ذكريات

العمارة .. ذاكرة  المدينة المدللة في الزمن الهني

 

C:\Documents and Settings\waqqas\Desktop\مجلة ميزوبوتاميا العدد 15\صور  كل المجلة\فاضل السوداني.jpg

د. فاضل سوداني/ الدانمارك

fasoudani6@hotmail.com

 

 

 

 

هل حقا كانت مدينة العمارة هي طفلتي المدللة؟ نعم لأنها بكل المقاييس مدينة تستحق هذا، فهي الجنوبية

بنفطها وزراعتها ومائها وعقولها. وبالرغم من انها نبيلة تحتظن العراق كله، إلا أنها منهوبة من حكامها أبداً. مدينة ريفية ذات طبيعة خاصة تعبق برائحة الشوفان ورز العنبر و(زهير البط)، مدينة محاطة بالماء والانهر من جميع جوانبها. انها الوحيدة المدللة من دجلة، فعندما يصلها من جانبها الشمالي يتفرع الى اربعة انهار وكأنها أصابع من الماء الزلال تحتضنها فتتحول شبيه بمدينة البندقية. وأنهارها تغذي مساحات هائلة من الاهوار التي تعتبر بحيرة مائية متصلة تمتد أكثر من مائة وثمانين كيلومترا " ويعيش فيها فلاحون  في اكواخ بدائية من القصب هي بقايا تصاميم وهندسة الاكواخ السومرية .

في الجنوب العراقي وبالذات في  ليالي الصيف التي لا يضيئها سوى قمر مبتهج وأحيانا منزوي كنت أسمع تلك الحكايات وأساطير الهور من صدر جدتي وامي الحنون  يجعل الخيال شعرياً.

في الاهوار وعلى امتداد شواطئها  وبين  سعف نخيلها وضياع  المشاحيف  وتوهانها في غابات  القصب والبردي تهمس الريح ذلك الأنين الأبدي للمغني (سلمان المنكوب) كأنه صدى لحشرجات صوت الإله العراقي  المذبوح دموزي أو تموز. هناك يمكنك أن تسمع من عمق الهور فلاح يغني متهادياً بمشحوفه (زورقه)  بأنين (مسعود العمارتلي)، تلك الفتاة التي استرجلت  حتى تجالس  الرجال لتغني في مضايفهم  واتخذت  من الغناء طورها الذي يميزها كوسيلة للاحترام. نسمع في عمق الهور فلاح يتهادى مع (مشحوفه) بأغنية من أغانيها مثل (محمد بوية محمد) أو (كصيت المودة) أو (ما اكدرعلى فركاك مر بيه واخذني) (إهنا يل الحادي جا وين بيهم وين) أو(ذبي العباية، سوي عليه احسان ذبي العباية، سمره وسيعة عين ذبي العبايه). والمفارقة ان هذه الاغاني والمناحات أصبحت أساس ومنطلق للاغنية العراقية باختلاف توجهاتها.

في ريف وأهوار ومن ثم في مركز هذه المدينة تشكل وعيي وتشبع خيالي  بجمال الطبيعة والفن الشعبي، جمال الطبيعة الريفية الآخاذ بالرغم من كونها مدينة جنوبية مهملة ومكروهة دائماً من السلطات التي تناوشت الحكم في العراق، وبالرغم من انها تختزن ثروات طبييعة هائلة (حيث يشكل مخزونها  النفطي مع مدينة البصرة ثلث نفط العراق) إذ اكتشف فيها واحد من أكبر حقول النفط الهائلة والمعروفة بحقول" مجنون" ويقال بأن آخر بئر نفطي في العالم سيسحب من أرضها، وقد اكتشف فيها ايضا الطاقة الجديدة التي سيحتاجها العالم بعد نفاذ البترول وهو الزئبق الاحمر. بالرغم من هذا، إلاّ أنها كانت ومازالت مدينة فقيرة وبدون خدمات حقيقية ومنهوبة في كل الأوقات.

مقاهي العمارة

الحكايات الشعبية مرمية في المقهى والتي تعد منبراً ثقافياً لدى العراقيين. وبما أن الكثير من مقاهي العمارة في السوق الكبير حيث تقع الواحدة قرب الاخرى، يحتم عليك أن تسمع مختلف الاغاني في آن واحد. ففي اللحظة التي يغني فيها (داخل حسن) أو (مسعود العمارتلي) أو نواح (سلمان المنكوب) فان أغانيهم بموسيقاها الريفية تختلط بأنين (سيد محمد)، (عبادي العماري)، أو (إكريري)، (جويسم)، أو (سيد فالح)   وطوره الذي أسماه بالفالحية. تسمع أصواتهم تصدح بطور الساعدية لـ (نسيم عودة) و (جواد وادي)، وغيرهم. بحيث لا يمكن محوها من الذاكرة وخاصة (داخل حسن) وهو يغني: (ويسار، دليلي على النوايب جلد، ويسار، من اضّعضع شماته تصير بيه). أو تسمع غناء المطرب  جعفوري عندما يلخص لك توهان العاشق (الانسان عموما) وضياعه بين الطرقات الموحشة، بل الوجود كاملا في مقطع شعري مكثف :(براس اربع طرق لكعد وانادي، انا المظلوم وانت فتكت بيه) .

صاحب الموتى وطقوس الانبعاث

 دفعني سحر وغرائبية المدينة الى الغور في الاعماق السحيقة لمجتمعها ومحاولة التعرف والتعاطف مع  منبوذيها أما لكونهم متمردين أو فقراء. كانت عوالمهم وخصوصياتهم تزيد من غرائبية الامر فيثير في داخلي مشاعر خاصة فيها الكثير من التعلم من سبر أغوار هذه الفئة من الناس. ولا تفوتني شخصية مثل (قاسم كليكل) الميكانيكي النبه الذي لايني يكلم من يشاء وبدون حرج وبخيال غني فلا تستطيع أن تفصل في حكاياته الواقع عن الخيال، وسرعان ماتتنقل أغانيه ومقالبه بين الناس.

وقد أثارتني شخصية اخرى فعقدت صداقة معها لاسبرأعماقها الغريبة وهو (صاحب أبو الموتى ). بالرغم  من أنه كان عرضة للسخرية العلنية أو الخفية ومعروفاً في المدينة بأسم (صاحب أبو الموتى) بسبب اهتمامه بكتابة سجل سري خاص لموتى المدينة يدون فيه كل شئ عنهم. وفي كثير من الاحيان  يلجأ بعض الشباب الفكه لمعرفة من الذي مات لحضور الفاتحة والفوز بتناول الطعام. كان يملك دكانا في محلة القادرية وهو في حقيقة الامر زاوية مظلمة لايبيع شيئاً أبداً لعدم وجود شئ يذكر. فقط هنالك علب فارغة قديمة وصدئة. كان يجلس ساعات طويلة يحدق في سجل الموتى الذي يعتني بكتابته أو يقرأ القرآن. وعندما يسير في الشارع  ينبؤك بشخصية محترمة، يسلم على الجميع ولا يهمه إن ردوا التحية أم لا، ولا ينسى أن يرفق تحيته  بمعلومة عن الذي مات قريباً أو في طريقه للموت، ويدعو للذهاب للتعزية والذي فاته حضور الفاتحة ينصح بالذهاب لتعزية أبناء أو أقارب  الميت بعد أن يدلهم على مكان تواجدهم .

بعد  سنوات ليست قليلة، عندما عدت الى مدينتي بعد أن أنهيت دراسة المسرح في  أكاديمية الفنون في  (بغداد) وبعد إخراجي مسرحية (حفار القبور) التي أعددتها من قصائد مختلفة لـ (بدر شاكر  السياب)، دعوته ليرى المسرحية. وكنت سعيداً بمجيئ (صاحب أبو الموتى) لمشاهدة المسرحية وأنا من جانبي منحته الكثير من الاهتمام. في يوم العرض انتظرته في باب المسرح، ومن ثم استقبلته بحرارة وسط خوف وارتباك مدير النشاط الفني في المدينة الذي كان قلقا ينتظر استقبال محافظ المدينة. وبكل احترام أجلسته في مقعد خلف المحافظ أمام اندهاش الجمهور والمسؤولين من غرابة الامر. وبعد ذلك عندما جاء ليشكرني عرفت بأنه من القلائل الذين فهموا فكرة المسرحية وإخراجها. 

مسرح الحياة

يكتب  الباحث والمؤرخ (جبار الجويبراوي) عن تاريخ الحركة المسرحية في العمارة:

(كانت فرقة أنصار الفن في أوائل الأربعينات التجربة الناجحة الأولى ثم أعقبتها جمعية الطليعة في مطلع الخمسينات التي كانت الأكثر نضجاً من الأولى والأكثر تطوراً).

في عام 1947 زارالفنانون المصريون- سراج منير وصلاح أبو سيف وحلمي رفله وفاخر فاخر والممثلة كوكا - العمارة لتمثيل فلم مغامرات (عنتر وعبلة) في ناحية المشرح. أكدوا بأن المستوى المسرحي في العمارة كان جيداً آنذاك، وأن الحركة المسرحية ستتطور بشكل استثنائي لو استمرت في المستقبل ..

وفي فترة الخمسينات انخرط معظم المعلمين والمثقفين في جمعية الطليعة للتمثيل والتي احتلت شهرة واسعة في الحركة المسرحية في العمارة بما قدمته من عروض مسرحية عالمية ومحلية.

ولا بد من الإشارة إلى أن الأشخاص الذين قدموا العروض المسرحية الأولى إخراجاً وتمثيلاً في مركز العمارة وأقضيتها لم يكونوا من خريجي معاهد الفنون المسرحية آنذاك وإنما كانوا معلمين وموظفين ومتطوعين للعمل المسرحي. فأول عمل مسرحي أقيم في قضاء قلعة صالح عام 1917 لجمع أموال لبناء مدرسة القلعة قام بتمثيله الشيخ حسين خلف الخزعلي ومجموعة من الناس المعروفين .

وفي العمارة أخرج السيد عبد المطلب الهاشمي والأستاذ الأديب محمد جواد جلال مجموعة من المسرحيات. وفي قضاء علي الغربي أشرف السيد جعفر العلاق على العروض المسرحية بنفسه وهو من أبرز الشخصيات الدينية والوطنية المعروفة في قضاء علي الغربي الذي سجن مع قادة ثورة مايس عام 1941 في معتقل العمارة وأمضى بضعة أعوام معتقلاً).

كنتيجة لنشاطي في المسرح المدرسي لسنوات عديدة تقدمت لمعهد الفنون الجميلة في عام 1964    لدراسة المسرح لكني لم اقبل، غير أن عنادي دفعني لتكملة امتحان الاعدادية للتقديم الى الاكاديمية في بغداد، مرة أخرى لدراسة المسرح، وتحققت أمنية كنت مرعوباً من عدم نيلها وقبلت.

عندما كنت أعود في العطلة الصيفية الى مدينتي كنت أنزوي في بساتينها الغنية بالفاكهة والرطب الذهبي  وأجلس على ضفة نهر دجلة بين النخيل المائل بسعفه على النهر المنساب بهدوء وبين شجيرات الصفصاف في منطقة الشبانة للقراءة والتأمل بعيداً عن الضوضاء.

كانت (المقبرة الانكليزية) معلم مهم في العمارة وكانت هي المكان المفضل للكثير من طلبة البكلوريا الذين يبحثون عن الهدوء، ومن جانب آخر كانت ملاذنا نحن المثقفين الشباب، فقد شهدت بزوغ أحلامنا من أجل الحرية والتي من خلالها تعلمنا الحياة ومنحتنا الحرية فرصة مباركة وقراءة  فلاسفة الفكر في صراعهم مع الوجود والعدم .

يعد (قصر فتنه) الزوجة المفضلة للشيخ الشهير(محمد العريبي)، أكبر معلم في المدينة ويتميز بهندسته المعمارية الجميلة. بعد أن صادرت ثورة 14 تموز جميع أملاك الاقطاعيين، استولت عليه ولم تستغله كما ينبغي. وكان الشيخ محمد العريبي في أيامه الاخيرة يأتي أحيانا للجلوس في مقهى أبي فارس وهو يتأمل بخيبة كبيرة قصره الذي لم يعد ملكه .

حراس البوابات في الزمن الهني

ومن عجائب هذه المدينة الغرائبية وفي كل حياتها اليومية كانت تصدر فيها كل صباح جريدة باسم  صوت الجنوب، وكان فيها مكتبة عامرة وغنية بمختلف الكتب القديمة والمعاصرة مما شكلت لديّ ولجيلي من المثقفين عادة القراءة اضافة الى ما ساهمت المكتبة العصرية لصاحبها رحيم الرحماني ومن بعده حيدر حسين التي تقع في وسط السوق الكبير، وتعاطفا مع مثقفي المدينة كنا نشتري المجلات والكتب  بالتقصيد، وكذلك الكتب التي كان يستوردها شاكر الهاشمي في مخزنه والمتميزة كونها أما كتب سياسية أو روايات مترجمة من أمهات الكتب العالمية. وقد كان دكان الحلاق خليل رشيد القريب والذي طبع العديد من الروايات والمجموعات القصصية، يعد في العمارة كونه صالون وملتقى للثقافة والمثقفين من جيل الرواد .

وهذه الاجواء أثرت كثيراً على معظم المثقفين الذين تربوا في هذه المدينة والذين يحسبون الآن على جيل الستينات، مجموعة من المثقفين المتمردين على واقع مدنهم، لكن وفي زمن لاحق نجد ان بعضهم انتحر والاخر مات وبعضهم تركوا المدينة ومازال بعضهم فيها وفياً لها بعد أن مرت عليه جميع المصائب  والحروب وبعضهم نفى نفسه اختياريا الى أعماق الريف والعيش في الاهوار، وبعضهم أكمل دراسته في بغداد أو في اوربا .

وبالتاكيد فإن الكثير من أهالي العمارة يعدون الثقافة بطراً لذلك فان تجمع مثقفي المدينة في مقهى أبي سعدون أو مقهى شنين أو غيرها لابد أن  يثير الكثير من الريبة بالنسبة الى رجال البوليس .

في مقهى أبي سعدون على نهر دجلة يجلس هؤلاء المثقفون الوجوديون والشيوعيون معاً يتحاورون  بهمس مبحوح مثل فالح حسن ومشروعه الروائي الذي لم يتحقق، وحافظ الشعر الأوربي نصيف جاسم  الذي كان ينشد الأرض الخراب لإليوت كاملة بطريقة يجعلك تفهم كل أسرار القصيدة ويبدأ مقطعها الأول ـ دفن الموتى ـ بالغناء . وفي ليلة واحدة سهر نصيف لينسخ ديوان محمد الماغوط ـ الفرح ليس مهنتي ـ . في زمن الجوع والحروب البعثية انتقل نصيف جاسم الى بغداد وتحول إلى مصلح بريمزات في مدينة الثورة  ليعيل عائلته.

هؤلاء المختلفون في أفكارهم وطموحاتهم، الأحياء منهم والأموات هم الذين شكلوا بعض أطياف ذاكرة المدينة الثقافية، فقد كانوا يلتزمون السؤال المشاكس كمنهج لتحليل الظواهر، والسؤال بدء المعرفة. وعندما تفرق الأحياء منهم  في آفاق الدنيا، وبالرغم من قسوة المنافي التي طالوها، تماسكت روحهم المتوهجة، لهذا فان الكثير منهم  مازال يعيش في تلك الأحلام الجنوبية في مدينة تغمرها رائحة رز العنبر والشوفان والرطب الخستاوي والطين الحري، ومدينة عصرية وتعيش في مطلق حريتها، لأنها  المدينة التي لا تتكامل  إلاّ  بنهر دجلة وأهوارها ومعالمها التي دمرت ولا تتكامل إلاّ بمضايفها ومطربيها الريفيين ومعدانها، ولا تتفرد هذه المدينة إلاّ بمشرديها وفقرائها ومجانينها وعقلائها. وبالرغم من أن مثقفيها غرباء عنها وحالمون دائماً بالخروج منها، فهم سرعان ما يعودون الى أحضانها الجنوبية الدافئة. هل كانت العمارة طفلتي المدللة  ؟نعم وافتخر بها كجزء من العراق العظيم في الزمن الهني وعلى العراقيين ان يعيدوه مضافاً الى حرية مضاعفة وانفتاح لمتطلبات العصر وإلاّ  أضاعوا الصاية والصرماية .

يامدللتي.. زهور حمراء للأصدقاء الذين أُحببتهم / والشعر الذي لا يقرأه أحد / والغريب الذي يطرق بابي في الليل / زهور حمراء للمدينة المباركة / للمدللة صباح مساء / مساء صباح .

ــــــــــــــــــــــــــ

Dr. Fadel Soudani

The Fourth Dimension Theatre

Brøndby Nordvej 82.6.4   2605     Brøndby –Danmark

تلفون المغرب 0021219260602

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة