أماكن

مقاهي المثقفين.. متى تعود؟

 أحمد سعداوي/ بغداد

saadawi111@yahoo.com

 

  

 

يعتبر المجتمع العراقي في جميع طبقاته الشعبية والنخبوية، من محبي المقاهي. صحيح ان المقاهي ظاهرة موجودة في جميع أنحاء العالم، لكنها ليست بنفس الاهمية في جميع البلدان. ففي بلدان اوربا، ان المقاهي لدى الفرنسيين والسويسريين، مثلا، هي أكثر وفرة وشعبية من ايطاليا. أما في البلدان العربية، فإن المقاهي في سوريا محدودة وتوجد فقط  في مراكز المدينة ونادرة في الضواحي وفي المناطق الشعبية. ويعد العراق ومصر من أكثر البلدان العربية والشرقية وفرة وشعبية في المقاهي. هذا النص الجميل ومعه الصور، إحتفاءً بمقاهي المثقفين في بغداد التي عانت الخراب والموت بسبب حال الوطن، وهي يقيناً في طريقها للعودة افضل وأرقى مع عودة الحياة الى بلادنا العزيزة. ( ميزوبوتاميا)

 

منذ أن بدأت طبقة المثقفين بالبروز والتكتل الاجتماعي في الحياة العراقية، وهؤلاء المثقفون يتحركون ضمن فضاء دعامته الأساسية المقهى. وكأن النسق الاجتماعي المديني ـ الذي افرز بالتراكم والتداخل والاختلاط أطراً اجتماعية جديدة عمادها الحرفة والميول الشخصية، على خلاف مع الأطر التقليدية ما قبل المدينية. وحدد الحيز المكاني لهذا النشاط بـ (المقهى) دون غيره. ليتأصل هذا الفضاء المكاني / الاجتماعي ويأخذ امتداده مع التعقد والنمو لمجتمع المدينة نفسه.

صورة مهمة لمقهى بغدادي 1916

ويبدو من المستحيل أن نضع اليد على مثقف أو أديب تشكل خارج فضاء المقهى، أو من دون المعونة التي يقدمها هذا الفضاء المكاني / الاجتماعي، الذي غدا بصيغة أو بأخرى نوعاً من الحديقة الخلفية لمجمل النشاط الثقافي الرسمي، أو المؤسسي ونوعاً من المعهد الشعبي والارتجالي للتدرب على خبرات الجدال والنقاش وتبادل الآراء والمواقف، وأيضاً نوعاً من المنتدى الذي تجرى فيه عمليات تبادل الكتب أو موجهات التعرف على الكتب والعثورعليها ومحطة أساسية يرتادها الجميع حين يبحثون بعضهم عن البعض. ان المقهى الثقافي أو الأدبي، مثل نوعاً من الحاضنة الاجتماعية لإحساس الأديب والمثقف بـ (نوعه) وبحضوره. فهذا المقهى كان دائماً نوعاً من البرزخ بين (عزلوية) الثقافي والأدبي وحرارة العيش، نوعاً من القوة التي يشعر المثقف والاديب بأنه يتنافذ من خلالها مع المجتمع، وانه من خلال النشاط الاجتماعي النوعي داخل المقهى الأدبي يتحسس الجانب المخصص له ضمن الفضاء الاجتماعي العام ويتلمس بذلك شرعية حضوره.

والمقهى الأدبي والثقافي في نهاية المطاف لا يفرض إطاره الخاص على المرتبطين به، وهذا ما ينعكس على الطابع السلوكي الخاص للمثقفين فيه. فرغم أن هناك متناً واسعاً من النشاط الاجتماعي / الثقافي للمثقفين يتم خارج المقهى (في المؤسسات الثقافية، والصحف، والمجلات وغيرها) إلاّ أن هيمنة فضاء العمل، وإكراهية الوجود في المكان، يقلص كثيراً من حرية الحركة والنقاش، واختيار الرفقاء. وكثيراً ما ظل الجدل منقوصاً (على أهميته) ذلك الذي يجري على هامش النشاط داخل المؤسسة، ما لم يتم استكماله في المقهى.

صراع الديوك بدلاً من صراع المثقفين

ظل المقهى على وفق ذلك الكفة الثانية لميزان النشاطات الثقافية الاجتماعية الأخرى، إن كانت نشاطاتٍ على هامش المؤسسات، أو بتوجيه منها.

ومن المعروف ان المقهى ظل يحمل حقيقة غير معلنة، ولكنها راسخة ولا تحتاج الى تدليل، بأن قوة الصورة الثقافية تنتج هناك في ذلك المكان الاعتباطي والمنزوي وغير الرسمي وغير المنظم المسمى المقهى. لأنه ببساطة ومن دون تخطيط من أحد هو المكان الذي تتجسد فيه القيمة السلوكية للحرية بأعلى صورها.

إن ما حكم بغلبة الشعر في العراق أو السرد في مصر على النشاط الثقافي العام، ليس مجرد الميول الشخصية للأفراد، بقدر ما هو التأثير الاجتماعي اليومي لسجالات المقهى الثقافي، التي لن نستطيع التقليل من تأثيرها الحاسم في هذا الصدد، مهما بدت العوامل الأخرى أكثر أهمية.

وبالقدر الذي شحذت فيه المقاهي الأدبية مواهب وقدرات فئة قليلة من المثقفين والأدباء، وأبرزت بالتفاعل تلك البوصلة الشخصية التي ستحدد مسارات هذا الأديب أو المثقف المستقبلية، فانها خلقت أدباء متوهمين وأنصاف مثقفين، ومرَّوجي شائعات اكتسبوا مجدهم من سرد قصص يومياتهم مع مثقفين لمعت أسماؤهم فيما بعد. وكل ذلك عزز (أسطورة) المثقفين في الوعي العام، وخلق مصدر قوتهم الخفية أيضاً.

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة