سيرة ذاتية

انا عراقية بصرية..

اجدادي عرب من نجد، واكراد من السليمانية..

سميرة المانع ـ لندن

almananiazi@supanet.com

 

 

تشكيلة متوافقة  متسامحة من أبناء المنطقة، وجدتها تعيش بانسجام في بيتنا الصغير، عندما فتحت عيني في مدينة البصرة، حيث مسقط رأسي. شبّت الحرب العالمية الثانية فانتقلنا إلى ناحية الزبـير بعد أن ارتأى والدي الذهاب إليها من  أجل إبعادنا عن الخطر. كانت الزبـير مقر سكناه الأول في العراق، وقد نزحت عائلته  للعراق، قبل ولادتي بكثير، من منطقة نجد في شبه الجزيرة العربية وهي  الآن في المملكة العربية السعودية.  أسباب النـزوح، كما اعتقد، كانت اقتصادية على الأغلب، والعراق الكريم، آنذاك ، كان ملجأ لأقوام متعددة لكثرة خـيراته وطيبة أهله.  تقع ناحية الزبير في منطقة صحراوية تبعد عن البصرة  بحوالي أربعة عشر كيلومتراً، مملوءة بسكانها آنذاك ممن يُطلق عليهم العراقيون  لقب  (النجادة) نسبة إلى أصلهم.

  هذا من جهة أصل الوالد أما شخصية الوالدة فتمتزج بها صفات الكرد والعرب معاً، كون أبيها كرديا اسمه (مراد آغا)،  أرسلته الدولة العثمانية أثناء سيطرتها على المنطقة، فجاء من مدينة السليمانية، شمال العراق، مع أمه إلى البصرة ليتسلم وظيفة إدارية فيها، ثم احب المدينة، مستقراً  بها بصورة نهائية، في زمان تعتبر فيه  المسافات، ما بين السليمانية والبصرة، مسألة  صعبة وخيالية. تزوج جدي (مراد آغا الكردي) من  العربية الساكنة بقرية " السراجي "، وهي إحدى قرى مدينة البصرة، الملحقة بقضاء أبي الخصيب، أهلها من ملاّكي الأراضي الصغار. ولكي يتم مشهد التنوع  في هذا البيت مع بعض الفروق  في الخلفية، وجدت قربي مربيتي (فطومة ) الرائعة،كانت من شيعة مدينة البصرة. رافقت أمي بعد أن تزوجت الأخيرة، منتقلة معها كرفيقة ، إلى أية منطقة حول مدينة البصرة، وفقاً لوظيفة والدي الموظف في دائرة الكمارك. كانت نموذجا للطيبة والتضحية ونكران الذات، سعادتها في راحة الآخرين بشكل لم أجد لها نموذجاً في حياتي كلها.لم تتزوج على الإطلاق،  معتبرة أولاد أمي أولادها. عاشت معنا حتى بلوغي ما يقارب سن الثانية عشرة ، وحين أزفّ موعد عودتها  إلى أهلها ومغادرتها لنا للابد، ، هربتُ  وحدي، إلى غرفة نائية بالبيت، كي لا أودعها وجهاً لوجه  وأنهار أمام الجميع من كثرة الأسى والحزن. أشهد، الآن، أنني جربتُ الوداع الأليم منذ تلك السنة وأنا لا زلتُ طفلة صغيرة، لم أكن أعلم ما سيخبئه القدر لي من أمر فراق أهلي والعراق كله  في سنيّ الأخيرة..

سميرة مع اختها

 

المجتمع المتسامح

عشتُ في هذا البيت المتسامح من حيث الميول القومية والطوائف الدينية والأعمار، يسود الوفاء والاحترام أفراده وعبارة " لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى " مطبقة تطبيقاً تاماً. هذه هي الأرضية التي ارتكزت عليها بعد ولادتي في البصرة القديمة. أكملت دراستي الابتدائية في المدرسة الوحيدة المتوفرة للبنات بالزبـير. لبست العباءة، أثناء ذلك، وعمري لا يتجاوز الحادية عشرة. انتقلنا إلى مدينة البصرة، مرة ثانية بعد انتهاء الحرب، فكانت قفزة نوعية بكل المقاييس السائدة. فمن جفاف ناحية الزبـير وتزمتها المحافظ، إلى خصوبة مدينة البصرة ورطوبتها وخضرتها ومياهها  في شطوطها. في نفس الوقت،  انتفت الحاجة، ببساطة، من لبس العباءة، كما أن  الحرمان من الذهاب للسينما أو السير والتسوق بشوارع المدينة بشكل طبيعي من دون تعقيد أو إشكالية لم يعد  شيئا مقبولا. كل شيء جرى هيناً وبتحول تدريجي، لم يعد مجرد حديث مشوق تقصه أمي علينا حول غنى مرتع طفولتها، الذي لا ينضب. منذ ذلك الحين أصبح التناقض جزءاً من تركيبة الكون عندي، بعد أن جربت الاثنين معاً، قبول اختلاف الآخر واحترامه من سنن الطبيعة.

 

  أكملتُ المرحلة المتوسطة والثانوية  بالبصرة. لم أكن طالبة مجتهدة حريصة على الدروس المنهجية أو التقيد بها، كل ما كنتُ أفعله في الدرس مراقبة المدرّسة وتأمل المناظر من الشبابيك في الصف. أفرح إذا مرّ أحد الشخوص عابراً بين حين وآخر. أحببتُ، ولا أزال، مراقبة الآخرين أكثر من أن يراقبوني، كما أن طبيعة  المنافسة والتسابق في أي ميدان، تسبب لي الضجر   إلى حد كبير، وإلى الآن.

بهذا السلوك المتهادن تمّ عثوري على كنـزٍ ثمين لتسليتي  بهدوء وصمت. هو لا أكثر من وجود دكان قرطاسية (الباحسين ) قربنا في منطقة ( البابطين) بالزبـير منذ السنوات الأولى. كان ( الباحسين) يؤجر الكتب  بأربعة فلوس وهي يوميتي من أهلي. أذهب  وأنا في طريقي للمدرسة لاستعارة الكتاب ثم إرجاعه. قرأت في الأعوام الأول، وسني لا يتجاوز التاسعة، معظم روايات كامل الكيلاني للصغار وعشت جرآءها في عوالم لا أجمل ولا أغرب. عوضت عن الحبس بين جدران البيت بالزبـير بها،  والجميع لاه، كلٌ مشغول  بأموره، ليصبح الانعزال والوحدة متوفرين دون قصد مني أو منهم. عند بلوغي سن الدخول للجامعة انتقلنا الى بغداد. كان الأمر من قبيل المصادفة، بعد تعيين أخي الكبير نجيب في وظيفة مقرها العاصمة بغداد تلك السنة، وكنا  نعيش معا في بيت واحد رغم زواجه.

عندما أفكر في مجتمع البصرة تلك الأيام أتذكر كيف تعايش الجميع بطمأنينة ووئام ، وبضمنهم العرب، والإيرانيون، والهنود وغيرهم،كما انسجم فيما بينهم أبناء الدين المسيحي واليهودي والبوذي والصابئي وبقية  الأديان والطوائف والأجناس المتعددة الأخرى. لا يخطر ببال أحد من السكان أن يتصور أنه افضل من غيره أو يريد أن يجبر غيره على اعتناق عقيدته أو إهانة أصله. لم تكن دارنا المتراضية الوحيدة هناك بينهم، بل معظم الدور، إذا ما اسثنينا بعض الأهالي الذين كانوا يقطنون منطقة الزبـير المحافظة، حيث يبقى أهلها، إلى حد ما، متحفظين من ناحية عدم الاختلاط بادئ الأمر، لكنهم سرعان ما  يتشرّبون بطبيعة مدينة البصرة المتفاهمة فيصبحون مثل الآخرين بعد حين، مدركين  أن الأمر يستحق التساهل فعلاً، والقضية ليست اكثر من جهل وعدم معرفة الواحد بالآخر، فالجميع متشابهون وكفى. هذا ما حصل  لأبي ذي الأصول النجدية مثلاً، فعلاً.

على أية حال ، لا زلتُ  اذكر ليلة فراقنا لمدينة البصرة آنذاك وكم كانت  دموعنا تسحّ، نحن النساء، في القطار الذاهب الى بغداد. لا أنسى منظر الأم " فطومة " التي سافرت معنا  لمساعدتنا أثناء الانتقال، لكثرة حنانها وخوفها علينا ولشدة تعلقنا بها، لدرجة كلما تذكرت شخصيتها حتى هذه اللحظة ،بعد كل هذه السنين، تتضبب عيناي. لم ننسجم مع مدينة بغداد إلا بعد مضي أكثر من سنة واحدة على بقائنا فيها. انتابنا مرض الحنين لمسقط الرأس كما يُسمّى. وجدناها  بالنسبة لما اعتدنا عليه  بالبصرة، مدينة قاسية، كثيرة النـزاع، حادة المنافسة، تهتم كثيرا بالمسائل المادية، كمعظم العواصم بالعالم.  لا استثني من هذا الرأي شعور أمنا " فطومة "، التي سبقتنا بالاحتكاك بأسواق المدينة كي تجلب مواد الطعام لنا في تلك الفترة، كانت تشكو من خشونة معاملة الباعة لها بمقاييس مدينة البصرة الودود الوديعة الحيية، التي تستعمل كلمة ( خوية ) في الحوار دوماً.

سميرة في الجامعة

 

مرحلة الابداع

في تلك الأثناء ، خلعتْ العباءة  الكثير من النسوة العراقيات الكبيرات في السن أيضاً كوالدتي، وكأن لاجتياز بناتهن مراحل التعليم والدراسة المختلطة بنجاح ومن دون فضيحة أو ضجة علاقةً لإضفاء الثقة بنفس المرأة العراقية من أجل إثبات ذاتها الواضحة الصريحة. ساعدها الرجال العراقيون في تلك الأثناء أيضاً.  كان ثمّة، على ما يبدو، أمل في صدور الجميع، آنئذ، على الرغم من بعض العوائق، في إمكانية تحقيق تطور ملموس في البلاد، من أجل الوصول إلى عيش حرّ كريم للوصول إلى العصر الحديث. بهذا التفاؤل القائم دخلتُ جامعة بغداد في كلية دار المعلمين العالية وتسمى اليوم كلية التربية ، مكملة شهادة الليسانس باللغة العربية سنة 1958. في أحد الأيام،  وكنتُ في السنة الثانية بالدراسة، تحدث أستاذنا(د. علي جواد الطاهر)  أمام طلاب الحصة، وأنا مستغربة، حول جودة الإنشاء الذي أكتبه. أصرّ أن ينشر ما كتبته في امتحان منتصف السنة في درس الإنشاء وهو بعنوان ( مولد زهرة ) بمجلة كانت تصدر من وزارة المعارف اسمها " المعلم الجديد". وسرعان ما وجدتُ الإنشاء منشورا ًمع مقدمة كتبها د. الطاهر حولي وحول زميلتي في الحصة أمل  الخطيب التي نال إنشاؤها إعجابه أيضاً  ونشره معي. لا زلتُ أحتفظ بالعدد لشهر نيسان سنة 1956، وقد أصبح تأريخا بالنسبة لي ونقطة تطور في حياتي.

 بعد هذه المقدمة وما نلته من تشجيع فيما بعد من لدن أستاذي د. الطاهر  تهيبتُ من المسؤولية الملقاة على عاتقي وهي مسؤولية ترافق كل أديب حتماً. صارت رغبتي أن أكتب بمستوى يقبل به د. الطاهر ، محاولة أن لا  أُخيب ظنه فيّ. بقيتُ بعدئذ، ولفترة طويلة، كلما كتبتُ بودي أن أعرف رأيه، وهل وفقتُ ؟

الزواج والعمل

  تزوجت بعد سنة من تخرجي زواجاً باختياري لزميل لي كان شاعرا في الكلية هو (صلاح نيازي). رأيت زميلة لي تحثني على الذهاب معها لسماعه يقرأ شعره بعد أن كالتْ الثناء له. أثناء خروجنا من القاعة تقصدتُ أو تقصد ! أن يُطري أحدنا الآخر، وكان، على ما يبدو، قد قرأ ما كتبه أستاذنا الطاهر حول موضوع ( مولد زهرة ) اليتيم. استمر سيرنا مع الآخرين كي نصل إلى موقف الحافلة التي ستقلنا إلى بيوتنا.  لم أكن أدري أن القدر يدبر لنا لقاء على شكل آخر وبصورة أوثق. في تلك الأثناء لم أكن أعبأ إلا بأنه يشبهني كثيرا من ناحية تعلقه الشديد بالكتابات الأدبية وخفة ظله في سرعة البديهية. أعطاني في الخفاء، يوماً، قصيدة، لا زلتُ أحتفظ بها. قرأتها عدة مرات، بالسرّ،  بعد أن  وجدتها _ ولا أزال _  جميلة جدأً عنوانها ( باص رقم 7) ، حول أول لقاء له بي في الحافلة. أصبحت المهر الحقيقي لزواجنا، ولم أُطلبْ أكثر ! لم نكن نتصور آنذاك أن الأدب سيصبح مصيرنا ليشغل معظم أوقاتنا ويستهلك مواردنا وأتعابنا.

 تعينتُ  ببغداد كمدرِّسة في إحدى  المدارس الثانوية لمدة سبع سنوات، لم استطع أثناءها كتابة أي شئ يرضيني، لعدم الاطمئنان وشعور القلق النفسي عندي، بسبب اشتداد الاضطرابات السياسية الدموية التي سادت بغداد بعد تغيير النظام سنة 1958 وما تلاه من صراع على السلطة في موجة كره وهلع كابوسية بين المواطنين. يئس البعض من السياسيين وابتدأ في التفكير بمغادرة البلد تدريجياً وبصورة أكثر بعد انقلاب 1963، حين جاءت سلطة حزب البعث، وما سُفِك من دماء لا زالت آثارها موجودة، بشكل أو بأخر.كنا من بين أوائل المغتربين. سافر زوجي إلى لندن في تلك السنة، وقبلي بسنـتين، لتهيئة لوازم العيش لنا، خصوصاً بعد ولادة طفلة لنا بعد سنة من زواجنا. لحقت به  في سنة 1965. زرتُ العراق بعد ذلك ثلاث مرات، وفي كل مرة أرى الحياة أسوء من ذي قبل. الحرية تتقلص وتضيق على المواطنين. آخر زيارة  إليه  كانت في سنة  1978 وذلك بسبب كتاباتي الصريحة حول الوضع  وتطرقي لمواضيع تُحرَّم الإشارة إليها بالعراق ولو قليلا. نما إلى علمي أن دوائر الأمن والاستخبارات العامة وضعتني في القائمة السوداء مع آخرين بالطبع. لحقت بي  بعد ذلك أساليب مختلفة غريبة في التعتيم على كتبي وإهمالي والتشويش عليّ من قبل البعض. لكن كلما نالني هذا التشويه والإهمال المتقصد،شعرتُ بقوة متزايدة، تؤكد لي،  أن ما أكتبه لا يهمني وحدي فقط ، بل إنّ أفكاري وضعتني مع الآخرين  في مواجهة السلطة، من دون قصد سياسي أو حزبي من جانبي.  

 

تأثير اخي ومربيتي

من أهم الشخوص التي أثرت فيَّ من الناحية الثقافية  شخصية أخي نجيب المانع. كان أول المرشدين لي في اختيار ما يجب أن أقرأ  بعد أن أحسّ باهتماماتي. كما أن وجوده معنا في الزبـير الرتيب الساكن، وهو يُسْمعنا، متوهجاً بالحماس، قطع الموسيقى الكلاسيكية لبيتهوفن وموتسارت وغيرهما ليتأكد لي أن في الحياة شيئاً آخر غير الأكل والنوم وجمع النقود. أحكامه بالنسبة لي،  في السنوات الأولى من عمري، كنت اعتبرها نهائية. اتبع ما يقوله أو يبديه من آراء كالإمعة دون اخذ أو ردّ. تطورت الأمور، بعدئذ، حين وصلت لندن وتفرعت مصادر كتبي ومطالعاتي لأبدأ بتجاربي الشخصية وأحكامي الخاصة ليظهر بوضوح استقلالي الفكري عنه، فاصبح أوّل المتمردين على تعاليمه في داخل بيتنا  "للأسف " لكنني لا زلت بالتأكيد محتفظة له بمكانة عالية فهو الذي دلني وأنا في عالمي الضيق المحدود على العالم الواسع، وأطلعني على خير ما في الكتب العالمية أثناء جهلي، وأرشدني الى القيم النبيلة في الحضارات الإنسانية عموما والتي كان يبشّر بها دوماً.  ساعده في ذلك تمكنه من معرفة اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية بصورة جيدة عن طريق اجتهاده الشخصي الفردي العصامي.

أما الشخصية الثانية والتي أُعجبتُ  بها من الناحية العاطفية فهي شخصية الأم  " فطومة ". على الرغم من كونها أمية تجهل كيف تقرأ الساعة  على  الحائط، إلا أن كل مَنْ حولنا بالبصرة  يعرفها  ويحترمها، مقدرين صدقها وإخلاصها، وقابليتها على العطاء والحب.  وجدتها قربي هذه المربية الرؤوم محافظة على كل ما يمكن أن يتحلى به المرء من عواطف وصفات بشرية راقية.  توفيت هذه الشخصية النبيلة بالكويت وعمرها في السبعين بعد إصابتها بمرض السرطان وانتقالها للتطبب بالمستشفى الأميري هناك. عندما وصل نبأ وفاتها إلينا  ببغداد كنا على مائدة العشاء. لم أنمْ ليلتي بعد سماع الخبر. في الصباح كنتُ مصابة بمرض الالتهاب والحساسية بمجرد أن أضع لقمة من نوع الطعام الذي كنت آكله وقتها أثناء ورود الخبر المحزن. ما زلتُ أعاني من الالتهاب والحساسية حتى الآن..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المؤلفة من مواليد البصرة. تعيش في لندن منذ عام 1965. وقد اصدرت عدة روايات ومجموعات قصصية وشاركت زوجها الشاعر والمترجم المعروف(صلاح نيازي) في اصدار مجلة (الاغتراب الادبي) بين  1985 ـ 2003.

ـــــــــــــــ

العودة للفهرس