باجي دولت، امرأة  جسدت الموروث الشعبي التركماني..

   نصرت مردان ـ جنيف

nasratmardan@bluewin.ch

سيدة بالزي التراثي التركماني

 

كان الجميع ينادونها بـ (باجي دولت) احتراما، أي ( الأخت دولت).  كانت تقيم في المنزل رقم 29 بمحلة (بكلر ـ كركوك) لوحدها. بعد فقدانها لأولادها الثلاثة في الحرب العالمية الأولى، ولربما من الخطأ القول هنا أنها كانت وحيدة. ذلك لأن بيتها كان دائما مليئا بالزوار، وخاصة فتيات الحي اللائي كن يأنسن لحديثها الخلاب ولمعرفتها بشؤون الحياة. وكن يتحاورن معهن ويسألنها في فضول لا ينتهي عن كل ما يتعلق من تقاليد شاعت أيام زمان، وبادت مع الزمن.

ـ باجي دولت هل قمت بدور ( الوصيفة للعروس ـ ينكه) ؟

يزداد حجم الانشراح في وجهها وهي تقول :

ـ أجل يا بنيتي ففي أيامنا لم كانت  الفتاة تتزوج في سن مبكرة، دون أن يكون لها أية خبرة في الحياة. كنت أقوم بدور الـ ( ينكة) على أحسن ما يرام حسب تقاليد أيام زمان. كنت أقدم النصح لهن ليلة الزفاف. وكم كنت أكون سعيدة حينما كنت أرى العروس سعيدة في بيتها، يحيط بها أطفالها. أمام كل امرأة ياعزيزاتي، ثلاث مراحل : مرحلة العزوبية، مرحلة الزواج ومرحلة الترمل وكانت لا تنسى أن تضيف كلمة ( لا سمح الله) وهي تأتي على ذكر هذه المرحلة. ثم تواصل بصوت متهدج، رغم ترملي في سن مبكرة إلا إنني لم أتزوج حتى لا يكبر أولادي تحت رحمة رجل غريب.

كانت باجي دولت مغرمة بالأمثال وتعتبرها حكمة نطق بها الأوائل نتيجة خبرة حياتية. فإذا رأت خصلة شعر محدثتها منهمرة على عينيها،كانت تبتسم وتقول، هذا يعني أن ثمة ضيف في طريقة إليكم.

وكانت تحرص على أن تودع من تحب بأن تصب إناءا من الماء خلفه كي يعود ثانية. وكانت وهي تفعل ذلك لم تكن تنسى أن تقول، نودع من نحب بالماء أما من لا نحب فيجب أن نقذف حسب عادتنا خلفه حجارة، كي لا يعود ثانية. لكنها ما تلبث أن تقول مستدركة، لكنني لم أفعل ذلك قط، لسبب بسيط هو أن من لا أحبه لا يدخل هذا البيت.

كانت باجي دولت تحذر زوارها من نساء وبنات الجيران من النظر إلى المرآة في الليل، لأن مثل هذا العمل يؤدي إلى التغرب، أما الذي يزرع حفنة من الحنطة في بيته فان ذلك سيؤدي عند اخضرار حبة الحنطة لانتقالهم إلى حي، لن يرتاحوا فيه.

كركوك في الستينات

 

 وحينما كانت إحداهن تعطس أثناء حديثا، تعلق دولت باجي ( هاهو شاهد من الحق، لا تتعجلوا في اتخاذ القرار).. أما إذا عطست مرتين متتاليتين، فأن ذلك فأل حسن. وكانت تفسر طنين الأذن وهي تنظر إلى جليساتها: ( ثمة من يعاتبنا).

وفي عرف باجي دولت، فأن حكة باطن الكف تعني ( ثمة مال مقبل) وهنا يجب تقبيل الكف ثلاث مرات. ولا ينتهي تفسيراتها عند هذا الحد بل في عرفها، يجب عدم إرسال أي شيء ابيض اللون وخاصة في المساء، إلى بيت الجيران لأن ذلك يسبب ضررا لأهله. وفي الحالات القصوى يجب إضافة أي شيء ذو لون اسود على كل من ما لونه ابيض، ليزال الشؤم بذلك. فكانت مثلا تلطخ البيض الذي قد تحتاج إليه جارة من جارتها بأن تشطب عليه عدة خطوط سوداء أو تضع في إناء الحليب قليلا من سواد الفحم.

عند إساءة أحد من الجيران إليها لم تكن تقابل الإساءة بالكلام الجارح، بل كانت تصعد إلى سطح بيتها بهدوء وترفع ( راية العباس)!!                                

حاملة الحب والحزن

بذاكرتي الطفولية أتذكرها بملابسها السوداء التي كانت تلبسها حزنا على أولادها الثلاثة الذين قتلوا في الحرب منذ عقود، ولم أرها أو يراها أحد من أهل المحلة تلبس ملابس أخرى. كانت تبدو وكأنها ذاكرة حية تسير على هدى ما قاله الأسلاف، دون أن تجد في ذلك أي تناقض. محاولة بذلك تطويع حياتها على ما قالوه أو ما سمعته منهم في زمن ما. فالدجال سيظهر في آخر الزمان حيث يلفظ حماره بلحا وعنبا، وستظهر للصبية الذي يتبعون،ه قرونا تطول بحيث تحول في نهاية الأمر بينهم وبين دخولهم المنزل لشدة طولها. وزراعة البصل والثوم في البيت سيؤدي إلى انتقال أصحابه إلى منزل آخر لن يرتاحوا فيه. ودهس الوسادة بالأقدام سيكون سببا في إصابة صاحبها بالصداع. وسكب الماء الحار دون بسملة، يؤذي صغار الجن ويستوجب نقمتهم من أطفال البيت.

كانت باجي دولت رغم كبر سنها حريصة على أن تكون في مقدمة نساء المحلة اللائي يستعدن لطبخ الحنطة (داندوج)، ليحضر منها فيما بعد البرغل والجريش وغيرهما، حيث كانت توضع الحنطة في قدور ضخمة يسهر الجيران حولها حتى الصباح. وكان أطفال الحي ينتظرون وصحونهم بأيديهم بفارغ الصبر. كانت باجي دولت تحرص على حق الجار. ومن حقوقه إرسال طبق من طعام العشاء إليه. وبفضل هذا التقليد الجميل كان أهل الحي يتناولون أصنافا متنوعة من الطعام على موائدهم.

سريانيات من كركوك في اوائل القرن العشرين

 

في الحي عند خسوف القمر الذي كانت باجي دولت تفسره على أن ( الديو ـ المارد ـ ابتلع القمر)، كان الرجال يطلقون النار، ونحن الصبية نطرق بعود على صفائح فارغة لإخافة (الديو) حتى يطلق سراح القمر المسكين، ليعود الينا بنوره الوضاء.

كانت باجي دولت حريصة على المشاركة الوجدانية والفعلية في عزاء محرم الحرام، الذي كانت النسوة يقمنه في منزلهن، باكيات على الحسين ومرددات بالتركماني:

                قانلی قیلنجن صاتدیلر/ قانلی قیلنچ پاس طوتار/  فاطمه أنا یاس طوتار/  فاطمه أنا گیر هه یوانا

               حسین بولاشتی أل قانا /  حسین بولاشتی قانا / یزیده نعلاتییم وار - یزیده نعلاتیم وار!

                    (الترجمة العربية)

                القوا بالحسين من السطح / باعوا سيفه المضمخ بالدم/ صدأ السيف في الغمد /أمنا فاطمة (فاطمة ننه) تتلقد العزاء / ادخلي يا أمنا فناء الدار /فالحسين مضرج بدمائه هاتفا : أين قومي وإخواني/ لعنتي على يزيد، لعنتي على يزيد!

كان أكثر ما يروق لدولت باجي ويضحكها عند حديثها عن أيام زمان، نداء الدلالين الذين كانوا في الوقت نفسه عمالا في البلدية، بين الأحياء بحثا عن مفقودات،:

(( يا أمة محمد ـ  أي محمد امتى ـ ! فقد حمار أبيض اللون، على ظهره سرج اسود. من يبلغ عن مكانه سيكسب ثوابا عند رب العالمين، وفي الدنيا مكافأة قدرها ـ مجيدي واحد ـ )).

كانت باجي دولت تبدو في حياتها اليومية وعلاقتها مع نساء المحلة أشبه بموسوعة حية في كل شؤون الحياة. وقد سمعتها مرة وهي تذكر لأمي اسم 25 للورد والنباتات البرية، التي كانت تنبت على حافات السواقي وجداول المياه في كركوك كنباتات في الطب الشعبي.

رغم كبر سنها لم تتخلف قط عن المشاركة في التنزه في البساتين  والحقول ( جرشمبه سور) التي كانت منتشرة بكركوك مثل بستان مار يوسف، وملا عبدالله تبه سي ( تلة ملا عبدالله)، صونا كولي، تسين باغي  وغيرها، حيث تلمع السماورات ببريق الذهب. وكان من الطبيعي أن يحيط الشباب بالتجمع النسائي هذا، متأملين المتنزهات من الفتيات بعيون ظامئة للحب، مرددين الأغاني الفولكلورية التي تكشف عن مشاعرهم :

           چیختم کلیسه داغنه                  باختم دورتلر باغنه

           گوزوم یار یرین گوردی            دوندو قان چناغنه

             (الترجمة العربية)

           صعدت إلى جبل الكنيسة            ونظرت إلى حديقة ( دورتلر)

           تحولت عيوني إلى ينبوع دم         لما رأت مكان الحبيبة

كان لها أكبر (سماور) في المحلة، وكان بريقها يغطي على بريق مثيلاتها. وفي هذه النزهات، كانت الفتيات المراهقات يرددن بدورهن،أغان شعبية معروفة لاستثارة الشباب ومنها تلك الأغنية الذائعة الصيت ( آي هاوار ده كيرمانجي ـ أواه أيها الطحان) :

              آي هاوار ده گیرمانجی             سن خانچی من کروانچی

                   أواه أيها الطحان                أنت صاحب الخان وأنا رحال

عائلة كردية من كركوك

 

سيدة الفرح والجمال

كانت أيام العيد مهرجانا حقيقيا في كركوك، حيث تمتليء الأحياء والأزقات بالأطفال وهم بملابسهم الجديدة الزاهية، يقصدون في الـ ( كوللوغ) المراجيح ودولايب الهواء وغيرها من الألعاب، أو يستأجرون عربة يغنون فيها ويدقون ( الدبنك ـ دنبلك). ولم تكن باجي دولت تهمل في هذه الأيام إدخال الفرحة في نفوس أحفادها أولا، ثم في قلب صبي من أفقر عائلات الحي بشرائها كسوة العيد له. وكانت تحذر الأطفال من ارتداء ملابس العيد قبل حلول العيد ضاحكة :

ـ إياكم وارتداء هذه الملابس قبل العيد والا فان العيد ( سيخري) عليها !

وكان الصبية يطيعون كلامها دون أن يفكر احد منهم، كيف سيقوم العيد بتلويث ملابسهم !

كالنساء الأخريات ورغم كونها طاعنة في السن، كانت تزور المقابر في يوم عرفة : مقبرة الشيخ محي الدين ومقبرة ملا عبدالله وعلي باشا والشهداء وسيد علاوي وبابا فتحي وغيرها.

من تقاليد صباح العيد في كركوك، قيام ربات البيت بأعداد الطعام وقت الفطور، حيث يتناول أهل الدار الطعام صباحا. ومن الأكلات التقليدية صبا ح العيد : التمن والفاصوليا أو الباميه أو أكلة ( القيسي ـ المشمش). كانت باجي دولت حريصة على إعطاء  ( خرجية العيد) مهما كان المبلغ ضئيلا. واذا تعذر عليها ذلك كانت تملأ جيوب الأطفال بالجكليت أو الكليجة أو الكرزات.  ومن العادات السائدة في تلك الفترة قيام  سكان منطقة القورية  في اليوم الأول من العيد، لتهنئة أقاربهم وأصدقائهم في  ( ذاك الصوب المصلى  ـ او ياخا )، إلى (هذا الصوب ـ القورية)، حيث يرد في اليوم الثاني من العيد سكان المصلى الزيارة لسكان القورية.

في اليومين الثاني والثالث كانت باجي دولت حريصة مثل كل نساء كركوك، على زيارة جامع النبي دانيال ــ  دانيال بيغمبر)، حيث يجلسن في باحته، يتجاذبن أطراف الحديث ويتناولن الكليجة أو يكرزن الحب. وكن يدفعن للكليدار مكافأة لدخولهن إلى الفناء من الباب الداخلي.

كانت النساء يبالغن في ارتداء الذهب. في مثل هذه الأيام، كانت باجي دولت تكتفي بالنظر إليهن مع ابتسامة يحار المرء في تفسير معناها قائلة :

ـ في حياتي لم أتجمل ولم ألبس الحلي.

تقول ذلك وهي تدير نظراتها الفاحصة على النساء المتبرجات والمتحليات بالحي، وهي ترى كل من حولها تتباهى بأقراطها ( التراجي ـ صرغا)، أو القلادة الذهبية ( التون  كردانليغ)، أو تلبس حزاما من الذهب يشبه حزام الرصاص الذي يرتديه الصيادون ( سلاحليغ) أو الأساور المختلفة ( ديلمج، بيلازيك) أو قلادة من اللؤلؤ ( اينجي بوينباغ)، والأكثر ثراء كن يرتدين حزاما من ذهب ( آلتون كمر)، أو الخزمه ( التون خزمه) أو الحجل ( حجيل) أو الخلخال ( خلخال).

ورغم زهدها في الحياة بسبب ترملها في سن الشباب ووفاة أبنائها الثلاثة، فقد كانت ترى ضرورة أن تتزين المرأة لزوجها حتى يبقى وفيا لها. كانت توصيهن بوضع الكحل (سورمه) وتحمير الشفاه بقشرة الجوز الطري ووضع الحمرة ( اوليك) على خدودهن والبودرة ( كيرشان) كما كانت توصي الصبايا من بنات الجيران، على تحنية أقدامهن وأكفهن بالحنة ( خننا) باستعمال ماء القرنفل ( قرنفيل) أو بماء الورد ( كولاب)، وباستعمال الحنة و الـ ( وسمه) معا في صبغ الشعر. ولم تكن تهتم بالوشم في الوجه أو اليدين، حيث من النادر أن يرى المرء نساء التركمان في كركوك موشوما ت  الوجه أو اليد.

فتيات تركمانيات من كركوك

 

وسيطة المحبة والزواج

رغم أنها لم تكن تتذكر عمرها عند الزواج إلا أنها كانت لا تألوا جهدا في توجيه النصح إلى بنات الجيران  في عدم زواج  الفتاة إذا كان عمرها أقل من 18 عاما. وكانت تروي حكايات طريفة عن سبل اختيار العروس  في زمنها،   التي يجب أن تكون قبل كل شيء عفيفة ومن أسرة كريمة. وكانت تحكي طرفا من حكايات (الخاطبات) اللائي كم يقمن بطرق الأبواب بحجة طلب طاسة من الماء، بينما الهدف الحقيقي هو البحث عن عروس، فكانت الخاطبة بعد أن تشرب الماء من يد الفتاة، تجد حجة لتقبيلها من وجنتيها للتأكد من راحة فمها. وكان أنسب طريقة لمعرفة عدم وجود عائق جسماني فيه، هو رؤيتها مع نساء الحي في حمام المحلة. هناك كانت تتوصل الخاطبة إلى القرار النهائي. وغالبا ما كانت تتمدح جمال العروس بعبارة تقليدية :

(آيا دييري سن بات من جيخم ـ تقول للقمر غب لأشرق أنا). و تلخص مواصفات كل عضو في جسم العروس: أنف كالبندق، قامة كالسرو، شفاه كالسيور ( قيطان)، أسنان كاللؤلؤ، وجه كالقمر، قدم جلبي، مشية كالبط، عيون كعيون الغزال، رقبة كالبللور، أصابع كالقلم، ذراعان كالخيار، ظفائر كالحبل.

صناعات شعبية كركوكلية

 

وفي مواصفات أيام زمان التي  كانت   متجسدة دوما في ذاكرة باجي دولت، كانت الفتاة توصف في المجتمع التركماني، بأن الشمس لم ترى وجهها  (دلالة على العفة وعدم خروجها من البيت). وكان بيت العروس يصرفون ثمن المهر حتى آخر فلس فيه لإعداد بيت الزوجية. قبل الزواج بثلاثة أيام كان يتم إعداد ليلة الحنة. حيث كانت الحنة تعد داخل إناء في بيت إحدى صديقات العروس. وكانت نساء الحي يتوجهن إلى بيت العروس بالحنة. كانت العروس تجلس على كرسي بينما تقوم إحدى النساء بوضع الحنة على يدها وقدميها. وعندما كانت اليد تحنى كفها الأيسر. لم تكن تعطيها إلى أية امرأة لأن ذلك قد يؤدي إلى إصابتها بالعقم. وكان يتم وضع قطعة ذهب في داخلها، ولم تكن العروس تفتح كفها إلا وضع فيها تلك القطعة.

في يوم الذهاب إلى الحمام ( حمام كوني).  في اليوم الذي يلي ليلة الحنة. يرافقها نساء الجيران وقريباتها. وكان يتم اجلاس العروس في مكان بارز حيث تبدأ ( الدلاكة) بغسلها وكان مسك ختام هو توجه الجميع من الحمام إلى بيت العروس لتناول طعام الغداء.

كان يتم الاستعداد لحفلة الزواج في فناء الدار بعد وضع التخوت والكراسي أو الأفرشة على الأرض. حيث يبدأ العزف بالطبل والمزمار ( ميتر زورنا) ويرقص المدعون الدبكة ( هالاي) يشترك فيها النساء والرجال، ويغنى الخوريات. وفي حالة عدم وجود الطبل والزمار كان يستعاض عنهما بالدنبك ( دونبه لك) الذي يرافق الغناء طوال الليل.

قلعة كركوك

 

كان الزفاف يتم عادة أيام الاثنين أو الخميس، وكان يتم تناول الطعام في بيت العريس. وفي الظهيرة يتم التوجه إلى بيت العروس. كانت العروس تركب حصانا أو الهودج ( كزاوه)، وكان العريس يسبق العروس فيصعد إلى سطح البيت منتظرا وصول موكب العروس لينثر عليها مع أصدقائه النقود والحلوى.

ختم القران، تقول باجي دولت، كان حدثا مهما في حياة كل أسرة. وكان الملا أو الملاية تطلب الهدايا الوصول عند حفظ آيات معينه. ففي((انه كان توابا)) يقول  الملا (بر قره طاووخ ثوابا ـ ثبني بدجاجة سوداء)، آية((كعصف مأكول))  مكافأتها  ( كاتى بير جنكه بول ـ هات حفنة من النقود)، ((أمهلهم رويدا)) مكافأتها (باشا قيزي سرايدان، بر جوت بابوج باريدان كالي بير ايدان ـ  زوج من الحذاء لزوج الملا أو الملاية)، ((ألم تر)) مكافأتها ( كاتى بارا كاتيرمازساو اوزو قره ـ ليسود وجهك لو لم تأت بنقود).

كانت الكتاتيب منتشرة في أحياء كركوك وكانت الملايات يتولين أحيانا.. وحينما كان الأباء يقودون أولادهم إلى الملا أو الملاية كانوا لا يتوانون من القول، هذا ابننا احضارناه لك، عليك تربيته ليتعلم كيفما شئت ( لحمه لكم وعظامه لنا) ككناية على منح الملا الخيار في اختيار طريقة تربيته كيفما يشاء.

وكان للملا أو الملاية مساعد أو مساعدة ( خلفه)، حيث كانوا يتولون تعليم الطلبة الجدد. وكان الطالب يجلس على ( مندر) وأمامه صندوق صغير للكتابة وفيه درج يحتفظ به بالحبر وقلم من قصب. وكان اليوم الذي يختم التلميذ فيه يوما مشهودا، حيث كان التلاميذ يلبسون ملابس زاهية حيث يصطف التلاميذ الذين ختموا القرآن أمام الملاية ويبدأون بقراءة  سورة آل عمران، وعند وصلوهم إلى عبارة ( ختم الله...) كان أحدهم يخطف من رأس التلميذ المحتفى به طاقيته، ويهرع بها إلى أمه، ولا يعطيها لها إلا مقابل هدية. ثم كان يبدأ مراسيم الاحتفال بالنقر على الدفوف ويوجه التلميذ الذي ختم القران برفقة اثنين من أصحابة يحيطان به من اليمين  واليسار حيث يتوجهون من الجامع أو منزل الملاية إلى البيت مرددين دعاء الختم :

 الهي يا الهي يا الهي، آمي/ أنت سلطان السلاطين، آمين / أعف عن سيئاتنا، آمين /  من أجل حرمة وجه  حبيبك المصطفى، آمين ..

ذكريات الحروب التي خطفت الابناء..

كان فضول صبايا الحي لا ينتهي في معرفة صورة الزمان التي مضت، لكنها ظلت نابضة في ذاكرة باجي دولت، بل كان فضولهن يدفعهن لكشف المستور عن حياتها هي. خاصة وأن الكل في محلتنا كان يعلم قصة أبناءها الثلاثة الذين قتلوا في الحرب العالمية الأولى، وتطوعها بعد مقتلهم في صفوف الجيش.

ــ باجي دولت هل صحيح انك شاركت في الحرب ؟

كانت ترد بهدوء وكبرياء : وماذا في ذلك. لقد راجعت الدائرة الحربية وسجلت نفسي للخدمة في الصفوف الخلفية. كنت أعد الطعام وأغسل الأواني وأضمد الجروح، وأحيانا كنت أحفر قبور الشهداء. المرء يكتسب شجاعة إضافية في الحرب.

تسألها صبية متوردة الوجنات :

ـ باجي دولت ألم تبكي أولادك ؟

ترد عليه بوقار :

ـ بكائي كان بكاء أم، أي بكاء( جواني) لا مكان للدموع فيه. بكاء الأمهات ليس دائما بدموع منهمرة، فالدموع أحيانا قد تكون كاذبة. أما بكاء الصادق فهو بكاء القلب الذي يرافق الأمهات حتى القبر. وقانا الله من بكاء الأمهات.

ثم تستمر بالحديث وهي تغوص في بحر الذكريات والأيام الخوالي :

ـ  حفيدي (شكر) كان اشقرا، طويل القامة كشجرة سرو. لم تر عين  أجمل منه حينما كان يلبس ( زبون جكت ـ الصايه والزبون) كان له مقهى في ( جرت ميداني). ابتلى بشرب الخمرة لعنها الله وبالتدخين. في يوم بينما هو متمدد في الفراش على السطح وهو يدخن، أخذته الغفوة وسقطت السيكارة اللعينة من بين أصابعه على فراشه. رأيته يحترق كالشمعة.

ـ كيف تحملت هذا الألم يا باجي دولت ؟

ـ يا بنيتي الأولاد أمانة الرب في يد الأم، وهو يسترجعها عندما يشاء.

ـ  لكن والدي قال لي أنهم أطلقوا عليك أثناء الحرب لقب ( صاج قالديران ـ حاملة الصاج) !

يظهر ظل ابتسامة على وجهها المتغضن :

ـ في الجبهة كنت أهيء النار من الأعشاب والحطب لإعداد الطعام. وفي الأوقات الاعتيادية كانت النار تظل مشتعلة طوال اليوم. أما في حالة هجوم العدو فكنا ننسحب. وقبل الانسحاب كنت أملأ ( الصاج) بالتراب وأضع فوقه الحطب المشتعل حتى لا يستفيد منه العدو، وخاصة في أيام البرد القارس.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

العودة للفهرس