تراث

الكوفية والعِقال وأخواتهما..

العراق بحاجة إلى تعميق الهوية ولو بغطاء رأس!

 

رشيدالخيُّون/ لندن

r_alkhayoun@hotmail.com

            

ان العمامة البغدادية هي افضل رمز عراقي يجمع الكردي والعربي والتركماني والسرياني. بالاضافة الى رجال الدين الشيعة والسنة. وهي زي عراقي قديم يلبسه حتى الملوك العراقيين ـ لاحظ عمامة الملك كوديا نفسها العمامة البغدادية ـ (ويمكن ان يتم اختيار هذه العمامة البغدادية مثلاً، للشرطة أو للجيش العراقي، بدلاً من القبعات الغربية، كذلك يمكن أن يلبسها الاشخاص العاملون في السياحة، وكذلك حرس الشرف الرئاسي، ومجالات أخرى عديدة).

 

أدرك الملك فيصل الأول خارطة العراق الاجتماعية، وتنوع أغطية الرؤوس والأزياء عليها، فبادر إلى خلع عِقاله المُقصّب وكوفيته مستحدثاً ماعرفه العراقيون بالفيصلية، وهي سدارة سوداء تجمع بين الطربوش العثماني والقبعة الأوروبية، وتكلل الرؤوس هيبة ووقاراً، وتمد في قامة معتمريها، وترفع أنوفهم. حتى شاعت الأغنية ترغيباً بها وتحبباً: "عمي يابو سدارة متيمك سويله جاره (الجيم الفارسية).

جمعت الفيصلية المتناغمة مع البذلة الأوروبية العراق كافة، العربي والكردي والتركماني والآشوري والكلداني والآرامي، بغطاء رأس وزي رسمي واحد، فسارع الجميع إليها دون اعتراض ومماطلة، وكأنهم يدركون خطورة البقاء على زي دون آخر يعمم في الدوائر الرسمية، أو يظل كل موظف ينزع إلى زيه الخاص العشائري أو البلدي. هذا ما يخص الملك أو الرئيس لأنه واجهة البلاد، مثله مثل العلم والشعار يعبران عن واقع جغرافي واجتماعي وثقافي وتاريخي.

أما ما يخص رئيس الوزراء أو الوزراء فظل بعضهم متقيداً بالزي التقليدي آنذاك، فلم يخلع في مجلس الأعيان لا في رئاسة الوزراء، في مابعد، السيد محمد الصدر (ت1956 ) عمامته السوداء، ولم يخلع محمد رضا الشبيبي (ت1965 ) عمامته البيضاء الضئيلة الحجم يوم أصبح وزيراً للمعارف ورئيساً لمجلس الأعيان، ومثلهم لم يخلع الوزير الشاعر علي الشرقي (ت1963 ) عمامته، ووزراء وأعيان عديدون.

إلا أن محمد مهدي الجواهري رماها بعد الاستقرار ببغداد، وظل حاسر الرأس، حتى اعتمر الكلاو الكردي. وأتذكر محنة عمي طارق الخيُّون(ت1993 ) رئيس بلدية المنطقة يوم أمره متصرف الناصرية خلع العِقال والكوفية وارتداء البذلة الأوروبية، لأنه موظف في مكتبه الحكومي لا شيخ عشيرة، وأتذكر كيف خرج إلى المضيف صباحاً بلباس الحكومة حاسر الرأس مخنوقاً بربطة العنق، وكان غليظ الرقبة. يومها كان خجلاً، بدا وكأنه ارتدى ثوب الشهارة عقوبةً، مثله مثل المتورط باعتمار العِقال والكوفية من دون تجربة سابقة.

ولا ندري، ماذا كان يفعل طالب النقيب (ت1928 ) بعِقاله وكوفيته الثابتين فوق رأسه ورؤوس المقربين منه، لو حصل ونجح في مسعاه إلى عرش العراق؟ أما الشيخ خزعل(ت 1936) فتهيأ لهذا العرش معتمراً عمامة الإمارة، الشبيهة بعمائم مهراجات الهنود، بدلاً من العِقال والكوفية.
ومثلما لا تصلح العمامة للتجوال في أجواء أوروبا، رمى شيوخ العشائر المنفيون ببريطانيا والدول الاسكندنافية وغيرها العُقْل والكوفيات، لا استجابة لأهزوجة القوالة، الآتي ذكرها، بل استجابة لكثرة المطر والريح وتجنب نظرات الاستغراب المولد للإستيحاش في طرقات لندن.

