الشاعر العراقي التركماني

فضولي البغدادي

حكمت عبد الرزاق النعيمي / كربلاء

hekmat_alneaimy@yahoo.com

 

((ان عراق العرب هو الارض التي ولدت فيها وعشت، أصبح دياراً مدمرة بسبب بعده عن ظل السلاطين، ولانعدام شعور ساكنيه ان بستاناً كهذا أصبح سروه المتسامي زوابع لرياح سامة وبراعمه غير المتفتقة قبباً لقبور الشهداء المظلومين)).

 

إن الصفحات الاولى من تاريخ الادب التركي تفتخر بعلمين كبيرين من مؤسسييه، والاثنان عراقيان تركمانيان، هما (فضولي البغدادي، ونسيمي البغدادي)! يعتبر(فضولي) هذا الشاعر التركماني الكربلائي البغدادي، من أول وأكبر شعراء التركية (ومعها التركمانية والآذرية). هنا تعريف بهذا الشاعر كتبه باحث قدير من ابناء مدينته كربلاء.         (ميزوبوتاميا).

عند الدخول الى غرفة مكتبة ودار مخطوطات الروضة الحسينية المقدسة والتى تقع فى الجانب الايمن من باب القبلة – السياج الخارجى المحيط – بضريح الامام الحسين (ع) يرقد شاعرنا العراقى الكبير محمد سليمان فضولي البغدادي. وشاعرنا غني عن التعريف، فهو من مشاهير شعراء عصره، له اسلوب جميل، وشاعر مجدد غير مقلد، ولم يظهر فى المدينة – بغداد دارالسلام – من هو أشعر منه ينظم الشعر باللغتين التركية والعربية وان أغلب اشعاره فى مناقب أئمة الدين.

اختلف مؤرخوا الادب فى تحديد تاريخ ولادته ومكانها، أما الباحثون الاتراك فقد حددوا سنوات ولادته بين سنوات : 1480 أو1495 أو 1504، كما اختلف المؤرخون أيضاً حول مسقط رأسه،فهناك ادعاءات بأنه ولد فى بغداد أو فى كربلاء أو فى النجف أو فى الحله أو فى كركوك أو فى إحدى قرى البيات التابعة إدارياً لقضاء طوزخورماتو. إلاّ ان الشاعر يقول (( ان مولدي ومنشأي كان عراق العرب ولم أسافر فى حياتي الى أى بلد آخر)). أما كونه من عشيرة البيات وهم (تركمان) من أوغوز أوالغز وأوغوز، وهم طائفة من الترك، وينقسمون الى 22 قبيلة، ومنها قبيلة البيات. ومن المعروفن أكثرية البيات كانت ومازالت تسكن فى العراق فى المنطقة الواقعة بين كركوك والخالص وفى أماكن اخرى من العراق.

عاش فضولي صباه فى الحلة ودرس العربية على يد أستاذه (رحمة الله) أو (رحمان الله)، الذى كان بارعاً فى العربية عندما كان والده يشغل منصب مفتي الحلة. وتزوج فضولي ابنة استاذه وانجبت له ولدا سماه فضل الله ولقب بفضلي الذي توفى عام 165م .

انتقل فضولي الى بغداد لنيل العلم والثقافة والمعرفة وذاع صيته. الى جانب (التركمانية) لغته الام، اتقن اللغتين العربية والفارسية، وتعلم علم المنطق والطب والتنجيم والرياضيات والعلوم الانسانية الاخرى ودرس التيارات الدينية والفلسفية من اسلامية وشرقية ويونانية وتعرف على نتاجات عباقرة الادب في البلدان عن طريق اللغة العربية، كما تعرف على الآداب الكلاسيكية والفارسية والاوزبكية والهندية في بغداد الثقافة والعلم والادب. ونظم الشعر بلغات ثلاثة، التركمانية (الآذرية)، والعربية والفارسية. ويقول فضولي في مقدمة ديوانه بالفارسية: ))تارة قرضت الشعر بالعربية، وقد نالت قصائدي اهتمام بلغاء العرب وكان يسيراً عليَّ  لأن لغة البحث العلمي كانت عندي العربية، وتارة قرضت الشعر بالتركية وقد امتعت ظرفاء الترك ببدائع الشعر التركي ولم أكابد ضنكاً في ذلك لان أشعاري التي نظمتها بالتركية كانت متلائمة مع قابلية فطرية واستجابة لسليقتي وتارة أخرى نضدت اللآليء في سلك اللغة الفارسية وقطفت من أغصان شجرتها ثمار القلب)).

وكانت احدى الحسان الايرانيات قد طلبت منه شعراً وقرأ فضولي بعض الابيات من الشعر بالعربية والتركية وهنا قالت الحسناء الايرانية : ان هذه القصائد لاتفيدني لانها ليست بلغتي اني بحاجة الى قصائد غزلية مؤثرة. عندئذ  شعر فضولي بالخجل وبدأ يكتب قصائد بالفارسية أيضاً نزولاً عند رغبة الحسناء.

عاش فضولي البغدادي في عهدين مضطربين، بين عهد الشاه اسماعيل الصفوي عام1468 م –1566م مؤسس الدولة الصفوية الأذربيجانية الذي انتشرت فيه اللغة الآذرية انتشاراً واسعاً، وعهد السلطان سليمان القانوني 1459 م -1566 م  الذي اعتمد اللغة العثمانية التي كانت تركية ممزوجة أساساً بالعربية، وكذلك بعض الفارسية.

كان التناحر الموجود  بين أتباع الدولة الصفوية وأتباع الدولة العثمانية التركية قائم، الاّ أن شاعرنا لم ينجر وراء المهاترات القائمة بين الجماعتين وبقي ملتزماً بقضايا الشعب، وذاق الشاعر مرارة العيش وكان يتسلم راتباً من العتبات المقدسة، الاّ ان هذا الراتب قد قطع عنه مدة من الزمن. وقد عبر الشاعر عن هذه المرارة مرارة العيش والفقر التي كتبها بدموعه ودمه يقول الشاعر فضولي معبراً عن هذه المأساة الانسانية:      

حلت حين ماحلت على المصائب     /    الى الرأي في حب الصائب صائب

مرادي بلاء فالنجاة عن البلا     /     عذاب عظيم مؤلم  لي صائب

مراتب قدري في البلاء جليلة        /     بقدر بلاء المرء تعلو المراتب

 فلا  نفع الا تحت درك بلية       /     فطالب نفع البلية طالب

ويعبر كذلك في احدى مقطوعاته النثرية حيث يقول : ((ان عراق العرب هو الارض التى ولدت فيها وعشت، أصبح دياراً مدمرة بسبب بعده عن ظل السلاطين ـ أي عدم اهتمامهم ـ، ولانعدام شعور ساكنيه ان بستاناً كهذا أصبح سروه المتسامي زوابع لرياح سامة وبراعمه غير المتفتقة قببا لقبور الشهداء المظلومين. ان مجلس لذة  كهذا، شرابه دم رئة متقطعة. ألحانه صرخات الغرباء المشردين. لايهب في صحرائه التي تزداد فيها المحن نسيم الصباح، ولاتظهر في براريه المليئة بالمصائب غيوم الأمل المسكنة غبار الهم)).

بهذا الاحساس والشعور المليء بالوطنية يتأوه الشاعر ويعيش مع آلامه التي هي آلام الشعب والوطن ويعبر بأسلوب أدبي خلاق عن الوضع السائد آنذاك في العراق ويسجل ملحمة تاريخية لاتنسى.

ومن المعروف ان أكثرية الشعراء في العصور الوسطى كانوا يميلون الى التودد الى قصور السلاطين بكتابة قصائد المديح وترويج شعر الديوان إلاّ ان فضولي  ظل بعيداً عن القصور حتى ان القصائد التي كتبها وأهداها الى بعض المسؤولين كانت تعكس معاناة الشعب بأسلوب تسوده اللباقة الادبية.

يقول في احدى قصائده: ((ليحترق في النار بساط السلطة)).

كان فضولي فناناً كبيراً في عصره يوجه الانتقادات بفكره النير الثاقب الى كل الدناءات، وبالنسبة له كان المال والجاه والثروة تجلب السعادة لحفنة من رجال الزمرة الحاكمة أما الناس الذين يحبون الصعاب وهم فعالون في اعمالهم فكانوا يعيشون في البؤس والمشقة.

يقول : ((لاأدري ماهذا الطالع، كل مايزرع شيء في حقل الوجود لايجني غير التأسف محصولاً)).                   

ويوضح الشاعر في مقدمة ديوانه الفارسي مبلغ اهتمامه بحياة الفقراء في سياق علاقة خطابه الشعري بالانسان، فعملية الخلق لديه تتجلى باهتمامه بحياة الفقراء والمحرومين الذين يقاسون حياة العوز والهموم والمصائب. يقول:

((لاتتفاخر بما كنزت من ثروة أيها السيد / فاكتناز الذهب والفضة يدفع بك الى الغرور)).

ندد فضولي بالجور والرياء والارهاب والعدوان، وفي كتابه ((أنيس القلب)) يقترب أكثر فأكثر من هموم الجماهير الكادحة ومشاكلها ويقول: ((الشخص الذي اعتاد على تناول اللحوم المحمرة والمشويات في كل وجبة ويتخم مائدته العامرة بالاطايب ينهب أموال الشعب  كيف يحنو شرير النفس مثله على نفوس مزقتها الهموم ؟ وكيف يتألم على الارواح المعذبة ؟ بم يفيدك العرش الذي يعوم ويذهب فوق المياه المتقطرة والمترشحة من أهداب الفقراء)).

من المعروف انه في العصور الوسطى كانت السيادة الاقطاعية مسيطرة بكل جورها ومتحكمة في حياة أهل الريف، أحس فضولي بهذه المأساة الانسانية وقال :

((دائما تنال الحصة من المحصول / وكأنك شريك / وكأنك تسترجع ديناً / من حامي ثروتك / كلما نهبت من ماله / قد اوغلت في الاجرام / انت قمت بالسلب / من يتحمل وزر آثامك ؟)).

من ابداعاته

عاش فضولي في عصر كانت الحروب والكوارث والفقر والجوع والتناحر واحتدام التفسخ في المجتمع منتشرة ومحدثة في حياة الناس آثاراً سيئة وقد شَخَّصَ فضولي كل هذه المآسي، فضلاً عن السلبيات المحتدمة في تلك المرحلة حيث قال :

((أديت السلام تحية ولم أجب / لانها لم تكن رشوة / أدليت بمشورة ولم يلتفت اليها أحد قائلين / إنها تافهة ..)).              

قدم فضولي أروع قصائده العاطفية بلغته الام التركمانية، واستعمل فيها مختلف أوزان العروض العربية بإجادة تامة. فضولي الذي عبر بلغة رائعة عن الاحاسيس الرقيقة وقلق الانسان، تمكن من أن يقدم عصارة فكره باسلوب شيق ضمن اللغات الثلاث. ان الحب في قصائده الغنائية يملك المضمون الاجتماعي والفلسفي العميق علماً ان الحب يعني عنده السعادة والصداقة والكمال والجمال وعشق الحياة والتمرد تجاه كل مايؤذي الانسان ومستقبله وكيانه.

ومن المعروف ان في آثار فضولي تأثيراً معيناً من النظرة الصوفية، لكن فضولي لم يرتبط أبداً بأية طريقة من الطرق الصوفية وأحب الناس والعدالة والوئام. أحس معنى الحياة وأهدافها في العشق، وكان العشق كامناً في مئات من قصائده الغزلية وكان يؤمن بان للعشق قيمة عليا حيث تمكن من أن يسطّر أفكاره النيرة بروح العشق الخالد وأن يوجه انتقاداته الى أولئك الذين عدوا العشق إثماً، ان العشق والحب عنده ليس هياماً شخصياً. كل ماكان يفتش عنه من عشق وصدق كان الهدف منه اعلاء الانسان وبلوغ درجة النضوج هذا العشق والحب الانساني كان ينبثق من روحه المتطلعة نحو التفاؤل :

((على العاشق أن يأخذ الدرس من الفراشة / كلا المحبين في الهيام / تلذعهما نار الشمعة اذا التقيا)).

الحب لدى فضولي ينبع من روح التضحية انه حب الوطن، حب الشعب كأن فضولي خلق ليعكس عظمة العشق والحب ويبعثهما من جديد. ان هذا الحب الذي يعد رابطة الشعور التي تسوق الانسان الى تضحيات جسيمة لايتوفر الاّ في مستوى شاعر فيلسوف مثل فضولي ان عشقه وحبه خالدان في التاريخ:

 

مللتني الحبيبة من الروح / الا تسأم الحبيبة من الجفاء / احترقت الافلاك من آهاتي / هلا تنور شمعة أملي..

                ------------

تحسن الحبيبة لكل مرضاها / علاجاً لدائهم / لماذا لاتهبني الدواء / أهي في ريب من عيائي 

                    ------------------

في ليالي الهجر تحترق روحي / وتذرف الدم عيني الباكية / أنيني يوقظ الناس

الا يستيقظ  طالعي الاسود ؟

                    ----------------------

باتت عيني تسفح الدمع دماً / على وجنتها الورد / حبيبتي هذا فصل الورد / الا تتعكر المياه الرقراقة ؟  

                     ---------------------

نقل فضولي مايجيش في النفس البشرية من عواطف وأفكار ومايختلج فيها من أحاسيس ومشاعر بصميمية واخلاص وصدق وحماسة وبساطة ضمن قصائده الغزلية في ملحمة ((ليلى ومجنون)) تارة بلسان ((ليلى)) وتارة أخرى بلسان ((مجنون)). حيث يقول على لسان ((مجنون)):

العاشق هو من يجود بنفسه / من اجل الحبيبة / فمن لايقدر على الجود بالنفس / عليه ان لاينجذب نحو الحبيبة ..

                    ----------------------

سمو العاشق ان يهب نفسه / من اجل الحبيبة / فمن لايهب روحه / فليعترف بنقصه

                   ------------------------

كن فانياً في العشق / لأن فناء العاشق يشبه / نبع الحياة لـ ((الخضر)) / الخالد أبداً

                     ---------------------------

ويقول على لسان ليلى :

لم يبهج الدهر قلبي / حتى أدمى جوانحي / ولم يسعدني / دون أن يبكيني

                      --------------------------

ظلما مزق قلبي المدمى / الى مئة مزقة / ولم يبهجه الدهر / في هذه الخمائل لحظة واحدة

                       -------------------------

حمداً ان الدهر / حقق امنياتي / ولم يدعني لليأس / ولم يجعلني أندم على وفائي ومحبتي

ان الغزل والقصائد ميزة مهمة من شعر شاعرنا الكبير، حيث يعد الغزل وسيلة لتبيان المشاعر والقصيدة وسيلة لتبيان الفكر والرأي، ويتجلى في غزلياته عمق الفكر والاحاسيس الجياشة والعالم الواسع للعشق الخال.

قضى شاعرنا سنوات عمره الاخيرة في كربلاء يخدم مرقد سيدنا الامام الحسين عليه السلام، ويأخذ على عاتقه القيام بمهمة اشعال القناديل في الروضة المطهرة، وفي هذه الاثناء أنتشر مرض الطاعون في المدينة، حيث أصيب شاعرنا بهذا المرض، وبعد ثلاثة أيام توفي شاعرنا عن عمر ناهز الثانية والستين، وبناءً على وصيته دفن في باب القبلة من مرقد سيدنا الامام الحسين(ع).

رحم الله شاعرنا الخالد محمد سليمان فضولي البغدادي..

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة