رابعة العدوية البصرية.. قديسة عراقية..

 صبيحة ثويني / السويد/ sabina_391@hotmail.com

 

رابعة (رسم شريفة السديري)

 

يضطلع  البحث في  سيرة السيدة( رابعة العدوية) بمتعة إستثنائية، لما ترسيه على شاطىء العاطفة في ميناء الحب الإلهي، وما تركبه من قارب التضحية وبذل الذات والزهد والسمو فوق بريق الدنيا ومتعها. ودرجات الحب التي عرجت عليها ما هي إلا محاولة الوصول إلى رضا ورحابه ليس لها حدود.. وهكذا فأن التعايش مع سيرة رابعة سباحة في تيارات من أضواء وألوان وعطور روحانية، تشغل الأحداث الخارجية في كنفها شحيح الخبر، لكن أحداث حياتها الروحية لا تحصر.

كنيت بـ"قديسة الإسلام" وهي من قلائل أقطاب التصوف العراقي، ممن أطلعنا على سيرهم، من خلال عمل درامي الذي وسع دائرة معرفتنا بهم.و بالرغم من العمق الزمني البعيد لمجريات حياتها،  فأن فيلم (رابعة العدوية) المنتج في  بواكير ستينات القرن العشرين،  لم يلمس الكثير من حقائق الفكر والتأثير والبيئة الحضارية.

 

ان ( رابعة) مكناة ب(أم الخير)، وهي بنت إسماعيل العدوي، ولدت في مدينة البصرة، ويرجح مولدها حوالي(100 هـ -718م)، وكانت لأب عابد فقير. ومات الأب و(رابعة) لم تزل طفلة دون العاشرة. ولم تلبث الأم أن لحقت به. فوجدت الفتيات(رابعة واخواتها) أنفسهن بلا عائل يُعانين الفقر والجوع والهزال. فذاقت (رابعة) مرارة اليتم الكامل، دون أن يتركا والديها من أسباب العيش لها سوى قارب ينقل الناس بدراهم معدودة(معيبر) في إحدى أنهار البصرة. خرجت لتعمل مكان أبيها ثم تعود بعد عناء تهون عن نفسها بالغناء.  وبذلك أطلق الشقاء عليها وحرمت من الحنان والعطف الأبوي. وبعد وفاة والديها غادرت رابعة مع أخواتها البيت بعد أن دب البصرة جفاف وقحط أو وباء وصل إلى حد المجاعة ثم فرق الزمن بينها وبين أخواتها، وبذلك أصبحت رابعة وحيدة مشردة.. وأدت المجاعة إلى انتشار اللصوص وقُطَّاع الطرق.. وقد خطف رابعة أحد اللصوص وباعها بستة دراهم لأحد التجار القساة من آل عتيك البصرية، وأذاقها التاجر سوء العذاب.. ولم تتفق آراء الباحثين على تحديد هوية رابعة، البعض يرون أن (آل عتيق) هم (بني عدوة) ولذا تسمى العدوية.

 

البصرة

 

ونقل البعض أن أسمها (رابعة) جاء بسبب ولادتها بعد ثلاث بنات، لكننا نعتقد بأن أسم (رابعة) يمت لدلالات رمزية ترد من الوضوح والتوسط كما في (رابعة النهار)، ولا نستبعد أن يكون استرسالا من  حظوة المربع والأربعة والتربيع و المرابع والربع (الجماعة) التي وردت في الثقافة العراقية، ونجدها صريحة لدى الآشوريين في (أربع أيل) أو ( أربيل اليوم)، وهو ما يوحي بدلالات الاتزان والعدل والوسطية والاستقرار والتكافؤ، التي تأخذها صفة المربع الهندسي. ومازال أسم (رابعة أو ربيعة) تطلق في العراق على النخلة إذا ارتفعت وطالت ولم تنل ثمارها.

بدأت "رابعة" بحفظ القرآن والعبادة والتهجد في الليل، و اختلفت الآراء حول طبيعة حياتها، وقيل أنها عاشت حياتها بلا بيت، وبلا مال، وبلا زواج، غير أنه يبدو أن رابعة كانت مولاة، وكانت تعزف الناي ثم كانت مغنية، (هذا ما قاله العطار)، وأنها كانت على قدر من الحسن والجمال.حدث ذلك بعد أن أعتقها سيدها بما لمسه من جفاء لديها، وشرود وإنشغال روحاني ثم منام، فأمر بإعتاقها.  وعزاه آخرون ومنهم العطار إلى أنه سمعها تقول مخاطبة الله: (إلهي أنت تعلم أن قلبي يتمنى طاعتك، ونور عيني في خدمتك، ولو كان الأمر بيدي لما انقطعت لحظة عن مناجاتك، ولكنك تركتني تحت رحمة هذا المخلوق القاسي من عبادك). وجعلت المساجد دارها واحترفت العزف على الناي والأناشيد في حلقات الذكر وساحات المتصوفة. وعزف الناي عند المتصوفة ليس نكرًا ولا بدعًا. وكانت حينئذ في الرابعة عشر من عمرها. لكنها اشتاقت للدنيا الخلاء والانقطاع عن الناس، فانقطعت وتبتلت..

 

وتقول دائرة المعارف الإسلامية (المجلد التاسع-العدد 11 ص 440) :" إن رابعة أقامت أول أمرها بالصحراء بعد تحررها من الأسر، ثم انتقلت إلى البصرة حيث جمعت حولها كثيرًا من المريدين والأصحاب الذين وفدوا عليها لحضور مجلسها، وذكرها لله والاستماع إلى أقوالها، وكان من بينهم مالك بن دينار، والزاهد رباح القيسى، والمحدث سفيان الثورى، والمتصوف شفيق البلخي". وتضيف دائرة المعارف الإسلامية: ( رابعة تختلف عن متقدمي الصوفية الذين كانوا مجرد زهاد ونساك، ذلك أنها كانت صوفية بحق، يدفعها حب قوي دفاق، كما كانت في طليعة الصوفية الذين قالوا بالحب الخالص، الحب الذي لا تقيده رغبة سوى حب الله وحده، وكانت طليعتهم أيضًا في جعل الحب مصدرًا للإلهام والكشف". وكانت متواصلة البكاء على فقدان الحبيب الوحيد "الله عز وجل" فقضت ترغب في الوصال معه. وعاشت  ضياء نفس بين عتمة الأنفس، وزيت إيمانها  كان يحترق في محرابها ثم زهدت وورعت وجاهدت نفسها و علمت قصدها ومارسته  بسلوكها الإيماني بيقين  تام.

الزهد الإسلامي

لا يمكن أخذ ظاهرة (رابعة العدوية) ومذهبها في هذا السياق بعيدا عن الدفق الفكري والحضاري المتراكم في البيئة البصرية العراقية، الحبلى بمآثر وفلسفة، يمتد شوطها بين سومر حتى آرام ثم الإسلام.

وترجع الباحثة نظلة الجبوري الفكر الصوفي وممارسة الزهد  إلى جذوره الرافدية، حيث تذكر بأن التاريخ سجل للإنسان العراقي القديم في بلاد سومر وبابل وآشور أول صلة بينه و الآلهة والطبيعة في الألف الخامس ق. م. ويبدو ذلك واضحاً في أسطورة الخليقة البابلية السومرية (كلكامش) وعنوانها البابلي (حينما في العلى)  ومجازا تعني (أيام السماء). ففي هذه الأسطورة بدايات الفكر التأملي الواعي للإنسان القديم في معرفة أصل الوجود والإنسان والأشياء فصارت من ثم نظرية كونية لاهوتية روحية تنطوي على ايمان راسخ ومبدأ عقائدي ثابت.

 ونظرا لبعد زمانها عنا، وبعد أن أطلعنا حديثا على بحوث الحفريات في حضارات العراق القديمة، وكذلك الأديان، على مآثر( ماني البابلي)(213-277م) مؤسس الديانة المانوية(الثنوية). كل تلك المعطيات تقلل العجيب في أمر رابعة، حينما مارست العشق بصورة غريبة في الإسلام، وربما لم تكن غريبة في المانوية مثلا. ونرجح أن يكون قد بعث أو نضج فيها فكر محلي هو امتداد للعرفانية المتمثلة بالصائبية والزهد الرهباني المسيحي، حيث شكلت شرارته التغيير الجذري الذي أحدثه شعاع الإسلام. ثم أخذ الأمر مداه الوقتي في الإستيعاب والتقمص. فظهرت المحاكاة، وطفح الموروث إلى السطح بعد حين، بما ندعوه (الثابت والمتغير) في كنف الثقافة الواحدة. وهكذا نلمس محاكاة وتطابق مع سيرة الداعية (ماني البابلي). أو لتقريب الصورة نجدها إستنساخ لظاهرة (هند) بنت المنذر ملك الحيرة التي ترهبت وتبتلت وزهدت نصرانيا. وهكذا فأن (رابعة) لم تبعد عن بيئة ماني، وربما من قبله، ثم هند من بعده؛ سوى أن وسيلتها هذه المرة كانت الإسلام؛ وغاياتها كان صفاء النفس و عودة لنقاء الروح الذي أفتقدته الحياة في مد الحضارة المادية وسطوتها. وهكذا يمكن تلمس الأفق النفسي في موضوع رابعة حينما تسنى لها  نقل ممارسة الزهد إلى الأفق الصوفي الإسلامي.

وظهرت في الكوفة جماعة من أهلها اعتزلوا الناس وأظهروا الندم الشديد بعد مقتل الإمام الحسين(ع)، وسموا أنفسهم بالتوَّابين أو البكَّائين. كما ظهرت طبقة من العباد غلب عليهم جانب التشدد في العبادة والبعد عن المشاركة في مجريات الدولة، مع علمهم وفضلهم والتزامهم بآداب الشريعة، واشتغالهم بالكتاب والسنة تعلماً وتعليماً. كما ظهر فيهم الخوف الشديد من الله تعالى، والإغماء والصقع عند سماع القرآن الكريم مما استدعى الإنكار عليهم من بعض الصحابة وكبار التابعين كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين ونحوهم، وبسببهم شاع لقب العبَّاد والزُهَّاد والقُرَّاء في تلك الفترة.

وبرزت أول طبقة للزهاد في البصرة من أمثال : إبراهيم بن ادهم، مالك بن دينار، وبشر الحافي وعبد الواحد بن زيد،ومن ضمنهم رابعة العدوية، وطفحت ظاهرة تعذيب النفس بترك الطعام، وتحريم تناول اللحوم، والسياحة في البراري والصحاري، وترك الزواج. يقول مالك بن دينار : (( لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، ويأوي إلى مزابل الكلاب )). وفي الكوفة أخذ معضد بن يزيد العجلي هو وقبيله يروِّضون أنفسهم على هجر النوم وإقامة الصلاة، حتى سلك سبيلهم مجموعة من زهاد الكوفة، فأخذوا يخرجون إلى الجبال للانقطاع للعبادة، على الرغم من إنكار ابن مسعود عليهم في السابق.

وحدث تباعا إنفصال بين الزهد و التصوف، وما انتقال الظاهرتين  إلى بغداد إلا سببا حقيقيا في  اضمحلال الأولى وتطور الثانية،حيث تخلى المتصوفة بالتدريج عن لبس الصوف المقترن بكنيتها وتحمل شظف العيش، فمارس المتصوفة ضروب من العافية والتمتع بنعيم الدنيا. روى الهجوري في(كشف المحجوب) قال: "جاء أمير البصرة إلى (رابعة) يعودها وقد حمل إليها أموالاً كثيرة وسألها أن تستعين بها على حياتها، فبكت ثم رفعت رأسها إلى السماء وقالت: هو يعلم أني استحي منه أن أسأله الدنيا وهو يملكها فكيف آخذها ممن لم يملكها. وحذرت أمير البصرة أن يعود إلى مثلها". كانت تنام على حصيرة بالية. وكان موضع الوسادة قطعة من الآجر، وكانت تشرب من إناء مكسور، وتطوي ليلها مسهدة، تصلي لله وتناجيه. قالت عبدة خادمتها: "ولما حضرت رابعة الوفاة دعتني، فقالت: يا عبدة: لا تؤذني بموتي أحداً، ولفيني في جبتي هذه. قالت فكفنّاها في تلك الجبة وخمار صوف كانت تلبسه"..

 

 

البصرة.. مدينة رابعة

 

قيل عنها وقالت

ومثلما هو ديدن البشر بإلصاق المناقب بالمحبوب والمثالب بالمكروه، فقد نسج على رابعة ما يفوق العقل والمنطق، ونسب إليها ما ليس لها.وهكذا اختلفت آراء المؤرخين بخصوص حياة( رابعة)، فظهرت أساطير وحكايات عنها وأغلبها من نسج الخيال. ظهرت خلافات بين الشخصيات التي عايشت زمن (رابعة العدوية) أمثال: رياح بن عمر القيسي، سفيان الثوري، عبدالواحد بن زيد. ومن هؤلاء المؤرخون الجاحظ و العطار والمناوي. العديد منهم والمؤرخون منهم من وقف معها ومنهم من وقف ضدها، فالبعض يراها تبالغ في تصوراتها وخيالها؛ لأنها اعتبرت أن تشوقها للجنة إنما يشكل خطيئة تقترفها، كما يروي عنها المناوي.

وأستهجن أصحاب السلفية أقوال  (رابعة العدوية) في الحب والعشق الإلهي للتعبير عن المحبة بين العبد وربه. وأورد محبيها وهم كثر عكس ذلك، فجاء في الدر المنثور:(كانت كثيرة البكاء والحزن)، وهذه ربما سجية عراقية مازالت ترتع بين أناسه حتى اليوم وتقمصها التشيع العراقي وسار بها قدما. وذكر أبو القاسم القشيري في الرسالة : أنّ(رابعة) كانت تقول في مناجاتها : (إلهي تحرق بالنار قلباً يحبّك).وقال ابن خلكان في ترجمتها : إنّها كانت من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح والعبادة مشهورة.

 ومن تواضعها أن جاءها رجل يومًا يطلب منها الدعاء فقالت: ((من أنا يرحمك الله؟ أطع ربك وادعه فإنه يجيب دعوة المضطر)). وكانت تبكي في سجودها حتى يبتل موضع رأسها. ويقال عرض عليها الزواج من صاحب غنى وجاه واسع فكتبت له: "أما بعد فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، وإن الرغبة فيها تورث الهم والحزن.. فما يسرني أن الله خولني أضعاف ما خولك فيشغلني بك عنه طرفة عين والسلام". وما أكثر زهد "رابعة" في حب الثناء والمديح من الناس مخافة مداخل الشيطان والرياء والسمعة والتصنع للخلق. وكانت تقول : (ما ظهر من أعمالي لا أعدّه شيئا)ً. ومن وصاياها : (اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم).

 وكان من سمات "رابعة" أنها لا تتعجل الانصراف من وقوفها بين يدي الله، بل تحب طول المقام لما يحيط بها من نفحات وفيوضات ورحمات وطمأنينة ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ... ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (يونس: من الآيات 62-64). وقيل أيضاً : إن سفيان الثوري قال لها ذات يوم : ( صفي لي درجة ايمانك واعتقادك باللّه جلّ وعلا، فقالت رابعة : إنّي لا أعبد اللّه شوقاً إلى الجنة، ولا خوفاً من جهنم، وإنما اعبده لكمال شوقي إليه، و لإداء شرائط العبودية ). و قال خالد بن خداش : سمعت رابعة صالحاً المريّ يذكر الدنيا في قصصه فنادته : يا صالح، من أحب شيئاً أكثر من ذكره.

 

و قال ابن كثير): أثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها أبو داود السجستاني، واتهمها بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر. وقال ابن كثير أيضاً : وقد ذكروا لها أحوالاً وأعمالاً صالحة، وصيام نهار وقيام ليل، ورؤيت لها منامات صالحة، فالله أعلم). وقال الإمام الذهبي في السير :قال أبو سعيد بن الأعرابي : أما رابعة فقد حمل الناس عنها حكمة كثيرة، وحكى عنها سفيان وشعبة وغيرهما ما يدل على بطلان ما قيل عنها.

ومن أقوالها في الحب الإلهي(إلهي أنارت النجوم، ونامت العيون، وغلَّقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك.. إلهي هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت منى ليلتي فأهنأ، أم رددتها على فأعزى، فوعزتك هذا دأبي ما أحييتني وأعنتني، وعزتك لو طردتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبتك). وقالت رابعة(  لو كانت الدنيا لرجل ما كان بها غنيًّا..!، قالوا : لماذا ؟ قالت : لأنها تفنى!).

 

ومن أدعيتها :

ـ إلهي.. أنا فقيرة إليك.. سوف أتحمل كل ألم و لكن عذابا أشد من هذا العذاب يؤلم روحي ويفكك وصال الصبر في نفسي.. منشورة ريب في خلدي..هل أنت راض عني، تلك هي غايتي.

ـ  اللهم اجعل الجنة لأحبائك.....والنار لأعدائك..أما أنا فحسبي أنت.

 ـ اللهم إن كنت أعبدك خوفا من نارك فاحرقني بنار جهنم وإذا كنت أعبدك طمعا في جنتك فاصرفني منها.. أما إذا كنت أعبدك من أجل محبتك فلا تحرمني من رؤية وجهك الكريم.

ـ إلهي.. أنارت النجوم ونامت العيون و غفل الغافلون وغلقت الملوك أبوابها وخلا  كل حبيب بحبيبه، و هذا مقامي بين يديك.

ـ إلهي..ما أصغيت إلى صوت حيوان ولا حفيف شجر ولا خرير ماء ولا ترنيم طير و لا تنعم ظل و لا دوي ريح ولا قعقعة رعد إلا وجدتها شاهدة بوحدانيتك. على أنه ليس كمثلك شيء.
         ـ إلهي.. بك تقرب المتقربون في الخلوات، ولعظمتك سبحت الحيتان في البحار الزاخرات ولجلال قدسك تصافقت الأمواج المتلاطمات.. أنت الذي سجد لك سواد الليل و ضوء النهار والفلك الدوار والبحر الزهار،وكل شيء عندك بمقدار..لأنك الله، العلي القهار.                                                              
    ـ إلهي.. إن رزقي عندك وما ينقصني أحد شيئا ولا يسلبه مني إلا بقضائك.. والرزق منك.. فاللهم أسألك الرضا بعد القضاء.

   ـ  إلهي.. هذا الليل قد أدبر.. والنهار قد أسفر.. فليت شعري.. هل قبلت مني ليلتي فأهنأ أم رددتها على فأعزى، فوعزتك هذا دأبي ما أحييتني وأعنتني..

ـ اللهم إني أعوذ بك من كل ما يشغلني عنك.. ومن كل حائل يحول بيني وبينك..إلهي إن لم يكن بك غضب علي بلا أبالي).

 

شعرها

ولم تشذ رابعة عن بيئتها الاجتماعية،المحبة للشعر، فنظمت،ونقل عنها الكثير، وأورد لها الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتاب عوارف المعارف هذين البيتين :

إنّي جَعلتكَ في الفؤاد محدّثي      وأبحتُ جسمي مَنْ أراد جلوسي

فالجسمُ مني للجليس مؤانس        وحبيبُ قلبـي فـي الفؤاد أنيس

ومن شعرها:

راحتي يا إخوتي في خلوتي      وحبيبي دائماً في حضرتي

لم أجد لي عن هواه عوضا      وهواه في البرايا محنتي

حيثما كنت أشاهد حسنه         فهو محرابي، إليه قبلتي

إن أمت وجداً وما ثم رضا      وأعنائي في الورى! وأشقوتي

وقد أكدت خادمتها التي لازمتها طوال حياتها، عبدة بنت أبي شوّال، إذ قالت: " كانت لرابعة أحوال شتى: فمرة يغلب عليها الحب، ومرة يغلب عليها اليأس، وتارة يغلب عليها البسط، ومرة يغلب عليها الخوف"... ولكن العشق الإلهي كما رأينا يبقى طابعها المميز، ورائدها في تصوفها.  فهذه أبيات في إنشادها العشق الإلهي:

فليتك تحلو والحياة مريرة         وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر      وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين      وكل الذي فوق التراب تراب

وكانت أشعارها تثير لغطا وشكوكا بشأن عمق التدين لديها، ولاسيما بالنسبة للسلفيين اللذين ظنو أنها مجرد أداء للشعائر، دون الالتزام الكامل بمنهج الله تعالى. وقد تنبهت لذلك رابعة العدوية فقالت :

        تعصي الإله وأنت تظهر حبه         هذا لعمري في الفعال بديع

 لو كان حبك صادقاً لأطعته       إن المحب لمن يحب مطيعٌ

 

خاتمتها

 خرجت "رابعة" من الحياة بعد أن بلغت الثمانين من عمرها، وكانت وفاتها في سنة( 135هـ -751م)، ذكره ابن الجوزي في شذور العقود، وهو غير دقيق، وقال غيره سنة ثمانين ومائة أو حتى سنة ( 185هـ- 801م) وهو الأرجح، وقبرها يزار، وهو بظاهر مدينة القدس من شرقيه على رأس جبل يسمّى الطور وقد ذاقت البلاء، لكنها تمتعت بالأنس بالله والفرح بطاعته، وكانت ترى أنه لا راحة للمؤمن إلا بعد الموت على الإيمان، وقد كفنت في جبة من شعر.

وفي سيرة رابعة الكثير من العبر، التي نحتاجها في أيامنا هذه كونها أمرأة، بدأت بسيطة، لكنها أثبتت جدارتها في العلم  والعمق الروحي الذي أقتصر على الرجال، ولم تظهر بعدها ما يدانيها في منزلتها، والأهم في تقصي طبعها الذي كان بوتقة مهدية أمتزج في كنفها الإيمان والعقل ووسع الأفق، مع غريزة الأمومة الحنون، الصادر من باطن نفسها الأنثوية. لقد تسنى لها أن تحول الزهد من الخوف إلى الحب، ومن المجهول إلى المعرفة، ومن الحرمان إلى الرضا، ومن القسوة إلى الإشراق، وهي أول من جعلته شرعة ذات ألوان روحية، وأهداف وجدانية، وأطلقت فيه تيار التسامي والتصعيد، والتحليق إلى الأفق الأعلى. وتعلمت رابعة من درس الزهد، أن قلباً أضاءه حب الله، لا ينشغل بالدنيا، فأعرضت عنها وترفعت وأخذت نفسها بعظائم الأمور، وهي ما نسميه المضمون بعيدا عن الشكل، وهي إشكالية فلسفية بين(الشكل والمضمون) مازالت تطرق أبواب حياتنا في شتى مناكبها.

وما ينفعنا من ذكرها أن (السيدة رابعة ) أمة الله البصرية، أبدلت الخوف بالحب والخشية بالتقرب، والزهد ببهرج الدنيا، والأهم أنها حلت المحبة والتسامح والمسالمة محل العدوانية والعنف في سجايا البشر. فقد دعت إلى قبول الأعداء ومسامحتهم، ونبذ الضغينة، بعد أن أمتلئ كيانها وقلبها بالحب لله ومخلوقاته، ولم تعد تجد في هذا النابض مكانا للكراهية... فأين نحن منها؟.

 

المصادر

1.          القرآن الكريم

2.          البداية والنهاية للامام اسماعيل بن كثير الدمشقي  الجزء 10/  186

3.          دائرة المعارف الإسلامية (المجلد التاسع-العدد 11 ص 440)

4.          الدكتور عبد الرحمن بدوي - "رابعة العدوية شهيدة العشق الإلهي" 1948

5.          رشيد سليم الجراح- ( الزاهدة التائبة رابعة العدوية، شهيدة الحب الإلهي) بغداد1988م - دار التربية

6.          الشيخ عبدالرحمن السحيم- مقال (رابعة العدوية)

7.          طه عبد الباقي سرور " رابعة العدوية والحياة الروحية في الإسلام" (دار الفكر العربي- الطبعة الثالثة 1957

8.          عبد الباقي سرور " رابعة العدوية والحياة الروحية في الإسلام" (دار الفكر العربي- الطبعة الثالثة 1957)

9.          مريم سليم - و خالد خميس فــرَّاج- مقال العابدة الزاهدة رابـــعة العدويــة

10.       نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي الجزء 2/635،.دار الأندلس-جدة

11.       نظلة أحمد الجبوري –مقال ( الخطاب الصوفي والروحي في التراث الرافديني) مجلة الفي ياء- بغداد

ـــــــــــــــــــــــــــــ

العودة للفهرس