سجاح  الموصلية.. التي ظلمها المؤرخون.. كعراقية وكأمرأة!!

 

ميزوبوتامياـ دمشق

 

يمكن اعتبار قصة(سجاح المسيحية التغلبية الموصلية) نموذج لللانمساخ الذي عان منه التاريخ العراق. ويتمثل هذا الانمساخ في اصرار المؤرخين وحتى العراقين منهمم، على تجاهل الانتماء الوطني(العراقي) للشخصيات التاريخية. تلاحظى مثى في معظم الاحيان يذكر عن الشخصية العراقية اصلها القبائلي او العرقي، فيقال انه (تميمي) او مولى اعجمي باعتبار انه ربما ان اصل جده العاشر من ايران!! بينما من الطبيعي جدا ان يذكر الاصل الوطني للشخصية إن كان مصري او اندلسي او مغربي او يماني او حجازي او ايراني!!

افضل مثال لدينا، هي شخصية(سجاح). تلاحظ ان غالية المصادر التاريخية الحديثة تذكر سجاح( التميمية او التغلبية) او في احسن الاحوال انها من(الجزيرة) بصورة توحي بأن المقصود هي(الجزيرة العربية) بينما الحقيقة هي منطقة الجزيرة، أي اعالي دجلة والفرات وبالذات الموصل وما حواليها. لكننا عندما نتدخل فعلا في قراءة المصادر التاريخية نكتشف ان (سجاح) كانت موصلية. صحيح انها من عشسرة عربية، لكن هذ العشسرة كانت عراقية موصلية من قرون مجهولة قد تعود الى الف عام!! واكبر دليل على هذا ان كانت مسيحية مثل الغالية الساحقة من العراقيين انذك. ثم ان الذين شاركوها في تمردها كانو كلهم من العراقيين الثائرين والحالمين بسلطة ما خاصة بهم.  

 اما الاشكالية الثانية التي عانت منها شخصية(سجاح) كونها (انثى). وهذا يسهل كثيرا عملية التشويه والاتهام بالانحلال والفسق. من المعلوم ان هنالك التباس واضح في نفس المرحلة التاريخية التي ظهرت فيها، حيث نهاية الوحي بوفاة النبي محمد(ص)، وانتقال سلطة الدولة من مرجعية النبوة إلى مفهوم الخلافة. ثم تداخل هذا المفهوم  بمشكلات ومعضلات قبلية، وصراعات على الزعامات التقليدية في الجزيرة العربية. إن المصادر التاريخية التي نتعقبها هنا لا تضيء كثيراً من الجوانب المهمة من تلك المرحلة أو تلك الشخصية، لكنها قد تصلح  لإجراء مقاربة بين طبيعة أخبار (سجاح) في المصادر التاريخية  بالمقارنة مع حقيقية سيرتها المحذوفة.

      إن تكثيف السيرة الذاتية لهذه المرأة لا يحدث، في المصادر التاريخية عادة، بدافع معزول عن العسف والتشويه الذي طال كثيراً من تلك الشخصيات في تلك المرحلة، ونال العديد من وقائعها.

 

 

وسجاح في الصورة الشخصية العامة هي:

سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان، التميمية، من بني يربوع، أم صادر( - نحو 55 ه‍ =... - نحو 675 م ) متنبئة مشهورة. وعشيرتها قاطنة في العراق منذ دهر مجهول وقد اعتنقت المسيحية منذ بداياتها.

كانت هذه السيدة شاعرة أديبة عارفة بالأخبار، رفيعة الشأن في قومها، نبغت في عهد الردة (أيام أبي بكر ) وادعت النبوة بعد وفاة النبي صلى الله عليه.،وكان لها علم بالكتاب أخذته من ثقافته العراقية المسيحية. ولا احد يمكن ان يجزم هل اعلنت النبوة عن قناعة روحانية صادقة ام رغبة باستغلال الاوضاع السياسية المتوترة  للدولة الاسلامية الناشئة ومحاولة التمرد عليها والحصول على  النفوذ والسلطة. تبعها في دعوتها جمع من عشيرتها بينهم بعض كبار تميم : كالزبرقان بن بدر، وعطارد بن حاجب، وشبث بن ربعي الرياحي، وعمرو بن الأهتم. وقد بلغت بها الجرأة وسوء تقدير الاوضاع، انها اقنعت اتباعها بالذهاب الى  الحجاز وغزو مكة والاستيلاء على دولة الخلافة.  عندما نزلت باليمامة، بلغ خبرها (مسيلمة الكذاب) وهو ايضا من المدعين بالنبوة ومن اهل اليمن. فقيل له: (إن معها أربعين ألفا)، فخاف من منافستها واستحواذها على مكانته، كاكبر منافس لدولى الخلافة. فقرر ان يتبع مع طريق السلم والتحالف. يبدو انها هي الاخرى كانت قد قررت كسب هذا المنافس الذي يشاركها بالعداء لدولة الخلافة. ما إن التقيا حت قررا الزواج، وأقامت معه بعض الوقت.

     مع الايام بدأت (سجاح) تسترد وعيها وتدرك فداحة الوهم الذي كان يسيطر عليها.  اقتنعت بصعوبة الإقدام على قتال المسلمين، فانصرفت راجعة إلى أخوالها في الموصل. بعد بفترة وجيزة بلغها مقتل مسيلمة. يبدو انها ادركت بأن لا خلاص من عقاب (خالد بن الوليد) والقادة المسلمين، إلا باعتناقها الاسلام.  لهذا فأنها أسلمت، ثم لكي تتجنب الانتقام من قبل انصارها الذين اعتبروها قد ورطتهم في مغامرة فاشلة ثم تخلت عنهم، قرر ان تهجر الموصل ورحلت الى البصرة حيث استقرت باقي عمرها حتى توفيت فيها.

رغم خطيأتها الاولى باعلان النبوة، الا ان اعتناقها للاسلام  وزهدها وتاريخها البطولي، قد جعلها دائمة الاحترام من قبل المسلمين وقادتهم، بحيث انها عندما توزفت  صلى عليها (سمرة بن جندب) والي البصرة  التابع لمعاوية.

 

التشويه الفحولي

أما التشويه الذي عانت منه شخصية هذه العراقية الجريئة الحالمة، فيتركز على حادثة لقاءها مع (مسيلمة الكذاب). حيث اضفى على هذا الاجتماع نوع من المجون مجون، للتشنيع عليها (1). 

      ولعل في رواية الطبري التي تحدد طبيعة لقائها بمسيلمة ما يؤكد هذا التشنيع، حيث يشير إلى أن مسيلمة لما نزلت به سجاح أغلق الحصن دونها فقالت له سجاح: أنزل قال فنحى عنك أصحابك ففعلت. فقال مسيلمة: اضربوا لها قبة وجمروها لعلها تذكر الباه ففعلوا. فلما دخلت القبة نزل مسيلمة فقال ليقف ههنا عشرة وههنا عشرة. ثم حاورها فقال ما أوحى إليك وقالت هل تكون النساء يبتدئن ولكن أنت ما أوحى إليك قال: ( ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى) قالت: وماذا أيضا قال: (  أوحى إلى أن الله خلق النساء أفراجا وجعل الرجال لهن أزواجا فنولج فيهن قعسا إيلاجا ثم نخرجها إذا نشاء إخراجا فينتجن لنا سخالا إنتاجا) قالت: أشهد أنك نبي قال هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب؟ قالت: نعم.

وبعد حوار فيه الكثير من الابتذال والخلاعة، منحت سجاح نفسها لمسيلمة. أقامت عنده ثلاث ايام، ثم انصرفت إلى قومها. فقالوا ما عندك؟ قالت كان على الحق فاتبعته فتزوجته. قالوا فهل أصدقك شيئا؟ قالت لا. قالوا ارجعي إليه فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق. فرجعت فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن. ثم قال لها، مالك؟ قالت أصدقني صداقا. قال من مؤذنك؟ قالت شبث بن ربعي الرياحي. قال علي به. فجاء. فقال ناد في أصحابك أن مسيلمة ابن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد، صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر.

 وذكر الكلبي أن مشيخة بنى تميم حدثوه أن عامة بنى تميم بالرمل لا يصلونهما فانصرفت ومعها أصحابها فيهم الزبرقان وعطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم وغيلان بن خرشة وشبث بن ربعي. فقال عطارد بن حاجب:

أمست نبيتنا أنثى نطيف بها 

وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا.(2)

الوقائع الحقيقية

لكن رواية صاحب الأغاني تختلف بقدر واضح عن رواية الطبري خاصة ما يتصل بمسألة التشنيع الجنسي الذي أضحى واحدة من الصور النمطية التي تؤطر شخصيتها حتى أضحت مثلاً يضرب في معاجم الأمثال العربية! فيكتفي أبو الفرج الأصفهاني في أغانيه بذكر خبر زواجها من مسيلمة لأن عهدة الأمر تعود للذكور عادة! لكنه يؤكد كما تؤكد غيره من المصادر إنها أسلمت بعد تلك الحادثة  وحسن إسلامها. ( 3 )

 من الواضح إن حروب الردة ارتبطت بقضية مزدوجة ذات شقين اقتصادي شرعي، وهي الحروب التي يرى عدد من الباحثين إنها لا تعني الارتداد الديني، بل احتجاج على طبيعة الخلافة، وخلاف بين أنحاء الجزيرة على أحقية ومآل تلك الخلافة، وإعادة السؤال حول أموال الجزية والخراج بين الكتل الاجتماعية غير الداخلة في الإسلام حتى ذلك الوقت. لذا كان النظر إلى حروب الردة على إنها استكمال لفتح ما تبقى من الجزيرة العربية تحت شعار قتل المرتدين، ولعل هذا ما يفسر اجتماع هذا العدد الهائل من الناس حول حركة( سجاح الموصلية).  ويعضد هذا الرأي القصة المشهورة في كتب التراث عن موادعتها مع مالك بن نويرة ( والموادعة تعني المتاركة والمسالمة على ترك الحرب). ويؤكد (ابن كثير) في البداية والنهاية شيئا من هذا الواقع عندما يسرد قصة (سجاح) في خضم واقع القبائل العربية آنذاك. فيشير إلى أن بني تميم قد اختلفت آراؤهم أيام الردة فمنهم من ارتد ومنع الزكاة ومنهم بعث بأموال الصدقات إلى (الصديق)(رض)، ومنهم من توقف لينظر في أمره. فبينما هم كذلك إذ أقبلت ( سجاح)  من الجزيرة العراقية وهي من نصارى العرب وقد ادعت النبوة ومعها جنود من قومها ومن التف بهم،  وقد عزموا على غزو (أبي بكر الصديق).  فلما مرت ببلاد بني تميم دعتهم إلى أمرها فاستجاب لها عامتهم. وكان ممن استجاب لها مالك بن نويرة التميمي وعطارد بن حاجب وجماعة من سادات أمراء بني تميم. وتخلف آخرون منهم عنها، ثم اصطلحوا على أن لا حرب بينهم. إلا أن مالك بن نويرة لما وادعها ثناها عن عودها وحرضها على بني يربوع ثم اتفق الجميع على قتال الناس وقالوا بمن نبدأ فقالت لهم:

((أعدوا الركاب واستعدوا للنهاب ثم أغيروا على الرباب فليس دونهم حجاب..))

 ثم إنهم تعاهدوا على نصرها. فقال قائل منهم:

((أتتنا أخت تغلب في رجال .. جلائب من سراة بني أبينا.. وأرست دعوة فينا سفاها.. وكانت من عمائر آخرينا.. فما كنا لنرزيهم زبالا.. وما كانت لتسلم إذ أتينا.. ألا سفهت حلومكم وضلت.. عشية تحشدون لها ثبينا..))   

وقال عطارد بن حاجب في ذلك:

((أمست نبيتنا أنثى نطيف بها وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا..))

 

ثم إن  ( سجاح)   قصدت بجنودها اليمامة لتأخذها من (مسيلمة بن حبيب الكذاب) فهابه قومها وقالوا إنه قد استفحل أمره وعظم فقالت لهم فيما تقوله:

 (عليكم باليمامة دفوا دفيف الحمامة فإنها غزوة صرامة لا تلحقكم بعدها ملامة ).

  فعمدوا لحرب مسيلمة. فلما سمع بمسيرها إليه خافها على بلاده وذلك أنه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال وقد ساعده عكرمة بن أبي جهل بجنود المسلمين وهم نازلون ببعض بلاده ينتظرون قدوم خالد. فبعث إليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الأرض الذي كان لقريش لو عدلت فقد رده الله عليك فحباك به.  ثم راسلها ليجتمع بها في طائفة من قومه فركب إليها في أربعين من قومه وجاء إليها فاجتمعا في خيمة. فلما خلا بها وعرض عليها ما عرض من نصف الأرض وقبلت ذلك، قال مسيلمة:

(( سمع الله لمن سمع وأطمعه بالخير إذا طمع ولا يزال أمره في كل ما يسر مجتمع رآكم ربكم فحياكم ومن وحشته أخلاكم ويوم دينه أنجاكم فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار لا أشقياء ولا فجار يقومون الليل ويصومون النهار لربكم الكبار رب الغيوم والأمطار... لما رأيت وجوههم حسنت وأبشارهم صفت وأيديهم طفلت قلت لهم لا النساء تأتون ولا الخمر تشربون ولكنكم معشر أبرار تصومون. لله إذا جاءت الحياة كيف تحيون وإلى ملك السماء كيف ترقون فلو أنها حبة خردلة لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور ولأكثر الناس فيها الثبور..)).. 

قبل ذلك سبق لمسليمة ان  شرع لمن يؤمن به، أن الأعزب يتزوج،  فاذا ولد له ذكر فيحرم عليه النساء حينئذ إلا أن يموت ذلك الولد الذكر فتحل له النساء حتى يولد.( 4 )

على أن الخلاصة المهمة في قصة سجاح تشير إلى إن من السذاجة بمكان تصديق إن هذه الأعداد من الرجال وأمراء القبائل تجمعوا حول هذه المرأة، فقط ليقدموها في ليلة معطرة عشيقة أو خليلة أو زوجة بلا مهر بين أحضان مسيلمة في هذه القصة التي لا تثير شيئاً سوى الضحك.

 

المصادر:

- الأعلام لخير الدين الزركلي

-  تاريخ الطبري - الطبري ج 2   ص 499 :

- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني

- البداية والنهاية لابن كثير

العودة للفهرس