سيرة ذاتية

امي.. شريكتي في صياغة شخصيات الأمهات في قصصي..

د.محسن الرملي/ اسبانيا ـ daralwah@hotmail.com

محسن الرملي مع امه عام 1984 في قرية السديرة في الموصل

 

أنا البطن التاسعة ضمن تسلسل إحدى عشر بطناً، كما يطيب لأمي أن تسميها حين تتحدث عن ولاداتنا،

نحن أبنائها، بما فينا الذين ماتوا في المهد، وكثيراً ما وقفتُ عند هذه التسمية (بطن) التي تفتح شهيتي لتعدد التأويلات.. وكأن أمي تعني بأنها قد أفردت لكل منا بطناً خاصة به ولم نخرج جميعاً من بطنها الواحدة ذاتها، أم أنها أرادت اتباع العرب في تسمية العوائل والقبائل بالبطون مما يعني أنها تشير إلى أنه ستتفرع منا، من بعد، بطوناً: عوائل وقبائل.. أم أنها تهدف إلى تذكيرنا بأننا من بطنها.. أم أننا مجرد بطون بالنسبة لها!. وحين نسألها عن التواريخ الدقيقة لمواليدنا تقرنها لنا بظواهر الطبيعة البارزة وأحداث تاريخية عادة ما تكون الحروب أو الانقلابات في الحكم، ذلك أنها لا تعرف التواريخ وأرقام الأعوام والأيام، ولا تعرف القراءة والكتابة. لذا تجيب: أنت ولدتك سنة الفيضان، وأنت في موسم الحصاد، وأنت في عام القحط، وأنت في أيام حرب فلسطين (ولا نعرف أي حروب فلسطين تعني)، وأحياناً تقرن تواريخ ولاداتنا بمقتل أحد ما في القرية أو بتاريخ شراء أو ولادة إحدى أبقارنا، أو ذبح ثورنا الأسود أو يوم ماتت حمارتنا الرمادية بالجدري.. ولكنها وإن كانت تجهل دقة التواريخ إلا أنها تسهب في سرد ذكرياتها عن حادث ولادة كل منا سواء أكان الأمر ليلاً أم نهاراً، ومن كانت حاضرة من نساء الجيران، ومن كانت القابلة وحكاية الأسماء وأسبابها التي لا تتدخل فيها عادة، لأن هذا الأمر يقرره أبي وحده*. فالزمن بالنسبة لأمي شيء مجرد. لذا تعمد إلى قياسه بربطه بالأحداث والملموس، خاصة المكان، لذا تصف أماكن ولادتنا بدقة.. فكيف كانت ولادتي؟

    كوني البطن التاسعة فهذا يعني أنها صارت متمرسة بالولادات وتجاوزت مخاوفها وإشكالاتها وخبرت أوجاع الطلق، لذا كانت لا تغير من جدول عملها، والذي هو في الحقيقة ليس بجدول لأنها تعمل دائماً، ليلا نهارا، ما لم تكن نائمة. حينها كانت تساعد أبي وأخوتي بطلاء سقف دارنا الطيني بالطين بعد أن قشرته أمطار الأشهر السابقة. آذار والشمس دافئة. أبي على السطح وهي خائضة حتى ركبتيها في حوض الطين المجبول (الجبلة) رابطة بطنها بحزام صوفي ينتهي بثلاث شراشب كبيرة تشبه نحلات ملونة كانت قد حاكته لها جدتي في حملها الأول. أنا في بطنها مكملاً إقامتي لتسعة أشهر. السيجارة في فمها وأبي يمد لها بالحبل من الأعلى سطلاً تملأه له بالطين ويرفعه.. هناك.. هكذا.. تقول: سقطتَ مني في (جبلة) الطين. ثم تضيف ضاحكة: ألا ترى أنفك كبيراً مفروشاً.. لقد سقطت مني على وجهك في الطين.

   لكن أنفي ـ في الحقيقة ـ قد أخذته منها، مثلما أخذت الكثير فيزيائياً ونفسياً؛ أشبهها أكثر مما أشبه أبي. حجم الأنف، سواد العينين، صلابة الأسنان.. ومنها أيضاً أخذت دروس الصبر والتسامح وكراهة العنف. الميل إلى البساطة، قدرة التأقلم، التصديق والتعويل على النوايا.

نينوى.. ارض خضراء وسماء زرقاء..

 

ثقافة امي

حاولت أكثر من مرة حث امي على تعلم القراءة والكتابة التي أعرف بأنها تتمناها قائلة: كي أقرأ القرآن وكتب أبيك. لكنها تعقب متعللة بفوات القطار (علماً بأنها لم تر قطاراً في حياتها) أو بالمَثَل: "بعد ما شاب أخذوه للكُتاب".. لذا كانت تعوض ذلك بإهداء خيرة طبخاتها وأفضل زبدة لوالدها الحاج فاضل جادالله وعمها الملا سلطان مقابل كل إتمام قراءة للقرآن باسمها. حاولت إقناعها من هذا الباب ولكي تنوع في السور التي تقرأها في صلاتها لأنها ظلت تردد ثلاث فقط من قصار السور، التي لا تعرف غيرها، في صلواتها اليومية الخمس طوال حياتها. فأجابت: المهم في أي عمل وخاصة في الصلاة هي النية، واسمع هذه الحكاية يا بني:

((كان يا ما كان رجل بسيط يعيش من صيد السمك على شاطئ النهر، جاهل (مثلي) لا يقرأ ولا يكتب، فاخترع لنفسه صلاته الخاصة، يتوضأ ويفترش الرمل متوجهاً إلى القبلة، ينظر إلى السماء ويقول:" وجهت وجهي إليك.. وكس أم الذي يخبئ عليك"، ولأنه لا يحفظ حتى سورة الفاتحة فقد اخترع لنفسه فاتحته:"الفاتحة مفتوحة، والميجنة (الهراوة) ملكوحة (ملقاة)/ الميت راحت روحه، والطيب (الحيّ) يأكل رغفان (أرغفة)".. ثم يؤدي الحركات التي يعرفها.. وهكذا على مدى أعوام حتى مر ذات يوم وسط النهر زورقاً لصيادين غرباء فشاهدوه يصلي بحركات ركوع وسجود خاطئة. اقتربوا منه وراحوا يعلمونه الصلاة الصحيحة، أطالوا معه حتى تأكدوا من تعلمه لها فودعوه واتجهوا بزورقهم إلى وسط النهر. توجه هو سعيداً إلى صلاته، ولكنه ما أن وجه وجهه إلى القبلة حتى انتبه إلى أنه ـ كعادته ـ قد نسي ما علموه إياه، فالتفت خلفه إلى زورق الصيادين وسط النهر ثم انطلق منادياً راكضاً صوبهم ـ على الماء ـ حتى وصل إليهم فأخذتهم الدهشة. قال: لقد نسيت الصلاة التي علمتموني إياها. فقالوا له والدمع في أعينهم بعد أن رأوه يمشي على الماء: عُد إلى صلاتك السابقة فهي أصح من صلاتنا)).

   هكذا كانت أمي تعطي دروسها عبر الحكايات. حكايات قبل النوم، وحكايات الصحو وسهرات الشتاء حول الموقد وفرقعات حبوب الذرة (الشبشيخ).. ولكل حادث حكاية عندها ولكل درس حكاية.

   رسومي الأولى، قبل دخولي إلى المدرسة، كانت محاولات في تقليد الوشم على جسدها. كنت أجبرها أن تثبت كفها على البساط واضعاً دفتري جوار الكف أنقل ما عليها من نقوش الوشم، كفها الأخرى فيها السيجارة فتراوح بين كفيها، قدميها، وحين يأتي دور نقل الوشم في وجهها أصيح بها لا تتلفتي. شفتها السفلى زرقاء تنزل منها زخارف على الحنك؛ نقاط وخطوط متداخلة وأزهار وشم صغيرة، أنزل مع العنق مسنداً دفتري على صدرها، وحين أريد النزول أكثر لمتابعة نقل خطوط الوشم النازلة محاولاً فك فتحة صدر ثوبها متوقعاً الوصول إلى بطنها. كانت تنتفض، تضرب كفي وتبعدها، فأصيح: أريد أن أنقل الباقي. وتجيب بحزم: والله لو تطلع روحك، أقول لك (ماكو) بعد وشم، لهنا وخلص. فأصر قائلاً: لا.. أكو.. دعيني أرى وإلا سـ (أخبص) الدنيا بالصياح. فتنهض: أقول لك ما كو.. يعني ماكو أنت زمال ما تفتهم؟

محسن الرملي في قريته ، بعد غياب طويل، وفي الاسفل مقبرة القرية

                                           

امي اسمها(طفلة)!!

    كل الأمهات يتشابهن في عظمتهن فما الذي يمكن أن يكون خاصاً بأمي.. بالنسبة لي كل شيء هو فريد من نوعه في أمي، وإن لم أكن مصيباً في ذلك، لكنني سأحاول ألإشارة إلى ما أظن أنه خاص فعلاً، وأبدأ بالاسم، حيث لأمي اسم لم أسمع، حتى الآن، بأن غيرها يحمله في العالم، اسمها (طفلة) وكان أخي حسن يمزح معها دائماً: أما زلتِ طفلة؟.. متى تكبرين؟.. تضحك أمي وتقول: أنا أحب أسمي والاسم مجرد إشارة. أمي هي الابنة الوحيدة لجدتي (وضحة)، لذا فإن جدي لم يستطع الصبر حتى النهاية بلا أبناء آخرين فتزوج امرأة أخرى وانتقلت جدتي مع أمي بعد زواجها إلى بيتنا حتى وفاتها دون أن يخل ذلك بعلاقتها بجدي أو بامرأته الجديدة وأبنائه.. وأمي كذلك بحيث لم أعرف إلا متأخراً بأن أخوتها هم من أم أخرى لأنها كانت تتعامل معهم بحميمية فائقة. وأذكر أنها كانت تنادي زوجة أبيها الأخرى بأمي وعلمتنا مناداتها بجدتي ورعتها في كبرها قعيدة الفراش حتى وفاتها. لأمي سعة صدر مدهشة وصبر أيوبي. وإذا كانت مهمة إرضاء الجميع تكاد تكون مستحيلة أو هي مستحيلة فعلاً، فإن أمي قد حققت هذا المستحيل: أرضت أبي الرجل القوي الشخصية والمزاج والعصبية، أرضتنا على اختلاف عوالمنا، أرضت المجتمع بأدائها لكل تقاليده، أرضت والديها وأخوتها والجيران والضيوف وحيواناتها التي كانت تعاملها كما تعاملنا؛ تسميها، تطعمها ورأيتها أكثر من مرة تدثر بعباءتها الصوفية عجلاً يرتجف من البرد أو تبكي لفراقها نعجة.. وأعتقد أنها قد أرضت ربها أيضاً.

 ..الآن تدهشني هذه القدرة على نكران الذات، فلم أعرف لها مشاريع خاصة وأهداف أو رغبات خاصة بها.. لقد انتصرت على (الأنا) في داخلها وهذا أصعب وأكبر انتصار، فرغباتنا وأحلامنا وأهدافنا كانت هي ما تريد، تفرح لتحقيقنا إياها وتشاركنا انتكاساتنا.. يا إلهي.. ما أصعب وأعظم صوفية أمي في تمكنها من إذابة (الأنا)!.. كم تأملت قدرتها على التوفيق بين حشد من الشخصيات المختلفة في بيت واحد!. وكانت تدير كل ذلك بصبر ومحبة.. الآن وبعد معايشتي للديمقراطية في الغرب أميل لتسمية تلك القدرة والروحية بالديمقراطية.. وأقول: من رحابة روحية أمهاتنا يمكن أخذ المفهوم الديمقراطي وتعلم قبول الآخر ومحبته مهما اختلف. كانت تقول:" خير الأمور تلك التي تعجب أصحابها". وما زال الكثير من عبارتها حتى اليوم يصحبني ومنها تلك العبارة التي أكاد أتبناها بمثابة شعار لي في التعامل مع الآخرين والتي أجد فيها إنسانية عميقة:" اسمع يا بني.. ابن آدم لا يُؤكَل ولا يُشرَب وإنما يُعاشَر.". أي لا تنظر إلى لونه أو شكله أو أصله أو دينه أو قبحه أو جماله فهو لا يؤكل ولا يُشرب، وإنما انظر إلى إمكانية التعايش معه.. وكل شيء هو خلق ربك.. .. إنها مقاييس غير مادية.

   حين كنا؛ أخي حسن وأنا، نعتزل طويلاً في غرفنا منكبين على القراءة وسط أكداس الكتب، كانت تتركنا لفترات إلى أن ينتابها القلق فتأتي ناصحة إيانا بالخروج واللعب مع أصحابنا أو التمتع مثل مجايلينا: سوف تفقدون نظركم لكثرة القراءة (راح تطلع عيونكم). سوف تصابون بالجنون مثل الملا صالح.. وتعني شخصاً في قرية مجاورة كان يقرأ كتب السحر، قيل أنه قد أخطأ في تطبيقها فأصابه الجنون. تهددنا بتمزيق كتبنا أو حرقها أو رميها إلى المزبلة. ولكنها ما أن نغيب حتى ترتبها لنا وتمنع الصغار والكبار من مسها. كم تجادلت معها وكنا ننتهي بالضحك. أصر على مواقفي (أمر لا أجرؤ على فعله مع أبي) وبعد جدل طويل أغلبها فيه وأقول لها: أنا حُر. فتجيب على الفور: أنت كُر. فنضحك معاً وتحتضنني قائلة: هل أجلب لك شيئاً تأكله؟.. اليوم صنعتُ زبدة تخبل.

حكايات الابقار ومدام بوفاري

  حكايات أمي لا تنتهي وذكرياتي عنها جزء من تكويني.. بقية اللمحات من سيرتها مبثوثة في كل ما أكتبه.. تلك الزاهدة الرائعة الإنسانية المتواضعة البسيطة التي فتحتُ عيني على ثوبها الأسود.. لم أرها بثوب غير الأسود أبداً وعمامة سوداء.. وأشعر بنوع من الرضى الآن كلما تذكرت بأنني قد اشتريت لها عمامة من بغداد بثمن أول مبلغ أقبضه في حياتي من الكتابة.. وأنني كنت أنتقي لها خيرة أنواع التبغ من أربيل براتبي كجندي.. علمها أبي التدخين منذ أن تزوجها صغيرة، ربما في السادسة عشرة من عمرها، وحين تركه هو بعد أعوام لم تتركه هي أبداً، ننصحها نحن والأطباء بعد أن أصابها الربو وصارت " تشحد الهواء" كما تقول.. لكنها تجيب: لا.. كيف أتركه وقد رافقني طوال حياتي.. كيف أهجر رفيق عمري لمجرد أنني مهددة بالموت!. لذا فأنا أجد الآن إجابة مبنية على إجابتها لمن ينصحني بترك التدخين: كيف اترك قاتل أمي؟ العربي لا يترك ثأره. بالنسبة لي الأمر مجرد إجابة، لأنني في الحقيقة حاولت مراراً ومازلت أتمنى تركه، لكن الأمر بالنسبة لأمي كان مختلفاً. فهو مسألة وفاء وإخلاص حقيقية كعادتها في تعاملها مع الأشياء والأماكن والناس والرب. وربما أنها أضرتني بتعليمها لي التعامل العاطفي مع الأشياء والأماكن والكائنات.

   في الصبا، أول هوسي بالقراءة، كنت أحمل معي الروايات حين أذهب إلى البرية راعياً الأبقار، ولأنني كنت أغرق في القراءة تحت ظل حماري ولا أنتبه، فقد أضعت أبقارنا مرتين، أذكر حتى الآن أنني في إحداهما كنت أقرأ رواية (مدام بوفاري)، وحين أنتبه لا أجد أبقاري فأهرول في الأودية القريبة وأطوف هلعاً دون جدوى، لذا أحمل كتابي وقربة مائي ثم أركب حماري عائداً إلى البيت مطأطئ الرأس، فتنفجر صرخات الجميع في وجهي وسخرياتهم، إلا أمي التي كنتُ ألوذ بها، تحتضنني وترد عليهم:" لا تصيحوا على محسن، كل أبقار الدنيا فداء له". وفي المرتين تعود الأبقار وحدها إلى البيت بعد غروب الشمس، فيزداد الضحك من قبل أخي الكبير قائلاً: أنظر.. أنت تقرأ الكتب ومع ذلك فإن الأبقار أفهم منك؛ ها هي تعود وحدها إلى البيت. وألوذ بأمي.. فبمن ألوذ الآن من سخريات الآخرين وأنا أرى حلقات عمري تتسرب أعواماً/أبقاراً عجافاً وسمانا، تضيع مني بلا عودة ترتجى، فيما أنا مازلتُ منكباً على القراءة؟!..

 

اعوام الوداع

   أيام حرب 1991 كانت تودعني بالاحتضان والقبلات والأدعية والابتسامات حاثة قوتي وتصبري متظاهرة بالقوة.. لكن أختي تقول: أنها تبكي في غيابك ويزداد حرقها للسجائر. وعندما أبلغتها بأنني أنوي الهرب إلى سوريا حين كانت وحدتي العسكرية على نهر الخابور في الشمال، منعتني بكل السبل وهددتني بقتل نفسها: لا أحتمل أن أخسرك أنت الآخر بعد أن خسرت حسن*. حينها كان حسن قد أعدم شنقاً ولأنهم أخذوه لستة أشهر دون أن نتمكن من معرفة شيء عنه اعتادت أمي أن تجلس أمام نافذة البيت، المطلة على الشارع العام، ليل نهار، تدخن سيجارة من عقب أخرى بوجه راح يذبل، شديد الحزن وعينان لا ترمشان، تلمعان، كلما مرت أو توقفت سيارة، بانتظار إطلالته.. وبقيت على هذا الحال حتى بعد أن أعادوه لها جثة.. تزور قبره وتحدثه عن بناته وتعاتبه وتبكي وتتضرع إلى الله أن يحرق قلب قاتله على أبنائه كما حرق قلبها عليه، ثم تعود إلى البيت إلى نافذتها بانتظار عودته. أذكر أنني حين كنت أرافقها إلى المقبرة أتنافس معها على حجز مساحة لقبري جوار قبر حسن؛ أقول هذه الفسحة لي وتقول لي.. لقد سبقتني إليها الآن.. ولأن المقبرة امتلأت وآخر الأخبار أنهم قد بدأوا بمقبرة جديدة في البرية ذاتها التي كنت أضيّع فيها الأبقار فهذا يعني أنني لن أجد لي فسحة قبر معهما.. إنها أمنية أخرى ضائعة.

   بعد انتهاء الحرب وتسريحي من الخدمة العسكرية التي دامت ثلاثة أعوام مريرة. قالت: آن لك أن تستريح وتتزوج. عرضت أمامي أسماء أجمل بنات القرية قائلة اختر من تشاء وأنا كفيلة بالباقي. لكنني قلت لها: لا أحتمل البقاء هنا.. أريد الخروج من هذا البلد.. إنني أختنق..

   بكت، توسلت وحاولت بكل السبل. لكنني خرجت إلى الأردن سنة 1993 واعداً إياها بالعودة، بأقل وقت، بالمال كي أزوّج نفسي.. فكان صوتها وكلماتها تأتيني عبر رسائل أخوتي داعية إياي للعودة وأنا أؤجل وأؤجل.. الشهر القادم، وفي القادم أقول الشهر القادم.. لأنني حقيقة لم أكن أنوي الرجوع.. هكذا إلى أن ماتت في غيابي عام (1994)، فطعنني موتها وترك في نفسي شيئاً شبيهاً بالشعور بالذنب لأنني لم أف بوعدي لها ولم أحقق لها آخر أمنياتها بأن تراني بعد أن خذلتها في عدم زواجي، أشعر بقسوتي عليها.. هي التي كانت تسعى لتحقيق ما أتمناه فيما أنا لم أحقق لها حتى أمنية رؤيتي للمرة الأخيرة.. أخبروني أنها كانت تريد رؤيتي وتصرح بشوقها حتى آخر يوم في حياتها.. ولأنها ماتت في غيابي ولم أر موتها بعيني، مثلما رأيتُ موت أبي، لذا أشعر دائماً بأنها هناك.. إنها غائبة فقط أو أنني أنا الغائب عنها فيما هي ما تزال موجودة.. وأنني سأراها حين أعود.. لا أشعر بموتها حقيقياً.. ولأنني كنت ومازلت بشوق إليها ظل هذا الشوق في تعاظمه لرؤيتها حتى اليوم.. وأشعر بأنه سيلازمني حتى موتي.. فأرجو أن أراها هناك.. في الماوراء..                                              



*  حتى الآن لا أعرف تاريخ ميلادي بدقة، وكل ما عرفته هو العام الذي ولدتُ فيه وهو 1968 إلا أن أبي، عند التسجيل، قد زاد عمري عاماً كي أدخل المدرسة مبكراً، مستغلاً وجود أحد أقاربنا كموظف في دائرة تسجيل النفوس.

*  اعدم اخي الروائي(حسن مطلك)عام (1990) بعد اتهامه بالاشتراك بمؤامرة ضد السلطة.

العودة للفهرس