جماعة كركوك

تاريخ مدينة وعصر

لطفي حداد/كاتب سوري
lhadadrc@yahoo.com


 

إن إنتاج جماعة كركوك الآتية من تلك المدينة العراقية الصغيرة نسبيًا، أهم وأوفر وأعمق أثرًا من جميع كتابات الشمال الأفريقي العربي المهاجر إلى الغرب مع احترامي وتقديري لكل هؤلاء الكتاب.
قد تبدو هذه الجملة قاسية بحق الأدباء المهجريين من شمال أفريقيا.. لكنهم يعرفون ويفهمون ويقدرون ما أعني.. كما أن كثيرًا من الكتاب الجيدين من الشمال الأفريقي، المقيمين في أوربا يكتبون بلغات غير عربية، لذلك فإن هذه الفكرة ليست مقارنة عادلة وإنما لتأكيد الدور المهم للأدب العراقي في أدب المهجر العربي المعاصر.

                                                                        

         جليل القيسي                                         فاضل العزاوي                مؤيد الراوي                                 سركون بولص

               

       جان دمو                            أنور الغساني

 

تشمل هذه الجماعة بشكل أساسي: جليل القيسي (وهو الوحيد الذي لم يغادر مدينته إلى المهجر)، جان دمو (المتوفي في عام2003)، مؤيد الراوي، فاضل العزاوي، سركون بولص، أنور الغساني، قحطان الهرمزي (انفصل عن الجماعة عام1958).
وهناك أعضاء آخرون في الحلقة الأوسع وهم:يوسف الحيدري، الأب يوسف سعيد، عبد اللطيف بندر أوغلو، زهدي الداوودي، محيي الدين زه نكنه، علي شكر السباتي، علي حسين السعيدي، نور الدين الصالحي، صلاح فائق، نجيب المانع، عصمت الهرمزي، حسين علي الهورماني .
عندما شعر هؤلاء الشبان في الستينات بأهمية الأدب في الحياة الثقافية، التقوا مصادفة وأصبحوا أصدقاء.لم يقدموا أنفسهم كجماعة أدبية بل إن الصحافة البغدادية أطلقت هذا الاسم عليهم.أتى معظم الأعظاء من الطبقة الوسطى أو الفقيرة أو العائلات العاملة. ولهم أصول إثنية ودينية مختلفة ومتنوعة فكانوا من العرب والتركمان والكرد والسريان أو الأشوريين والأرمن. يمثل هؤلاء الكتاب غنى التعددية الثقافية العراقية ، وبعد هجرتهم إلى أوربا خاصة واختلاطهم بالثقافات الأخرى ، أنتجوا أدبًا راقيًا ورائعًا ومعبرًا عن الروح العراقية الحضارية العريقة.
في البدايات، عندما كان معظم أبناء هذه الجماعة في المرحلة الثانوية من المدرسة أي شبانًا يافعين، كانوا يجتمعون في البيوت والمقاهي والحدائق ويتناقشون حول أمور الأدب، وكتاباتهم، ووجهات النظر المختلفة. وشيئًا فشيئًا بدأت النزعة التجددية والثورية على الواقع الأدبي وربما السياسي تتكون. ورغم أن معظم أبناء الجماعة كانوا من اليساريين وشاركوا في الأحزاب اليسارية إلا أن معظمهم يشعر أن الواقعية الاشتراكية تحدّد حريتهم الإبداعية.. وبشكل خفي لكنه واضح تسللت السريالية الأدبية والحياة السريالية إلى هؤلاء الأدباء، ورغم خفوتها مع الزمن إلا أنها ما تزال أساسية عند بعض الأدباء (كالحياة السريالية العبثية لصلاح فائق). إن تسلل العبثية والسريالية قد يكون نتيجة الصعوبات السياسية التي شهدوها بأنفسهم أو عاينوها في أصدقائهم. وكذلك حياة المنافي القاسية ، والعزلة الثقافية أمام الديكتاتورية المنفردة بالساحة الاجتماعية والسياسية.
لكن تبقى هذه الجماعة رغم التشتت والنفي مثالاً للصداقة الأدبية والإبداع الحر والثقافة المنفتحة.   لقد شكلت تيّارًا ثقافيًا وشعريًا يندفع بالإنسان إلى الأمام منذ بدايتها عام 1955 وحتى الآن.
وإن معايشة أعضائها للثورة العراقية في تموز 1958 ثم انقلاب 1963 واعتقالات الشيوعية وخيبة حزيران ، والتقلبات السياسية العالمية (كثورات الكفاح المسلح على يد غيفارا وتجديد الحركة الشيوعية الأدبية ، وربيع براغ ومحاولة منح الأفكار الاشتراكية بعدًا عالميًا ديمقراطيًا جديدًا) ، بالإضافة إلى معايشة الثقافات الأخرى والحضارات المتنوعة في المنافي ..كل ذلك أنضج الوعي الثقافي والحضاري لهؤلاء الأدباء فصاروا أمثلة كاملة النضج للأديب العربي المنفي.
إن التعددية الثقافية والتنوع الديني داخل الجماعة قد أعطياها بعدًا قوميًا يستبدل التكتل الطائفي بجمالية الانفتاح الثقافي والإبداع الأدبي الحر والمتجدد.                                                  (الأب يوسف سعيد) جعل من كنيسته مكانًا لاجتماع الجماعة والنقاش حول الأدب العربي والعالمي وهو يقول عن أصدقائه:أغرب ظاهرة في هؤلاء أنهم كرّسوا حياتهم تمامًا للثقافة والشعر، يعيشون بزهد، بلا طموحات مادية أو وظيفية، وبقوا هكذا حتى الآن. ما يدهش هو أن هؤلاء جميعًا، حين التقيت بهم، كانوا في قلب الثقافة العالمية، يبحثون عن الجديد. واحدهم يحمل اكتشافه إلى الآخرين دون أن يفصلهم أي انتماء ديني أو قومي أو سياسي.                                                 بالتأكيد إن تحول كركوك إلى إحدى «مدن الملح» نتيجة اكتشاف النفط فيها، وهجرة أدبائها إلى المنافي لم ينقص من حنينهم إليها بل إننا نسمع الأب يوسف سعيد يقول:                            «ليتنا نلتقي ونحجّ كل عام إلى تلك المدينة الجميلة ونعقد جلساتنا في باحة تلك الكنيسة أو في بيت أحدنا». ربما آن الأوان لمن بقي حيًا من أبناء هذه الجماعة لأن يحجّ إليها!!

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة