هبوط سيدة الانوثة الى العالم السفلي..

 

            د. فاضل سوداني ـ كوبنهاكن                                                          

           fsoudani@maktoob.com

عشتار (رسم غربي حديث)

 

  لعل النص السومري، عن هبوط  (عيناناـ عشتار)  الى العالم الاسفل، هواول ملحمة خطتها يد الانسان في موضوع (الاله الفادي). ان  النص المأساوي لهبوط  آلهة الانوثة والخصب (السومرية  (عينانا) بالسومري  و (عشتار) بالاكدي، الى العالم السفلي ، فيه الكثير من الالتباس والغموض  فيما يخص مصير الإله (  (دموزي ـ تموز). منذ اكتشاف هذه النصوص  وحتى عام  1964 ،  جميع التفسيرات تعتقد  بان  سبب مخاطرة النزول  الى العالم الأسفل  هدفه  إنقاذ  الإله  (تموز)  من الموت. لكن  عالم الأثريات  الجليل صموئيل نوح كرايمر  ( الذي يدين العراقيون له بالكثير لفضائله في  اكتشاف كنوز  مرتكزات آثارهم وأساطيرهم وطقوسهم الثقافية   القديمة  المخبئة تحت الار ض، وبالتأكيد  سيتذكرونه بكرمهم المعروف في المستقبل)، اكتشف رُقيمات  جديدة  أعطت تفسيرا جديدا منطقيا لسجن الاله((تموز)) في العالم السفلي،  وبالتالي اتضح تفسير ألاسطورة وفهم سبب نزول الهة الانوثة الى هذا العالم. حيث اكدت هذه الرُ قيمات  التي كتبت في عام  1750   ق.م، على ان الالهة  ( (عيناناـ عشتار)) كانت هي السبب في تسليم حبيبها الاله (تموز) الى شياطين العالم الاسفل. لكن سبب نزولها الى هناك  قبل ذلك لم يُفسر بشكل مقنع. إلا إننا نفهم من هذه الرقيمات بان تحديها لقوانين  عالم الظلام والموت، كان نتيجة لنزوة من الاعتداد والغرور وجشع السيطرة والتي هي من  سمات  سيدة البلاد الاولى. ان فكرة التضحية والفداء كانت شائعة في ديانات الشرق عموما والشرق الادنى بخاصة. فمن اجل ان يتم الخصب لابد من قربان وتضحية، ولابد ان تكون هذه التضحية عظيمة ومقدسة. لهذا فان نزول (عينانا) يعني غياب قوة الاخصاب الكونية عن الحياة. ثم انها لم تبقى الى الابد في عالم الظلام والموت ذلك، بل جاهدت من من أجل الرجوع الى الحياة، حتى نجحت اخيرا بعد كفاح مرير. إذن (عينانا) ذاقت طعم الموت من أجل الانسان، ومن أجل خصب الطبيعة! هكذا لابد من  نزول إله الى عالم الاموات.

عشتار مسلحة بقوى الطبيعة تسيطر على حيوان الفحولة!!

 

من المعلوم ان (عينانا ـ عشتار) كانت هي السبب الرئسي في تسليم الاله (دموزي) الى الشياطين، لغضبها الشديد منه.  وفي هذا الجانب يؤكد صموئيل نوح كرايمر  في كتابه القيم (طقوس الجنس المقدس عند السومرين)، ان الالهة (عينانا) اعتزمت النزول الى العالم الاسفل، الى عالم الاموات  بسبب  عدم قناعتها في ان تكون فقط ملكة " الاعلى العظيم "، وررغبتها في ان تستولى على" الاسفل العظيم " أيضا. لذلك فإنها تزينت بشارات سلطانها وامتيازاتها المقدسة وعزمت على النزول الى " بلاد  اللاعودة"، وبما انها تعلم مسبقا  بكونها  ستخرق قوانين مثل هذا  العالم، وان  أختها (أرشكيجال) ملكة العالم الاسفل وعدوتها اللدودة سوف لن تغفر لها جرأتها هذه، لذلك فان  (عينانا)  احتاطت للأمر، وطلبت من وزيرتها ننشوبر في حالة عدم عودتها بعد ثلاثة أيام أن تذهب الى مجمع الالهة تستجدي عطفهم لانقاذ سيدة البلاد:

(( اذا لم يقف إنليل الى جانبك في هذا الامر، فاذهبي الى أور،/ وفي أور عند دخولك البيت، الذي هوبيت الرهبة في البلاد /، بيت الاله نانا، إنتحبي امام نانا  / أبت لاتدع معدنك الثمين يعلوه غبار العالم الاسفل/ وإذا لم يقف نانا الى جانبك في هذا الامر، فاذهبي الى أريدو / في اريدو عند دخولك بيت أنكي، / أبتي أنكي لاتدع لازوردك الثمين يتكسر كحجر،/ لاتدع العذراء غنانا تموت في العالم الاسفل / الاب أنكي  رب الحكمة / الذي يعلم " طعام الحياة " ويعلم " ماء الحياة " / لابد ان يعيدني الى الحياة ثانية)).

عشتار  المهيمنة امامها تموز ومعه الوعول رمز الفحولة

( تموز يولد في نيسان اول الربيع وبرجه هو الحمل او الوعل)..

 

وعندما تتأكد بان هنالك من يدافع عنها ويحميها من الموت، تبدأ رحلتها فتصل الى بلاط العالم الاسفل، وتصرخ جريئة بوجه  (ناتي)  بواب عالم الموت، أن يفتح لها الباب وعندما تعلم ملكة العالم الاسفل بمقدم (عينانا)، تقرر عقابها  و موتها، ولكن لايمكن ان يحدث هذا مالم تنتزع منها شارات ألوهيتها. لذلك فانها تعّلم بوابها القيام بخدعة تتمثل بالسماح للآلهة (عينانا) بالدخول من الابواب السبعة لعالم الموتى. ومن الوصف المعبر للشاعر القديم نعرف بان (عينانا) تفقد شاراتها وسلطتها واحدة إثر أخرى بدون ان تكون قادرة على الاعتراض اوالرفض  لان نواميس هذا العالم تحكم بذلك. ويستمر الشاعر السومري بتقديم هذا المشهد بلغة وصفية رمزية معبرة:(( لدى ولوجها البوابة الاولى، / الشوجرا، تاج لاسهوب، نزع عنها./ رحماك ما هذا ؟/ صمتا (عينانا)، نواميس العالم الاسفل، نواميس كاملة، (عينانا) إياك ان تزري بمراسيم العالم الاسفل./ لدى ولوجها البوابة الثانية./ صولجان القياس وسلك اللازورد نزع عنها / رحماك ما هذا ؟/ صمتا (عينانا)، نواميس العالم الاسفل نواميس كاملة)).

عشتار (رسم اوربي حديث)

 

ويستمر  الشاعر السومري في تقديم هذا المشهد المكثف بلغة رمزية لها دلالاتها المعبرة، لغة شرطية لاتتحمل التفصيلات الفائضة. من خلالها نفهم أن (عينانا) تفقد جميع شاراتها الالوهية عند إجتيازها الأبواب السبعة، حتى تصبح عاجزة عن فعل أي  شئ أمام ملكة  " الاسفل العظيم " :(( إنحنت خفيضة، جئ بها عارية أمامها)). وبما انها الان عارية من شارات الخلود، لذا فان حكماء  العالم الاسفل وحراسه على استعداد لتطبيق قوانين عالمهم على آلهة مثلها أيضا: (( أركيجال المقدسة اعتلت سدة العرش / الانوناكي القضاة السبعة، نطقوا الحكم أمامها،/  سلطت عينيها عيني الموت /نطقت الكلمة بحقها، كلمة الغضب /صدرت عنها الصيحة بوجهها، صيحة الادانة،/ ضربتها أحالتها جثة هامدة /الجثة علقت بمسمار)). وهذا يدلل رمزيا على ان الانسان ينتقل من الحياة الى عالم الموت مستسلما ذليلا تاركا وراءه خداعه ومكره وطموحه ووحشيته وحقده وحسده وتبجحه.

 

وينتقل بنا الشاعر القديم الى عالم السماء والارض حيث يتابع تطور الحدث من خلال قلق  (ننشوبر) بسبب عدم عودة سيدتها،  فتبدأ بتنفيذ التعليمات في اقامة النواح وطرق ابواب آلهة السماء  لإنقاذ (عينانا)، لكن إنليل وإله القمر نانا  لايصغيان الى توسلاتها، إلا ان  الاله "أنكي " يقرر مساعدتها بخلق  مخلوقين يتناسبان مع العالم الاسفل، وعلمهما الحيلة لانقاذها من عالم الموت : (( واحد منكما يرش لها طعام الحياة، والآخر ماء الحياة، (عينانا) " سوف تقوم ")).  وعندما ينجح هذا المخلوقان باختراق عالم الموتى بالحيلة وينفذان  تعليمات  الاله أنكي  المحكمة التي  لاتترك مجالا للخطأ  بل تخضع للتتابع  في التنفيذ  بما يشبه السيناريوالمعد مسبقا من قبل الشاعر  حيث نرى حبكة  الاحداث تتصاعد حسب  خطة الاله أنكي. وعندما تعود (عينانا) الى الحياة لا تستطيع الخروج من عالم الموتى دون أن يقدم  بديل مكانها ( من  الذين نزلوا الى العالم الاسفل واتفق لهم ان يصعدوا سالمين ؟) لذلك فان شياطين ( الجلا) وهم حرس العالم الأسفل، يقومون بمصاحبتها للعودة بالبديل.

 

وأثناء  رحلتها تلتقي بالكثير من الذين تعرفهم  وأحبتهم والذين حزنوا على غيابها في محنتها  هناك في (عالم اللا عودة)، لذا فانها ترفض  تسليمهم كبديل. وعندما تصل   مدينتها  ( أوروك)، هناك تجد حبيبها وزوجها الاله ((دموزي) ـ (تموز)) مرتديا فاخر الثياب، جالسا على عرشه  يتلهى بإقامته  احتفالا كما يليق بإله، وغير آبه بفراق حبيبته والحزن عليها. وهذا ما أغضب (عينانا) لدرجة) سلطت عليه عينيها، عينا الموت،/ نطقت الكلمة بحقه، كلمة الغضب،/ أطلقت صيحة في وجهه.صيحة الاثم.أما هذا فخذوه.) وبدون ضجة اسلمته الى شياطين (  الجلا) كبديل لها.

ومن خلال  المقاطع الشعرية التي اوردناها من  اسطورة  نزول (عينانا) (عشتار) الى العالم الاسفل، يتضح لنا التعدد الصوتي والايقاعي في القصيدة الواحدة. وبالرغم من ان معظم الشخصيات من الالهة، ألا ان شاعرنا السومري  استطاع ان يعالج المشاعر الانسانية المتمثلة بالخوف والقلق والجشع والصفات البشرية الاخرى  وهذه احد ميزات مثيولوجيا وادي الرافدين كون الالهة هي بشر غير متعالي عن الانسان بالرغم من عليائها  بسكنها السماء .فنرى بان شخصية الالهة (عينانا) وطموحها في الاستيلاء على عالم الاموات اضافة الى عالم ما فوق الارض، يدلل على انها شخصية ماكرة تعتمد الحيلة والخديعة للوصول الى مآربها، وهذا واضح بشكل جلي من خلال الالاعيب والحيل والتزلف والخداع  الذي اعتمدته. وكذلك اعتماد ذلك الاسلوب بغية منع عفاريت العالم الاسفل الذين رافقوها من القبض على معارفها  واعتقالهم كبديل عنها. لكنها تظهر كل وحشيتها وقساوتها  وحقدها وغضبها في وجه الاله (دموزي)  ـ (تموز)  لانه لم يتظاهر  بالحزن والتزلف الكاذب عند عودتها. ان هذه المميزات والصفات التي أسبغها الشاعر السومري على  شخصية (عينانا) تترك لدينا إنطباعا بتكامل شخصيتها، وانها حقا تمثل روح الانوثة الكونية بكل معانيها.

ــــــــــــــــــــــــــ

العودة للفهرس