نفط وسياسة

نفط كركوك وأثره في سياسة الدولة

العراقية (1921- 1958)

 

هيثم نعمة رحيم العزاوي

أكاديمي من العراق

 

 

يشكل النفط احدى المرتكزات الاساسية لنهضة العراق المعاصرة, وقد ناضل الشعب العراقي من اجل استعادة ثرواته المنهوبة وانتزاعها من ايدي الشركات الاجنبية, اذ تأسست عدة شركات لاستغلال النفط منذ بداية ظهوره وأكتشافه في الاراضي العراقية, اذ كانت أول محاولة لتطويره على أسس حديثة في عهد الوالي مدحت باشا(1869م) بمساعدة خبراء ألمان,اذ أنشأ مصفاة في بعقوبة لتصفية النفط المستخرج من مندلي, وجرت محاولة أخرى لتطويره في القيارة أواخر القرن التاسع عشر, وبُذلت محاولات لزيادة انتاج نفط طوزخرماتو وبابا كركر في كركوك.

وبحكم العلاقات العثمانية الالمانية المتطورة, فقد سعى الالمان بدعم من حكومتهم لتطوير حقول النفط وخاصة حقول نفط كركوك من خلال مد سكك حديد. اذ كان عام 1903 بداية لشركة سكة حديد الاناضول, وهي مؤسسة المانية تعمل لحساب البنك الالماني لمد سكة حديد(قونية – بغداد - البصرة), مع حق استخدام واستغلال جميع المعادن التي تكتشف على جانبي السكة لمسافة عشرين كيلومترا, اذ اعتبرت بريطانيا هذا المشروع تهديداً لمصالحها في العراق والخليج العربي, فارسلت مبعوثين الى الاستانة لمفاوضة السلطات العثمانية والعمل على عرقلة نشاط الالمان بدعم من الحكومةالبريطانية, لكن الانقلاب الذي حدث في عام 1908 حال دون الوصول الى اتفاق معين, والى جانب الالمان والبريطانيين كانت الحكومة الامريكية في ذلك الوقت تساوم الدولة العثمانية حول امتياز نفط عراقي, اذ حصل الادميرال(جستر) عام 1909 على امتياز بناء ميناء وسكة حديد في الاناضول يمتد منها فرع الى السليمانية عبر الموصل وكركوك مع حق التنقيب عن المعادن لمسافة عشرين كيلومتراً على جانبي السكة, غير ان البرلمان العثماني أجّلَ النظر في لائحة الامتياز بسبب معارضة السفارتين الالمانية والبريطانية.

وبعد هذا النزاع الدبلوماسي بين الالمان والبريطانيين والامريكان في ذلك الوقت اوجدت المصالح البريطانية والالمانية بالاتفاق على تأسيس(شركة الامتيازات الافريقية والشرقية المحدودة) برأسمال قدره خمسون الف باون لاحتكار النفط في جميع الاراضي العثمانية وبعدها بعام تحولت بأسم (شركة النفط التركية) وزيد رأسمالها الى ثمانين ألف باون, وبضغط من الحكومة البريطانية أعيد تنظيم الشركة في 19 آذار1914 وتم ادخال مجموعة دارسي (شركة النفط الانكليزية - الفارسية) وشركة (الانكلو ساكسون) فيها.

وبعد قيام الحرب العالمية الاولى وضعت بريطانيا يدها على حصة الالمان في الشركة وبدأت المفاوضات السرية بينها وبين فرنسا لاقتسام البلاد العربية في اتفاقية (سايكس- بيكو 1916) واحتفظت فرنسا لنفسها بالسيادة على ولاية الموصل, لكن بريطانيا كانت تدرك اهمية هذه المنطقة إذ قامت بالاتفاق مع الفرنسيين في ضم هذه الولاية وما يحيطها من أراضي ومدن ومنها كركوك الى نفوذها مقابل اعطاء الفرنسيين حصة من نفطها وذلك بتوقيع معاهدة سان ريمو للنفط في 25 نيسان 1920.

بعد قيام الحكم الملكي عام 1921 اصبحت مسألة الحصول على امتياز نفط العراق في مقدمة أهداف الدول الاستعمارية وقامت شركة النفط التركية بطلب الى الحكومة العراقية الجديدة بالاعتراف بشرعية الوعد الممنوح لها من قبل الدولة العثمانية باعتبارها وارثة تلك الدولة، ورفضت الحكومة العراقية الاعتراف بالوعد العثماني حيث ابدت استعدادها لمناقشة شروط امتياز جديدة, ورافق تلك المفاوضات والمناقشات ظهور مشكلة (الموصل) ومطالبة تركيا بضم هذه الولاية اليها وإحالة الموضوع الى عصبة الامم المتحدة, فاستغلت الشركات المساهمة في الشركة وحكوماتها هذه المشكلة للضغط على حكومة العراق وإجباره على منح الامتياز بالشروط التي تريدها الشركة بما فيها ذلك التخلي عن حقه بالاسهام فيها, وتم توقيع اتفاقية الامتياز في 14 آذار 1925 بشروط مجحفة جداً رغم استقالة كل من رشيد عالي الكيلاني وزير الداخلية ومحمد رضا الشبيبي وزير المعارف احتجاجاً على تنازل الحكومة العراقية عن حقها في الاسهام.

باشرت الشركة بإجراء تحرياتها حتى تم العثور على النفط بكميات تجارية كبيرة في حقول كركوك في 14 تشرين الثاني 1927, حين تفجر بئر بابا كركر خلال عملية الحفر وتدفق النفط منه بمعدل(50-100) ألف برميل في اليوم وأغرق مساحات واسعة, غير ان الشركة لم تباشر بتصدير النفط منه لأسباب عديدة منها:

1-  ان الاتفاقية لم تعد تطمئن الشركة لأن المساحة المخصصة لها 192 ميلاً مربعاً لاتكفي لتغطية حقول كركوك الواسعة وحدها أو هناك احتمال كبيربوجود حقول اخرى في كركوك مشابهة في منطقة الامتياز، وأن التنازل عن بقية الأراضي المشمولة بالأمتيازقد يوقع تلك الحقول في أيدي الشركات الاخرى وبخاصة الامريكية منها, فأخذت الشركة تماطل في اختيار المساحة المخصصة لها وسعت بدعم من بريطانيا لألغاء سياسة الباب المفتوح ونظام القطع.

2-  الخلاف الذي نشب بين البريطانيين والفرنسيين بعد اكتشاف النفط حول الطريق الذي يجب أن تسلكه أنابيب النفط والسكك الحديد المقترح مدها من كركوك الى البحر المتوسط، فقد أرادت بريطانيا أن يمتد الخط عبر منطقة نفوذها في شرقي ألأردن وفلسطين الى حيفا، لكن فرنسا تمسكت بوجوب مدها عن منطقة نفوذها في سوريا ولبنان إلى طرابلس وطبقاً لأتفاقية سان ريمو، وكانت حجج الفرنسيين أقوى إذ أن الطريق إلى طرابلس أقصر من طريق حيفا وأقل كلفة، وهذه من العوامل القوية التي دفعت بريطانيا لأنهاء ألأنتداب على العراق ومنحه ألأستقلال الشكلي، وبالتالي يجبر فرنسا على مجاراتها وتنهي أنتدابها على سوريا تمهيداً لأتحادها مع العراق بزعامة الملك فيصل وبذلك تضمن بريطانيا سيطرتها على منافذ النفط العراقي .

أما الشركة فقد وجدت في قضية ألأستقلال فرصة مناسبة للسيطرة على النفط في العراق فبادرت في الثامن من حزيران 1929 إلى تعديل اتفاقية 1925 وشرعت بمفاوضة الحكومة العراقية في 24 آذار 1931 بصورة تلغي نظام القطع والمنافسة (الباب المفتوح)، وتعهدت بمد أنابيب لنقل النفط من كركوك الى البحر المتوسط على شكل خطين بقطر كل منهما (12 أنج) إرضاءً للحكومتين البريطانية والفرنسية ألأول يتجه إلى حيفا عبر شرقي ألأردن وفلسطين وطوله 620 ميلاً والثاني يتجه إلى طرابلس ويمر بسوريا ولبنان وطوله 532 ميلاً وسعة كل منهما مليونا سنوياً من النفط، إذ بلغت كلفتهما عشرة ملايين باون وتم تصدير أول شحنة من النفط العراقي من كركوك إلى ألأسواق العالمية عام 1934 .

وفي عام 1946 شرعت الشركة بمد خطين موازيين للخطين السابقين بقطر 16 أنج، إذ أوشك الخط ألأول على ألأنتهاء عند قيام الحرب بين العرب وأسرائيل عام 1948، فتوقف العمل فيه، كما توقف ضخ النفط إلى حيفا في 17 نيسان 1948، أما الثاني المتجه إلى طرابلس عبر سوريا فقد تم انجازه عام 1949 وبلغت كلفة الخطين أربعين مليون باون وبطاقة أربعة ملايين طن لكل منهما، وفي عام 1952 تم مد خطاً ثالثاً من كركوك الى ميناء بانياس على البحر المتوسط قطره 20 – 32 أنج وبطول 56 ميلاً وسعة 14 مليون طن سنوياً .

وبعد سيطرة شركة نفط العراق وفروعها على جميع حقول النفط العراقية ومنها حقول كركوك أخذت على تأجيل استثمار النفط العراقي أطول مدة ممكنة لأن كل شركة من الشركات المساهمة فيها (بأستثناء) الفرنسية تمتلك حقولاً خاصة بها في أنحاء العالم وتفضل استثماره على النفط العراقي الذي تملكه بصورة مشتركة فسَََعَت لتأجيل إستثمار نفط الموصل والبصرة مستغلة ظروف الحرب العالمية الثانية وحاجة الحكومة العراقية للأموال فوقعت معها إتفاقاً في 25 آيار 1939، منحت بموجبه شركة نفط الموصل والبصرة تأجيلاً غير محدد بالحفر وتصدير النفط مقابل قرض مقداره مليون ونصف مليون باون، وعملت على تجميد معدلات أنتاج نفط كركوك فحتى عام 1950 لم تزد الكميات المنتجة عن (5/6) مليون طن من حقول كركوك، في حين وصل أنتاج ايران إلى (75/31) مليون طن وفي السعودية 26 مليون طن والكويت 17 مليون طن، علماً بأن ألأنتاج في السعودية والكويت بدأ متأخراً ولم تشمل امتيازات الشركات لكل أراضيها، كما هي الحال في العراق .

وفي ذلك الوقت برزت الحركة الوطنية في العراق كحركة مؤثرة ونما الوعي النفطي بين القوى السياسية ألتي جعلت موضوع تصفية شركات النفط وتحرير العراق من سيطرتها أول أهداف هذه الحركات، إذ أولت الصحافة الوطنية والجماهير لقضية النفط اهتماماً خاصاً وخاصة بعد تأميم النفط في أيران في 15 آذار 1951، إذ تقدم عدد من النواب في 25 آذار بطلب لسن لائحة قانونية لتأميم شركات النفط في العراق، وقد أيدت الجماهير مطلب التأميم تأييداً مطلقاً ونشرت الصحف سيلاً من البرقيات والرسائل أعلن فيها مرسلوها مساندتهم للحركة، ووجه عدد من الطلاب عرائض لمجلس النواب والوزراء يطالبون بتأميم شركات النفط ، وفي المقابل لم تجد الحكومة العراقية والشركات بداً من الدخول في مفاوضات لتعديل ألأمتيازات إمتصاصاً للنقمة، وبعد جلسات مطولة تنقلت بين بغداد ولندن انتهت في الثالث من شباط 1952 بتوقيع اتفاقية جديدة يسري مفعولها من بداية 1951 وتضمنت مبدأ اقتسام ألأنتاج مناصفة بين الطرفين وإعطاء العراق (5/12) بالمئة من ألأنتاج الصافي.

لقد كان للنفط العراقي بصورة عامة والنفط المستخرج من كركوك بصورة خاصة أثراً مهماً في التاريخ السياسي العراقي إذ كان اكتشاف النفط  وأستخراجه بكميات كبيرة دوراً مهماً في التغيير الأستراتيجي لسياسة بريطانيا تجاه الحكومة العراقية كما كان له الدور المهم في اتخاذ قرارات مهمة في التأريخ السياسي العراقي ومنها أنهاء ألأنتداب البريطاني وكما أوضحنا في هذا البحث، وإضافة للدور السياسي فهناك دوراً مهماً في الأقتصاد العراقي، فعائدات هذا القطاع شكلت مصدراً مهماً لتمويل الميزانية الاعتيادية وسد النقص في المدفوعات وتمويل مشاريع التنمية منذ بداية تصدير النفط العراقي من كركوك الى العالم عام 1934 حتى ثورة 14 تموز 1958، إذ أن هذه الحقبة مرت بمرحلتين ألأولى حتى عام 1950 وفيها ظل ألأنتاج يتراوح في حدود متدنية جداً، والثانية امتدت من عام 1951 حتى عام 1958 تم خلالها زيادة انتاج نفط كركوك بكميات كبيرة أدت إلى ارتفاع موارد العراق وبرز دور النفط كعامل محرك للأقتصاد العراقي وإضافة مشاريع التنمية والتخطيط للمشاريع العمرانية والتي سميت بمشاريع السنوات الخمس في الفترة 1934 – 1950 والتي خصصت لها جميع موارد النفط وخاصة موارد نفط كركوك الذي يصدر إلى العالم بواسطة الخطوط التي أنشأت ومدت إلى موانىء البحر الأبيض المتوسط قياساً الى باقي حقول النفط في الجنوب والتي كانت تصدر بكميات أقل من الكميات ألتي تصدر من حقول كركوك، وتم انجاز عدد من المشاريع الكبيرة لتنظيم الري والنهوض بالمستوى الزراعي مثل مشروع الفرات ومشروع الحبانية وعدد من السدود والنواظم والجداول لأيصال المياه لأكبر مساحة من ألأراضي الزراعية وكذلك مد وإنشاء عدد من الطرق والجسور والمباني العامة، وبعد توقيع اتفاقية مناصفة ألأرباح ارتفعت موارد العراق من النفط عام 1951 الى 15 مليون دينار وهذه تمثل 30% من موارد الدولة حتى وصلت عام 1958 إلى 80 مليون دينار أي شكلت 63% من الواردات .

وإضافة لذلك فإن صناعة النفط وفرت العمل لعدد كبير من العمال وخاصة عمال ألأنابيب والتي كانت تمد بين كركوك وموانىء البحر المتوسط وبعدها بين المصافي وحقول النفط المنتشرة في جميع أنحاء العراق إذ بلغ عدد المصافي (ستة) مصافي بحلول عام 1956 ومنها (مصفيان) تمثلهما شركة نفط العراق كان احداهما في كركوك والتي ساهمت مساهمة فعالة في ارساء ألأقتصاد العراقي وبالتالي ارساء الحالة السياسية في الدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921 .

المصادر

1- الجليلي، عبد الرحمن، محاضرات في اقتصاديات العراق (القاهرة – 1955) .

2- حسن، محمد سلمان، دراسات في الاقتصاد العراقي (بيروت – 1966) .

3- حمودات، مشعل، صناعة النفط في العراق، (بغداد – 1966) .

4- خليل، نوري عبد الحميد، التاريخ السياسي لأمتيازات النفط في العراق، (بيروت – 1980).

5- سليمان، حكمت سامي، نفط العراق (بغداد 1979) .

6- العباس، قاسم احمد، وثائق النفط في العراق (بغداد 1975) .

7- نعمان، أسامة عبد الرحمن، تطور السياسة النفطية في العراق 1952 – 1962 ، رسالة ماجستير غير منشورة بغداد 1983 .

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة