سيرة ذاتية

نساء طفولتي .. بين تكريت والنجف..

فاروق سلوم ـ بغداد

farouqsalloum@yahoo.com

امي هاجر 1960

 

  عشت طفولتي في (تكريت) حتى عام 1960 .. ثم هاجرنا وانا صبي الى (ابو صخير في الديوانية).  تعلمت ودرست في (المشخاب) و(النجف). من الفرات الأوسط تعلمت ( الفرّة ـ الاحتفاء) بالناس، فأقلق وألوب حرصا على ان يكون ادائي الواجب بصورة مرضية لضميري. يمكنني القول بأني نتاج الحسجة والمضيف العائد للسادة (العذاريين). اتذكر يوم صاح القهوجي عبد الزهرة:

 ـ ياسيد كريّم.. ياسيد كريّم.. فاروق وأمّه إستسلمو!!

فصاح به سيد كريّم العذاري رحمه الله:

 ـ ولك شنهي فرطنة!!

فأجابه عبد الزهرة :

ـ لا يا مولانا.. فاروق لطم يوم امس جوّه فاضل الرادود احسن من شيعة المشخاب ..وامه (ام فاروق) ..النسوان كلهه باهشة وتسولف شلون دكت بالقراية مال لحسين ..احسن من العلويات!

فضحك السيد كريم. وما تزال الحكاية تروى كلما زرت اهلي في ابو صخير والمشخاب والنجف..

 اما هذه الذكريات فهي عن طفولتي الاولى أيام كانت (تكريت) وقراها واهلها يعيشون الطهرانية، قبل ان يتخرج منها صدام وامثاله..

النجف الاشرف

 

عبق البيت والانوثة

 دائما كانت تعبق في بيتنا رائحة القرنفل والسعد. وكانت مهيّة العبد البشر تعبق بتلك  الرائحة على قوس المنزل حين تحل ضيفة وهي  تعودنا كل عام  منذ مطلع الخمسينات. وكانت (هاجر عبد القادر) أمي قد ترمّلت باكرا يوم مات ابي (سلّوم اليحيى) عام 1948 وتركنا مع امي مثل الدجاجة وافراخها. كان عمري عشرة أيام حين توفي. وكانت (مهيّة) المرأة الجبوريّة تحس بألتزام شديد تجاه طفولة امي وهي  ترعى سبعة من الأيتام. كانت علاقة ابي ببيت عبد البشر وآخرين من الجبور علاقة مشاركة وزراعة وصحبة في قرية الخرجة في الجهة المقابلة لمدينة تكريت منذ عشرينات القرن الماضي.

عندما بلغت الخامسة لم اكن اعرف ان ابي قد مات، لأني لم أره، كما لم اكن اعرف مامعنى كلمة أب لأنني كنت اعيش وسط حشد من النساء الطيبات اللاتي تعبق ملابسهن السوداء برائحة القرنفل..والسعد الممضوغ. كان غياب امي او ابتعادها يشعرني بوحشة غريبة لذلك كانت تصطحبني في حركتها داخل المنزل.

كانت ثمة بقرة، تشبه اخواتي لفرط مانحب، مربوطة عند مهية في الجهة الشرقية من النهر. تعيدها  الينا كلما رزقت بمولود فنحتفل برنين المنزل وقد اختلطت فيه اصوات حيوات شتّى. كنا نعتقد ـ انا واخوتي واخواتي ـ ان البقرة احدى افراد العائلة لذلك لم نبد اية ملاحظة ازاء حركاتها التي تنطوي على افعال مكشوفة، مثل التبول والقاء الغائط دون حياء. كان يغفر لها سكونها حين تجلس امي تحتها كل فجر لتحلبها. كنت افتح عيني من تحت الغطاء والمح امي عبر باب الغرفة وهي في طرف الحوش تعدّل جلستها تحت بطن البقرة، ثم تغسل ضرع البقرة  وتشجعها بكلام فريد يشبه لغة الأبقار، ثم تبدأ تسحب ضرعها الى الأسفل نحو حلق السطل الأبيض النظيف. كانت قطرات الحليب الأولى تصدر صوتا موسيقيا حين تصطدم بمـعدن السطل النظيف وكانت امي سعيدة بجريان الحليب، فيما كانت البقرة ترسم ملامح ارتياح غريب وهي تتخلص من حمل ضرعها المنفوخ طوال الليل. كان صوت الحليب الموسيقيّ وهو يندفع الى السطل يعيد الي نعاس الفجر ويطمئنني ان امي ليست بعيدة.

مع امي واخي بهاء 1975

 

حكايا ونحيب

  كانت امي تحكي لي قصصا وحكايا وتردد لي أغنيات وترتجل الشعر. كان صوتها جميلا، فيما كان صوت مهية اجشّا فيه بحة رجولية يختلط بطقطقة الدمالج التي كانت تلبسها، كـأنها دمالج تشبه مكتشفات الدولة العباسية التي رأيتها حين كبرت وزرت المتحف العراقي. كانت (مهية) ذلك الفجر مرمية من التعب، فقد امضت الليل كله تقص لي الحكايا الغريبة وتردد لي اناشيد القتال بين (البو متيود) الذين يكتسحون الأعداء بفيضان الدم كما في نشيدها وهم يقاتلون قبائل اخرى من صنع خيالها البدائي ، وكان الفرسان يتساقطون فيما كان رجال القبيلة يدفعون بسيوفهم عن شرف القبيلة. كانت الصور تختلط بأللون الفريد الذي يحيط بعيني (مهيّة) فقد كانت تغسل  عينيها الذاويتين بسائل اسمه ( الكبّلي ) وهو سائل زهري اللون فاقع بشكل تبدو عينيها تحت النور الخافت مثل عيني السعلوة،المخلوقة الأسطورية التي حدثتني عنها طوال الليل، وكانت شفتاها مرسومتان بوشم عميق، كما كان ثمة وشم يجمل حنكها ويوازن التجعدات التي رسمها الزمن على خديها. كانت رائحة القرنفل والسعد الممضوغ تختلط برائحة غريبة، احيانامثل رائحة الزبدة وتشبه رائحة الريف يوم كنا نزور مهية في قرية الخرجة الواقعة هناك على الضفة الشرقية لنهر دجلة مقابل قلعة تكريت، تلك الكنيسة القديمة  وبقاياها.

تكريت

 كنا نحب مهّية، لذلك لم يكن ممكنا ان نتذمر من رائحة الزبدة والحليب وهما تختلطان برائحة القرنفل والسعد الممضوغ. كنت المح جدّتي (ليلو علي الرحيم) وهي تمضغ السعد ثم تبصقه بشكل متقطّع في فتحة القميص الأسود الذي ترتديه طوال تلك السنوات لذلك لم اكن استغرب حين كانت امي (هاجر عبد القادر) تمضغ السعد وتبصقه داخل ملابسها السوداءايضا. لم تكن امي تخرج. لقد امضت اثنتي عشرة سنة لاتخرج من المنزل، حزنا وكمدا على والدي.

                                                             

وكانت تمنحني اهتماما طوال الوقت فقد توفي ابي وعمري عشرة ايام، وحين تصفه لي كانت كلماتها دافئة مثل انفاسها. فقد كان كريما يحب الخيول والشراب والنساء، وكانت جدتي (ليلو) تسكتها حين تواصل التذكر والحديث عن ابي. ومرة في العام كانت جدتي تصطحب امي في الفجر المعتم الى المقبرة في فجر عيد الأضحى ، وهي المرة الوحيدة التي تغادر امي فيها المنزل خلال العام. كان الظلام دامسا وجدتي حريصة ان لا يرى احد امي، او يراهما، فكانتا تخرجان الى المقبرة في الظلام الأعمى. كانت امي تصحبني وأنا نصف نائم، فأسمع خشخشة الحصى تحت قدمي امي، فيما كان تنفسها يزداد سرعة من تعب المسافة وهي تحملني طوال الطريق الى المقبرة، بينما جدتي تمشي امامنا  فنستدل على وجودها من رائحة القرنفل والسعد الممضوغ، وهي توشوش بكلمات،عرفت فيما بعد انها تعيد قراءة (آية الكرسي) لتبعد الشرور طوال الطريق الى المقبرة التي كان قد دفن فيها سادة صالحون يوم اسلمت مدينة تكريت على عهد الخليفة الثاني. عند قبر ابي ، كانت امي تبكي بمرارة فألتصق بها من الخوف والأسئلة، فيما جدتي تجلس الى الجوار بين قبر جدي وقبرخالي عبد الوهاب العبد القادر الذي مات شابا تقيا قتله السل والمرض والعبادة. تبكي بصوت خفيظ وهي تنشد كلاما منغما من الشعر الحزين الذي يستدر البكاء. كانت جدتي ترتجل القول وقد ورثت امي تلك السمة فكانت ترتجل اشعار البكاءا في منزلنا، وكذالك أشعار الموليّات عند الافراح القليلة، وهو نمط من الغناء المعروف في منطقة الجزيرة ووسط العراق:

(( ياعين موليتين وياعين موليّة..ضرب الخناجر ولا غدر النذل بيّـه))!

 

 

جدتي ليلو

 كانت جدتي (ليلو العلي الرحيم) ممشوقة طويلة بيضاء لها عينان زرقاوان غريبتان. وكانت تدخن نوعا من السجائر في غلاف ذهبي اسمها سجائر غازي. وكانت تجلس على طرف البساط الآشوري القديم وتدخن سيجارتها وتلتهم الرماد الذي تحرص ان تسقطه وسط كفها الأيسر حتى يتجمّع فتلتهمه. كانت تقول انه مفيد للمعدة. قامتها طويلة وتلف الجرغد حول الرأس، والعباءة الصوفية التي كانت تسميها ( الخاجية )، فتتظهر جدتي في وقار شديد وهيبة تعبر عنها بعصبيتها وسلطتها الباهرة. كان اخوالي الشيوعيين الذين عانو السجن والتغرب والفقر يهابونها ويخفون عنها حلمهم البروليتاري ومشكلتهم كشيوعيين في بلدة تقوم وتقعد الفكرة القومية والعصبية في منازل أهلها.

  في تلك الليالي تكون  المقبرة موحشة وقبل ان يلوح في الأفق خيط ابيض  تنهض جدتي وامي لتبدأان رحلة العودة من المقبرة، وانا محمل بألأسئلة والألغازوالشعور بالذنب لأني كنت عبئا على امي وهي تحملني في الظلام المعتم الى ملاذ النهايات والموت والسكون. في الفجر الرصاصي حين تعود مسرعة صحبة جدتي الى المنزل قبل ان يخرج الرجال الى الصلاة كانتا تشكلان نوعا من الحنو الغريب، وهو مايضفي على منزلنا روحا بكائية غريبة فرط العاطفةوالشفقة واللطف. أخواتي وامي يبكون من الفرح ويبكون من الحزن ويبكون من اطراء الطعام والخبز ويبكون من التذكر ويبكون من تخيل الغد ويبكون من الأفتراق والغياب الممكن ويبكون من الفقد الحزين.  حين تزوجت اختي الكبيرة (كوكب)، طفقن يبكين لفراقها الى اليوم رغم انها رزقت بأحفاد واحفاد.

                                                     

                                                         امي تصلي (1990)

 

كان ثمة حنان غريب يملأ المنزل وكانت جدتي وامي واختها الوحيدة الخالة صالحة ولـمّة اخواتي الصغيرات (نهيدة وساهرة واسماء وكوكب ) يشكلن عالما من الحنان المفرط الذي يدهمني طوال الوقت حتى الساعة لأن أخواتي مازلن يعاملنني ذلك الطفل الذي فقد أباه وهو رضيع. رغم اني انجبت اولادا وبنات واحفادا، فهن مازلن يندهن علي لزيارة بيوتهن لأنهن طبخن طعاما كنت احبه، او لأنهن حلمن بي الليلة الفائتة من دون اخويّ علاء الدين وبهاء الدين اللذان يمحضوهما حنانا ومحبة. ورغم ان الكثير من اخوات اقراني يفعلن ذلك، إلاّ ان ذلك النشيج والبكاء الذي يختلط بالحديث أ وبالنداء او برنّة الهاتف في الوداع وألأستقبال، وبكل حركة او نأمة هو مايميّزهن. وحين كانت (مهـيّـة) تغادرنا كان البكاء وفيرا يرسم ملامحنا في صورة الفجر الذي تختاره مهيه للمسير بعد عبور النهر في عبارة الوقت القديمة تلك..

 كان ذلك الثلاثي الأسطوري، امي ومهية وجدتي ليلو، قد شكلن ذاكرة لطهرانية االسنوات تلك. كانت امي أمرأة تنطوي على طفولة وحكمة. تلاعبنا وتهرج معنا وتضحك مثل طفلة في حدود المنزل. وكانت تعظنا وتؤدبنا مثل امرأة أمّية عاقلة، حفظت القرآن عن ظهر قلب  وتعلمت اسرار الحياة من الطبيعة الموحية. وما ازال اذكر لها فطريتها التربوية وقد امتزجت بمعارفي التربوية الحديثة، حين اعيد تلك الدروس وانا اربي ابنتي هاجر الصغيرة..اليوم!

ـــــــــــــــــ

هوامش

ـ مهية العبد البشر : ولدت 1880 وعاشت في بيئة فلاحية  رعوية في قرية الخرجة.. مقابل مدينة تكريت  كما امضت جزا من حياتها في قرى الشرقاط حيث تعيش قبيلة الجبور.. امرأة ترتجل الكلام والحداء والغناء البدوي. انجبت العديد من الأولاد والأحفاد. توفيت عام 1964.

ـ ليلو العلي الرحيم : ولدت عام 1882وهي جدّتي لأمي كان والدها كلاّكا وتزوجت  كلاّكا ايضا يوم كانت الأكلاك الوسيلة الوحيدة لنقل التجارة من شمال الوطن الى بغداد منذ فترات ماقبل الدولة العثمانية وخلالها حتى اواسط الستينات، حيث تنقل المؤن والحبوب  والتبوغ والفواكه المجففة عبر نهر دجلة. كانت تحفظ القرآن وتلازم المنزل والصمت. توفيت عام 1969.

ـ هاجر عبد القادر: وهي امي  وقد ولدت 1912، وتزوجت من والدي وهي في الخامسة عشرة عام 1927وانجبت سبعة اطفال، كنت آخرهم، وكانت امرأة عصامية اهرقت كل سنيّها من اجل تربيتنا وكانت ترتجل الشعر والغناء والبكاء ايضا. توفيت عام 1989.

ــــــــــــــــــــــــ

العودة للفهرس