا من خلالها عن تلاحمهم الإنساني مع إخوة المصير والحضارة (أهل السنّة).

ـ المستوى الديني : لم يتحرك ألإمام علي إتجاه أصحابه عاطفياً فحسب، بل أتخذ موقعه التوجيهي في تسيير شؤون الدولة الإسلامية الناشئة، ولم يدخر جهدا في هذا الأمر، ففي الأمور الدينية والشرعية كان هو الحاضر دائما إذا حدث لبس تفسيري للشريعة، وهذا ما أثبته عمر(رضي) في قولته الشهيرة : "لولا علي لهلك عمر" التي تبين قوة النصح والمؤازرة والمشاركة في حفظ الشريعة، ونتبين أيضا من هذه المواقف، روح التواصل والتواضع التي تحرك هؤلاء الرجال. فلم يشغل عمر موقع الخلافة ويجعله فوق الجميع، بل جعله هذا الموقع أكثر استرشاداً لما يوصله لإقامة الحق وهذا ما جعله يردد باستمرار بموقع علي من نفسه: "اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب" أو "لولا علي لهلك عمر" .

ـ المستوى السياسي : شهدت الفترة العمرية في مسيرة الخلافة الإسلامية تطورا سياسيا وعسكريا، فلقد تصاعدت فيها الفتوحات وكثرت الحروب في هذا الجانب، مما ستلزم أن يكون الخليفة على دراية كبيرة بعواقب الأمور حتى لا يحدث ما لا يُحمد عقباه وتنجر الأمور إلى منزلقات تؤثر على كينونة الدولة الآخذة في التوسع والانتشارآنذاك، وهذا ما دفع الإمام علي أن يكون في موقع الصدارة، والمتميز في إبداء النصح والتوجيه السياسي حتى تمر هذه المرحلة بنجاح ليتحقق الصالح العام للدولة ولأبنائها. ولم يسجل لنا التاريخ في هذا الجانب إن عليا أخذ جانب العزلة المتأتي من رؤية أحقيته في الخلافة، بل أندمج مع أصحابه الخلفاء، وبكل أريحية الفارس، ألزم نفسه بهذا الموقف النبيل. فلم يشغله شاغلٌ ذاتي عن تفاعله الايجابي مع دولته ومع رفاقه، فلقد وقف بإصرار وحمية لتمرَ الفترة العمرية في الخلافة على أكمل وجه، لما يراها – هو – أنها جزءا أصيلا ومسيساً من الموضوع الكلي للإسلام، والذي يحتم عليه أن يؤديها حقها مما جعل رفاقه وخصوصا الخليفة عمر، آذان صاغية وروح منفتحة له، لإيمانهم أن نصيحته، وإرشاده هي جزء من همه وهمهم لنجاح مشروعهم الإسلامي، وفي هذا الجانب شواهد كثيرة تبين مدى التلاحم وقوة الأواصر التي تحرك علي وعمر للخروج بما هو أفضل لدولتهم .

ومن الشواهد التي تخص البعد السياسي والعسكري، والتي تظهر التواصل بين عمر وعلي، هي عندما أراد عمر(رضي)الخروج بنفسه لحرب الفرس وقد حبب له البعض الخروج هذا، لكننا نرى علياً وقف بوجه خروج عمر شخصياً، وطرح إستراتيجية مغايرة، تقوم على أن بقاء عمر هو الأصلح والأجدى، وإن حياة عمر تمثل رادعا مهما لمن تسول له نفسه أن ينقض على الدولة إذا تعرض عمر لأي مكروه نتيجة خروجه بنفسه لهذه الحروب والغزوات، وأن عدم خروجه يمثل إضعافا وترهيبا لأعداء الداخل، وتوهينا وتمييعا لأعداء الخارج، فيقول لعمر :

" إن هذا الأمر لم يكن نصرُهُ ولا خذلانه بكثرةٍ ولا بقلةٍ، وهو دين الله الذي أظهره، وجُندُهُ الذي أعدًهُ وأمدًهُ، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيثما طلع، ونحن على موعد من الله، والله مُنجزٌ وعدهُ، وناصرٌ جنده، ومكان القيًم بالأمر مكانُ النظام من الخرز، يجمعهُ ويضمهُ، فإن انقطع النظام تفرق وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا... والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع، فكُن قُطبا واستدرِالرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها، حتى يكون ما تدعُ وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك.. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموهُ استرحتم، فيكون ذالك أشد لكلَبَهَم عليك وطمعهم فيك "(5) .

 

التباسات ومواقف غير صائبة

 

( التعصب الطائفي خطر على ابناء الطائفتين)

 

أن نماذج التعايش التي ذكرناها هي جزء يسير من الشواهد المحفوظة في كتب التاريخ، لكننا لم نرد أن نسهب في المادة التاريخية المجردة على حساب كثافة الموضوع وتنوعه، والذي نصبوا من خلاله أن يكون محفزا ودافعا لمواقف عملية في اتجاه أنسنة العلاقة والتعايش بين شيعة وسنة العراق والمسلمين بشكل عام، وحتى نستطيع السير في حلحلة وتفكيك جزء من هذه الإلتباسات التي تطول الطرف الشيعي والطرف السني على السواء، عسى ولعل، يأتي جيل يتبنى ويعمل للتعايش من أجل مصالحه المصيرية والحضارية  التي هي اجل وأسمى من التمترسات الفئوية التي مزقتنا وضيعتنا شر ضياع .

ففي غمرة التطور الفضائي والمعلوماتي الذي تستغله البشرية جمعاء لصالح رفاهها وتطورها المعرفي، وقع كثيرٌ من السنة والشيعة في معمعة استغلال هذا التطور في جوانب تساعد وتصعد من حدة الافتراق والتناحر. فبعدما كانت  هذه الفرقة محصورة في دوائر ضيقة ومحدودة مثل المساجد والهيئات الدينية، أصبحت اليوم الشغل الشاغل للفضائيات وصفحات الانترنيت وللاعلام بشكل عام، وصار هناك متناظرون متخصصون بأفلاك الدنيا والدين في دحر بعضهم بعضا(ولك ياشاطر) في إدخال فئة وإخراج فئة من دين الله وجنته.

اليوم مصائر الناس سنة وشيعة هي لعبة بيد هؤلاء البهلوانيين يكفرونهم ويأسلمونهم وفق مشيئتهم لا وفق مشيئة الله جلت قدرته وعظمت رحمته. ولقد حول هذا الانتشار السيئ لهؤلاء من خلال الفضائيات والانترنيت، أن تنتشر وتتصاعد أبعاد العداء بين السنة والشيعة، وتحولت الاتهامات – بسبب رجال الدين الإعلاميين! – من ظاهرة محدودة إلى ظاهرة عامة تنذر بعواقب مدمرة تفوق بعشرات المرات ما سجله التاريخ من نزاعات هنا وهناك .

أن ما يشيع اليوم بين دوائر من الشيعة والسنة(لا كلهم) من مسميات تحمل في داخلها اتهامات ونزعات لا تمت للروح الإنسانية والمدنية الحديثة بصلة ستجلب لنا خرابا فوق خرابنا العتيق. فمسميات مثل النواصب أوأعداء أهل البيت أوالصفوية أو أن الشيعة مجوس يريدون خراب الإسلام ما هي إلاّ خزعبلات ستزيد من حدة التنافر والتباعد . فالمتصفح الموضوعي والباحث الذي يروم الحقيقة في مذاهب أهل السنة يجد أن أهل السنة ناصعون في حبهم وإجلالهم لعلي وبنيه، ولا يمتوّن بصلة لا من قريب ولا من بعيد إلى العداء السفياني الذي سجله لنا التاريخ والذي رسخه معاوية بن أبي سفيان في الحقب الماضية من خلال شتمهم لعلي ونصب العداء له لعقود طويلة. نعم،اليوم هناك شرذمة تحاول بطرق ملتوية لا مباشرة الانتقاص من ألإمام علي والحط من مكانته الريادية بالإسلام، وأعتقد أن كره هذه الزمرة الضئيلة للشيعة هوالذي يدفعهم للتقليل من مكانة ألإمام علي الاسلامية، لكن هؤلاء جماعة مأفونة وتعيش خارج الدائرة العريضة للمسلمين السنة. فها هي مصر راعية التسنن في العالم الإسلامي يهتز وجدانها طرباً بحب أهل البيت. وهذه هي دول المغرب العربي التي ترى حب أهل البيت وموالاتهم جزء من عمقهم وتراثهم الوطني، وهذا هو العراق معقل علي وعمر الحصين، والذي لا تستطيع أن تميز سنته عن شيعته في تشفعهم بعلي وأولاده، وبحجهم إليه حاملين النذور، وطالبين المراد.

فمن المستحيل على أهل السنة في العراق وفي مصر وفي المغرب العربي وفي باقي أماكن المسلمين أن يُنتزع هذا الحب من قلوبهم، ويتحول إلى عداء بسبب شرذمة متعفنة تريد أن تدمر هذه الروح السنية اتجاه علي وبنيه واتجاه شيعتهم.

وعلى الشيعة أن يحتكموا إلى الناصع والايجابي من التاريخ لا أن ينجروا وراء النباشين " و منهم بعض قراء المنابر الحسينية" الذين يرتزقون ويعتاشون على التركيب التاريخي الفج الذي يزيد من تفاقم الصراع، وعليهم أيضا أن يلجموا الذين ينتهجون الفلسفة الثأرية التي تطال وتشتم رموز مثل أبو بكر وعمر، هذان الشخصيتان اللتان ذُكرتا بالخير الكثير من قبل علي وبنيه.  إن ما سربته مناهج الغلو الثأرية لا تمت لشيعة علي بصلة، وعلى الشيعة أن لا يسكتون عن شرذمة الغلاة الذين خلطوا الحابل بالنابل وحملوا وزر آل أبي سفيان "اتجاه علي وبنيه" لأبي بكر وعمر .

أما الالتباسات والمواقف التي يروجها الغلاة المحسوبين على السنة اتجاه الشيعة، فتحتاج وقفة صارمة من أهل السنة في العالم الإسلامي. فما يُردد عن الشيعة من أقاويل لا تمت لواقعهم وانتماءهم الإسلامي بصلة، مطلوب تعريتها، وخصوصاً هذه الأقاويل التي تجرد الشيعة من إسلامهم مثل: أن الشيعة لهم قرآن غير هذا القرآن المتداول، أوالقرآن الذي بين أيدي الشيعة محرّف، وأنهم فرقة  استغلتهم الصفوية الفارسية للثأر من الإسلام لصالح الفرس. إن كل هذه الاتهامات التي ضخمها الغلو المحسوب على أهل السنة، لا بد ان يتصدى لها دعاة انسنة العلاقة بين السنة والشيعة، وخصوصاً مثقفي السنة، فهذه الاتهامات تآكلت وانحسرت وتحتاج من يعريها، ولقد عُري منها الكثير بالفعل وفق:

-       فكرة تقادم الزمن عليها. وأقصد بهذا التقادم إن جزءاً من هذه الأقاويل لا تحتاج إلى نبش  المصادر في دحضها، وإنما تحتاج إلى صفاء روحي ووجداني اتجاه أخوة المصير والحضارة "الشيعة" فما يُردد من الغلاة أن الشيعة يحتكمون إلى قرآن غير هذا القرآن المتداول اليوم عند كل المسلمين، يمكن أن يمر – هذا الأمر– على بسطاء الناس قبل ألف عام بسهولة ويسر، لكنه لا يمر على من توسعت مداركه المعرفية والثقافية، لأن سبل المعرفة والكشف آنذاك متخلفة عشرات المرات عن الحال الراهن، ولم يكن الشيعة بهذه الأعداد المليونية المتداخلة مع باقي المسلمين حتى يثبت ما لهم وما عليهم بسهولة لعامة الناس، فلقد كانوا بأعداد قليلة، ومناطق محدودة في جلها تشبه غيتوات اليوم، ولهذا يمكن أن يُقنع الناس سابقا بما ليس في الشيعة أو أن نخلطهم مع مذاهب مغالية في الحقب الماضية، لكن حال الشيعة اليوم مكشوف لعموم الناس وهم يرددون ليلا ونهارا هذا القرآن المقروء في أسيا وإفريقيا وأوربا، وعلى مسامع الجميع، ويتسابقون في حفظ القرآن في المسابقات والمحافل التي تقام في جميع أنحاء العالم الإسلامي .

أما التشنيع بإن الشيعة عندهم مصحف فاطمة، فهو مصحف ليس له أثر عملي في حياة الشيعة وهو ليس بقرآن كما عبر عنه أئمة الشيعة :" أنه ليس فيه شيء من القران " وإنما هو كتاب يحتوي على تعاليم وإرشادات، يقول الشيعة: أن النبي أملاه على فاطمة، وهو ليس له وجود اليوم حتى يتداوله الشيعة (وعند أهل اللغة كل كتاب يمكن أن يطلق عليه مصحف، وتسمية مصحف ليست تسمية حصرية لكتاب الله مثل القرآن والفرقان والذكر).

وأما الترويج السيئ بأن الشيعة يقولون بتحريف القرآن فهذا ما دحضه علماء شيعة وتابعهُ ودققهُ علماء من أهل السنة بوضوح. فلقد أتخذ قول واحد بالتحريف – ضمن رؤية شخصية لصاحب هذا القول – للتشنيع على الشيعة واتهامهم بقول تحريف القرآن. ولقد لاقى قول النوري الذي قال بالتحريف رفضاً ومقتاً شيعياً قبل أن يطلع عليه الغلاة المحسوبين على أهل السنة، فكتاب " فصل الخطاب في تحريف الكتاب ومؤلفه النوري" وقع عليهما رد وتشنيع من علماء الشيعة بشكل صارم وواضح لا لبس فيه.

يقول العالم والفقيه أبو القاسم الخوئي، وهو فقيه الشيعة الأكبر في حياته: "إن حديث تحريف القرآن، حديث خرافة لا يقول به إلا  من ضعف عقله أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل أو من لجأ إليه، يحب القول به، والحب يعمي ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته( أي حديث التحريف)"(6).

 

( شيخ الازهر شلتوت رائد التقارب الشيعي السني)

 

ويقول المفكر الدكتور محمد سليم العوا وهو مسلم سني (في تعقب ميداني لموضوع التحريف) :  "أن هناك نوعا من المعرفة المغلوطة التي تشيع بين السنة والشيعة وأن أكثر أهل السنة لا يعرفون عن الشيعة سوى أنهم طائفة تغالي في التشيع، وحول قضية تحريف القرآن الكريم أوضح العوا أن الشيعة لم يحرفوا القرآن الكريم وهذا من الأخطاء الشائعة، وأشار العوا إلى أنه تأكد بنفسه من أن مصاحف إيران (الشيعية) كلها مطبوعة على قراءة حفص".

وأشار العوا أيضا إلى "أن الحوزة العلمية وعلى رأسها الإمام الشيرازي رفضت مقولات المحدث النوري وسفهت من رأيه واستبعدت كل ما جاء به هذا النوري، وان أئمة الشيعة قالوا إن الروايات التي جمعها النوري غير صحيحة، والخميني شخصياً رد عليه وقال إن رواياته ضعيفة ووصفه بالكاذب، وأن أكثر من 22 من علماء الشيعة الكبار يرفضون ما جاء به النوري" (7).

وأما وصف الشيعة بالصفويين وأنهم يريدون هدم الاسلام العربي ثأرا لأمجاد فارس التي دحرها العرب بالإسلام فهذا أمر فيه من السياسة أكثر مما  فيه من الفكر والمعرفة لأسباب :

أولها: أن السلالة الصفوية هي سلالة تركية آذربيجانية وليست فارسية، وأن تسميتهم بالصفوية جاءت من مؤسسهم الأكبر صفي الدين الاردبيلي " ولقد كان صفي الدين الاردبيلي صوفياً تركيا لم يثبت له من النظم (الشعر) بالفارسية إلا بيت واحد رواه رضا قلي هدايت.. وكان الترك خاصة يعتبرون صفي الدين زعيما روحيا لهم، وكان هو من ناحيته يحاول أن يفض المنازعات التي تثور بين سكان القرى التركية .. وينبغي أن لا نغفل أمرا هاما يتصل بصفي الدين الاردبيلي هو انه لم يكن شيعيا قطعا، يبدوا ذالك واضحا من نصوص صفوة الصفوة، ولعل من أهمها أنه لما فسر أية(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تبلغ فما بلغت رسالته) التي تنصرف عند الشيعة إلى حديث غدير خم واستخلاف النبي لعلي، لم يقف عليها الوقفة الشيعية المعهودة"(8) .

ثانيها: عندما تأسست الدولة الصفوية سنة 1500م على يد إسماعيل الصوفي الذي يرجع نسبه لصفي الدين الاردبيلي لم يكن خصومه من العرب، بل كانوا من الاتراك العثمانيين ومن قبلهم التيموريين، وكان له حرب في بغداد  قضى بها على حكم أسرة الخروف الأبيض، "وهم تركمان" سنة 1508م. ثم بعدها أنهزم إسماعيل الصفوي ودولته أمام الدولة العثمانية وسلطانها سليم سنة 1517م، وخلال فترة الكر والفر هذه مع الأتراك شيع إسماعيل الصفوي المسلمين السنة الفرس! بالقوة من خلال صفوته وجنده متصوفة القزلباش وهم من الأتراك أيضا ومن ديار بكر بالأصل (وكانوا يغالون بحب علي).

وأزعم أن إسماعيل الصفوي أراد بتشييع إيران هذا مذهبا مغايرا لمذهب العثمانيين حتى يزيد من صلابة مملكته ضد ابناء جلدته الأتراك السنة، من أجل الملك والمملكة لا من أجل الدين الذي يتباكى عليه المتباكون اليوم، ومات إسماعيل الصفوي شابا في الثامنة والثلاثين سنة 1524م.

أذن نتلمس من هذا السرد التاريخي البسيط أن العرب الآفل نجمهم آنذاك أقحموا اليوم في نزاع مفتعل ليس له سند تاريخي مع الصفويين ومن وراءهم الفرس المنكوبين بتشييعهم بالقوة؛ لسبب لا أعرفه "انا شخصيا" لحد الآن وقد يكون السبب أن العرب آنذاك من رعايا الدولة العثمانية خصم الدولة الصفوية، لكن هذا الأمر غير مختصر على السنة، فالشيعة العرب كانوا أيضا من الرعايا البائسين للدولة العثمانية مثلهم مثل السنة العرب وكلاهما ضحية سائبة لا تؤرقان ضمائر الصفويين ولا العثمانيين الطامحين لحكم العالم آنذاك على السواء، ولهذا يصبح من غير المبرر اليوم أن يُنبز شيعة العراق، وحتى باقي الشيعة في العالم بأنهم صفويون، يريدون خراب الإسلام العربي الذي تسيد عليه العثمانيون! والصفويون!، ويخرج الشيعة في كل هذا انهم هم المخربون! فهذا امر لا يستقيم عند العقلاء وحتى عند محدودي الذكاء .

فلابد اذن من وقفة ضد هذه الخزعبلات وضد الغلو الذي تسرب من الصفويين لنفوس شراذم الشتامين لصحابة رسول الله وهذا أمر مهم لخلق روح التواصل والمحبة بين السنة والشيعة. ويبقى مهما أن نشير أن الدراسات الأكاديمية العلمية تبين أن الغلو الصفوي ليس له وجود اليوم إلا في بؤر ضئيلة جدا مسالمة ومنكفئة على نفسها "في أطراف الموصل في العراق قرى تقطنها جماعات من الشبك والماوية والإبراهيمية والباجون وكلها تحمل العقيدة التي تمت بسبب قوي الى الطريقة الصفوية كما وضعها صدر الدين الاردبيلي" وطورها ابنائه من بعده " على أن اطرف ما يتصل بهذه الطوائف التي اكتشفها الباحثون في مطلع هذا القرن (أي القرن العشرين)،أن التشيع قد تحفز من جديد  لإذابتها في بوتقته وقد نجح في ذالك فعلا "(9) وقد انصهرت هذه الفرق اليوم في درب الاعتدال والالتقاء مع باقي المسلمين ولقد لعبت حوزة النجف دوراً مهما في هذا الجانب .

وكلنا أمل اليوم أن تنشرح الروح السنية ولا تنصت لهؤلاء المتكسبين من سحت التفرقة الذين ليس لهم شغل إلاّ بث الأقاويل الباطلة عن الشيعة أوكما قال طه حسين عن خصوم الشيعة: " وخصومهم واقفون لهم بالمرصاد يحصون عليهم كل ما يقولون ويفعلون، ويضيفون إليهم أكثر مما قالوا وما فعلوا، ويحملون عليهم الأعاجيب من الأقوال والأفعال "(10)

وهذه الوقفة السنية المنشودة اتجاه الشيعة لابد أن تقابلها وقفة وهبة شيعية متكافئة ضد الشراذم المتلبسة بثوب شيعة علي وبنيه الذين يسيئون لصحابة الرسول(ص) بالسب والتوهين، وان يتم فضحهم وتعريتهم حتى يكونوا عبرة في طريق مستقبلنا الواعد .

لشيعة العراق وسنته، وحباً بهم ورغبة في إعادة لحمتنا الإنسانية والحضارية كتبت هذه المقالة آملا أن يشخصوا بأبصارهم وأفئدتهم نحو المستقبل وتطلعاته، ويهملوا السيئ من التاريخ الذي كان فيه ضياعنا وتشتتنا ويكون حاضرنا ومستقبل أبنائنا هو النبراس في كل ما نعمل وما نحلم به .

المصادر:-

1.   محمد حسين فضل الله ، في رحاب الإسلام ، ص17

2.   المسعودي، مروج الذهب  ج 3 ص75

3.   عزيز السيد جاسم،علي سلطة الحق ص175

4.   نهج البلاغة ج2 ص221

5.   ابن أبي الحديد،شرح نهج البلاغة، ج 9/10،ص67

6.   الخوئي، كتاب البيان، ص259

7.   نقلا عن الموقع الالكتروني للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية .

8.   د. كامل مصطفى الشيبي ،الصلة بين التصوف والتشيع ،ج 2 ،ص354/355

9.   نفس المصدر، ص 380

10.                      د. طه حسين، الفتنة الكبرى،ج1 ، 173

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة