الحقبة الاسلامية

كركوك في التاريخ

 

 

د.  مصطفى جواد/ بغداد ـ كركوك

 

 

 

كركوك يلفظها العراقيون بفتح الكاف ويكسر الافرنج كافها فيقولون كِركوك، ولعلهم أخذوا ذلك عن كتب بعض السياح من الافرنج أيضا.

وقد اجتمعت في هذا الأسم ثلاث كافات فصار من الأسماء النادرة من حيث الحروف، وتركيبه اللفظي يدل على أنه من الأسماء السامية الآرية أي الآرامية وكذلك القول في "الكرك" التي هي في الأصل جبل لبنان. والكرك اسم قلعة حصينة جداً في طرف الشام من نواحي البلقاء في جبالها بين أبلة "العقبة" وبحر القلزم "البحر الأحمر" و"بيت المقدس" وهذه الصورة اللفظية قريبة من "الكرخ" السامية أيضاً وكلتاها تدل على الحصن والقلعة، ولذلك تعدد "الكرخ"و"الكرك" فمن الكروخ كرخ باجدا وكرخ البصرة وكرخ جدان وكرخ ميسان.

وقد يزاد على هذا الاسم لتأدية زيادة في المعنى مثل "كركين" اسم قرية كانت من قرى بغداد ممثل "كركين" التي يثبت الوصف الجغرافي انها كانت من قرى بغداد مثل "كرخيني" : التي يثبت الوصف الجغرافي انها كركوك الحالية. قال ياقوت الحموي في (معجم البلدان) :

"كرخيني بكسر الخاء المعجمة ثم ياء ساكنة ونون وياء، وهي قلعة في وطاء من الأرض حسنة حصينة بين داقوقا وأربل رأيتها وهي على تل عال ولها ربض صغيرة".

ومعنى هذا أن ياقوت الحموي المتوفي سنة 626هـ ـ 1228م، رأى قلعة حصينة في أرض سهلية لا حبلية بين "داقوقا ـ طاووق" و"أربل ـ أربيل" وحولها دور ومساكن وهي تسمى" كرخيني" وتلفظ "كرخينة" على التقريب، وهذا الوصف الجغرافي ينطبق تمام الانطباق على "كركوك" الحالية ويؤده التقارب بين حروف الاسمين. وكأن لتلفظها صورة أخرى في القرن السادس للهجرة وهي "كرخاني" كما جاء في سيرة صلاح الدين الأيوبي لبن شداد الموصلي (ص192) و(تأريخ بني سلجوق) لصدرالدين ناصر الحسيني (ص179). وهذا الاختلاف يدلنا على أن أهل العصر الواحد قد يختلفون في تلفظ اسم واحد. وسماها ابن فضل الله العمري في فصل الأكراد من مسالك الأبصار "الكرخين" وذلك في أواسط القرن الثامن للهجرة. 

ان تاريخ كركوك وتسميتها "كرخيني" أو "كرخاني" ثم "الكرخين" لا يزال مجهولا مثل تواريخ كثير من المدن التي لا تزال تنتظر سعادة حظها بانكشاف تواريخها بالاستحالة والحفر وبظهور مصادر تاريخية جديدة وليس من التحقيق في شيء اصطياد التشابه بين الأسماء لاطالة الدعوى كقول من قال إن كركوك أصلها "كرخ سلوخا" وأن "كرخ سلوخا" أصلها "كرخاد بيث سلوخ" أي مدينة السوقيين. فمن ينقل هذا القول يحجج قبل كل شيء الى وصف جغرافي بعين موضوع "كرخ بيت سلوخ" ويجعله في موضع كركوك بالضبط والتحقيق والاّ فلا فائدة من تقارب الاسمين اذا اختلفت البقعتان. وقد أشرنا الى تعدد "الكرك" و"الكرخ" فكرخ سلوخي، هي غير "الكرخيني".

وكذلك القول في رأي من اجتهد أن يوحد بين "بابا كور كور" التي ذكرها بطليموس مع أن بابا كور كور، تسمية حديثة لم تعرف قبل احتلال العثمانيين الأتراك العراق وما حوله وفيها "بابا" بمعنى الأب و "كور كور" تدل بالتركية على "النور والنار" وببغداد اليوم مسجد يعرف بمسجد "بابا كور كور".  كتب الي مرة امامه يسألني امور تاريخية فبابا كوركور يدل بصورته وتركيبه على أنه اسم انسان ولا صلة له بزمن الآشوريين، وهو لم يعرف الاّ في العصور المتأخرة ولا يرتقي تأريخه الى أكثر من أربعمائة سنة ولا يكاد يبلغها.

فالاسم "كرخيني" اذن قديم وقد عثرنا على العصر الذي سميت به بلدة كرخيني "كركوك" وهو زمن الدولة التركمانية القراقوينلية، وذلك اننا وجدنا نصوصاً تاريخية لحوادث جرت في كركوك فذكرت فيها تارة بأسم "كركوك"مع أن الحوادث لم تتبدل بحيث لا يبقى مجال شك في أن الاسمين كانا يتنازعان الشهرة، تنازع القوي والضعيف وتنازع الجديد والقديم، ثم غلب القوي على خصمه وقنح الجديد على القديم. قال عبدالله بن فتح الله البغدادي المؤرخ في ذكره سيرة "محمد بن قرا يوسف" القراقوينلي ملك بغداد وقسم من العراق :

"توجه اسكندر بن قرا يوسف ـ وكان قد عصى على والده ـ الى أطراف الكرخينا وأخذه فلم ينازعه أحد ومات أبوه سنة 832 هـ ـ 1428م، وقال قبل ذلك :" وكان لما توفي يوسف توجه ابنه الى أطراف العراق هرباً من الجغتاي ووصل نواحي كركوك".

وفي القرن التاسع للهجرة أي الخامس عشر للميلاد شاع اسم "كركوك" ونازع الاسم القديم في الشهرة كما قدمنا آنفا، ويؤيد ذلك المؤرخ الغيائي المقدم ذكره. قال في حوادث سنة 895 هـ ـ 1489م في الحوادث الخاصة بتيمورلنك : "عين خواجه مسعود الخراساني للمحافظة على بغداد ومن طريق كركوك وداقوق وصل أربل الى الموصل". وقال من أخبار" محمد بن قرا يوسف القراقوينلي" انه أعطى في سنة في سنة 836هـ ـ 1422م كركوك وطاووق "لعلي آتابك" وقال في أخبار الملك اسبان بن قرا يوسف ملك العراق : " ثم ام اسبان ين قرا يوسف مرض ببغداد فخرج الى بلاق قرا حسن ليلة السبت 25 شوال 836 هـ ـ 1422 م وأخذ كركوك وداقوق وقتل علي آتابك". وقال في أخبار الأمير الوند بعد سنة 848هـ ـ 1432 فتوجه الى كركوك وتوجه منها الى أربل وآلتون كوبري والموصل فأخذها.

وفي هذه النصوص التي نقلناها فوائد أخرى يعلم بها ان "داقوقا" تغير اسمها الى "طاووق "الحالي في ذلك العصر أيضا وأن "آلتون كوبري" الحالي المشهور معروف من ذلك العصر أيضا. والظاهر ان هذا من تصرف القبائل التركمانية التي سكنت العراق وحكمت فيه فداقوقا صارت "داقوق" وداقوق صارت "طاووق" أي الدجاجة باللغة التركية. واذا تلفظ الانسان(داقوق) بسرعة سمع كأنه يقول "داقوق" بسرعة واذا فخمت الدال وتفخيمها معرف عند الترك كما هو معروف عند العرب صار الاسم "طاووق". أما كركوك فالظاهر انها انتقلت من صورة "كرخيني"الى "كركي"على الطريقة الفارسية فأصبحت كريك وانتقلت الى كركوك.

فالحوادث التاريخية تؤيد أيضا أن "كرخيني" وهي كركوك وتضامن الدليل الجغرافي والدليل التاريخي على ذلك. وظهرت "كرخيني" على محكى التاريخ، أي مسرحه في العصور السلجوقية وانتشار الاقطاع بالعراق وغيره واستولى بعض أمرائهم المسمى (قبجاق بن أرسلان تاش التركماني) الايوائي ويقال الايواقي أيضا على كورة شهرزور ومايجاورها من الحصون ومنها " كورخيني" كما يدل عليه كلام ابن الأثير المؤرخ، وكان حكم الأمير قبجاق ومنهم من يسميه قبجاق ومنهم من يسميه قفجاق نافذا على قاصي التركمان ودانيهم وكلمتهم لا تخالف وكانوا يرون طاعته فرضاً، فتحامى الملوك السلجوقيون التعرض له ولولايته لانها منيعة كثيرة المضايق فعظم شأنه وازدادت جموعه وأتاه التركمان من كل فج عميق فحده الأميرعماد الدين زنكي ابن أقسنقر مؤسس الدولة الآتابكية بالموصل، وكان طامعاً طامحاً ومقداماً فأرسل جيشاً لانتزاع البلاد المذكورة من حكمه. والتقى الجيشان فهزم جيش قبجاق واستباح عسكره وسار الجيش الزنكي الى الحصون والقلاع فحاصروها وملكوها وبذلوا الأمان للأمير قبجاق، فأضطر الى الاستسلام والانخراط في سلك العساكر الزنكية، وبذلك دخلت "الكرخيني" أي كركوك في حكم عماد الدين الزنكي المذكور آنفا سنة 534 هـ ـ 1139م، ذكر ذلك عزالدين بن الأثير أيضاً.

وقد عادت سلطة القفجاقيين على "الكرخيني" أو "الكرخاني" أو "الكرخين" أي كركوك أيام الأمير عزالدين حسن بن يعقوب بن قفجاق بن أرسلان تاش التركماني الايواقي. وانفصل هذا الأمير عن الدولة الاتابكية وانضوى تحت حماية الخليفة العظيم الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بأمر الله العباسي. واليه التجأ في الكرخاني السلطان طغرل الثالث بن أرسلان بن طغرل الثاني بن محمد بن ملكشاه السلجوقي بعدما هرب من جيش الخليفة الناصر لدين الله الموجه من شرقي ايران سنة 586هـ ـ 1190م ولاخراجه من مملكة السلجوقيين الكبرى وهو الذي شفع للسلطان المذكور عند الخليفة المتقدم ذكره ليعفو عنه كما جاء في تاريخ السلجوقيين لصدرالدين الحسيني والفتح القسي لعماد الدين الاصفهاني كاتب صلاح الدين الأيوبي. وقد عنون إبن الأثير تاريخ هذا الحادث المهم في نشره الأول بصورة "وصول السلطان طغرل الى بلدان قفجاق" يعني لكرخاني أي كركوك. وذلك واضح في النسخة الفسطية بدار الكتب الأهلية بباريس من كامل التواريخ المرقمة 499، ولم يذكر العنوان ولا كتب الخبر في النشرة الثانية من تاريخه وهي المطبوعة المتداولة بين الناس.

ومن أجل عزالدين بن حسن يعقوب القفجاقي أمير الكرخاني أي كركوك عتب الخليفة الناصر لدين الله على السلطان صلاح الدين الأيوبي لأن أحد أمرائه يومئذ مظفرالدين كوكبري، وهو زوج إحدى أخوات صلاح الدين الأيوبي وأمير أربل "أربيل". اعتقل الأمير عزالدين القفجاقي المذكور سنة 587هـ ـ 1191م. وفي ذلك يقول أرشد الموصلي في سيرة صلاح الدين  "ولما كان الثاني من شوال سنة 583هـ  من دمشق كتاب من النواب في طيه كتاب من الديوان العزيز النبوي مجده الله. . يتضمن فصولاً ثلاثة. الأول والفصل الثاني يتضمن الانكار على مظفرالدين في امساك حسن بن قفجاق والأمر بإعادته الى كرخاني أي كركوك زبولغ في الكتاب حتى قيل ان الديوان لم يأذن لغيره سكناها. وكانت قصة حسن بن قفجاق، انه قصد ارمية الى السلطان طغرل فانه كان قد نزل به. لما هرب من ديار العجم واستنصر به وتزوج أخته.. وكانت معقله الكرخاتي.. وقد أطلق عزالدين بن قفجاق انوف معتقليه رواغم.

ثم دخلت "الكرخاني" في مملكة أربل "أربيل" تحت حماية الخليفة الناصر لدين الله وانفصالها عن الدولة الأيوبية وان كانت جميع الدول الاسلامية يومئذ تحت حماية الخليفة السالف الذكر. استهللنا على ذلك بانخراط أعظم أمرائها وهو فلك الدين بن قفجاق التركماني الايواقي الأمير في خدمة الناصر لدين الله وقد ذكره المؤرخ تاج الدين علي بن الساعي في كتابه "الروض الناظر في أخبار الامام الناصر".  قال :

"فلك الدين أبو المظفر بن قفجاق وعبدالله الايوائي التركي الأمير كان من أمراء الناصرية المشهورين بالاقدام والفروسية. وكان جميل الصورة متواضعاً حسن السيرة. ولما توفي الامام الناصر سنة اثنتين وعشرين وستمائة "1225م" كان فلك الدين غازي بك على امارته وكذلك أيام الامام الظاهر وبقي الى أيام الامام المستنصر بالله". 

وفي سنة 628 هـ ـ 1230 في ذي الحجة منها، وصلت طائفة من جيش التتار من المغول الى أربل "أربيل" وأعمالها فقتلوا من رأوا على طريقهم من التركمان الايوائية وغيرهم، ووصلوا الى الكرخين "كركوك" ودقوقا "طاووق" وغيرهما وعادوا موفورين، لم يخرج اليهم أحد كما ذكر ذلك ابن الأثير.

والظاهر أن عزالدين بن الأثير قد تفانى في قوله. ففي حوادث سنة 629هـ ـ 1231 م من التاريخ الذي طبعناه وسميناه " الحوادث الجامعة" (ص27)، أن الأخبار انتشرت في تلك السنة تخبر بورود عساكر المغول الى بلاد أذربيجان ومايقاربها من النواحي حتى شهرزور. فأخرج الخليفة المستنصر بالله العباسي الأموال وجهز العساكر وأرسل يكتب الى سائر الجمع والاحتشاد، وبرز الجيش بقيادة جمال الدين قشتمر الناصري ومعه جماعة من الامراء وساروا قاصدين مظفر الدين كوكبري ملك " أربل" فالتقوا به في موضع قريب من الكرخيني " كركوك"، فأقاموا فيها أياماً. وذلك يدل على أنها كانت من المواضع الحصينة.

وفي سنة 646هـ ـ 1284م كثرت الأمطار وتواترت في الطرق والموصل وتستر من الاحواز وغير ذلك من البلاد وغرقت القرى وانهلت قلعة الكرخيني "كركوك" بالمرة، وتشعثت قلعة أربل على ماذكر في التاريخ الذي أرنا اليه آنفاً (ص29) فإنهدام قلعة كركوك بالمرة يوضح لنا عصر انقطاع الانتفاع بها حيث حصن حصين، ولكن الحوادث تدل على أنها أعيدت عمارتها وانتفع بها في الدفاع عند الحصار بعد ذلك. وفي سنة 1146هـ ـ 1733م أرسل السلطان محمود الثاني جيشا مع الوزير "طوبال عثمان باشا" لمحاربة نادر شاه الايراني. وكان قد توغل في العراق للاستيلاء عليه، فسار عثمان باشا الأعرج المذكور في الجيش الى كركوك وجعلها مقراً لأموره الحربية. والتقى الجيشان التركي والايراني عند وادي العظيم فغلب الجيش التركي ثم عاد عثمان باشا الى كركوك وشتى هناك وأرسل يستدعي الجنود فأول من قدم عليه "قول مصر" وهم رجاله وساروا الى كركوك. وفي سنة 148هـ ـ 1735م قدم نادر شاه العراق ثانية وهجم على كركوك، فخرج لقتاله عثمان باشا وعبدالله باشا الكبرلي ووالي الموصل الحاج حسين باشا ومعهم "قول مصر". ونشبت الحرب بينهما فقتل عثمان باشا وهرب من سلم من الجيش التركي الا المقاتلة المصريين فلم يسلم منهم أحد. فقد قتلوا في الموقعة وفي سنة 1156هـ ـ 1743م. زحف نادر باشا أيضا في جيوشه الى كركوك فهرب منها واليها "حسين جمال أوغلى" وهرب معه جنده الأتراك. ودافع عن كركوك أهلها، فحاصرهم نادر شاه وضرب كركوك بالمدافع ثلاثة أيام فطلب أهلها اليه الأمان فملك القلعة والبلد وقتل منهم من شاء وأسر من شاء، ذكر ذلك كله الشيخ ياسين بن خير الله العمري في "الدر المكنون في المآثر الماضية من القرون" المحفوظة نسخة منه بدار الكتب الوطنية بباريس.

وحوادث كركوك وأخبار ولاتها وحكامها كثيرون في العهد العثماني لا نرى حاجة الى استقصائها وانما ذكر المهم منها ليكون ذلك بمثابة ما يسمونه " الخطوط الرئيسية ". وقد علمنا أن صديقنا السيد شاكر صابر الضابط متوفر على كتابة تاريخ حافل لكركوك ونحن نأمل أن يخرج منه الجزء الأول قريبا ان شاء الله.

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة