الحقبة الآرامية المسيحية

شهيدات المسيحية العراقية في كركوك..

 

فاطمة صابر الحلي ـ لبنان

 

 

تذكر المصادر الرومانية والآرامية أن (القديس توما) ثم بعده (مارعدي) من تلامذة السيد المسيح، مع تلميذه (مار ماري) هم الذين بشروا بالمسيحية في العراق، أولاً في شماله ثم في وسطه وجنوبه. وقد شيد (مار ماري) (ت 82 م) أول كنيسة في بلدة (كوخي) قرب المدائن، وقد وسعها مار عبد المسيح الحيري. وفيها تكونت (بطريكية) او قيادة (مرجعية) الكنيسية العراقية ومقرها في (المدائن ـ جنوب بغداد) وتسمى رسمياً بكنيسة (بابل) ويطلق عليها المؤرخون أحياناً (كنيسة فارس) بسبب خضوع العراق لفارس. وتتفرع الكنيسة العراقية الى فروع كنسية في كل أنحاء النهرين ويطلق على كل فرع تسمية(أبريشية).

كانت السلطات الايرانية، بين فترة وأخرى، تشن حملات قمع واغتصاب وقتل ضد المسيحيين. كانت الحملات متقطعة، سرعان ما تهدأ وتتخللها فترات سلم وتعاون وتقرب من قبل الملوك. وحسب المصادر المسيحية فان هذه الحملات المتقطعة خلال عدة قرون، كلفت مئات الآلاف من الشهداء. وقد ذكر المؤرخ المسيحي العراقي (ماري بن سليمان)، ان الملك (شاهبور) خلال ما أطلق عليه (الاضطهاد الاربعيني) الذي دام أربعين عاماً في القرن الرابع م، قتل حوالي مئة وستين ألف في بلدات شمال العراق، وأكثر من ثلاثين ألف في بلدات الفرات. وقد أكد المؤرخ العراقي المسلم المسعودي هذا الرقم (التنبيه والاشراف ص149).

 عموماً هنالك سببان للاضطهاد، أولهما شعور الملوك والموابدة (رجال الدين المجوس) بأن المسيحية العراقية بدأت تشكل خطراً كبيراً على المجوسية وبدأت تكتسحها في داخل معاقلها بحيث أن هنالك الكثير من أقارب الملك والحاشية بدأوا يدخلون المسيحية، وأن كنيسة المدائن العراقية تحولت الى زعيمة ومقر، ليس فقط للكنائس العراقية، بل لما يحصى من الكنائس المنتشرة في جميع أنحاء الامبراطورية الفارسية حتى حدود الصين، بل أن المبشرين العراقين نشروا المسيحية حتى في الهند وفي أنحاء الجزيرة العربية.

    تركزت هذه الحملات في القرنين ألأخيرين لحكم ألساسانيين (من منتصف القرن الخامس حتى منتصف السابع) كان معظم حالات ألأستشهاد القائمة فعلياً لها علاقة بالمتنصرين من ألعائلات ألأرستقراطية ألزرادشتية (أوأحيانا بالكهنة الذين عمدوهم). وطبعاً استغلت هذه الحجة في كثير من الاحيان لغايات خفية. ومثال على هذا ما حدث للقديسة (تقلا) التي تعتبر من القديسات الشهيدات(الطوباويات المكرسات). كانت هذه المرأة مع رفيقاتها إلى (حدياب) وهي (أربيل) وما حواليها. لقد قام الوالي الفارسي (نرساي تحمشابور) بالقبض عليهن مع كاهنهن ألمحلي بولص. وكانت غاية الوالي الاستيلاء على أملاك الكاهن بعد إعدامه، لكنه فشل بذلك بسبب ارتداد الكاهن عن دينه ولم يعد من الممكن إعدامه. لذلك قام الوالي بأخذ النسوة المسكينات رهائن في مناورة غايتها إجبار الكاهن على التنازل عن أملاك الكنيسة. وقد تم إعدامهن طمعاً بالمال لا أكثر. كذلك هنالك القديسة بربارة التي استشهدت في القرن السابع الميلادي تحت نير العذاب والموت والدموية ومايزال مزارها على سفح في قرية (كرمليس) في الموصل، يشهد كل عام زيارة الآلاف من المؤمنين.

ان تراكم حملات الاضطهاد هذه وما خلفته من كوارث، خلقت أدباً سريانياً مكرساً لسرد سير الشهداء. وهذا يذكر بصورة أو أخرى بأدب الشيعة المختص بحكايات شهداء كربلاء(ع).

شهيدات كركوك

 

 

كركوك، وإسمها الاصلي (كرخا سلوقيا) أي (قلعة السلوقيين)، وسميت بالآرامي(بيت جرماي)

 وهي من أكثر المدن العراقية التي قدمت شهداء مسيحيين، بسبب وجود حامية ايرانية فيها

 مع جماعة دينية مجوسية متعصبة أرادت القضاء على المسيحيين وتحويلها الى مدينة مجوسية!!

