الملاية.. نواحة التاريخ العراقي..

سامية غانم الدباغ ـ كندا

 ( ألُملاية)، مؤنث (مُلاَ)، والُملاَ  في أللهجة العراقيه ألدارجه تعني ( رجل دين)، وهي اساسا كانت تطلق على كل من يقرأ ويكتب أو يعلم ألأطفالً. ويعتقد ان الكلمة اصلها آرامي، حيث لا زال السريان يطلقون على الانسان المتفقه تسمية احترام (ملفونوا). وقد تكون الكلمة على علاقة بفعل (املى) اي الذي يملي الكلمات والافكار، اي يلقيها. وظيفة(الملاية) على علاقة بوظيفة ( العدادة) التي تعني  الندابة ألنائحة ألتي تصف وتعدد خصائص ألميت وصفاته الحميدة وتنوح عليه في ألمآتم ألنسائيه. كذلك ( ألقوالة) التي هي ألمرأه ألتي تقول الشعر وتنشده في ألمآتم والأفراح، وبخاصة ألأبوذيات والهوسات. تقريبا في تقاليد وميراثات جميع الشعوب هنالك (ندابات) لرثاء الموتى. لكن (الملاية) العراقية تتميز عن باقي الندابات بأن دورها(ديني) وليس اجتماعي فقط. حيث ان الميزة الاساسية لوظيفة (الملاية) انها متخصصة بالندب والرثاء على  الشهيد الامام الحسين(ع) وباقي شهداء واقعة كربلاء. اي ان وظيفتها اساسا (دينية) بالاضافة الى وظيفتيها الاجتماعية والثقافية. فهي ثقافيا، لأنها تتقن القراءة والكتابة لكي  تتمكن من قراءة (قصة المقتل) وما يتعلق بها من اشعار واقوال، بالاضافة الى انها تلعب دورا اجتماعيا متميزا ومحترما ( شبه مقدس) بين نساء الحارة.

 

يبدو ان وظيفة(الملايا) لها ارتباط مباشر بالندابات الدينيات في العراق القديم اللواتي كن متخصصات بالبكاء على (تموز) (اله الذكورة والخصب)، بعد موته في كل عام في اول شهر تموز، خلال العشرة ايام الاولى منه(لا حظ التشابه الغريب مع عاشوراء!!)، حيث يغيب في العالم السفلي، مع انتشار الحرارة والجفاف في ربوع النهرين. ويعود هذا الاله من جديد في اول الربيع في شهر نيسان (نيشانو)الذي يصادف في (21 آذار) أي يوم المنقلب الربيعي، حيث يعتبر اليوم الاول من السنة الجديدة حسب التقويم العراقي القديم. وقد انتقل هذا  العيد الربيعي العراقي الى باقي شعوب المنطقة، وقد تبناه الايرانيون بعد احتلالهم لـ(بابل) في القرن السادس قبل الميلاد واطلقلوا عليه تسمية(نيروز) اي (اليوم الجديد) وهي ترجمة مقاربة لتسميته العراقية القديمة(حجتو) اي يوم الحج والتجديد. 

السيدة (ام علي) الملاية البغدادية في احدى (القرايات)..

 

   تقوم ألنساء في العراق بإقامة مجالس تعزية خاصه بهن، وبخاصةٍ في شهر محرم. وغالباً ماتقام ((ألقراية))  أو(( قراية ألنسوان)) في بيوت ألعوائل الغنيه او ذات المكانه الدينيه ـ ألأجتماعيه العاليه، وتستمر القراية مدة عشرة أيام، وتقام غالباً في صحن الدار أو غرفة الضيوف ( ألديوان) حيث تجتمع ألنساء وهن ملبدات بالسواد  و مسرحات الشعور، مكونات دائره أو عدة دوائر، بحسب عددهن، وتتصدرهن((ألملاية)) وهي التي تقرأ التعزيه وتنشد ألمراثي ألحسينية ألتي تصور مأساة كربلاء وماحلَ بأهل البيت من ظلم وجور وسبي وتشريد، وتطعم حديثها بقصائد شعريه شعبية ترثي بها ألإمام ألحسين بألحان شجيه. وبعد مرور نصف ساعه تقريباً تدخل (( ألملاية)) وسط دائرة ألجالسين من النساء وتأخذ بالنواح وإنشاد مراثي حزينه من ألشعر ألشعبي بلحن جنائزي شجي يثير العواطف ويؤجج ألأحزان ويفجر ألدموع في المآقي، حيث تتعالى ألأصوات وألآهات والعويل مع اللطم على ألصدور بحركات إيقاعيه رتيبه وهن يصرخنَ بحراره ((أحوَ.. أحوَ..)) ثم ((ياحسين...ياحسين...))، تعبيراً عن حزنهن ومواساتهن للأمام ألحسين. وتشارك مجموعه صغيره من ألنساء (( ألملاية)) في ترديد ألبيت ألأخير من كل قصيدة، أو ألمقطع ألأخير من كل ((أبوذية)). ومن ألمعتاد أن تَصِعد (( ألملاية)) بعد ذلك من حرارة ألموقف حين ترفع صوتها عالياً وتقوم إلى جانب ذلك، بحركات وإيماءات ولطم صدرها ووجهها بيديها لتثير أحزانهم وشجونهم وتدفعهم أكثر للتوجع والنحيب. ويصل ألحماس إلى ذروتهُ حين تصل ألنساء إلى حاله من (( ألتوحد)) و (( الوجد)) حيث يأخذن بالتحرك نحو ألأمام مرة وإلى ألخلف مرة أخرى في حركة إيقاعيه على ضربات ألأيدي على ألصدور.

وفي يوم عاشوراء تنزع بعض ألنساء ثيابهن عن صدورهن ويقفن وسط ألقاعه على شكل دائري ويلطمن على صدورهن مرة وعلى وجوههن مرة أخرى، في حين تأخذ ألنساء ألواقفات حولهن بالصراخ والعويل ((يبوُ.. يبوُ..)) ألتي تعني  (( ياأبي...     ياأبي...))، وهو ترديد لصراخ ألنساء وألأطفال من أهل البيت وهم يطلبون ألنجده من أبيهم. حينما أُخذوا أسرى إلى الشام. وتستغرق قرائة ألنساء عموماً بين نصف ساعة وساعة. وقد تكون خلالها فترة راحه قصيره يقدم فيها ألشاي وألماء وألسكاير.  وفي أليوم السابع من شهر محرم، يوزع على ألحاضرين (( خبز ألعباس))، وهوخبز محشو بالجبنة والنعناع أوالريحان، وهو أليوم الذي إعتاد ألناس على تخصيصه للأحتفال بذكرى إستشهاد ألعباس بن علي.

وتنتهي ألتعزيه بعد أن تصل ألنساء إلى ذروة ألهيجان حيث يأخذن بلطم وجوههن بقوة وهن يصرخن بحراره وأسى(( ياحسين... يامظلوم))، حتى تنهي (( ألملاية)) ألمجلس بقرائة الفاتحة على شهداء كربلاء.    

ـــــــــــــــــــ

العودة للفهرس