لمحة عن طبيعة هذه المرحلة ودور المرأة..

عادة تسمى تلك المرحلة بـ( العراق القديم)، ولكننا اخترنا ايضا تسمية جديدة اضافية، هي (المرحلة المسمارية)، كصفةعامة لتلك المرحلة، من اجل تجنب التسميات التقسيمية العديدة (سومرية اكدية بابلية آشورية كلدانية) التي لم يتفق عليها المؤرخون الاكاديميون حتى الآن، رغم انها مرحلة واحدة بحضارة واحدة وشعب واحد، رغم تعدد التسميات والسلالات. ان (الكتابة المسمارية) الصورية هي الخاصية الجامعة لتاريخ العراق القديم منذ الالف الرابع قبل الميلاد حتى السقوط الاخير لبابل في القرن السادس قبل الميلاد. بعدها بدأت تنتهي تلك المرحلة مع بدء انتشار لغة شبه جديدة هي اللغة الآرامية سليلة الاكدية السابقة مع تأثير كنعاني شامي واضح. ان الميزة الاساسية في هذه اللغةالجديدة هي ظهور  الكتابة الابجدية(الحروفية) الذي اخترعه الشاميون، والتي حلت محل الكتابة المسمارية(الصورية)، مما خلق شبه قطيعة، ثقافية وحضارية ثم بعدها دينية، كبرى مع المرحلة السابقة(المسمارية).

 دامت المرحلة المسمارية ما يقرب  الثلاثة آلاف عام، حيث بدأت بإنبثاق الحضارة السومرية في الجنوب في الالف الرابع قبل الميلاد، واتخذت هذه الحضارة شكلها السياسي والثقافي المتكامل مع  قيام الملك  ( سرجون الاكدي) الذي مثل بداية سيادة اللغة الساميةالاكدية وتوحيد الدويلات العراقية وتكوين اول دولة موحدة (  2350 ق.م) على ارض النهرين.  مدينة بابل في وسط  العراق لعبت دورا اساسيا كعاصمة حضارية كبرى لفترة الفي عام تعاقبت عليها الكثير من السلالات والدول. كذلك مدينة نينوى في الشمال التي قادتها السلالة الآشورية وقدمت الملك الشهير( آشور بانيبال)، ولعبت نينوى دورا حضاريا وسياسيا مكملا ومنافسا لبابل. تخللت هذه الثلاثة آلاف عام  الكثير من الحروب والمتغيرات السياسية وظلت كالعادة الجماعات الآسيوية والسامية دائمة الهجرة الى النهرين سلما وحربا: من الشرق حيث جبال زاغاروس ظل اسلاف الاكراد يهبطون، اولهم الغوتيون الذين اجتاحوا سومر، ثم الكاشيون الذين سيطروا على بابل لستة قرون وتبنوا حضارتها ولغتها وذابوا في شعبها، مثل الذين من قبل ومن بعدهم. من الشمال الأرمني القفقاسي انحدر الحوريون والحيثيون والاوراريتيون. اما من الغرب حيث هضبة الشام الممتدة حتى البحر المتوسط انحدرت الكثير من القبائل السامية السورية مثل العموريون الذين كونوا بابل وقدموا الملك الشهير (حمورابي) ثم الآراميون الذين كونوا السلالة الكلدانية وملكها الشهير (نبوخذ نصر).

الحجي والحجية في في ذلك العصر

 

 رغم هذه المتغيرات السياسية واجتياحات الاقوام الآسيوية والسامية المختلفة الا ان الوحدة اللغوية والدينية للعراقيين ظلت سائدة طيلة هذه القرون العديدة.لقد سادت (اللغة الأكدية) وهي من اول واقدم اللغات السامية المعروفة. لقد اتخذت هذه اللغة تكوينها الثقافي والكتابي من خلال  استيعابها اللغة السومرية بما فيها من ثقافة ومعتقدات دينية والخط المسماري السومري. اصبحت الاكدية (بلهجتيها البابلية والآشورية) لغة العراقيين الرسمية لما يزيد على الالفي عام، وخلفت لنا الآلاف المؤلفة من النصوص والوثائق الطينية التي سمحت لنا بمعرفة كل شيء عن حياة العراقيين. وكما يعبر عن ذلك المؤرخ والعالم الفرنسي المعروف ( جان بوتيرو): ((اننا نعرف عن حياة العراقيين في تلك الفترة اكثر من معرفتنا عن حياة الاوربيين خلال العصور الوسطى))!! وهذا دليل على مدى تعلق العراقيين بالكتابة والكتاب، وهي خاصية ابدية يحملها العراقي حتى في فترات الكوارث والتشرد.  بالاضافة الى اللغة الموحدة فأن هذه المرحلة تميزت ايضا بالدين الموحد السائد في الشمال والجنوب طيلة عشرات القرون.وهذا الدين العراقي قائم على اساس ( عبادة الكواكب) وما تتضمنه من معتقدات واساطير والهة متعددة ممثلة للكواكب ومسؤولة عن حياة الانسان والطبيعة. وهذا الدين العراقي شكل اساس ( نظام الابراج وعلم التنجيم).

بوابة عشتار، اهم بوابات مدينة بابل

 

هنالك صورة خاطئة فرضها المؤرخون التوراتيون على التاريخ العراقي(وكذلك التاريخ الشامي)ولغايات سياسية معروفة، توهم بوجود شعوب عديدة متلاحقة: اكدية وعمورية وآشورية وكلدانية.. بينما الحقيقة انها لم تكن شعوب قدرما كانت سلالات. هل يصح الحديث عن الشعبين(الأموي والعباسي)، بينما هما سلالتين من اصل واحد! نعم ان الأكديين والعموريين والآشوريين والكلدان، مجرد سلالات، أما انها حملت اسماء عشائر مثل (الأكديين والعموريين والكلدان)، او حملت تسمية طائفية مثل السلالة الآشورية تيمنا بالإله(آشورـ عاشور) اله الحرب والفحولة والقوة، وهو مذكر (عشتار) الهة الإنوثة.                                

اما بالنسبة للسومريين فأن وجودهم لم يكن فقط في جنوب العراق كما يتصور الكثيرون. انهم في الجنوب من الناحية السياسية لأنهم تمكنوا هناك من بناء دويلاتهم. لكن كانوا سكانيا وحضاريا في كل انحاء العراق، حيث اثبتت الحفريات ذلك. ونحن نميل الى فرضية يتداولها بعض المؤرخين، تعتقد ان السومريين ليسوا شعبا مستقلا عن الساميين، وان اللغة السومرية لم تكن لغة شعب بل لغة مصطنعة مقدسة خاصة بطبقة الكهنوت. ومن المعروف ان الكثير من الطوائف الدينية المغلقة يصطنع رجال الكهنوت لغة خاصة بهم من اجل الحفاظ على اسرار الديانة. ان اللذي يؤكد بأن السومرية لغة دينية مصطنعة وليست لغة شعب متميز، بأنها بقيت طيلة الفي عام بعد نهاية ما يسمى بالحكم السومري، لغة مقدسة في بابل ونينوى، رغم سيادة اللغة الأكدية كلغة رسمية وشعبية!!   

ان هذه الديمومة ( الحضارية ـ اللغوية ـ الدينية) لدى العراقيين متأتية من طبيعة ارض النهرين وقدرتها على هضم الاقوام الجديدة واستيعاب ثقافتها المختلفة وصهرها في روح ومياه النهرين الخالدين وحضارتهما الأصيلة.

                                                      

ثنائية (الأنوثة والذكورة) اساس الديانة العراقية القديمة

 

زوجين، رسم عراقي قديم

 

لكي نأخذ فكرة شاملة عن دور المرأة في العراق القديم، علينا ان نفهم مضمون الديانة العراقية السائدة حينذاك وموقفها من المرأة. رغم التعدد الكبير في اسماء الآلهة والفوضى التي توحي بها الأساطير المتداولة عن ديانة العراقيين الا ان جوهر هذه الديانة يتلخص بكلمة واحدة هي ((الإخصاب))!!

 بمعنى ان الوجود بأكمله يتكون من طرفين او طاقتين او جوهرين متكاملين هما : روح الانوثة الممثلة بالألهة المعروفة ((عشتار) ـ أي العشيرة والوفيرة والكثيرة) التي سميت ارنينا بالسومري.ثم روح الذكورة الممثلة بالاله ((تموز) ـ أي ابن المياه وجالبها باللغة السومرية) وتناوبت عليه اسماء عدة مثل (نبو وحدد)، وفي الشام  ساد اسمه (بعل). ان الحياة لا تنبثق الا بإتحاد هذين الطرفين من خلال عملية الأخصاب. الاسطورة العراقية تحدثنا عن ثور الهي يقف في اعالي النهر وتتدفق منه سوائل الخصب في الارض كما تدفق سوائل الذكر في انثاه ! إذن فأن فعل (الاخصاب)  ليس فعلا جنسيا ثانويا مثل كل افعال الطبيعة الاخرى، بل هو فعل ديني رمزي مقدس، أي انه الفعل الأساسي والأول الذي منه تنبثق الحياة بكل اشكالها النباتية والحيوانية والانسانية. انه نقيض فعل الموت والقحط والجفاف. حسب هذه المعتقد أن (الارض) بكل مكوناتها الطبيعية والحيوانية هي مركز (الانوثة)، وان (السماء) هي مركز (الذكورة). لكي تتخصب الحياة على الارض يتوجب على السماء ان تبعث لها طاقتها الذكورية المتمثلة بمياه الامطار والانهار وما يصاحبها من بروق ورعود ورياح وانوار. لهذا فأن اله الكون الاكبر (ايل ـ الله) يبعث في مطلع كل ربيع ابنه او ملاكه او تجليه ((تموز)) ليخصب رمز الانوثة ((عشتار)) لكي تستمر الحياة بدورتها. على هذا الأساس تم اعتبار مطلع الربيع (اول نيسان، نيشان بالاكدي أي العلامة، حيث تظهر علامات الخصب) بداية السنة الجديدة ومولد أول الأبراج(الحمل).

هنالك التباس معروف لدى الباحثين حول طبيعة ((عشتار))، فهي تارة الهة حب وخصب، وتارة اخرى هي الهة حرب ودمار؟ السبب الحقيقي يعود الى ان ((عشتار)) تبحث عن خصب الذكورة ليس في المياه وحدها بل خصوصا في الدماء التي هي جوهر الحياة وحاملة روح الاخصاب. لهذا فأن (حمورابي) يصفها في شريعته : ((سيدة المعارك والحروب.. تجندل المحاربين وتسقي الارض بدمائهم..)).ان المرأة تتخصب بعد نزف دماء الحيض، وعندما تلد كذلك تنزف الدم، وهذا الواقع منح لرمز الدم هذا الدور الاخصابي. من هنا اتت عادة تقديم القرابين (كبش الفداء) الذي لا زال شائعا في الاديان التوحيدية.

 لقد لاحظ العراقيون انه وسط الصيف واشتداد الحرارة تنقطع الامطار وتجف الانهار وتتيبس النباتات ويخيم شبح القحط على الحياة. عللوا ذلك بموت اله الذكورة (تموز) بعد تلقيه طعنة من خنزير بري وابتلاعه من قبل آلهة القحط والموت (ارشيكغال) في اعماق ظلمات الارض. لهذا السبب اطلقوا تسمية ((تموز)) على هذا الشهر اللهاب. وتتكرر دورة الحياة والموت، الاخصاب والجفاف، هذه كل عام.ان الانسان عنصر فعال في عملية الاخصاب هذه، لأنه بتناسله وزراعته وتدجينه للحيوانات يشارك الاله سلطته الاخصابية. يستمر الناس طيلة العام بتقديس الالهة (عشتار) وتقديم القرابين لها والصلوات للأله الاكبر (ايل) من اجل ان تهبط (عشتار) الى الأعماق وتنقذ (تموز) وتعيده من جديد الى الارض ليخصبها في مطلع الربيع.

عراقيون يأمون معبدهم(الزقورة)(رسم عالمي حديث)

 

 

إذن، من بين كل العدد الهائل من اسماء الآلهة المشرقية، يمكن تمييز ثلاثة اسماء كبرى فاعلة وحاسمة في الوجود : (ايل) رب السماء والاله الاكبر والحاكم الكلي، ثم ((تموز) اوبعل) رسول السماء واله الذكورة ومخصب الحياة، ثم ((عشتار)) الهة الانوثة والامومة والطبيعة والحياة والمشاعر. ان هذا الثلاثي الالهي نجده في كل ديانات الهلال الخصيب(العراق والشام)، مع اختلاف الاسماء، حسب اختلاف المناطق والدول والسلالات. بل حتى في مصر التي كانت حضارتها متداخلة الى حد بعيد مع حضارة الكنعانيين خصوصا ثم العراقيين، فأنها في القرون الأخيرة قد كونت ثلاثيها الالهي : جب (الاب) واوزيريس (الابن) وايزيس (اخته وزوجته). 

ــــــــــــــــــــــــ

 

العودة للفهرس