ان شمال العراق (أربيل - الموصل - كركوك) يعتبر أكثر المناطق التي تركز عليها الاضطهاد بعد (المدائن ـ جنوب بغداد) وهي مركز الكنيسة والمرجعية العليا. إن سبب تركز الاضطهاد في الشمال يعود الى وجود قواعد عسكرية ايرانية قوية هناك بمواجهة الخطر الروماني ثم البيزنطي عند الحدود الاناضولية والسورية. فمثلاً في فترة ما يسمى بـ (الاضطهاد الاربعيني) الذي دام أربعين عام وشمل العراق بأكمله والذي بدأه الملك (شاهبور) في أوائل القرن الرابع م، قامت سلطات كركوك (كرخا سلوقيا) وتسمى أيضاً (بيت جرماي)، بالتعاون مع (الموباد) المجوسي، بشن حملات وحشية من اعدامات ومطاردات ومصادرة أملاك ضد المسيحيين، وقد قدمت المدينة الكثير من الشهداء وعلى رأسهم المطران الشهيد (مَعْن) رئيس الكنيسة. وطبعاً بين الشهيدات هنالك الكثير من الشهيدات اللواتي دخلن تاريخ القديسات الخالدات لدى المسيحيين العراقيين، مثل (باعوثا) وهي سيدة علمانية (خارج سلك الرهبنة) من عائلة نبيلة من سكان كركوك. وقد تم إعدامها  بأمر الموباد المجوسي (أدور كوشنَسب)، الذي كان قد أعدم أيضاً الشهيدات(ثقلا، وَدنَحة) وكلتاهما من(الراهبات المكرسات). وهنالك أيضاً أسماء شهيدات عديدات من كركوك، مثل: (طاطون، ماما، مزَحيا، وحنة) وجميعهن أيضا من الراهبات المكرسات. تم إعدامهن خارج كركوك في مكان يدعى (حَورا، أي الأبيض). من بين الضحايا الكثيرات، ثمة شهيدات شهيرات مثل(حابيت، حَساي ومزَحيا) وهن (راهبات مكرسات) أقسمن على البتولية (العذرية) وكن من منطقة (المدائن ـ جنوب بغداد) لكنهن هربن الى كركوك تخلصاً من الاضطهاد هناك. لكنهن وقعن فريسته في هذه المدينة الشهيدة. قام بعض الوشاة في البلدة بتوجيه التهمة إليهن أمام القائد العسكري. فأصدر القائد أوامره بقتل النسوة خارج البلدة في مكان يدعى (الحور الأبيض). وبعد أن كللن بتاج الشهادة نبتت في موقع إستشهادهن شجرة تين أخذت تشفي كل من يلتجئ اليها. فلما رأى المجوس المعجزة التي حدثت، قطعوا الشجرة وأحرقوا المكان. لكن الله نشر مرض الفُيَال بينهم حتى اختفوا كلياً من البلدة. وهذه البقعة حيث نلن النساء التقيات إكليل الظفر ظلت تدعى (مكان شجرة التين)، وقد أصبحت الآن مقدسة لدى جميع المؤمنين. ففي كل عام عندما تقام ذكرى إحياء اليوم العظيم للصلب، تصعد رعية الكنيسة بكاملها الى مكان الأستشهاد.   

من بين الشهيدات المعروفات كذلك(شيرين) اللواتي لهن قصة انسانية مؤثرة. وهي من أيضا كركوك. كانت هذه السيدة قد إعتنقت المسيحية وهي في ألثامنة عشرة من عمرها ثم سجنت حتى ماتت في ألزنزانة في عام ( 559 م ). كذلك الشهيدة (عولي ندخت) وهي من عائلة نبلاء خليطة عراقية ايرانية من المقربين الى الشاه خسرو الثاني (531 ــ579 م)، ثم أنها متزوجة من ضابط رفيع ألرتبة. والمشكلة انها تركت المجوسية وإعتنقت المسيحية سراً بتأثير والدها الذي سبق وإن اعدم قبلها. ثم بعد أن كشف أمرها تم إعدامها. وكانت السلطات ترفض عادة تسليم جثة المسيحي الذي يعدم حتى لأن لايتم تقديسه. ولكن أخ الفتاة تمكن من رشوة الحراس واُخذ الجثمان ودفنه بصورة سرية في حديقة بيت أحد المعارف بجانب والده الذي اعدم من قبل. ويبدو أن السيدة التي اشرفت على غسل جثمان الشهيدة ودفنها، ظلت تحيي الذكرى السنوية لأستشهاد الاب وابنته في بيتها المحاذي للقبرين. وقد ثابرت على ذلك طوال حياتها، وبعد وفاتها انتقل بيتها إلى إبن أخيها. فأستمر هو أيضاً في إحياء ذكرى وفاة الشهيدين باستمرار جرياً على عادة عمته البارة. وعندما مات خلَف ورائه إبنين، سرعان ما تخاصما على رفاة ألقديسين، لأنهما أرادا إقتسام البيت. وعندما علم بالأمر (مار صوما) مطران (كركوك)، أقنعهما بأن يأخذ هو رفات القديسين، ثم وضعهما في كنيسة (كركوك) ليظل ذكرهما ألطيب خالداًً.

المصادر

ـ روفائيل اسحق/ تاريخ نصاري العراق/ طبعة ثانية ( مطرانية الكلدان في ديترويت) 1989

ـ سبستين برك / قديسات وملكات/  دار قدمس/ حلب 2000

ـ الاب البير أبونا/ تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية/ دار المشرق / بيروت 1992

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة