لمحة عامة: إنتشار الاسلام والتعريب في العراق ..

ثم الحضارة والانوثة..

 

 

  في اواسط القرن السابع خرجت الجيوش العربية الاسلامية من الجزيرة العربية واسقطت الامبراطورية الساسانية الفارسية التي كانت تهيمن على العراق وايران واجزاء من افغانستان وآسيا التركستانية الوسطى. وتم كذلك طرد الدولة البيزنطية من سوريا ومصر، ثم بلغت الجيوش الاسلامية شمال افريقيا وعبرت حتى اسبانيا. بالنسبة للعراق عندما دخلت الجيوش الاسلامية وجدت امامها حوالي سبعة ملاييين من السكان العراقيين باغلبيتهم الساحقة من المسيحيين(النساطرة) مع اقليات من الصابئة واليهود والمانوية، بالاضافة الى بعض المجوس من الاداريين والعسكريين الأيرانيين(الدهاقنة). وكانت لغة هؤلاء جميعهم هي اللغة السريانية(الآرامية) العراقية، التي سبق لها وإن سادت في الامبراطورية الفارسية واصبحت لغة الثقافة الاولى جاعلة من اللغة الفارسية البهلوية محصورة في البلاط ورجال الدين المجوس(الموابد). لقد دخل الاسلام العراق على انه منقذ للناس من السيطرة الايرانية والاضطهاد الذين مارسه رجال الدين المجوس ضد  الكنيسة العراقية والذي راح ضحيته مئات الآلاف من المسيحيين العراقيين طيلة عدة قرون. ان قوة الاسلام وسر انتشاره السريع بين شعوب البلدان المفتوحة، انه منح الفرصة لهذه الشعوب بالتخلص من حالة التبعية والخضوع للقوى الاجنبية والمتجبرة، وتوفير الفرصة لهم للأشتراك بالحكم والمشاركة الفعلية في الدولة الاسلامية، وذلك من خلال تبني الاسلام والتطوع في الجيوش الفاتحة وادارات الدولة الجديدة والتمتع بالمغانم والمزايا العديدة. ان ترك السلطة العربية الاسلامية الباب مفتوحا لجميع ابناء البلدان المفتوحة للدخول في الاسلام والمشاركة بالحكم، جعل الاغلبية الساحقة من هذه الشعوب تدخل الى الاسلام لتشارك في ادارة الدولة الجديدة، بل حتى الاستحواذ عليها، حيث تمكنت جميع الشعوب الاصلية بعد تبني الاسلام من السيطرة على فروع الدولة الاسلامية في اوطانها. بعد اقل من قرن من الفتح وما إن سقطت الدولة الاموية في دمشق  حتى فقد العنصر القبائلي العربي الفاتح  تمايزه العنصري والسياسي بعد ذوبان الاغلبية الساحقة من هؤلاء الفاتحين في ابناء الشعوب الاصلية من خلال التزاوج والاستقرار.

 

هكذا تمكن المصريون والبربر والسوريون والعراقيون والايرانيون والتركستان والهنود والاسبان، من تبني الاسلام والمشاركة الفعالة في صنع الحضارة الجديدة التي كان دينها هو الأسلام ولغتها هي العربية. بل حتى الجماعات التي لم تعتنق الاسلام  وبقيت على يهوديتها ومسيحيتها وصابئيتها تم اشراكها وفسح المجال لها لكي تلعب ادوارا حضارية وادارية وسياسية معروفة.

العراقيون والسوريون كانوا اكثر الشعوب التي تبنت العربية واستعربت اسرع من غيرها بسبب  التجاور الجغرافي مع عرب الجزيرة العربية والاتصالات السكانية والحضارية المتواصلة منذ فجر التاريخ  وانتماء  الجميع الى عائلة اللغة السامية، والتقارب الكبير بين اللغتين السريانية لغة العراقيين والشاميين مع  اللغة العربية الفاتحة. ان سهولة الاستعراب لدى العراقيين سمحت لهم منذ بداية الفتح ان يشاركوا بصورة فعالة في صنع الحضارة العربية الاسلامية، بل ان العراقيين هم  من منح اللغة العربية نحوها وبلاغتها وتنقيطها وحركاتها من خلال ميراث لغتهم السريانية، وبرزت في هذا المجال مدرستي الكوفة والبصرة.

Baghdad

بغداد رسم ايمان عمر)

 ومنذ القرن الثامن، وبعد ثورات وتمردات لا تحصى تمكن العراقيون بقيادة (التحالف العلوي العباسي) من تكوين الدولة العباسية وجعل عاصمتها  (بغداد) وسط العراق قرب (بابل ) عاصمتهم التاريخية التي لم ينسونها رغم خرابها قبل الف عام وبقيت حية في حكاياتهم واساطيرهم التي ادخلوها الى المسيحية ثم الى الأسلام. في (بغداد) قاد العراقيون اكبر واطول نهضة حضارية عالمية في التاريخ، مازجين كعادتهم ما ورثوه من اسلافهم  العراقيون الاوائل في سومر وبابل ونينوى، مع ميراثات الشعوب الاخرى من اغريقية وفارسية وهندية وشامية ومصرية وغيرها، حتى اصبحت (بغداد)، مثل سالفتها (بابل)، عاصمة الارض التي تتفاعل فيها اللغات والاديان والافكار وتتزاوج بها جميع الاجناس البيضاء والصفراء والسوداء من تجار وعبيد ومرتزقة وطالبي علم ومغامرين حالمين. 

 

تنامي دور المرأة مع تنامي الحضارة..

 

 ليس هنالك دور واضح للمرأة العراقية في الفترة الراشدية(637 ـ 661 م) حيث دام حوالي عشرين عام، اصبح في سنواتها العراق مقرا للخلافة عندما اختار الامام علي(ع) الكوفة عاصمة له. خلال هذه الفترة القصيرة وبالذات اثناء خلافة (ابو بكر)(رض) وحروب الردة برز  دور المرأة العراقية بمثال (سجاح الموصلية) التي اعلنت النبوة، وتمردت لكنها تراجعت فيما بعد واعتنقت الاسلام.  بعد ذلك تمكنت السلالة الاموية من الاستحواذ على السلطة واتخذوا من (دمشق) عاصمة لهم. بعدها انحدر وضع العراقييين وعانوا من الظلم والتعسف الذي كان اساسه عنصري يحمل في طياتها الكثير من الاحتقار القبائلي العربي ضد العراقيين الاصليين الذين اطلقوا عليهم تعابير احتقارية مثل (العلوج) و(الموالي) و(النبط). هذه الفترة الاموية  كانت نسبيا قصيرة  حيث دامت حوالي 80 عام، لهذا من الصعب الحديث عن دور واضح للمرأة العراقية خلال هذه الفترة لقصرها وايضا لتوتر اوضاعها. لكن يمكن ذكر دور المرأة في حركات الخوارج والعلوية. يذكر الطبري مثلا انه كان في الكوفة بيتان لامرأتين من الشيعة كان يجتمع فيهما زعماء الشيعة فيتباحثون في امرهم ويحيكون المؤامرات ضد الخلافة الاموية.

اسم بغداد، شهير جدا  في العديد من افلام السينما العالمية

 

     بعد انتفاضات وحروب وكوارث عديدة،  تمكن اخيرا العراقيون من الاستحواذ على  دولة الخلافة، بقيادة التحالف(العباسي العلوي) وبالتعاون مع الجماعات التي شاركت العراقيين الشعور بالاضطهاد ومنهم الايرانيين.

   في العص العباسي وبعد اتخاذ (بغداد) عاصمة للخلافة، اخذ العراقيون يشعرون حقا وحقيقة انهم بدأو اخيرا باستعادة امجادهم القديمة المنسية، وقد آن اواهم ان  يلعبوا من جديد دورهم التاريخي الحضاري المنتظر الذي حرموا منه منذ اكثر من الف عام بعد سقوط بابل في القرن السادس قبل الميلاد.

على مر التاريخ اثبت بان أي مجتمع لن يبلغ أي رقي حضاري من دون مشاركة فعالة من قبل المرأة. ان ارتقاء المرأة واحترامها هو ارتقاء واحترام للمجتمع كله، وانحطاط المرأة وقمعها هو انحطاط وقمع للمجتمع كله. لهذا فانه من المؤكد ان الفترة التي ارتقت فيها الحضارة العراقية العباسية كانت ايضا فترة رقي ومشاركة فعالة من قبل المرأة العراقية، كذلك ان فترات الانحطاط كانت ايضا هي الفترات التي تم فيها ابعاد المرأة العراقية عن المشاركة واحتقارها.

الجسر العباسي ـ زاخو( شمال العراق)

       
منذ العصر العباسي الاول (132 - 232 هـ/ 750م - 846م)"  برزت ظاهرة التمازج الحضاري والسكاني بين الجماعات العربية التي استقرت في ربوع النهرين مع السكان العراقيين الاصليين من الذين دخلوا الاسلام. فمثلا بالنسبة للخلفاء العباسيين، من بين سبعة وثلاثين خليفة عبّاسي لم يكن من بينهم من هو عربي الام الا ثلاثة: (ابو العباس السفاح)، و(المهدي بن المنصور)، و(محمد الامين بن هارون الرشيد). وادى توجه العباسيين للزواج من ابناء البلد ومن الجواري والاماء إلى ترشيح ابنائهن لمنصب الخلافة وذلك يخالف ما جرى عليه العرف ايام الامويين حيث كانوا لا يستخلفون ابناء الاماء.

 

 

الدور الحاسم للجواري في العصر العباسي

ان تجارة الرقيق، اناث وذكور، تقليد بشري قديم قدم تواجد المجتمعات البشرية. منذ إن عرف الانسان الجوع والحرب عرف العبودية، إذ كان اول العبيد هم اسرى الحروب كذلك ابناء الفقراء الذين يبيعهم اهلهم الى الاغنياء لكي ينقذوهم من الجوع والفقر. ظلت العبودية سائدة في كل انحاء الارض اينما انوجدت الجماعت البشرية، ما دام  هنالك فقر وهنالك حروب. صحيح أن الإسلام لم يحرم الرق ، بل دعا إلى إلغاء ه تدريجيا،  وذلك لاستحالة فرض الغائه في تلك الازمان. من هنا كانت النظم والقوانين التي جاء بها الإسلام لتحسين أحوال الرقيق والرفع من مكانتهم الاجتماعية. يمكن القول ان المجتمعات الاسلامية هي اكثر المجتمعات التي توفرت فيها الفرص للعبيد، نساء ورجال، ان ينعتقوا من عبوديتهم ويصعدو في السلم الاجتماعي الى حد ان يكونوا اعضاء في الطبقات الحاكمة وشخصيات مرموقة في مختلف المجالات.

خلال العصر العباسي تحول المجتمع العراقي الى اكبر المجتمعات في التاريخ الذي  يمتلك هذا العدد الهائل من الجواري والرقيق. لقد تحولت( بغداد) الى اكبر مدينة في ذلك العصر باستيراد العبيد، يجلبون لها من كل انحاء الارض، من غابات افريقيا واصقاع تركستان حتى روسيا والبلدان الاسكندنافية. بل كان هنالك جواري وعبيد من دماء عربية يجلبون من الحجاز واليمن، فالحروب والفقر لم تميز بين الاجناس. ان ان كثرة الجواري في اسواق (بغداد) في هذا العصر، يعود اولا الى الغنى المادي الفاحش الذي تراكم لدى الطبقة العباسية الحاكمة بسبب تراكم  مغانم الحروب والعائدات المالية والعينية المجلوبة الى (بغداد) من جميع انحاء الامبراطورية. بالاضافة الى كثرة الحروب التي كان على الدولة العباسية خوضها في اصقاع مختلفة مما أدى إلى اتساع الدولة وانتشار تجارة الرقيق انتشارا واسعا. علما ان هؤلاء الرقيق، من اناث وذكور، لم يكن بمعظمهم من الاسرى، بل ان غالبيتهم العضمى اطفال قد باعهم اهلهم الى النخاسين من اجل انقاذهم من الفقر والجوع، وعلى امل ان يحالفهم الحظ  في حياة اخرى. وفعلا ان الكثير من هؤلاء الرقيق قد استثمروا اوضاعهم الجديدة فصعدو بالسلم الاجتماعي واصبحوا اعضاء في الطبقة الحاكمة نفسها، بل ان بعضهم اصبحوا سلاطين، ومن اشهرهم(كافور الاخشيدي) في مصر، كذلك امهات وزوجات الخلفاء اللواتي كن جواري، ومن اشهرهن (الخيزران) ام(هارون الرشيد).

Baghdad in memory

بغداد (رسم ايمان عمر)

 

 من المعلوم ان هؤلاء الرقيق ليسوا كلهم من المجلوبين الجدد من خارج العراق، بل الكثير منهم منهم قد ولدوا  في العراق نتيجة تزاوجهم بين بعضهم البعض، او تزوج امهاتهم برجال احرار. أن البلدان الأصلية للجواري لم تعد المصدر الوحيد لتزويد العراق، فقد صرن يتكاثرن بالزواج من الرقيق وصارت الجارية تنسب بالمولد.

 ان الحديث عن الجواري يقتضي اولا الحديث عن النخاسين أو (تجار الجواري). كان هؤلاء يشكلون فئة اجتماعية متكاملة، من حيث عدد العاملين معهم من عمال وكتاب ووسطاء وشبكات دعارة ودعاية وتثقيف، ولهم فروع وعيون واتصالات مع وسطاء وتجار فرعيين مقيمين في جميع انحاء الارض. كان للنخاسين  دورهم في (بغداد) مخصصة لتلك التجارة تقع على  شواطيء نهر دجلة قرب أسواق الرقيق. كما أن هنالك دور خاصة للرقيق مجاورة لدورهم. هنالك حكايات كثيرة عما يجري في تلك الدور من مجون تحت إشراف النخاسين وبتوصية منهم استجلابا لطبقة الأغنياء وطبقة الشعراء ممن يستهويهم ذلك النوع من الحياة اللاهية في أوساط الجواري. وقد تطور العمل والتخصص لدى هؤلاء النخاسين بحيث انهم جلبوا المعلمين والمثقفين في مختلف الفروع لكي يقوموا بالاشراف على تربية وتثقيف جواريهم وتعليمهن مختلف معارف ذلك الزمن لكي يتمكن من مجالسة أفراد الطبقات العليا والتأثير فيهم.

 

البساط السحري فوق بغداد

 

لقد نجحت جهود النخاسين الكبيرة في هذا المضمار للدرجة التي أصبحت فيها الكثير من هؤلاء الجواري يجادلن ويحاورن في كثير من أبواب العلوم والفنون بالشكل الذي تفوقن فيه على كثير من الحرائر اللواتي لم تتح لهن كل هذه الفرص في التثقيف والتعليم. ان ارتفاع المستوى الثقافي لدى الجارية يعني ارتفاع سعرها، ثم ان هذا زاد في حظوظهن مع الرجال بالشكل الذي أدى إلى ازدياد تأثيرهن  في المجتمع العباسي بأكمله. ان الجواري  اثرن بشكل لا يمكن وصفه في الطبقات العليا من المجتمع العراقي وبالذات في الطبقة العباسية الحاكمة. لم يقتصر الامر على  نشر الخلاعة والمجون واجواء (الف ليلة وليلة)، بل كان لهن تأثير ايجابي واضح يتمثل بمساهمتهن في نشر الثقافة والفنون الجميلة والكثير من التقاليد والعادات المجلوبة من مجتمعاتهم الاصلية، سواء بالموسيقى والغناء والازياء والطبخ والادب وكل المجالات المعرفية.  بالإضافة إلى ما تنتجه هؤلاء الجواري أنفسهن من شعر نتيجة لتثقيفهن ثقافة عالية من قبل نخاسيهن. بل إن أثر هؤلاء تعدى كذلك إلى الناحية السياسية فقد اتسع نفوذهن وقوي سلطانهن وخاصة اللواتي حظين بأن يكون لهن أزواج أو أبناء من الخلفاء. يبدو ان الجواري المجلوبات من الحجاز كان لهن تأثير واضح في فن الغناء في (بغداد). وهنالك مجموعة من الخلفاء وأبناء الخلفاء ممن كانت لهم صنعة في الغناء. ومن اشهر الجواري اللواتي برزن على هذا الصعيد: (بذل) و(تيم) و(دنانير) و(عريب) و(فريدة) و(عاتكة بنت شهدة) و(قلم الصالحية).

كما كان لهؤلاء الجواري تأثير أدبي على الادباء انفسهم يتمثل فيما تثيره الجواري من عواطف في صدور الشعراء فتخرج على ألسنتهم شعرا جميلا. ولهذا السبب انتشر شعر الغزل بصورة تفوق أي عصر، وانقسم الى  غزل عفيف وغزل ماجن. ومن أشهر القصص المعروفة على هذا الصعيد قصة( بشار بن برد وعبدة) و(قصة العباس بن الأحنف وفوز) وقصة (أبي العتاهية وعتبة) وقصة (أبي نواس وجنان)، بالإضافة إلى قصص اقل شهرة، مثل قصة (إبراهيم الموصلي وذات الخال) وقصة (محمد بن أمية وخداع).

     هناك مجموعة من الجواري قلن الشعر وتفوقن في النظم فيه، يحضر مجالسهن الأدباء ويتبارين مع فحول الشعراء. لكن للاسف تاريخ الادب لم يحفظ لنا الكثير من نتاجاتهن، ربما بسبب تدخل بعض المتزمتين من ذوي العقلية الفحولية في الغاء ومسح تراثهن!! هنالك  جاريتين شغلتا المجتمع العباسي وسيطرتا على تفكير كثير من الخلفاء والشعراء بما تملكانه من موهبة فنية في نظم الشعر ورواية للأخبار والأشعار وهما (عنان) جارية (الناطفي) و(عريب) جارية (المأمون).

 

بروز الدور السياسي للمرأة

 

وفي تلك الحقبة ازدادت مشاركة المرأة السياسية بسبب التطورات الاجتماعية المتسارعة آنذاك. فقد اعتمد الخليفة المنصور على النساء في جمع الاخبار عن اعدائه وساعده الاعتماد على النساء في معرفة احوال الناس حتى عرف الولي من العدو والمُداجي من المُسالمر. ومن النساء العباسيات اللاتي كان لهن دور في العصر العباسي (زينب بنت سلمان) حيث عمرت طويلاً.، كما مارست المرأة القضاء فقد تولت أم الخليفة (المقتدر العباسي) رئاسة محكمة استئناف بغداد.

ولما تسلم (المهدي) الخلافة ظهرت المشاركة النسائية بصورة واضحة وكان لنساء الخلفاء وامهاتهم دور لا يمكن اغفاله في ا لشؤون السياسية حيث عارض (عبد الله بن المقفع) هذا الدور المتعاظم للمرأة وكتب يقول: ((امور كثيرة لا يجترئ عليها إلا أهوج، ولا يسلم منها إلا قليل: صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة، وركوب البحر)). وقد تدخلت النساء في حياة (المهدي) وشؤون الدولة فقد كان كثير الجلوس مع النساء، وكانت زوجته  (الخيزران) ( ام هارون الرشيد) تجلس في عتبة الرواق المقابل للايوان، وتجلس (زينب بنت سليمان) بإزائها، وفي الصدر مجلس الخليفة (المهدي)، يقصدهن في كل وقت فيجلس ساعة ثم ينهض. وكان من تأثير (الخيزران) ان رشح (المهدي) إبنيها وهما (الهادي والرشيد) للخلافة، مع ان ابنه الاكبر (عبد الله) من ابنه عمه وهي عربية هاشمية (رابعة بنت ابي العباس).
وفي عصر (الرشيد) مارست زوجته (زبيدة) السياسية وكانت الملكة الثانية في بلاط العباسيين بعد (الخيزران). ففي عصر (الرشيد) زاد اقبال الناس على الجواري وتعليمهنّ ودفع الاثمان الباهظة في شرائهنّ وقد اثر ذلك على مختلف جوانب الحياة مما ادى إلى زيادة تحرّر المرأة واندفاعها للمشاركة في شؤون الحياة المختلفة.

كهرمانة تصب الماء الساخن على الاربعين حرامي

                                                     
ويلاحظ  ان دخول النساء العراقيات في الاحزاب قد تراجع في العصر لعباسي عما كان عليه الوضع ايام الامويين كما تراجعت مشاركة المرأة في القتال، ربما بسبب استقرار الاوضاع عموما وكذلك اعتماد الدولة على قوات مجلوب من الخارج بمعظمهم من تركستان.  ان تدخل (زبيدة) في عصر (الرشيد) جعله من ازهى عصور الخلافة العباسية، فزبيدة تتابع والرشيد دائم البحث عن اسرار رعيته يساعده في ذلك عيونه واصحاب اخباره في جميع الولايات. اما (المأمون) (198-218) فقد اعتمد على العنصر النسائي ليس في أخذ المشورة ولكن في تسيير اعماله، ففي نزاعه مع (الامين) كان يرسل بريده مع النساء، يضعن البريد داخل اعواد منقورة من المكاف (نوع من الشجر). ولم يقتصر اعتماده على النساء في نقل البريد فحسب، بل كان يرسل النساء والرجال متنكرين في زي التجار او الاطباء وكان يفضل استخدام العجائز في هذه المهمات اذ يذكر (النويري) ان العجائز كن يأتينه كل مساء بتقارير مفصلة تتعلق بأخبار الناس وأخبار اللصوص والفساق. وذكرت بعض المصادر ان عدد هؤلاء العجائز يقارب الالف عجوز. ان تعاون الخلفاء مع بعض النساء وافسح المجال امامهن للمشاركة في شؤون الدولة اثبت ان المرأة مثل الرجل قادرة على تصريف شؤون الدولة والاعتماد عليها.


حمام نسوان عباسي

 

وقد تعاظم دور المرأة كثيرا في العصر العباسي الثاني (242-334، 846-907م). يبدو ان الفساد الهائل في بلاط الخلفاء في هذا العصر انعكس بصورة سلبية على دور المرأة خلافاً لدورها الايجابي في العصر العباسي الاول. لقد زاد الاعتماد على النساء في العصر العباسي الثاني في ادارة السجون التي كانت في قصور الخلفاء لحبس المتنفذين في الدولة، فقد كان معظم الوزراء الخارجين على الخلافة من المتنفذين يسلمون لزيدان قهرمانة المقتدر. واصبح لامهات الخلفاء وازواجهم دور اكثر وضوحا مما كان في السابق، اذ وصل تأثير النساء على الخلفاء صورة لم يألفها المجتمع من قبل وذلك نتيجة الامتيازات التي حصلن عليها وضعف الخلفاء وصغر سنهم وقد تمكن هؤلاء النسوة مع وصيفاتهن ومواليهن وبعض القادة والكتاب من تشكيل طبقة خاصة شكلت عبئاً مالياً كبيراً على خزينة الدولة. ومن علامات الانحطاط انه كان يتوجب على الولاة في الدولة ان يهادوا الخليفة والسيدة والخالة والقهرمانة والحاجب والخادم وكتابهم وكل من يلوذ بهم، وكان هذا التقليد لا يجوز الاخلال به والا تعرض صاحبه للعزل والسجن.

 

اما في العصر الثالث والاخير(334-656هـ، 946-1258م)، حيث خضعت السلطة العباسية تماما للقوى العسكرية الناهظة من شرق الخلافة، في ايران وتركستان، وبدأ دور العراقيين يتراجع بالتدريج في التأثير على الدولة. ثم ان ازدياد التوتر والثورات وتعاظم التهديدات الخارجية والحروب الصليبية، كل هذا جعل الروح الحربية الفحولية تطغي على الروح الانوثية المسالمة.  في الفترة البويهية كان دورا النساء محدوداً جداً ويعود السبب إلى ان خلفاء تلك الحقبة لم يكن لديهم سلطة في الدولة، ولهذا لا تأثير بالضرورة لنسائهم. ولكن ثمة استثناءات، فقد برزت في تلك الفترة (عابدة بنت محمد الجهنية) وكانت اديبة شاعرة فصيحة وكانت تحضر مجلس عضد الدولة. وبرزت (قهرمانة معز الدولة)، فقد كانت تعقد المحالفات مع رجال الدولة وتعين الوزراء وكذلك قهرمانة الخليفة القائم بأمر الله،( وصال)، فقد كانت تشترك في اختيار الوزراء، شأنها شأن قهرمانات العصر العباسي الثاني.  في الفترة السلجوقية وتنامي الحياة الحربية والفحولية بسبب المخاطر التي تهدد الدولة والتي امتدت اكثر من مائتي عام من عام 447 وحتى سقوط بغداد سنة 656هـ. وقد  ظهرت استثناءات حيث لم يكن للنساء دور مؤثر في سياسة الدولة بشكل عام. فقد ذكر ابن الاثير انه في زمن (المقتدي) اول خلفاء هذه الفترة كانت جاريته (شمس النهار) قوية ولما سقط (المقتدي) مغشياً عليه، حلت ازرار ثوبه فوجدته وقد ظهرت عليه امارات الموت، ولما حاولت جارية اخرى الصراخ قالت لها شمس النهار: (( ليس هذا وقت اظهار الجزع والبكاء، فإن صِحْتِ قتلتك)).. واحضرت الوزير فأعلمته الحال وشرعوا في البيعة لولي العهد (المستظهر بالله). ومن النساء في عهد السلاجقة التي كان لها تأثير في المشاركة السياسية (زوجة طغرل بك) حيث كانت سديدة الرأي فوّضها زوجها امره في كثير من الامور فكانت على احسن تدبير.

ــــــــ

اعتمدت هذه الدراسة على مصادر عديدة، من بينها:

ـ دراسات مختلفة في موضوع الهوية العراقية ـ سليم مطر

ـ المرأة والمشاركة السياسية/  د.محمد خريسات / بيروت 1997

ـ سهام الفريح/ الجواري والشعر في العصر العباسي

العودة للفهرس