سألت شيخاً من شيوخ الدين العراقيين يوماً، من معتمري العمائم البيض، والتي ليست من عمائم النجف إنما من عمائم المنفي، لماذا دأبت بلندن اعتمار القبعة بدلاً من العمامة وما فيها من الوجاهة وقضاء الحاجة؟ قال: لأمرين، الأول أنها لا تحمي نفسها ولا تحمي فروة رأسي من ماء المطر، بينما القبعة مثل ترس السلحفاة لا يثبت عليه ماء ولا يتسرب عبره بلل، وهي ابنة هذه البلاد. والثاني، لم يألف الإنكليز العمامة، فكثيراً ما تظن بي ظنون المتطفلين وتلاحقني نظراتهم المخيفة وأنا أسير ليلاً في أزقة لندن.

 وتجاوزاً لهذين الأمرين اجتهد الشيخ بحمل عمامته مع الجبة أو الصاية في كيس، يعتمرها ويرتدي الجبة عند الضرورة، كحظور وليمة من ولائم الوجهاء، أو صعود المنبر للخطابة والوعظ. وربما للسبب نفسه لم يألف غازي الياور اعتمار العِقال أثناء الدراسة والإقامة بالولايات المتحدة. وعند زيارته إلى واشنطن بعد ما ترأس الدولة، بعد رئاسة مجلس الحكم، شاهدناه نزل من الطائرة مرتدياً دشداشة المشيخة لا الرئاسة، وملتحفاً العباءة من دون عِقال وكوفية، وقد أبهجنا المشهد، لكنها لحظات وظهر في القصر الأبيض بلباسه شيخاً لفخذ من شمر لا رئيساً للعراق!

في البداوة يتساوى الرجال والنساء في اعتمار العِقال والتغطي الكوفية، وخاصة في قبيلة الرئيس الياور، حيث تعتمر النساء العُقْل والكوفيات أسوة بالرجال (الجادر، الأزياء الشعبية في العراق). واعتمرتهما المغنية الشهيرة أم كلثوم في أفلامها وأغانيها القديمة، وهي تقوم بدور فتاة البادية العاشقة. وبهذا لم يبق العِقال شارة رجالية يعتد بها، مثلما هو الحال في جنوب العراق، والشاهد ما قالته إحدى القوالات، هاجيةً رجال عشيرتها المهزومين: "هاكم شيلتي اطوني جفافيكم فرد فريخ يمعارج لعب بيكم"(*). ففي وقت من الأوقات كان يشار إلى الشرف بالعِقال، الذي تعاب عليه طوية عقاله، أو يُقال له غبرة أو شمرة فوق عِقالك! قد لا يتأخر من ارتكاب جريمة غسل العار بقتل ابنته أو أخته. لكن كثيراً ما يرمى العِقال من الرأس في لحظات الوجد والحزن الشديدين، فترى كوفية صاحب الخطب من دون عِقال، وهو مشهد يثير الإكتئاب في النفوس. ولتقشف في الملبس نرى شيوخ الدين من الحنابلة يعتمرون الكوفيات من دون عُقْل، وكأنهم في حزن أبدي، وهذا ما يمارسه بعض شيوخ الصابئة المندائيين أيضاً، عندما يظهرون بكوفيات بيض، بلا عمائم أو عُقْل، وقبلها تميزوا باعتمار الكوفيات الحُمر المرقطة بالسواد، وقد شبههم أحدهم بملاحي سفينة نوح، وكان صادقاً إذا علمنا أن حكاياتهم التاريخية تقول أن سام بن نوح نقلهم في سفينته من جزيرة سندريب الهندية إلى العراق. كذلك يعتمر الكوفيات الحُمر أهل الزبير وأيزيدية سنجار، أما السادة فيعتمرون الكوفيات الزُرق تحت العِقل.

إن العِقال والكوفية لباس عراقي قديم، لا علاقة لأصله بالعروبة، والشرف العربي، فمَنْ ينظر في البقايا السومرية والأكدية يجد الكثير من العُقْل على رؤوس أجدادنا. أما عربياً فالعُقْل هي مجموعة من الغنم والأبل تقدم للزكاة، أو الصدقة، والعِقال هو الحبل الذي يعقل به البعير، وكل ما يربط به، ومنه تتفرع ألفاظ الاعتقال والعقائل من النساء، أي المخدرات المحبوسات في البيوت، والعواقيل ما ألتبس من الأمور، ومنه أيضاً العقل ضد الخبل أو الجنون بعد تغير في الحركات، وهذه تجمع بعقول والأخرى بالعُقْل. والعرب لم يصادروا منا العِقال والكوفية فقط، بل صادروا أضرحة الأنبياء والصالحين من أهل الأديان الأخرى وأعلنوا إسلامها، وطمسوا أسماء المدن القديمة وتواريخها، فالحيرة لم تعد سريانية المعنى والمدلول بل نحتوها من الفعل حار، والهور لم يعد مفردة آرامية بل منحوتاً من الفعل هار، وغاب اسم بصرياثا أو بيث صري (بيت الجداول) عن معنى البصرة ليكون الحجارة البيضاء،

كذلك بابل لم تولد عظيماً مثل الإمام أبي حنيفة النعمان لذا نسبت أعجميته خطأً إلى بلاد فارس، مع أنها من بلاد العراق، وكان غير عربي، وهلم جرّا! تبدو الكوفية أصلح غطاء رأس لأهل الأهوار والصحراء على السواء، حيث الشمس الساطعة والريح الدائمة الهبوب طوال فصول السنة، وقد بدأت وظيفة العِقال مثبتاً لغطاء الرأس ليس أكثر، لكن سرعان ما تحول إلى رمز للشرف والوقار وسلاح بيد معتمره، ويصبح سقوطه من على رأسه إهانة ما بعدها إهانة، وهذه المنـزلة كما هو معلوم متعلقة بمنـزلة الرأس مركز التفكير والتدبير، وهو أشرف الأعضاء قاطبة وأرفعها درجة! وحتى يثبت على الرأس ويزداد جمالاً، تتدلى من العِقال خيوط إلى تحت العباءة أو البشت، وإلا بدا دائرة مبتورة مثل مبتورات الذيول.

قال الجواهري في (المقصورة) مادحاً تلك الخيوط المتدلية وهاجياً معتمريها في الوقت نفسه، من رجالات الظل في السياسية، ومَنْ هم لائهم نعم، لكن ليس كل معتمر عِقال هو من ذلك الطراز. قال:

وتلك الشراشيف كالياسمينِ

 تاه العِقال بها وأزدهى

تدلَّت عناقيدُ مثلُ الكروم

على كتفي يابسٍ كالصُّوى

يَـوَدُّ مـن التيه! لو أنه

يَشدُّ بها جرساً! إن مشى

على أية حال، نكاية بالكوفية والعِقال تفنن سفلة سوق العشار بالبصرة في إيذاء أهل العُقل والكوفيات من أهل الأهوار، فترى أحدهم يمر مسرعاً بدراجته خاطفاً العِقال من على رأس صاحبه، فيبقى حاسراً مشدوهاً لا يعرف كيف يتدبر أمره. وآخرون يأتونهم من الخلف ويربطون خيط العِقال بتخت المقهى، وعندما ينهض الرجل تسقط هيبته أمام الآخرين، مثلما حدث للأخوين عبد وكريم وساف وقد عادا إلى المنطقة من البصرة يبكيان ألماً مما حدث لهما. وهذا ضرب من ضروب أخلاق سفلة المدن، يجورون على الغريب، ويستضعفون المتأدب، بينما يأخذهم الشقي المستأسد أخذ الذئب للنعاج! هذا وللصناعة العقال فنون وشجون، وأسماء كثر، اختلفت باختلاف المناطق والعشائر، ويبقى الحائك المذموم اجتماعياً هو صانع وشاح شرف العشيرة، وببلدان أخرى الأمة كاملة.

 

 (*) وإن كانت الفصحى مدمرة لموسيقى ومعنى الأهزوجة، لكن لغير العراقيين: خذوا فوطة رأسي وهاتوا كوفياتكم، فولد واحد هزمكم في المعركة، وملخص معناها: صيروا نسوان أفضل لكم .

 

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة