تاريخ

فئات المجتمع العراقي في زمن حمورابي

اعداد طارق كامل / بغداد

 

 

يتوجب التنبيه ان مملكة (بابل) لم تكن في منطقة بابل وحدها كما يتصور الكثيرون، بل كانت تشمل العراق(بلاد النهرين) كله. وكانت بابل هي العاصمة، ولهذا تم التعارف على تسميتها بدولة (بابل). كما تسمى (دولة تونس) باسم عاصمتها تونس، كذلك (الجزائر)، وبلدان عديدة اخرى.

يعتبر الملك (حمورابى) (1795-1750  ق.م.) من أعظم ملوك العراق القديم، وقد اشتهر أساساً بقانونه الشهير، الذي يعتبر من أول القوانين الناضجة في تاريخ البشرية. وهذا القانون المفصل يعطينا الكثير من المعلومات عن تلك الحقبة في الكثير من النواحي: الاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

نسجل هنا تركيبة المجتمع العراقي في تلك الحقبة بالاعتماد على المعلومات التي وردت في القانون.

يمثل قانون حمورابى المصدر الأكثر أهمية لدراسة الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمملكة البابلية. نقش التشريع على حجر تذكارى أسود، وكرس بكامل الوضوح ليكون مقروءاً للجماهير. فى الجزء الأعلى للحجر التذكارى صور الملك متربعاً على كرسى العرش بينما غطيت الأجزاء المتبقية كلها بنص بالكتابة المسمارية العتيقة ويتكون من 247 مادة قانونية. مسحت خمسة أعمدة، إحتمالاً، من قبل أحد الغزاة العيلاميين الذى حمل هذا الحجر التذكارى المشهور غنيمة الى سوسا (في منطقة الاحواز) التابعة حاليا الى ايران، حيث تم العثور عليه فى عام1901 . إلاّ أن النقص فى النص والناجم عن عملية المسح قد أصبحت إعادة تركيبه ممكنة بفظل نسخ التشريع التى تم الكشف عنها والتى كانت مخصصة للكتبة والقضاة لإستخدامها مراجع للدراسة أو دليلاً للإجراءات القضائية. يتألف تشريع حمورابى من ثلاثة أجزاء : مقدمة؛ القانون فى حد ذاته؛ الخاتمة.

                                             فئات المجتمع

كان سكان العراق القديم من أصول عرقية مختلفة منذ الأزمان المبكرة، ولكن يجتمع كلهم بنفس اللغة (الاكدية) بلهجتها البابلية المتميزة قليلا عن الاكدية الآشورية في الشمال، مثلما تتميز الآن المصلاوية عن البغدادية. وكانت الصلات المتبادلة بين المدن مستمرة. فى كل مدينة يوجد العديد من المقيمين الأجانب. هذه الحرية للتواصل كان لا بدَّ وأن تنزع الى إنصهار الأعراف. ولقد تم الإحتفاظ بالفضل، على كل، لعبقرية حمورابى أن يجعل بابل عاصمة له ويلحم فى كل واحد امبراطوريته المترامية بنظام قانونى موحد. 

ينظر التشريع للسكان بوصفهم ينقسمون الى ثلاث طبقات:

 أميلو(عاميلوا ـ العاملون)، ومسكينو(المساكين)، وأردو(الاردياء او العبيد).

ـ أميلو،(العمال) ولكن حينذاك كانت تستعمل بمعنى الارستقراطى، المنتمى الى أسرة أرستقراطية، ويكون ميلاده وزواجه وموته مسجلاً، وله أملاك من أسلافه وله كافة الحقوق المدنية. له إمتيازات وعليه واجبات أرستقراطية، وله حق الإنتقام للإصابات الجسديَّة، والمسؤولية القانونية التى تجعله عرضة للعقاب الشديد على الجرائم والجنح، ويتوجب عليه دفع الرسوم والغرامات الباهظة. ينتمى الى هذه الطبقة الملك وبلاطه، وكبار الموظفين، والمتخصصون والحرفيون. لكن المصطلح أصبح مع مرور الزمن لقباً للمجاملة. ففى التشريع، عندما لا يكون المنصب معنياً، فإنَّ المصطلح يستخدم ليعنى "أى شخص". لا يرتبط المصطلح بالملكية الشخصية كما ولا يظهر أن له بعداً عرقياً.

ـ مسكينو(المساكين)، وهم أبناء فئة الكادحين الفقراء. ظهر المصطلح فى وقته بمعنى "الشحات" وبهذا المعنى إنتقل عبر اللغتين الارامية والعبرية الى العديد من اللغات الحديثة. رغم أنَّ التشريع لا يعده بالضرورة فقيراً، فيبدو أنه لا يمتلك أرضاً. كان المسكينو حراً، لكن عليه قبول التعويض المالى عن الإصابات الجسديَّة، ويدفع رسوم وغرامات أقل، بل ويقدم هبات أقل للآلهة. يسكن المسكينو فى حى خاص بهم فى المدينة. ليس هناك من سبب يدعو لعد الموسكينو مرتبطاً بصفة خاصة بالقصر، كمتقاعد ملكى، ولا بوصفه منتمياً الى طبقة تؤلف أغلبية السكان. شحة الإشارات اليه فى الوثائق المعاصرة تجعل محاولة تصنيف أبعد من ذلك للموسكينو ضرباً من التخمين.

ـ أردو(الاردياء) هم العبيد الذين شكلوا طبقة كبيرة العدد. لكنه مع ذلك يمكنه أن يقتنى ملكية بل حتى أن يمتلك عبيداً. يقوم سيده بكسوته وإطعامه، ويدفع عنه تكاليف الطبيب، لكن السيد ينال كل تعويض يدفع للأردو نظير إصابة لحقت به. عادة ما يجد له سيده جارية لتصبح زوجة له (ويولد الأطفال فى هذه الحال بوصفهم عبيداً)، يضعه السيد عادة فى منزل (مع مزرعة أو ورشة) ويأخذ إيجاراً سنوياً منه. خلاف ذلك يمكن للأردو أن يتزوج من إمرأة حرة (فى هذه الحال يكون الأطفال أحراراً)، والتى يمكنها أن تجلب له ميراثاً لا يستطيع سيده أن يمسه، ولدى وفاة العبد تذهب نصف ممتلكاته الى سيده والنصف الآخر لوريثه. يمكنه أن ينال حريته بالشراء من سيده، أو يمكن عتقه ليكرس لمعبد، أو حتى تبنيه، عندها يكون قد أصبح أميلو لا موسكينو. العبيد تم إمتلاكهم عن طريق الشراء من الخارج، ومن الأسرى فى المعارك، ومن الأحرار الذين انحدروا الى مرتبة العبودية نتيجة الدين أو الجريمة. العبد عادة ما يهرب، فإذا قبض عليه، فإنَّ على من قبضه إرجاعه الى سيده، ويحدد التشريع مكافأة يتوجب على السيد أن يدفعها لمن قبض على العبد وأرجعه له. وكانت نسبة المكافأة تبلغ عشر القيمة الفعلية للعبد. وكانت عقوبة الإعدام توقع على من يأوى أو يأسر عبداً هارباً. كذلك كانت العقوبة فى حالة محاولة جعله يغادر المدينة. يحمل العبد علامة تعريف، والتى يمكن إزالتها فقط عن طريق عملية جراحيَّة، والتى أصبحت لاحقاً تتكون من اسم سيده بالوشم أو الوسم على ذراع العبد. فى الملكيات الكبيرة فى أشور والولايات الخاضعة لها كان هناك العديد من الأقنان، عادة من جنسيات خاضعة، وأسرى مقيمين، أو عبيد سابقين، مرتبطين بالأرض التى يفلحونها ويباعون مع الملكيات لكنهم قادرون على إمتلاك أرض وممتلكات خاصة بهم . هناك آثار قليلة دالة على وجود الأقنان فى بابل، إلا إذا كان من الجائز عد الموسكينو أقناناً.

الطبقة العليا

كان إله المدينة فى الأصل هو مالك الأرض، والتى تحاط فى دائرة داخلية من الأرض المروية الصالحة للزراعة وعلى حافتها مراعى، وكان المواطنون هم المستأجرون منه. وقد توقف الإله، ونائبه الوصى، الملك، عن إعاقة مدة الإيجار واكتفيا بتحصيل المستحقات فى شكل ريع عينى، أو نقدى، أو خدماتى (سخرة).

فئات

 واحد من أقدم الآثار يسجل شراء ملك ملكية كبيرة لابنه، بعد أن دفع قيمة تتناسب وسعر السوق مضافاً اليها قيمة أتعاب معتبرة للمالكين فى شكل ملابس، وأوانى، وأثاثات باهظة الثمن. يعترف التشريع بالملكية الكلية الخاصة على الأرض، لكن يبدو أن المنذورين (لخدمة المعبد)، والتجار (والمقيمين الأجانب؟) كان لهم الحق فى إمتلاك أرض. لكن كل أرض تباع وفقاً لرسومها المحددة. ويمكن للملك أن يعفى، على كلٍ، أرضاً من تلك الرسوم بمرسوم يصدره، وهو أسلوب كان شائعاً لمكافأة أولئك الذين يستحقون ذلك نظير خدمات أسدوها للدولة. انه من واقع تلك المراسيم ندين بكل ما نعرفه عن الإلتزامات الخاصة بالأرض. إحتاجت الدولة للجيش والسخرة وكذلك للمستحقات العينية. تم تخصيص مساحة خاصة لإعالة النبال سوياً مع الرماح والمرتبط بهما (الذى يحمل الدرع للإثنين) ومدهم بالمؤن للحملة. هذه المساحة أطلقت عليها منذ القرن الثامن ق.م تسمية "القوس"، لكن الإستخدام كان أقدم من ذلك. لاحقاً، كان "الفارس" دخلاً آخر مستحقاً من مساحات محددة. كان على الرجل أن يخدم فى الجندية عدة مرات (ست مرات؟)، لكن الأرض كانت تحتاج لإيجاد رجال سنوياً. تمَّ تنفيذ الخدمة عادة عن طريق العبيد والأقنان، لكن الأميلو (وإحتمالاً الموسكينو) ذهبوا للحرب. جمعت "الأقواس" فى عشرات ومئات. الرماح كانت أقل إنتظاماً. رسائل حمورابى عادة ما كانت تتعلق بالإعفاءات. الموظفون الدينيون والرعاة القائمين على رعاية القطعان كانوا معفيين من الجندية. مسؤوليات خاصة وقعت على عاتق ملاك المرممين لترميم القنوات، والجسور، وأرصفة الموانى الخ. طالبت الدولة بنسب محددة من المحاصيل، والعلف الخ. ويمكن لرسل الملك الإستيلاء على ملكية أى مواطن، وإعطاءة إيصالاً بذلك. بالإضافة، كانت كل مدينة تجبى مستحقات فى شكل الرسوم المفروضة على السلع المجلوبة اليها، وفى شكل الضرائب، ومستحقات العبارات، والطرق، ورسوم المياه. توقف الملك منذ أزمان أن يكون، إذا كان هو كذلك فى أى فترة، المالك للأرض. لديه ملكياته الملكية الخاصة ومستحقاته من كافة رعاياه. كبار الموظفين كانت لهم هبات ومقرات رسمية. ينظم التشريع وضع بعض الطبقات التى يقتطع لها الملك ضيعات تتألف من منزل، ومزرعة، وحقل، وقطعان، ومرتب، نظير خدمة شخصية تنفيذاً لمهام ملكية. لا يحق لهم تفويض الخدمات فى حالة الوفاة. عندما يكلفون بمهام خارجية يمكنه أن يعين ابنه، إذا كان مقتدراً، أن يستلم الضيعة ويقوم بالمهمة. إذا لم يكن له ابن قادر توضع الضيعة تحت النائب، لكن الثلث منها يكون لزوجته لإعالة نفسها والأطفال. الضيعة كانت غير قابلة للنقل، ولا يمكن بيعها، أو إستبدالها، أو تأجيرها، أو إزالتها. أرض أخرى يحتفظ بها فى الضيعة للإيجار. الضيعات العائلية ترتبط كلياً بالعائلة. إذا باعها المالك، فللعائلة الحق فى التعويض ويبدو أنه لم يكن هناك سقف زمنى لهذه الممارسة.

                                    رجال و(نساء) الدين

احتل المعبد الموقع الأكثر أهمية. تمثل دخله مما تدفعه الضيعات، ومن الأعشار وغيرها من المستحقات، الى جانب الاضحيات (نصيب مألوف) وغيرها من الهبات التى يقدمها المؤمنون، كميات كبيرة من الهبات العينية؛ بالإضافة الى النقود والهدايا الدائمة. يوجد فى المعابد الكبيرة أعداد كبيرة من الموظفين والخدم. فى الأصل، إحتمالاً، تجمعت كل مدينة حول معبد، ولكل رأس عائلة الحق فى الخدمة هناك وينال نصيبه من الدخل. ومع نمو المدينة، استقر حق الخدمة لأيام محددة من السنة فى ضريح (أو فى "مدخله") فى عائلات بعينها وأصبح نوعاً من الملكية يمكن إدعاءه، وتأجيره، أو إقتسامه داخل العائلة، لكن ليس نزعه. رغم كل تلك المتطلبات، على كلٍ، أصبحت المعابد مصادر ومخازن؛ كما كانت أيضاً أرشيفات للمدينة. قام المعبد بمهامه ومسؤولياته. إذا أسر مواطن من قبل العدو ولم يتمكن من دفع الفدية لتحرير نفسه فإنَّ معبد المدينة يقوم بالدفع نيابة عنه. جاء الى المعبد الفلاح الفقير لإستلاف بذور القمح أو مؤن الحصاد الخ. وهى سلفيات يسددها بدون أرباح. سلطة الملك على المعبد ليست تملكية وإنما إدارية. يمكنه أن يستلف من المعبد لكنه يسدد مثله مثل المستدينين الآخرين. كانت الأعشار فيما يبدو بمثابة الإيجار المستحق للإله على أرضه. ليس واضحاً عما إذا كانت كل الأراضى تدفع الأعشار.

يتناول التشريع كذلك فئة النساء اللواتي كرسن حياتهن لعبادة إله، كراهبات خادمات فى الهيكل. الراهبات يقسمن على العفة، ويعشن سوياً فى دير كبير للراهبات، ويمنعن من فتح حانات أو دخولها، وسوياً مع المنذورين الآخرين يتمتعن بإمتيازات كثيرة.

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة