الملاية.. امبراطورة النواح..

محمد مظلوم ـ دمشق

m.mazlum@scs-net.org

الملاية (ام علي) تقرأ المقتل في جلسة عزاء..

 

بالرغم من أن كتب التراث، تنقل لنا إن أول ناع دخل (المدينة المنورة)، مسقط رأس (الحسين بن علي بن أبي طالب)(ع)، هو بشر بن حذلم قد نقل نبأ مقتل الحسين(ع) إلى من تبقى من أهله وأهل مدينته، بأبيات شعرية شهيرة يقول مطلعها:

(( يا أهل يثرب لا مقام لكم بها/ قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج/ والرأس منه على القناة يدار))

إلا إن الواقع إن يشير إلى إن مراثي الحسين كان قد بدأت حتى قبل احتزاز رأس الحسين بأرض كربلاء، واستمرت دائرة مع الرحلة المعروفة لدوران الرؤوس على أسنة الرماح من كربلاء إلى الكوفة ومن ثم من الكوفة إلى الشام.

وهذا الواقع يثبت حقيقة أخرى هي إن المراثي الحسينية، التي بدأت النموذج المكبر للندب الحسيني، إرتبطت بالمرأة، فمن بين العشرات من أهل بيت الحسين وأصحابه لم يبق من الرجال، إلا بضعة من الأطفال والجرحى! بينما اشتعلت الفاجعة في قلوب النساء الكثيرات المصاحبات لأزاوجهن وأبنائهن وأخوانهن وآبائهن في موقعة الطف. وتحمل كتب التراث العديد من النماذج المبكرة تلك، بينها أشعار مبلولة بماء الحزن، للرباب بنت امرئ القيس ــ وهو غير الشاعر الجاهلي المعروف ـ والتي كانت إحدى زوجات الحسين، وكذلك مراث متفجعة لأم البنين الكلابية، أحدى زوجات الإمام علي والتي فقدت أربعة من أبنائها في كربلاء، بينما كانت هي قد بقيت في المدينة، وثمة مرثيات أخرى تنقل عن أم كلثوم بنت علي وسكينة بنت الحسين، وليلى إحدى زوجات الحسين وأم ولده البكر وهي من بني ثقيف!

بل إن (ابن الشجري) في كتابه (الامالي) يذهب إلى أبعد من ذلك، عندما ينقل لنا ما يشير إلى إن الندب والنواح على الحسين، ليس أنسياً أو أرضياً فحسب، بل هو طقس مقدس أتت أصواته من عالم آخر، دون أن ينسى تثبيت الهوية الأنثوية لهذا النواح  المختلط بطقس الاحتفال حيث يشير إلى أن أهل المدينة ( كانوا يسمعون نواح الجن على الحسين وجنية تقول:

(( ألا يا عين فاحتفلي بجهد/ ومن يبكي على الشهداء من بعدي/ على رهط تقودهم المنايا/ إلى متجبر في ملك عبد))..

ولا حاجة للتنبيه هنا إلى ما يحمله مستهل البيت الأول من دمج غير اعتباطي بين فكرة الاحتفال، والبكاء على الشهداء. كما يمضي ابن الشجري إلى تقصي جغرافيا النواح في مكان آخر ليروي عن الجنيات مرثية أخرى تلخص قداسة شخصية الحسين :

((مسح النبي جبينه/ فله بريق في الخدود

أبواه من علـيا قريش / جده خير الجدود))..

المرثية هنا تخرج عن دلالتها النواحية المباشرة لتدخل في سياق أنشودة مدائحية جمالية، تؤكد إن الفقد كان عظيم الأثر.

ويلاحظ إن هذا التفجع النسوي الكبير قد جرى تكثيفه عبر المراحل التاريخية، بشخصية( زينب بنت علي)، شقيقة الحسين، وعميدة البيت الهاشمي النسوي، مثلما جرى تكثيف واقعة الطف برمتها بقصة مقتل الحسين كصورة جمعية لقتلى كثيرين، وفاجعة متعددة النوائب للتعبير عن يوم كربلاء!

 

شخصية الملايا

وسط هذا الجو العاشوري (العشتاري!) الواضح، تشكلت شخصيات تاريخية لافتة تمثل ملخصاً لصورة إمبراطورية تتناسل تركاتها عبر العصور، وتعبر عن نفسها بتجليات مختلفة كجزء من تشكيل وجدان شعبي خاص يخضع لطبيعة ثقافية معينة وبيئة اجتماعية ومثيولوجية خاصة.

من هنا وجدنا أنفسنا أمام شخصية تلخص هذه التجربة، في العراق، أعني شخصية الملاية ذات التأثير الخاص، في الوجدان الأنثوي العراقي، وفي الترسبات الشعورية للطفولة المرتبطة بأجواء عاشوراء.

وترتبط شخصية الملاية، إضافة إلى صلتها العميقة في تمثل النموذج النسوي المفجوع بكربلاء، بنموذج آخر في التراث الديني النسوي، فهي نوع من التعبير الشعبي المحلي، عن تبني فكرة إمامة المرأة في الدين، إذ أن المتواتر في الجدل الذي ظل دائراً بين الفقهاء حول معضلة إمامة المرأة في الدين، تأكيد على عمق انشغال الفقه الإسلامي بهذه المعضلة، فبينما جوزت العديد من المذهب إمامة المرأة للنساء في الصلاة، ومنعته بالنسبة للرجال، سنرى إن مرجعاً شيعياً معاصراً بارزاً، قد تعرض بكثير من الجرأة لهذا الموضوع، فالسيد (محمد حسين فضل الله)، اعتبر إن القضية الفقهية هي قضية ثقافية يمكن تحصيلها من قبل الذكور والإناث على حد سواء، مما يعني إن إمامة المرأة تصح في المسائل الفقهية المتحصلة طالما إن المسألة ترتبط بهذا المناخ الثقافي المفتوح.

تتداخل في شخصية الملاية كذلك، أبعاد المهنة الحياتية بدلالاته الدنيوية المباشرة، بطقوس روحية تطوعية ترتبط بالتكليف الشرعي والواجب الديني، بفكرة الإثابة والمستحق، المتضارعة مع إرث محلي يرتبط بالشفاعة والتوسل بالأولياء، إنها خليط لا يبدو متجانساً بين صوفية غير منتظمة، وطقوسيات فيها الكثير من محمولات اللا وعي الجمعي، وممارسة اجتماعية تنتظم في التقاليد والفولكلور الشعبي.

ولهذا فلا يبدو أن ثمة تأصيلاً محدداً للنموذج البدئي لشخصية الملاية، إلا بردها إلى أبعد من العلاقة المباشرة بالواقعة التي شكلت شخصيتها الحالية، فهي كما أشرنا خليط غير منتظم ولا يمكن نسبته إلى بنية معينة، ولعل شخصية المرأة المفجوعة التي تحاول الملاية استعارتها في تأديتها لمسرح النواح اليومي طيلة أيام عاشوراء وما بعدها وكذلك في المناسبات الأخرى المرتبطة بها، هي أيضاً تمتد بعيداً لتلتصق بنموذج النواح الأول في التراث العراقي البعيد، وغير المنقطع في تمثلات اللاوعي الجمعي القارة في الوجدان العراقي.

صورة (عشتار) الباكية على (تموز) ستبرز بوصفها النموذج البدئي لشخصية (زينب) الباكية على شقيقها (الحسين)، الطوطم واحد هنا في الجوهر وإن بدا مختلفاً عرضياً بين شخصيتي الشقيق والزوج!

فرحلة عشتار إلى العالم السفلي للبحث عن جسد تموز المعلق بخطاف! تشبه إلى حد ما رحلة الغريبة من الكوفة إلى الشام مع رؤوس الأحبة المعلقة على أسنة الرماح بحثاً عن قبر يوحد بين الرؤوس وأجسادها.

ويه يا حسين!

تلمع شخصية الملاية، إذن، بين غيم الفاجعة وسماء الرحمة، إنها محراث المشاعر النائمة والمكبوتة التي سرعان ما تحرك رماد الفجيعة فتشتعل نيران الحياة من جديد، وينهض التاريخ بكامل قامته ليقف بين شواخص الحاضر بوجوده الحي لا بشبحيته.

ستدعي الدخول إلى عالم الملاية جهداً غير طبيعي لإزاحة اللثام عن ممارسة اجتماعية تتسم بالتستر والتحجب، وذات خصوصية اجتماعية وحرمة دينية، خاصة بعد أن نفيت خلال العقود الأخيرة خلف طبقات متعددة من القهر والتهميش، وحتى الإلغاء، ليصبح الكشف عنها وإعادة الاعتبار لها، مهمة لا يمكن إنجازها بهذه المقالة، التي لا تعدو كونها أكثر من دعوة تحريضية لإعادة اكتشاف عالم مهم، يكاد يغيب اليوم.

واضح إن تسمية الملاية مرحلة عن تسمية ذكورية متصلة بوظيفة دينية تربوية، هي: ( الملا) وهو في العراق يعادل ما يعرف في بعض البلدان العربية ( بالكتَّاب، أو الكتاتيب) بيد إن المدرسة الذكورية مع الملا تهتم بالأصول الدينية كتعليم القرآن، والكتابة والقراءة، الإملاء هنا هو مصدر التسمية وهدفها في الآن نفسها، فثمة ما يملى على الصبيان من أجل تعلمه ومن ثم تمثله، ومن هنا تسمية الملا.. لكن فقه الملاية يتباين نوعياً، مع الأصول التعليمية الذكورية، إنها تختص بتأكيد الفاجعة وبتمريرها بطرق محدثة عبر تحريرها من سلطتها الدينية ونقلها إلى ما هو شخصي ووجداني!

دين المرأة هنا ليس فقه المعاملات والعبادات بل هو حرارة الواقعة وقوة الحدث المتصلة بالتأكيد بتلك المنابع عبر طريق لا تبدو مرئية للوهلة الأولى. الملاية إذن هي المدرسة الأخرى غير الأكاديمية البحتة ولا الاجتماعية الموجهة، لكنها رموز الطقوس التي تجعل من العذارى مختلطات بالنساء، ومجالس الحريم لا تقتصر على احتفالية الطقوس الذكورية في عاشوراء، بل هي تندفع نحو تقاليد من نوع آخر.

وتختلف مهمة الملاية عن مهمة أخرى تبدو متشابهة معها في المظهر العام لكنها متباينة عنها في الجوهر، فثمة في المآتم الاجتماعية، سواء  في العراق، كما في تقاليد اغلب شعوب العالم، هنالك دائما سيدة تكون متقدمة في السن، ومتفجعة كبرى، تمتهن إبكاء الآخريات في المآتم. هذه الندابة الغريبة تسمى في العراق ( الشاعرة) أو (الكوالة) ( من القول) وتختص بالقاء مراثي عامة تكيفها حسب كل حادثة وفاة.

 بيد أن الملاية، تختلف، إذ انها لا ترثي شخصا معينا، بل ترتبط مراثيها بموسم عاشوراء، وتلتصق بصفات ( الحسين) وقصة مقتله فحسب، تماماً كارتباط النواح العشتاري والعراقي القديم عموماً بمواسم القحط بعد خصب، وبكائها على تموز!

ليس من الضروري أن تستمد مهنة الملاية أهميتها من الشرف المتحصل، من التحدر العلوي (الانتساب إلى سلالة الأمام علي، من فاطمة) أو المجد الموروث، بل هي ظاهرة ثقافية مكتسبة، لا تنطوي على تفاضل نوعي إلا بمقدار ما تختبره تلك الظاهرة بالممارسة والديمومة. ستكون (العلوية) المتصلة بالفاجعة بالتحدر والرحم، مجرد نعت نوعي، إضافي قد يسبغ على شخصية الملاية هالة مضافة، بيد أنه لن يكون عاملاً حاسماً في ترجيح ملاية على أخرى، فكم من (علوية) تنتمي إلى بيت الفاجعة الأول وتتحدر من سلالة الحزن المتوارث، تجدها تنوح في مجلس الملاية التي تؤكد إن الدمع والنواح إمبراطورية يجري تأسيسها بالموهبة والممارسة ولا يمكن وراثتها مع الأمجاد!

كما ليس ثمة قيمة معيارية للتعليم الأكاديمي، في تحديد قيمة ما تؤديه الملاية، فكم من فتيات متعلمات خلعن البدلات المدرسية والجامعية، وتغيبن عن الدرس، وتركن مقاعد الدراسة فارغة في أيام عاشوراء، ليؤدين درساً افتراضياً طوعياً، وتطبيقياً خاصاً أمام الملاية التي يفضلنها على المعلمة أو المدرسة واندفعن لنداء (ويه يا حسين) بحماسة أكثر من اندفاعهن لجرس الدرس!

ثمة صرة قماش سوداء على الأغلب وخضراء أحياناً، تحفظ بها هذه السيدة المهولة بظلال خاصة بين بنات جنسها، أوراق صفراء تبدو كمخطوطات قادمة من عالم قديم، ومجلدة بقماشة سوداء، تفتحها كما تفتح كنزاً عزيزاً بين حشد من المنتظرات أمراً من امبراطورة الدموع ليبدأن البكاء، هل من المثير أن نعلم إن هذه الكتب التي تشبه كتب الأدعية الصوفية، تسمى القصيدة! هكذا تحمل القصيدة قيمة مقدسة أخرى لتسمى كل هذه الكتب السوداء المخصصة لأيام عاشوراء: قصيدة.

مجموعة اطفال يمثلون دور اطفال العائلة الحسينية في واقعة كربلاء،

ويطلق عليها(التشابيه) وهو نشاط مسرحي شعبي اصيل وموروث من التقاليد

الدينية العراقية القديمة عندما كان يتم تمثيل واقعة(موت تموز) واختطافه الى العوالم السفلى..

 

تهيئ الملاية أجواء المجلس عبر أحاديث دينية اجتماعية  بموجة من سرد أولي يجذب الانتباه لها ولشخصيتها مع تقاطع خطوط الدخان المنبعث من السكائر التي تؤرخ لتاريخ الحزن من اللف إلى المزبن إلى الفلتر! يصبح التدخين مباحاً للنساء أيام عاشوراء وفي حلقات المجالس العزاء، الجواني النسواني، يحتفظ هنا بسريته حيث لا يسمح للبالغين بالمشاركة أو التلصص. الملاية عادة هي التي تقدر بفراسة الأنثى ، إن هذا الفتى غير مسموح له بالحضور وذلك لا بأس من حضوره!

عندها تبدأ لحظة الشروع بالوقوف بعباءتها العريضة الأكمام، وتبدأ بجملة مأثور ( ويه يا حسين) وهي الجملة ذاتها واللازمة التي تنهي بها كل مقطوعة، لتبدأ بها أخرى.

تتوسط الملاية الكبرى، مساعدتين أو أكثر أو أقل، عادة ما يكن طامحات للحلول محل إمبراطورة الدموع ذات السطوة الخاصة على بقية النساء، تفتح المساعدة صرر الكتب ذات الجلد الأسود، وتقلب الصفحات لاختيار النماذج المناسبة لهذا اليوم من عاشوراء، حيث اعتادت أن تعرف طبيعة سيدتها في اختيار النماذج الأكثر تأثيراً في النفس، وفي إنزال الدموع الساخنة، وهي تروي قصة الحسين بمزيج من وقائع تاريخية وتراث شفاهي مبني بعناية تجعله يدخل في صميم الفكرة التاريخية، وشيء من أساطير عراقية قديمة وجدت مناخاً مناسباً تتسلل من خلاله للديمومة في الحاضر، وتبدأ الملاية أيام عاشوراء بتتبع مسيرة الحسين من المدينة إلى الكوفة والهواجس التي تسيطر على ليالي النساء اللواتي اصطحبهن معه من أفراد أسرته وعائلته الكبيرة.

وتختلط في هذه الرحلة أو هذه المرحلة من القصة، نذر الشؤم بنبواءات النعيم! تصوغها الملاية ليس في توصيل النص الذي تقرأها فحسب، بل في دقة اختيارها للبناء الدرامي من أجل حفر أنفاق في الصلة مع المتلقي عبر اختيارها لنمط معين من المقامات وأطوار الأداء الصوتي المناسبة لرواية الواقعة وتطورها، ولا غرابة من دخول المقام والأطوار الغنائية في البنية الأساسية لأناشيد النواح والندب الحسيني، فواحدة من رائدات الغناء العراقي تخرجت أساساً من مدرسة النواح العشتاري - الحسيني هذه، في بدايات القرن الماضي قبل أن تأسس دار الإذاعة العراقية لتصبح فيما بعد أول صوت نسائي عراقي ينطلق منها، وهي صديقة الملاية، التي تكاد تكون المطربة الوحيدة التي حمل اسمها حقيقة مهنتها الأولى، وظل يدل عليها، رغم إن الكثير من المطربين والمطربات كانوا قد بدأوا حياتهم من تلك المنابر السوداء وإيقاعات الدموع في نهارات وليالي عاشوراء، قبل أن يقفوا تحت أضواء من نوع آخر، دون أن ينجحوا تماماً في التخلي عن نبرة الحزن الأثيرة في أصواتهم.                                           

والواقع إن شخصية الملاية تستجمع قدرات ومواهب شتى لأداء مهمتها الصعبة، فلا بد ابتداء أن تتمتع بشخصية قوية قادرة على التأثير، شخصية يكتنفها شيء من الهالة الاجتماعية تمنحها مكانة اعتبارية بين بنات جنسها، وتقربها من نموذج النواح الأول وإن بقدر ما، يجعل الدور الذي تؤديه مقنعاً وهي بهذا تجمع بين القدرة على تشخيص الكاريكتر التاريخي الذي تنوب عنه، والحضور في اللحظة الراهنة الذي يستدعيه الوقوف بين حشد من النساء الباحثات عن تفريغ المكبوت الاجتماعي والتاريخي الطويل والمتكثف، كما تستدعي مهتنها أو مهمتها الدينية إن شئت، أن تتمتع بصوت من طبقة معينة يجيد الأداء والأسلوب في التناغم مع أهات وأنات الكورس المتلقي، وضبطه لتأدية نشيد الدمع.

 

تراجيديا سوداء متنقلة!

تقوم القصة التي تتضمنها أناشيد الندب التي تؤديها الملاية على بناء فني، يستفيد قليلاً من الواقعة التاريخية لكنه لا يقع في فخها تماماً، فالسرد لا يشبه سرد الكتب التراثية التي تروي جوانب متشظية من واقعة الطف، وهو لا يتشابه كثيراً مع حلقات المنابر الحسينية الذكورية التي تقوم على الموعظة وتكييف المعلومة مع الواقع، بل إن المادة الأساسية في حلقات العزاء الحريمي للمجالس النسوية في عاشوراء، تكتفي بالندب والنواح ليكونا البنية الرئيسية للراوية، إنه بناء خاص يجمع بين أكثر من مستوى تعبيري ومنهج فني للتوصيل، لكنها في المقابل تستفيد من وظيفة ( القصة خون)  و( الروزخون) في آن واحد، وما يعرف في بعض البلدان العربية بالحكواتي، في القدرة على شد المتلقي وجذب اهتمامه اليومي للتواصل مع حلقات تالية من مسلسل يبدو في كل مرة وكأنه يروى لمرة الأولى، فتخرج النساء مع نهاية قصة اليوم الأول متلهفات لما يمكن أن تحمله التراجيديا العاشورائية في اليوم التالي.

والواقع إن النمو الإيقاعي لأيام عاشوراء يتغير ويتطور، وفق ما تختاره سيدة الندب، وهو ما يجعل النساء المشاركات في تنفيذ المشهد العام مشدودات لدور اكبر في الأيام التالية، فالأيام الأولى تبدأ في ما يعرف (بالنعي) وما أن تبدأ الملاية بقراءة الجملة الأولى من النعي بإيقاع خفيف وشجي، حتى تتدفق الدموع إيقاعاً من نوع آخر في الجلسة.

من بيت إلى آخر ينتقل مسرح الحاضر كما تنتقل مسيرة السبايا في التاريخ عبر الأمكنة، ورغم أن هذا المسرح يتماثل فيه الجمهور بالمؤدي، الذي يكون هو ذاته، لكن الملاية تختار في المكان الآخر إيقاعاً متخلفاً ورؤية نظر ونبرة أخرى لتروي الحدث، ومن هنا يكون الحشد النسوي منشداًُ إلى جاذبية التجديد وصعود المشاعر التي تقترب من ذروتها كلما تبدل المكان وتجوهر الزمان، طيلة اليوم!

والنعي عادة ما يكون في وضع الجلوس، فتتكئ النساء على جدران البيت كأنهن يستعدن واقعة كربلاء، أو يتكئن على خرائب بابل في لحظة لا شعورية! بينما تقف الملاية في الجانب الآخر أمامهن، كشاهدة ماثلة أما الجميع تؤكد كيف يكون الماضي حياً ومستمراً.

وبتتابع أيام عاشوراء يشتد الإيقاع، وتحتدم مشاعر الروح في الجسد، فلا يعود الاتكاء على الجدار، ووضع المنديل الأسود، وهو ما يعرف ( بالشيلة) على الفم والأنف لتلقي مسرى الدمع الساخن الهابط من عين تجود بدمعها على الأمام الشهيد، بفعل شدو الحمامة البشرية التي تقف وسط الجمع! لا يعود هذا المشهد كافياً لترجيع الأثر المتصاعد لاقتراب موعد ( الطبك) ومهما قيل عن أصل هذه المفردة التي ليس هنا المجال لمناقشتها، إلا إن الراهن سيعطينا دلالة جديدة لهذا المفردة، حيث يتطابق ـ حد الانطباق ـ اليومي بالتاريخي بالاسطوري في لحظة مكثفة لا يمكن عزلها لتحصيل نتيجة تستطيع أن تؤول ما يجري، بمنطق معين.

ولأن الأيام العشرة الأولى من عاشوراء، هي الزمن الأبرز لتمثل الواقعة وإن امتدت إلى أبعد من ذلك، لتشمل محرم وحتى النصف الأول من شهر صفر! فأن توزيع الأيام في تقطيع سينمائي لافت يؤكد صفة إضافية في شخصية الملاية التي يتضح إنها ليست تأسيساً اعتباطياً أو طارئاً لحلقات الندب التقليدية لدى العديد من الشعوب وثقافاتها الفولكلورية!

تقوم الملاية بتبليغ مريداتها، قبل يوم على الأقل بموعد تبدل الإيقاع في تأدية طقوس الحزن، وعادة ما تستفسر المريدات أيضاً عن ذلك الموعد فهو يتطلب بعض التحضيرات الضرورية لتأدية طقس أخر غير الجلوس والنواح وتلقي النعي من مقامات هادئة وشجية. تدريجياً تخصص الملاية مقاطع من قصائدها أو قل قصيدتها، فمع النصف الثاني، من الأيام العشرة، تنهض القدود، وتتهيأ الخدود، لحمى الإيقاع الجديد، فتخصيص أيام لمن قتل من الحسين من اقرب آل بيته سيجعل من استقبال فكرة مقتل الحسين ذروة تصاعدية لا يدانيها شيء آخر.

فتى يلعب دورا في التشابيه..

 

وتتلخص هذه التخصيصات في يوم العباس، ويوم لنجل الحسين الأكبر، وآخر لنجل شقيقه الحسن.

تقرأ الملاية خلال هذه الأيام قصائد مختارة ذات بإيقاع مختلف ضاج ومفعم بتعبيرات متعددة الأشكال تشترك فيها لحواس ومواطن الرغبات، بينما تهفهف شعور النساء، وترمح أجسادهن، كخيول برية.

ومع اقتراب موعد العاشر من محرم، تكون الملاية، قد فقدت صوتها تقريباً، بفعل ما أطلقته من صرخات وعويل من بيت إلى بيت،  ومن نعي، إلى هتاف، ومن قرار وجواب، ولم يتبق منه سوى بحة، تناسب كمية الحزن المتكثف عبر الأيام، فلا يكاد يسمع لها إلا الأنين، كأنها في المشهد التاريخي نفسه.

ويبلغ هذا الطقس مبلغاً آخر في إضفاء البعد المسرحي، المفتوح على الفرجة والمشاركة، في اليوم الذي يعرف بعرس القاسم، ورغم إن واقعة العرس، لا تجد الكثير من التعضيد في بطون الكتب التراثية التي تسرد واقعة كربلاء، إلا إن الوجدان المحلي، والذاكرة المبنية على شفاهيات مأثورة تؤكد إن القاسم بن الحسن كان مقرراً له الزواج من ابنة عمه سكينة بنت الحسين على وفق وصية من والده الراحل، ولما حان موعد مواجهته للموت كان على عمه أن ينفذ الوصية فعقد قرانه على سكينة، بيد أن الدخول لم يكن إلى فراش العرس، بل إلى حومة الحرب وحر السيوف!

تستفيد الملاية من هذه الواقعة التي تمزج طقوس الموت بطقوس الفرح، لتنفذ واحدة من الفصول الأخاذة في مجالس عاشوراء، بينما يكون الأبرز في هذه المناسبة للعذراوات اللواتي يطلبن ( المراد) من يوم القاسم!

وعادة ما تتألق في هذا اليوم أحد ابرز مساعدات الملاية المرشحة لتولي مهمة الملاية في المواسم التالية لكأن عرس القاسم بالنسبة لهذه المساعدة هي حفلة تعميد وتأييد لها بأنها أصبحت قادرة على قيادة إمبراطورية الدموع، ومهيأة لوراثتها!

تشرك الملاية في هذا اليوم مساعداتها في العمل بصورة فعالة بعد أن كان وجودهن لا يتعدى الكورس أو قراءة بعض المقطوعات الصغيرة والسهلة، والمساعدات اللواتي يفضلن من بين العذراوات، يهيئن طقس العرس الدامي، بالحناء والشموع والآس وقطع الحلوى المعروفة بـ ( ملبس الأعراس) لكنه عرس مبتور الأطراف إذ لا وجود للرجال فيه، بل إن الملاية عادة ما تلجا في هذا اليوم إلى التدقيق المبالغ فيه في رصد وجود الصبيان في هذه الحلقة السرية، وكأنها تضفي طابعاً حقيقياً على حميمية لحظة ( العرس)  وخصوصيتها.

تدور صينية القاسم بعد أن تعبر الملاية رمزياً عن انتهاء الفرح وتصاعد ضجيج البكاء بإطفاء الشموع، دلالة على انطفاء شعلة الحياة، وحلول الدم معادلاً مضاداً للحناء، أو تحول الحناء في صينية القاسم إلى دلالة تضادية كبركة من دماء سالت في المعركة، بديلاً عن دم العذرية!

كما تجعل الملاية من هذه اللحظة المكثفة والملتبسة مناسبة، لتأكيد ارتباط المهنة بالمهمة! الأجر المهني بالثواب الروحي، فتدور إحدى مساعداتها بالصينية على الجالسات ليضعن فيها استحقاق نذورهن الموروثة من الموسم الماضي، والنذور هنا تتلخص في مبلغ نقدي تضعه الناذرة في صينية القاسم، استحقاقاً لتحقق ما طلبته، أو طلباً تريد تحقيقه آجلاً، فتضع عربونه عاجلاً في صينية الموسم الحالي.

الملاية ..

 

منفى مزدوج

كادت هذه الشخصية الإفصاحية عن طبقات المكبوت في المجتمع العراقي وتواريخه المأسوية، تختفي نهائياً لتتحول هي بالذات إلى طبقة أخرى في طبقاته المتعددة، فبفعل القمع الذي تعرض له مجمل النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي في العراق، انزوت ظاهرة الملاية شيئاً فشيئاً، فحتى وجودها في البيوت تحول إلى ممارسة سرية في بداية الأمر، قبل أن يضمحل ويتلاشى بفعل الملاحقة الأمنية التي تعرضت له مجالس الملايات، كشأن كل الشعائر العاشورائية في العراق، وكل الطقوس الجمعية في بلاد الرافدين، وخلال العقود الثلاثة الماضية وجدت الملايات أنفسهن في منفى مزدوج الأبعاد، ففي منفى داخلي لا يتيح لها ممارسة مهنتها ومهمتها، ربما فقط في المقابر التي ازدهرت وحدها في العراق، تحول البكاء على الحاضر جزء من التعبير عن الندب لتلك المجالس نفسها، حتى اختلطت في هذه المرحلة مهمة ( الملاية) الخالصة باتجاه عاشوراء، مع مهمة من نوع آخر تتخذ من البكاء على قتلى الحروب ذريعة رسمية لاستعادة شعائر وطقوس ممنوعة! فأصبحت الملاية التي تروي أناشيدها مصيبة الحسين وأهله في واقعة الطف، إلى ( شاعرة) تحمل ربابة الأنين وقيثارة الدمع، وتتنقل بين البيوت لرثاء أصحابها، لم تعد واقعة الطف إلا رمزاً، أما الواقع فقد كان يشير إلى إن العراق كله أصبح طفاً ومذبحاً لأبنائه، وخلال تلك الفترة، اعتقلت أجهزة الأمن العديد من الملايات، بتهمة أنتمائهن لتنظيمات إسلامية، وبالتأكيد فإن كل من عاش أجواء العراق خاصة خلال الثمانينات، سيعرف إن حلقات البكاء والحزن تلك كانت مناسبة نموذجية لنشر المخبرات وعيون أجهزة الأمن في تلك المجالس، وكانت الملاية عادة ما تدفع الثمن الأساسي بوصفها المحرض، والموجه لأية احتجاجات تنطلق في جلسات الدمع تلك.

لم تكن أجهزة السلطة هي الوحيدة التي حاولت تقويض ظاهرة الملاية، وتوصيف شخصيتها وطقوس يومياته، بل كان ثمة تثقيف مضاد يجري بين صفوف اليسار العراقي باتجاه الضغط لشطب هذه الظاهرة الاجتماعية والثقافية التي تشكل مساحة مهمة من الوجدان المحلي، ومثلما كانت فروع اتحادات النساء في المناطق، تحاول حماية دورها بتقويض الآخر ومحاربة ظاهرة زعامة هذه المرأة الروحية وتشبث النساء بها، وهو تشبث ناتج عن استحضارها للذكرى مقدسة، فإن المنظمات اليسارية تضامنت هي الأخرى، أو قل تواطأت، لتغييب هذه الشخصية الفاعلة بينما كان ينبغي عليها، أن تستوعب هذه الظاهرة بوصفها نوعاً من الثقافة الشعبية المحلية تعكس نزعات شعورية معطيات من واقع تشكل عبر العصور ولا يمكن اجتثاثه ورميه إلى الهاوية ببساطة.

وشيئاً فشيئاً كادت شخصية الملاية تندثر تحت ركام الخوف وسقف الفوبيا التي ولدتها ممارسات القمع والإضطهاد، بينما تشردت نماذج مهمة تعبر عن هذه الشخصية وحلت في المنافي المجاورة حيث وجدت ازدهاراً يعوضها عن جدب المشاعر المكبوتة وقحط السنوات في بلاد الرافدين، وانتشرت في كل من إيران وسوريا، سرايا من الملايات، كما سبق أن تشردت سبايا كربلاء نفسها خلال القرون الوسطى!

بيد أن ضواحي العاصمة السورية دمشق، بدت وكأنها عالم سفلي آخر لعشتار العراقية، دفعت نحوه هذه المرة قسرياً ليس بحثاً عن رمز الخصب، بل لإحياء بكائيات فقدانه، تزدهر مهنة الملاية من جديد في المكان الأول الذي انطلقت منه إرهاصات الشعائر العزائية النسوية تحديداً، حيث أقيمت للحسين وآل بيته مراسم التعزية، في عاصمة الأمويين التي صدر منها أمر قتله، وتأتي الملاية لتستعيد بتمثيل تقريبي فكرة النموذج البدئي، عند مقام سيدة الأحزان الكبرى زينب..

عند مقام السيدة وفي الأزقة الفقيرة التي تحيط به تهفهف العباءات العراقية، زرافات ووحداناً، خاصة أيام عاشوراء ذكرى تنطوي على أكثر من مغزى، فهي أحياء للواقعة التاريخية من جهة، وإعادة تمثيل التاريخ الشخصي المكبوت في البلاد، والمنفي منفى داخلياً قاسياً من جهة ثانية، السناء المتنقلات بمواكب النواح من بيت إلى بيت، يبكين غربتهن، في محيط ضريح الغريبة، لهذا أصبح هاجس التغرب والتشرد، سمة أضافية صنعتها الوقائع اللاحقة لتلتصق بشخصية الملاية مثلما التصقت بشرائح اجتماعية عراقية متعددة، المجالس الحسينية اليوم، تتسع هاويتها المفتوحة باستمرار، لكنها قادرة في الوقت نفسه على إيصال الرسائل السرية للأجيال اللاحقة من الفتيات، والنساء اللواتي يحملن إرثاً غير يسير من تلك المجالس.

اليوم يجري تجسير تلك الهوة، فمن اللافت إن جيل النساء المتقدمات في السن سارعن بشكل لافت يدعو إلى التوقف عنده طويلاً في نقل الإمبراطورية الشعورية هذه إلى جيل جديد، جيل نال فرصاً أكثر من التعليم وعاش مأساة الراهن، وحمل فواجع الماضي، وأدرك إن هذا الطقس، الذي ظلت طرق تواتره ونقله شفاهية، لا يمكن أن ينزوي في اللا شعور إلى الأبد بل إنه لا بد أن يتمثل مرة أخرى.

ـــــــــــــــــ

العودة للفهرس