العهد الجمهوري

بعض من خفايا تاريخ كركوك

 

ليث الحمداني/ كندا

laith@albilad.net

 

 

 

  

  كركوك الستينات والسبعينات كانت نموذجاً للتعددية الثقافية والقومية والدينية ليس من السهل أن تجد عراقياً يحدثك اليوم (بحيادية) عن الصراعات الإثنية والطائفية في العراق. والحيادية هنا ليست موقفاً بين الاحتلال ورافضيه، وإنما تقييماً للأداء السياسي أو لرواية التاريخ. فالذين يروون التاريخ ويكتبونه اليوم في العراق نوعان من البشر. إما (مؤدلج) يختصر التاريخ بحزبه أو طائفته أو دينه أو قوميته، وإما (متأثر) والمال ما زال كما كان في كل العصور يلعب الدور الأكبر في هذا التأثير. وحين نتحدث عن كركوك المدينة بتجرد اليوم فإننا نواجه على الاغلب نوعين من المتحدثين أيضا. الأول يريد (تكريدها) والثاني ( ينفي محاولة تعريبها) وبالتأكيد فان هناك استثناءات يظل صوتها خافتا.

جملة ملاحظات حملتها معي من رحلتي الاخيرة الى العاصمة الاردنية دونت فيها انطباعات لعراقي سبعيني التقيته لأول مرة في جلسة عائلية ووجدت في ذهنه الحي الكثير من تاريخ كركوك المدينة والناس. وكانت ميزته التحدث بحيادية جعلتني بعد أن تكررت لقاءاتنا أتشوق لمعرفة انتمائه القومي، ليس انحيازاً للتوجهات التي تضمنها حديثه وإنما لأتفحص رواياته. ورغم ذلك أصر على أن يؤكد بأنه عراقي من كركوك ليس تركمانياً ولاكردياً ولاعربياً ولاآشورياً .

أعادني الرجل الذي رفض رفضاً قاطعاً أن يضع نفسه في دائرة الضوء إلى المشهد الحياتي اليومي في كركوك الستينات والسبعينات. بدأ حديثه قائلاً: أكثر ما يثير استغرابي وحزني اليوم أن أسمع من هذا الطرف أو ذاك حديثاً عن (تطبيع الأوضاع في كركوك). وكأن الصراع كان أزلياً في المدينة بين أطيافها. سوف أعود بكم إلى المشهد الاجتماعي والسياسي والديمغرافي للمدينة عشية وصول حزب البعث إلى السلطة في عام 1968.

كيف كان التكوين القومي للمدينة؟

قال محدثي :

كان الطابع العام لمركز كركوك (تركمانيا) لأن الاكثرية فيه للتركمان، ويؤكد هذا إحصاء 1957 وأنا هنا لا أنحاز لأية جهة. يأتي بعدهم الأكراد ثم العرب. وكان التجانس بين الجميع لا حدود له.. العرب تداخلوا مع التركمان والأكراد وتصاهروا وتزاوجوا واختلطت الأسر ببعضها حتى أن هناك عوائل عديدة معروفة في المدينة تاريخياً. أذكر منها آل النعيمي وآل التكريتي، كانوا يتكلمون التركمانية بطلاقة حتى داخل بيوتهم. وهناك من الجبور والعبيد من يتكلمها ويتكلم الكردية أيضا. والأكراد والتركمان يتكلمون العربية. كانت المدينة نموذجاً لتعايش الثقافات منذ الخمسينات. كنت تقرأ فيها أدباً وشعراً عربياً كما تقرأ فيها الثقافة الكردية والتركمانية، كانت جريدة (آفاق) التي أصدرها آل الهرمزي (شاكر وشقيقه) تصدر بالعربية والتركمانية فيما كانت مجلة (الشفق) التي أصدرها آل خانقاه (عبدالصمد وشقيقه) تصدر باللغتين العربية والكردية أذكر أن رئيس بلدية المدينة (المركز) مظهر التكريتي، وكان ابن عم حماد شهاب الذي أصبح وزيرا للدفاع بعد مجيء البعث للسلطة. كان يتكلم التركمانية كما يتكلمها أبناؤها، ولم يكن للانتماء الحزبي أو القومي أي تأثيرعلى العلاقات الاجتماعية المتينة بين المكونات الثقافية.

يضيف محدثي : يمكن أن نقول إن أحداث كركوك التي اتخذت طابعاً سياسياً في نهاية الخمسينات في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم هي أول شرارة في عمليات الصراع القومي. وذهب ضحيتها تركمان أبرياء. ولفهم هذه القضية لا بد من العودة إلى دور شركة نفط العراق في زرع بذور الصراع القومي بين مكونات المدينة، ولكن هذا ظل محدوداً. الشركات سعت يومها لكسب بعض القوميين التركمان، وقدمتهم وظيفياً على أقرانهم من العرب والأكراد في المدينة في محاولة منها لتحويل الصراع من (صراع بينها وبين العمال) إلى (صراع قومي وإثني)، فقد كان العمال الأكراد والعرب من أوائل من انتمى للحركات السياسية اليسارية (الشيوعيين) تحديداً والقومية (في أوساط العرب والاكراد) وخلق هذا اتجاهاً لدى شركة النفط  لشراء البعض لجانبها ومن جميع مكونات المجتمع الكركوكلي... ولكنها ركزت على التركمان لأنهم الاغلبية، أحداث كركوك، رغم أنها اتخذت طابعا سياسياً في إعلام ذلك الزمان إلا أنها في حقيقتها كانت (تفجيراً) لذلك الصراع. وقد لعب الشيخ رضا الكولاني مدير شرطة كركوك، وكان من محازبي الملا مصطفى البرزاني دوراً في التحريض على التركمان. وتضامن معه الشيوعيون الاكراد وانعكست ممارساته على الشيوعيين من مختلف القوميات فيما بعد، نشيرهنا أيضاً إلى أن بذور التعصب القومي التركماني بدأت تظهر(رغم محدوديتها) إثر اتفاقية بين جهات تركمانية والمركز في بغداد ممثلاً بصالح مهدي عماش وزير الداخلية لتأسيس مركز ثقافي تركماني بدأ يشيع استخدام الحروف اللاتينية في الكتابة، وأحيانا يرفع العلم التركي على بناية المركز مما جعل الأطراف الأخرى، الأكراد والعرب يشكلون استقطابات على أسس قومية، لكنها كما ذكرت (ظلت محدودة) بحكم التداخل الأسري والشعبي بين مكونات المجتمع الكركوكي. ومما أذكره هنا أن العرب في الأطراف ذهبوا إلى المحافظ وطالبوه بمعالجة قضية التعليم باللغة العربية، فقد سمح المركز يومها بفتح مدارس (تركمانية) ومدارس (كردية). وأذكر أيضا أن بعض العرب، وهم من سكان المدينة وليسوا دخلاء عليها كانوا يرفعون شعاراً عربياً هو(لماذا لا تسمح تركيا) بمدارس عربية في لواء الإسكندرون!! ولماذا نحن ندرّس أبناءنا التركية؟ كان المحافظ يومها شكري الحديثي، وهو قيادي بعثي نظم مقابلة لوجوه التركمان وفاجأهم بسؤال صريح وواضح: بأية لغة سيدرس أبناؤكم في الجامعة ببغداد؟ يجب أن تعملوا على أن تعززوا دور العربية لأنها الضمانة لمستقبل أولادكم.. وقام بعدها بتقليص المدارس التركمانية رغم أنه جوبه بهجوم من الصحافة التركمانية التي كالت له التهم.. ورغم ذلك فقد حظي ذلك البعثي العربي بإجماع الأغلبية في المدينة كمحافظ ، لأنه تمكن من المساواة بين الجميع في الفرص.. وفي العديد من القرارات التي اتخذها... كان الرجل متأثراً جداً بطروحات عزيز شريف الماركسي واليساري المعروف حول أهمية إبقاء كركوك مدينة للتعدد الثقافي والقومي وإبعادها عن الصراعات السياسية. والاثنان ينحدران من غرب العراق (عنه) و(حديثة).

 

أحمد حسن البكر

 

عزيز شريف اليساري العربي الذي عرفته من قرب(يقول محدثي) كان يؤكد أن الهدف هو إنجاح بيان آذار ولم يكن هناك أي اتجاه لإخراج أحد من كركوك أياً كانت قوميته. تلك المرحلة اتسمت بوجود مسؤولين بعثيين عرباً كانوا يغلبون شعار(المحافظة على الوطن) بمواجهة شعار آخر في بغداد كان يحمله دعاة (المحافظة على الحزب ونظامه) فيغلبون الهاجس الأمني على الحلول السياسية. ووجود هؤلاء المحافظين، غانم عبد الجليل في كركوك وخالد عبد الحليم في أربيل وشكري صبري الحديثي في السليمانية ساهم في تحقيق الكثير من المنجزات بالتعامل العقلاني والسياسي وكسب ثقة الأكراد والأطراف الأخرى(1) وساعد وجود مرتضى الحديثي على رأس لجنة السلام هؤلاء المحافظين على تحقيق ذلك لأنه كان مع عبد الخالق السامرائي من أكثر البعثيين تفهماً للحقوق الكردية المشروعة (2). وتمكنوا من إيجاد علاقات متميزة مع الأكراد وهذا لا ينفي وجود تيارات داخل القيادة القومية الكردية تسعى للتصعيد محكومة بعلاقات خارجية لا تريد للعراق الاستقرار ويمكن أن نقول إن من يمثلها في ذلك الوقت كان سامي عبد الرحمن. فقد كان رجلاً ذو علاقات متشابكة مع الخارج وله تاثيره على الملا مصطفى في السبعينات يضيف محدثي : لم يكن البعثيون، وفي ظل وجود محافظيهم المذكورين، يخشون من أية عملية للإحصاء السكاني في المدينة وكان بامكانهم اجراءها لوأرادوا لأنهم كانوا يعلمون جيداً بأن الأكراد ليسوا أغلبية في كركوك، وهؤلاء كانوا يعرفون ذلك أيضاً. وفي لجنة السلام تم الاتفاق أن يكون المحافظ عربياً ونائبه كردياً وقائمقام المركز تركماني ورئيس البلدية تركماني. وكان اختيار المحافظ عربياً ليس لأن العرب أكثرية وإنما لإبعاد الحساسيات عن هذا الموقع بين الأكراد والتركمان. ويجب ألا ننسى أيضا أن (الفرقة الثانية) من الجيش العراقي التي كانت ترابط في مدينة كركوك كانت محوراً أساسياً في سياسة المدينة. كانت الدولة المركزية تسعى لاختيار قائد متميز لهذه الفرقة وتهتم حتى بأنشطتها الجانبية، وعلى سبيل المثال كانت تقدم دعماً كبيراً لفريقها الرياضي وتدعم أنشطتها الأخرى. وبالتأكيد فإن وجود (الفرقة المتميزة) في المدينة أيضا كان بدافع (الهاجس الأمني) لكنه لم يكن ظاهراً. أما السبب فقربها من مناطق الأكراد. الفرقة نفسها كانت تعطيك نموذجا للموزاييك (الكركوكلي) فهي فرقة مختلطة كان فيها التركماني والكردي والعربي ولا أحد يتعامل على أساس العرق أوالقومية. وأذكر أنَّ من عاصرتهم كانوا من أبرز قادة تلك الفرقة كان ناظم الطبقجلي وإسماعيل تايه النعيمي ومحمد علي سعيد وفيصل الأنصاري وعبد الجبار الأسدي وكلهم ضباط متميزون. وكانت الفرقة تعتبر نفسها هي (الأول) بحكم عقلية العسكر وأن المحافظة أو (المحافظ) هو (الثاني). وكان قادتها تاريخياً يتدخلون في شؤون المحافظة إذا كان المحافظ ضعيفاً. ووصل الأمر في بعض المراحل إلى حد أن الموظف الباحث عن ترقية وظيفية في المركز أو النواحي والأقضية يلجأ لقائد الفرقة. هذا التداخل الإداري حدده أو(أنهاه) تقريباً غانم عبد الجليل ومن بعده شكري الحديثي وحجموا دور العسكر في حياة المحافظة اليومية. وبالتأكيد فإن بعض إولئك القادة لم يكونوا مرتاحين لهذا. الأهم في تلك المرحلة أنك لا يمكن أن تلمس حساسيات بين القوميات تصل إلى حد الاصطدام. وما زال سكان كركوك الأوائل من التركمان والعرب (من ما زال منهم على قيد الحياة) يتحدثون بفخر عن أفضل متصرف(3) في العهد الملكي وهو سعيد قزاز الكردي الأصل الذي عمل متصرفاً لدورتين، وعمل أيضاً متصرفاً في الموصل ذات الأغلبية العربية ويذكره معاصروه بالخير لأنه حقق الكثير للمحافظتين. وهناك عمر علي التركماني الذي يذكره سكان السليمانية الكردية كواحد من أفضل متصرفي (محافظي) المدينة أيضا. وهناك العربي العروبي عبد المطلب الأمين الذي يذكره أهل السليمانية بأنه واحد من أفضل (المتصرفين) في تاريخ المدينة. في مراحل العهد الملكي والجمهورية الأولى (عبد الكريم قاسم) والثالثة (عبد الرحمن عارف) كان اختيار الموظفين القياديين يتم على أساس الكفاءة وليس الانتماء الحزبي، ولم يكن هناك أية توجهات قومية أوعرقية تدفع للاختيار. يمكن أن نقول إن هناك نزعات قومية حصلت أيام عبد السلام عارف ولكنها ظلت محدودة وأسيرة في دوائر القرار العليا في المحافظة، في السبعينات مثلا كان رئيس المحاكم في كركوك نور الدين بهاء الدين كردياً، وكان شخصية محترمة من الجميع، وكان مدير الطابو كردياً ومدير الأشغال فائز الطالباني كردياً وكذلك الحال في دوائر الزراعة والغابات وضريبة الدخل والمصرف الزراعي ولم يسجل أي اعتراض على أشخاصهم من الأغلبية التركمانية بل إن قسماً منهم لم يكن أحد من أبناء المدينة يعرف أصولهم العرقية لأن الإدارات كانت تدار على أساس احترام القانون. كانت الأقضية والنواحي متداخلة. قضاء الحويجة كانت أغلبيته من العرب. جاءوا في الأربعينات وهم عموماً من عشائر العبيد والجبور والنعيم، وكذلك الحال في ناحية الرياض والدبس. قضاء كفري كان مختلطاً وأكثريته من الأكراد من عشائر الجاف والطالباني وكان قائمقامه تركمانياً هو عصام طلعت. (طوز خرماتو) مختلط من أكراد وتركمان. (قره تبه) عرب وأكراد وتركمان. (كلار) أكراد. (بيباز) أكراد. (سليمان بك) عرب. (أمرلي) تركمان. (داقوق) مختلطة ذات أكثرية كردية. (تازه خورماتو) تركمان. (التون كوبري) تركمان مع أقلية كردية. (شوان) مختلطة ذات أغلبية كردية. (قره حسن) أكراد وعرب. (جمجمال) أكراد. (سنغاو) أكراد. (أغالجر) أكراد. (قادر كرم) أكراد.

بعد إبعاد عبدالخالق السامرائي عن الملف والمجموعة التي عملت معه مرتضى الحديثي (سفيراً في روسيا)، شكري الحديثي (سفيراً في أندونيسيا)، غانم عبد الجليل (مديراً لمكتب النائب صدام حسين) انتهت مرحلة اعتماد الكفاءة في التعيين الوظيفي وبدأت مرحلة الولاء. أصبحت الحلول كلها بيد مجموعة (الهاجس الأمني)(5) . وفيما بعد تم ربط (الطوز) ونواحيها و (سليمان بك) و (أمرلي) بتكريت، و(كفري) ونواحيه بتكريت. و(كلار) ونواحيها بديالى. وفي ظل هذه الأوضاع بدأت سياسة التعريب وإبعاد الأكراد عن المدينة. الذين جلبوا العرب من المناطق الجنوبية إلى كركوك ولم تكن دوافعهم أيديولوجية، جاء أغلبهم بدافع الفقر وللحصول على فرصة سكن. وللأسف في تلك المرحلة انهزم تماماً (العقل السياسي) وحل بدلاً منه (العقل الأمني)(4) واعتمد في إدارة المحافظة على ذوي الولاء وبدأت سياسة التبعيث تأخذ مداها في كركوك والمحافظات الكردية، وكان ذلك امتداد لما جرى في جميع المحافظات العراقية. ودفع شعبنا العراقي ثمناً قاسياً لتلك السياسات الخاطئة.

يختتم محدثي: الحل كما أراه يبدأ بإعادة الوحدات الإدارية إلى ارتباطاتها الطبيعية الأولى واعادة المهجرين (الحقيقيين) من أكراد كركوك والعودة الى إدارة المحافظة توافقياً وعلى أساس الكفاءة.

ويضيف: لقد استثمر الأكراد وجودهم على الأرض وقوتهم في ظل حكومة الاحتلال وهيمنتهم على السفارات في العديد من الدول الأوروبية في تجنيس آلاف الأكراد من دول الجوار ومنحهم أوراق ثبوتية مزورة تؤكد أنهم من سكنة كركوك ونقل سجلاتهم المدنية إلى مدينة كركوك مكررين الممارسة التي نفذتها (دولة الهاجس الأمني) بشكل أوسع وأكثر خطورة وهذه حقائق يمكن أن تكشفها أية جهة حيادية دولية. إن المحافظة على تعددية كركوك الثقافية والقومية والدينية يجب أن تكون هي الهدف وعلى القيادات القومية الكردية أن تدرك أن حلول (الهاجس الأمني) التي لم تنجح في عهد قوي كعهد صدام حسين، لا يمكن أن تتحول إلى حلول ناجحة ودائمة في دولة (الهاجس العرقي)، وفي ظل نظام هش كالنظام العراقي اليوم، حيث تتحكم به قوى الاحتلال والتداخلات الإقليمية. على الأحزاب الكردية القومية أن تعيد الحل إلى أيدي سكان كركوك الأصليين من التركمان والأكراد والعرب وهم سينجزون الحل الذي يعيد التعايش الذي استمر منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى سقوطها على يد الاحتلال.

 

 

ملاحظات

(1) في بداية التسعينات أطلعني الأستاذ شكري الحديثي على بعض مسودات مذكراته، ومن خلال قراءتي لها أذكر جيدا أنني لاحظت أن ثقة الملا مصطفى البرازاني به قد بلغت حد أنه يخاطبه في مراسلاته الشخصية بلقب (بياو) أي (الرجل)، وأنه أهداه بندقيته الشخصية (البرنو) التي كان البرزاني يفاخر بها كتعبير عن رغبته بالسلام. ويؤكد الرجل في مذكراته المخطوطة أن الملا مصطفى البرازاني كان في الفترة التي سبقت محاولة اغتياله قد توصل الى قناعة بالحلول ضمن الإطار العراقي وبعيدا عن التدخلات الإقليمية.

(2) كان مرتضى سعيد عبد الباقي من أشد المتأثرين بطروحات زميله عبد الخالق السامرائي فيما يتعلق بالقضية الكردية في قيادات البعث. وشكل مع غانم عبد الجليل وشكري الحديثي وخالد عبد الحليم مجموعة عمل متكاملة سعت للحل السياسي، وهذا تلمسه في أحاديث أغلب من عاش تلك المرحلة من العرب والاكراد والتركمان والاشوريين.

(3) كانوا يسمون المحافظ (متصرفا) في العهد الملكي والعهد الجمهوري الأول .

(4) في مذكراته المخطوطة يذكر شكري الحديثي الذي أصبح محافظاً لكركوك والسليمانية أن الرئيس الراحل أحمد حسن البكر طلب منه إبان عمله في السليمانية أن يحضر اجتماعاً لمجلس قيادة الثورة في إحدى المراحل التي تأزمت فيها العلاقة مع الأكراد. يقول بأنه قال أمام أعضاء المجلس يومها (أبعدوا ناظم كزار) وحلوله الأمنية وأنا أتكفل بجعل الملا مصطفى يبعد كل الساعين لتخريب اتفاقيات السلام من الطرف الآخر من المرتبطين بالجهات الخارجية التي لاتريد للعراق الاستقرار . ويذكر بأن صدام حسين قال لحشد من البعثيين بعد أن تعاظم الدور الأمني وجرت محاولة ناظم كزار (لقد نبهنا الاستاذ شكري مبكراً) إلى مخاطر ناظم كزار وحلوله الأمنية. وفي أوراقه يذكر الحديثي أيضا أن صدام حسين كان أول من وقف في المؤتمر العام للحزب الذي أشرف على إدارته محسن الشيخ راضي وهاني الفكيكي عام 1963 في قاعة الخلد لينتقد قيادة الحزب التي تركت (الدولة) دولة 8 شباط  وتحولت إلى جهاز أمني يلاحق الآخرين. والغريب أن صدام حسين وبعد أن تصدر النظام أطلق العنان (لدولة الهاجس الأمني) التي ابتلعت كل الحلول السياسية وانعكس دورها حتى على أوضاع الحزب الداخلية وغطت بممارساتها على منجزات اقتصادية وتنموية كبيرة حققها البعث خلال فترة حكمه للعراق ودمرها الاحتلال الامريكي وأعوانه خلال السنوات العجاف التي تلت الاحتلال .

(5) في أحدى زياراتي المتكررة للسليمانية في الثمانينات برفقة المرحوم طارق حمد العبد الله، وكان وزيراً للصناعات الخفيفة التي كنت مديراً لاعلامها، أقامت المحافظة عشاء للوزير في الفندق الذي نقيم فيه. وخلال العشاء جرت أحاديث عن عودة جلال الطالباني وعدد من مقاتليه إلى منطقة (قره جولان) وكان المسؤول الحزبي يومها الدكتور نجم العراقي الذي قال للوزير خلال الجلسة إن الحل الوحيد للمشكلة هو أن يأمر الرئيس طيران الجيش لإحراق القرى المحيطة بالمنطقة لكي يخاف القرويون ويتجنبون مساعدة (العصاة)... لاحظ الفرق في طريقة التفكير بين العقل الحزبي البعثي التاريخي ممثلا بقيادات مثل عبد الخالق السامرائي ومرتضى الحديثي وشكري الحديثي وخالد عبدالحليم والآخرين وبين الحل الأمني ممثلا بعقلية حزبي (الهاجس الأمني) الذين حذر منهم صدام حسين في الستينات وابتلعوا سلطته فيما بعد .

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة