لمحة عامة: نعم كان هنالك انحطاط ولكن ليس بسبب الاتراك..

تمتد هذه المرحلة لحوالي  لحوالي سبعة قرون. اي منذ سقوط بغداد العباسية على يد المغول عام 1258 حتى دخول دخول الانكليز بغداد 1917. قبل الدخول في تفاصيل هذه المرحلة، يجب مناقشة مفهوم(( المرحلة المظلمة)). منذ سقوط الدولة العثمانية وحتى الان ثمة جدال بين تيارين متعارضين حول هذا المفهوم: التيار القومي  والحداثي الذي يصر على استخدام هذا المفهوم مع تفسير فيه الكثير من العنصرية والتعصب ضد (( الاتراك))، باعتبارهم سبب التخلف والانحطاط الذي ساد المرحلة. ثم هنالك التيار الاسلامي وكذلك القومي التركي، الذي يرفض استخدام هذا المفهوم ويعتبر تلك المرحلة طبيعية فيها من العيوب والمحاسن مثل كل الفترات التاريخية. اما نحن فاننا كعادتنا ناخذ الوسط المعقول بين اي موقفين متعارضين متطرفين، فنقول:

مقاتلة مغولية

ـ نعم ان تلك المرحلة كانت(( مظلمة)) بصورة لا يمكن لاي باحث ان ينكرها. اننا نحكم  بانحطاط هذه المرحلة، من خلال مقارنتها بالمرحلة(العباسية) التي سبقتها،  وكذلك مقارنة بالحالة الحضارية التي بلغتها اوربا المجاورة منذ القرن السادس عشر. يكفي معرفة ان عدد الكتب(بكل لغات الشعوب العثمانية) التي صدرت في هذه المرحلة لا تعادل عشر عشر الكتب التي صدرت في المرحلة العباسية.

 لكننا ايضا نختلف تماما مع (القوميين والحداثيين) الذين يعطون للتخلف والانحطاط سببا عنصريا وساذجا وتبسيطيا هو (سيطرة العنصر التركي))!! نرد على هؤلاء العنصريين، بالمنطق التالي:

ـ ان الاتراك منذ البداية لم ياتونا الى العراق والى عموم المنطقة كغزات بل تم جلبهم من قبل العباسيين كمحاربين للوقوف بوجه الغزو الصليبي.

ـ ان الشعوب التركستانية لم تكن (شعوبا همجية)، بل هي ساهمت بصورة فعالة في الحضارة الاسلامية، وبرزت اسماء كبيرة لا تعد ولا تحصى، مثل البخاري والبيروني والفارابي، وغيرهم الكثيرون.

سليمان القانوني

ـ ان الانحطاط لا يمكن ابدا ان يحدث لاسباب تتعلق بالعرق، بل دائما اسباب الانحطاط (اجتماعيةـ سياسية). ان ((جرثومةالانحطاط) اول ما تصيب( الفكر والضمير)اي النخب الثقافية والدينية والسياسية، ثم تعم في باقي المجتمع. لهذا فان الانحطاط  قد بدا اولا في اواخر المرحلة العباسية ومن داخل المجتمع العباسي نفسه وبالذات النخب الثقافية والسياسية الفاعلة حتى بلغ ذروته في سقوط الدولة على يد المغول، ثم استمر بصورة طبيعية خلال القرون. بمعنى ان المغول ثم العثمانيون اتوا ليكملوا انحطاطا قد بدا قبلهم منذ قرون..

الاتراك جائوا لمقاتلة الصليبيين

 

ـ ان الانحطاط و(الظلام) لم يكن سائدا فقط في الدولة العثمانية، بل كان سائدا في كل المجتمعات الاسلامية جميعها. لا احد يسأل عن انحطاط( ايران) خلال كل تلك القرون رقم انها ظلت دائما مستقلة عن العثمانيين، بل كانت تضاهيهم قوة وجبروت ايام الدولة الصفوية. نفس الحال بالنسبة للامم الاسلامية الاخرى المستقلة عن العثمانيين، مثل المغرب والهند( باكستان الحالية). بل ان هذا الانحطاط لم يكن(اسلاميا) فقط في تلك الحقبة، بل كان انحطاطا عالميا باستثناء اوربا. فحال الصين والهند واسيا واوربا الشرقية لم يكن مختلفا عن حال الدولة العثمانية. فقط اليابان وروسيا بداتا تنهضان مع نهايات القرن التاسع عشر. اوربا الغربية وحدها نهضت حضاريا منذ القرن السادس عشر، لاسباب عديدة لم يتفق عليها الباحثون لحد الان.

لهذا يحق لنا القول: نعم ان المرحلة المغولية والعثمانية كانت(مظلمة) ولكن ليس بسبب(الاتراك) بل هي عامة وعالمية لها اسباب عديدة.

يمكن تقسم هذه المرحلة الى  فترتين مختلفتين:

ـ (1258م ـ 1534 م) اي حوالي ثلاثة قرون بعد سقوط بغداد. وهي فترة عصيبة مضطربة جدا تغيرت فيها الفئات الحاكمة (مغولية وتركمانية وايرانية) بصورة دائما ودامية.

ـ (1534 م ـ 1918 م) فترة الحكم العثماني، وكانت فترة شبه مستقرة مقارنة بالفترة السابقة، تخللتها اجتياحات واحتلالات ايرانية بين حين واخر. يتوجب التوضيح انه رغم الاسم العثماني التركي الذي تحمله هذه الفترة، الا عن معظم ولات العراق والمتنفذين في ادارته ما كانوا من الاتراك بل من اصول بلقانية وقفقاسية.

غياب المراة

ان الباحث في هذه المرحلة يلا حظ غياب المراة التام عن الحياة العامة. والسبب لا يكمن فقط بطبيعة العقلية المسيطرة، بل اساسا بسبب صعوبة الحياة وكثرة الكوارث من حروب واجتياحات اجنبية وغزوات بدوية  وفتن ومعارك داخلية وفيضانات كاسحة وطواعين مدمرة.  كل هذه الاوضاع المضطرية والقاسية لم تكن تسمح الا بسيطرة الفحولة ومنطق القوة، فيتراجع منطق الانوثة وتنزوي المراة بعيدا خلف الرجل في زوايا البيت المعتمة. نقول غياب المراة عن (الحياة العامة) وليس عن(الحياة)!! وهذا يعني ان المراة تبقى فعالة وماسكة لزمام الامور ولكن ليس بصورة علنية بل من تحت لتحت، من خلال تاثيرها على الرجال من اخوتها وابنائها وزوجها.  لكن المشلكة نحن الباحثون في التاريخ من الصعب جدا علينا ان نعثر على دور المراة في مثل هذه الظروف، حيث تغيب المصادر والوثائق والشهادات التي تتحدث عن  دور المراة.

لو اخذنا مثلا كتاب(حوادث بغداد في 12 قرن)للباحث (باقر امين الورد) وهو كتاب قيم وضروري لكل باحث في تاريخ العراق، حيث  يسرد بطريقة خبرية متسلسلة اهم احداث بغداد منذ تاسيسها عام (762)م وحتى وقتنا الحالي. يلاحظ بصورة واضحة وغريبة وغير مقصودة كيف ان معدل  ذكر اخبار النساء يتنامى مع تنامي الازدهار الحضاري في بغداد العباسية. نساء من مختلف الاجناس والادوار، شاعرات سياسيات متدينات محسنات مغامرات. ثم يبدا العد يتراجع مع تراجع المستوى الحضاري وتفاقم الكوارث وتنامي الانحطاط، فتتصاعد الفحولة وتتراجع الانوثة، حتى يهيمن الغياب المطلق لذكر دور المراة مع سقوط بغداد وغياب دور كل العراقيين ( رجال ونساء) عن الحياة العامة،اذ سيطرت العناصر الاجنبية على بلادهم وعلى مقدراتهم. بالتدريج في اواخر الفترة العثمانية تبدا نقاط مضيئة تبزغ هنا وهناك متمثلة خصوصا بظهور مدارس البنات في نهايات القرن التاسع عشر. للتوضيح نذكر ادناه كل ما عثرنا عليه من ذكر للمراة في بغداد خلال هذه القرون المظلمة السبعة:

ـ1286 م وفاة(( رابعة)) ابنة ابي العباس احمد بن الخليفة المستعصم، زوجة خواجة هارون بن الصاحب شمس الدين محمد بن الجويني ببغداد ودفنت بتربة والدتها بمشهد عبيد الله.

ـ 1311م  وفاة(( ست الملوك)) فاطمة بنت علي بن ابي البدر، روت كتابي الدارمي وعبد بن حميد، توفيت ببغداد.

ـ وفاة ((فاطمة ابنة عباس ابي الفتح)) الشيخة الفقيهة العاملة. كانت تفتي وتامر بالمعروف وتنهي عن المنكر. هي واحدة عصرها وفريدة دهرها جليلة القدر وافرة العلم.

اميرة عثمانية

 

ـ 1616 م زيارة الرحالة الايطالي(( ديلافول))لمدينة بغداد، وقد تزوج اثناء اقامته في بغداد بفتاة اسمها((معاني)) وقد رافقته في رحلته الى فارس.( ملاحظة من المجلة: طالعوا هذا الموضوع المؤثر والشيق في هذا الفصل)).

ـ 1717 م وفاة(( عائشة خاتون)) زوجة الوالي حسن باشا، ودفنها قرب مقبرة(( الست زبيدة)) وقد بنى لها الوزير مدرسة لطيفة اجرى لها الماء وعير لها مدرسين وخصص لهم المرتبات.

ـ 1729 م زواج الكتخدا(( محمد باشا)) ب(( خديجة خانم)) اخت الوالي، فاعلنت معالم الزينة والافراح في بغداد بشكل لم يسبق له مثيل.

ـ 1732 م زواج ابنة الوالي(( عادلة خاتون)) من كتخدا الوالي(( سليمان بك)) الذي صار واليا على بغداد بعد فترة. وهو اول المماليك في العراق وزوجتنه صاحبة اوقاف العادلية.

ـ 1747 م زواج (( عائشة خانم) ابنة الوالي من احمد اغا.

ـ 1865 م تاسيس مدارس للذكور وللاناث من قبل جمعيات الاليانس اليهودية في بغداد.

ـ 1893 م  تاسيس مدرسة الاليانس للبنات في بغداد والتي سميت فيما بعد (( مدرسة لورا خضوري للبنات)).

ـ 1900 م انشاء اول مدرسة بنات حديثة في بغداد تضم الدراستين الابتدائية والمتوسطة باسم(اناث رشدية مكتبي)). وتم تعيين(( امينة شكورة خانم)) معلمة اولى لها.

ـ 1913 م انشاء مسرح للرقص والغناء ترفيها لسكان بغداد في موضع لدار الطلبة في الباب المعظم.

ـ 1916 م تاسيس ملهى في (( مقهى الشط)) بجانب الكرخ. وقد مارست الغناء فيه المطربة((روزة نومة)) واختها(( ليلو نومة)).

نساء السلاطين

             نورد هذه الحكاية(النسوانية) التي تعبر عن حال المراة وعموم المجتمع العراقي في زمن المغول، وقد ذكرها الرحالة المغربي (ابن بطوطة) الذي زار بغداد عام 1326 وسنة 1347 ميلادي، وهي فترة الحكم المغولي. ومختصرها كالتالي:

((اراد السلطان (ابو سعيد) ان يتزوج بنت الجوبان التي كانت تسمى (بغداد خاتون)، وكانت زوجة رجل يدعى الشيخ حسن، فامره  فنزل عنها  وتزوجها ابو سعيد فاكرمها. وكانت النساء لدى التتر والاتراك لهن حظ عظيم. بعد فترة احب السلطان ابو سعيد امراة اسمها (دلشاد) فتزوجها واحبها واكرمها ايضا. فقررت( بغداد خاتون) امرا جراء غيرتها وغضبها. تمكنت من تسميم زوجها بواسطة منديل مسموم مسحته به بعد الجماع  فمات وانقرض عقبه. ولما عرف الامراء ان (بغداد خاتون) هي التي سمت زوجها، اجمعوا على قتلها. كلف الفتى الرومي (خواجة لؤلؤ)، فاتاها وهي في الحمام فضربها بدبوسه(سيفه) وقتلها. وطرحت هنالك مستورة العورة بقطعة من الخوص. ثم استقل الشيخ حسن بملك عراق بعد وفاة السلطان ابوسعيد، فتزوج من دلشاد كما فعل السلطان سعيد حين تزوج بغداد خاتون)). ( ص 243)

ورغم الروايات والحكايات الا ان المراة العراقية استطاعت التطبع مع تلك الظروف واسهمت حسب الممكن في اعمال الخير والصلاح ورعاية الايتام  وبناء دور الشفاء والمدارس وتعيين الاطباء والمدرسين. وكانت بيوت بعضهن ملتقى العلماء والادباء واصحاب الحاجة من الفقراء ومنهن زاهدات عابدات يعلمن التجويد ويحضرن مجالس الوعظ، فبرزت منهن محدثات بارعات وتولى قسم منهن البيع والشراء حين تلاحق السلطات ازواجهن، وبقين ممسكات بالتقاليد ورعاية الاسرة. فكان الاكتفاء بزوجة واحدة من مميزات الرجل العراقي الذي يفضل الزواج باحدى قريباته في اعراس مغلقة حيث تقام احتفالات النساء بمعزل عن احتفالات الرجال.

كانت المراة العراقية في فترة الحكم العثماني  تعيش بين جدران المنزل وعليها ارتداء الحجاب اذا خرجت رفقة محرم او مرافق ولايجوز ذكر اخبارهن في مجالس الرجال فذلك معيب على الرجل. كانت الزيارات الجماعية ذات الطابع النسائي والذهاب الى الحمامات العامة الكثيرة في بغداد يومذاك  من ابرز نشاطات المراة العراقية ولكن عليهن التستر من اعلى الراس حتى اخمص القدم حتى ليتعذر على الزوج معرفة زوجته في الطريق. وكانت الاعمال المنزلية وفنون التطريز والخياطة هي ابعد مايمكن ان يتيسر للمراة من تعليم اذ يتحاشى المجتمع تعليم المراة. ( خير الدين نعمان الالوسي) (القرن التاسع عشر) صاحب كتاب ((الاصابة في منع النساء من الكتابة)) يقول: [ فاللبيب من الرجال هو من ترك زوجته في حالة من الجهل والعمى فهو اصلح لهن وانفع لان حصولهن على ملكة الكتابة هو من اعظم وسائل الشر والفساد]!! ولذلك كانت نساء الطبقة الغنية يبالغن في التزين وشراء الملابس وخياطتها وفي عقد مجالس السمر النسوية فيما كانت نساء الطبقات الاخرى يمارسن الغزل والحياكة. لكن المراة كانت ايضا تقوم بمساعدة الرجل في الزراعة والري او في رعي الغنم كما في المناطق الريفية والبدوية. برغم ذلك فان الكثير من الروايات تحكي عن نساء ساهمن في ادارة الحياة خلال الفترة العثمانية مثل السيدة (عمشة) زوجة (صفوك السلطان) شيخ عشائر شمّر جربا التي كانت تفصل في الاحداث وتجيب على الرسائل. هناك ايضا السيدة (عادلة) في منطقة (حلبجة) المعروفة بادارتها وعلاقاتها العامة بشؤون الناس. ثم السيدة (فاطمة خانم) التي كانت تدير شؤون القرى والارياف وتحل مشاكل المزارعين وغيرهم.

 

وبرغم الحدود التي رسمت للمراة لكن المجتمع اضطر للموافقة على فتح مدارس خاصة للبنات  واشترط ان لاتكون لها نوافذ وان لاتكون الدور القريبة مشرفة عليها وان لايكون قرب المدرسة شجر عال لكي لا يتسلقه الرجال ويشرفون على المدرسة. ودرست و تعلمت المراة العراقية واطلّت على الحياة واسهمت فيها منذ نهاية القرن التاسع عشر حيث ابتدات الحياة ترسم ملامح الغد والحضارة الحديثة.

ــــــــــــــ

العودة للفهرس