شخصية العدد

إمرأة القارورة

سليم مطرـ جنيف

 

هذا هو الفصل الثاني من رواية (إمرأة القارورة) التي صدرت عام(1990). لقد اخترنا هذه الشخصية لأنها تعبير روائي مكثف عن (الانوثة العراقية) بكل تجلياتها التاريخية والنفسية والانسانية، إذ ترتسم فيها معاني الامومة والاخوة والعشق، ببعديها، الالهي الخالد، والبشري الفاني.. في هذا الفصل مختصر كامل حياتها منذ عدة آلاف من السنين وحتى الوقت الحاضر. تحكيها لاحد احفادها الذي يعيش في جنيف وقد عثر عليها تعيش في قارورة منسية بين اغراض ابيه المنسية التي كان قد جلبها معه من بغداد. وها هي تحكي حياتها في القارورة وتجاربها مع احفادها:

ـــــــــــــــ

 

لو أصغيتم إلى جميع حكاياتها لما كفاكم العمر. عوالم تنبجس من عوالم، تواريخ تقود إلى تواريخ، بلا نهاية.

    حكت أنها كانت فتاة طبيعية مثل باقي البشر. اسمها(هاجر) وكانت تعيش بين شعبها في مملكة قديمة من أرض الجنوب تسمى (أور)، في حقبة أعقبت الطوفان الكبير الذي أغرق الأرض جمعاء. كان ابوها أميراً من سلالة الملك المقدسة. امضى حياته في محاربة قبائل الغزاة القادمة من الحدود. أما امها فكانت ابنة أمير إحدى القبائل المنحدرة من بادية الشام. منذ حقب طويلة استوطنوا أرض الجنوب وانصهروا بشعب الأهوار واشتركوا في ديمومة المملكة. شاءت الظروف أن يقع في حبها (تموزي) ملك دولتهم ويهيم بها رغم امتلاكه العديد من النساء والجواري. تزوجها وتولع بها وصار يغار عليها من أي بشر آخر، حتى من نساء وحاشية قصره! أسكنها وحدها في قصر منعزل بين الأهوار لا يتصل بها إلا بعض خدمها.                                        

      بلغ العشق بهذا الملك أنه منعها من الاحتفاظ بولدها الذي أنجبته منه، وأرسله الى قصره الرسمي ليعيش هناك بعيداً عن أمه. كان يقول لها إنه لا يحتمل أن يراها مثل باقي النساء، تلد وتعتني بالطفل وترضعه، ويترهل جسمها، ويرسم العمر خطوطه على وجهها. يريدها خالدة الشباب والجمال، ومنبعاً ابدياً للشهوة الطبيعية، محصنة من تشوهات الحياة وحماقات العمر. يريدها له وحده لا يشاركه بها حتى الزمن!

      كان هو الوحيد الذي يلتقيها. يمضي الوقت بإحتساء العرق معها بينما أنغام قيثار سومري تصدح في أرجاء القصر. كان يغيب في عوالم صوتها وهي تنشد أغاني البادية التي تعلمتها من أمها. يتمعن في جمالها، ويتمرغ بجسدها، ويذوب في النشوة إلى حد التعبد والتصوف وذرف دموع الوجد. كان يكلمها متضرعاً بين أحضانها:

ـ " ليتني نبي طوفان وأنتِ سفينتي.. ليتني كلكامش وأنتِ حلم خلودي.. ليتني معبد وانتِ إلهتي..إني فناء وأنتِ ابدية"!

      اخذ رعبه يتفاقم من فكرة أن معبودته ستهرم يوماً، تفقد نضارة شبابها، ويخطفها الموت إلى عوالمه السفلية المظلمة. قرر أن يدعو جميع سحرة وحكماء مملكته والممالك المجاورة. تعهد بمنح نصف ثرواته لمن يجد شراب الخلود لمعشوقته، ويحميها من آثار الزمن.

 

 

*       *        *

(بنت المعيدي) اللوحة الشعبية الشهيرة التي تصور (المعيدية) التي هربت مع حبيها الانكليزي.

الا تكون هذه الصورة في المخيلة  الشعبية  رمزا( للانوثة العراقية) التي استولى عليها (فحل) الاستعمار؟!

 

  خلال أعوام من العروض والتجارب، فشل جميع السحرة والحكماء في العثور على سرّ الأبدية. هيمن اليأس على الجميع، وكاد شيطان الحزن أن يسيطر على روح (تموزي) لولا أن أعلن أحد الحكماء نصيحته الأخيرة :

 ـ "على جلالته أن يرحل بنفسه، يتوغل في أعماق البادية، يبحث ويتصل بالشيوخ والحكماء المنعزلين في الواحات وكهوف الجبال الصخرية، لعله هناك يحصل على ما يبتغي".

    رحل الملك بجيش من خيرة فرسانه، بعد أن وكّل وزيره وصديقه إدارة المملكة. إصطحب معه معبودته (هاجر) ومعها كل ما يوفر لها الرغد والراحة ويقيها لهيب البوادي وجفافها. ظلوا يجولون ويتوغلون في الأعماق، يتصلون بقبائل البدو، يستشيرون النساك وحكماء الصحراء. كل حكيم كان ينصحهم بالإتصال بالحكيم فلان القاطن في الواحة الفلانية أو الهضبة الفلانية على بعد مسيرة كذا يوم أو أسبوع.

      كاد يغلبهم اليأس بعد عامين من التجوال دون جدوى. حتى أتى يوم التقوا شيخاً يقطن مغارة عميقة في جبل صخري احمر. كانت تشع منه هيبة أنبياء، طويل القامة، أسمر البشرة، جبهته عريضة بارزة وأنفه طويـل ناتىء، عيناه كحيلتان متوهجتان بخمرة إيمان، لحيته بيضاء، وشعر رأسه أبيض، تغطيه طاقية بيضاء، على كتفيه عباءة سوداء فوق ثوب فضفاض أبيض.

تقدم منه الملك وحدثه عن بحثه الشاق. دون ان ينبس الشيخ بكلمة، نظر إلى الملك وكأنه يقول له امنحني ثقتك وكفى. اشار إلى (هاجر) أن تتقدم منه ثم مسكها من معصمها وتوغل بها في أعماق مظلمة، وغابا عن عيني الملك المترقبتين المندهشتين!   

        بعد مسيرة وقت طويل في ممرات معتمة وجدت نفسها في باحة واسعة، أرضها من عشب اخضر فضي. الناظر إلى الأعلى يشاهد فتحة في وسط قبة عالية جداً، كأنها سماء يهبط منها شلال من شعاع شمسي وماء.

      ظل الشيخ واقفاً عند العتبة ويلقي بإشارات صامتة إلى المرأة. اطاعته بخشوع، تعرّت ووطأت أرض الباحة. تقدمت من الشلال المتساقط في قارورة خشبية صغيرة بحجم الكف موضوعة على الأرض. رفعت القارورة وضمتها إلى صدرها ووقفت محلها تحت النور والماء. نظرت حولها وانتبهت لأول مرة: عبر الشلال شاهدت جدراناً مبنية من حشود خيول جامحة، حمراء سوداء بيضاء، صفوف فوق صفوف تشكل بناء ثابتاً. رغم جموح داخلي، كانت تركض متجهة إلى السماء، إلى الفتحة لترتوي من نبع النور والماء!

 رفعت (هاجر) القارورة، وأغمضت عينيها، وراحت تشرب وهي تنصت لصهيل خيول متناغم كنشيد وحشي يصدح بالإرتواء. انتابها احساس غريب لم تعرفه من قبل! لأول مرة في حياتها تحس حقاً بوجود جميع مكونات بدنها: دمها وقلبها ورأسها وباقي أعضائها.. تدرك وتتحكم بكل حركة تقوم بها كما لو كانت أصابعها.. أحست أنها بذاتها تسبح في داخل بدنها.. كانت تعوم مع مجرى دماء هابطة من رأسها إلى صدرها وبطنها حتى تصل إلى ملتقى عجيب لعدد هائل من الأنهر.. كان مصباً عظيماً تمتزج فيه ألوان أنهار الحياة والشهوة لتشكل بحيرة هائلة، مياهها تتموج بكائنات هلامية من نور، تسبح وترتوي وتمارس الاندماج!

تركت هاجر نفسها تذوب بين تلك الكائنات، وراحت تغرق وتغرق حتى غابت تماماً عن الوعي...

     بعد انتظار طويل أقلق الملك وأتباعه، ظهر الشيخ من أعماق الظلمة مجللاً ببياضه وبسواده. عندما شاهده الملك قد عاد وحيداً، كتم خوفه، ومسك سيفه. تريث عند رؤيته ملامح الشيخ ناطقة برضى وعيناه تشعان ببشارة. اقترب الشيخ من الملك، وبصمت وقور قدم له القارورة!

     في تلك الليلة، وسط خواء البادية وعلى قمة جبل أحمر، فرشوا لـ(تموزي ) سريراً بأبسطة وملاحف من حرير. نصبوا كلة واسعة سقفها مفتوح على سماء زاهية، وتركوه وحده مع القارورة. خرجت له معبودته وهي لا تزال تعيش غيبوبة ذوبانها في البحيرة. دون أن ينبسا بكلمة التحما مع بعضهما، وغرقا بلذة جنونية حتى هامت صرخاتهما في السماء، وجعلت القمر يصبح بدراً والنجوم تتوهج أكثر والليل يكتسي بحمرة الحياء.

 

*      *        *

 

هكذا امضت (هاجر) حياتها الأولى مبتهجة بخلودها. يخرجها ملكها كل ليلة ليمارس معها طقوس عشقه وملذاته. امر نحاتي (اور) أن يصنعوا من هيئتها صنم (انانا - عشتار) إلهة الارض والخصب والجمال. كان يترنم أمامها بصلوات خشوعه لخلودها. يستعطف بركتها لحروبه، وعندما تشح الأمطار يقدم لها نذور الاستسقاء.

في عهده عمّ الرخاء البلاد، وتتابعت عطاءات نهري دجلة والفرات بغرينهما الأحمر، وغدت سنبلة القمح رمز بركة الملك وخصبه. وصل الأمر بالكهنة ان رفعوه إلى مرتبة إله.

في هذه الفترة تمكن الأكديون، اخوال (هاجر) من أن يحصلوا على مشاركة أكثر مع السومريين في إدارة الدولة والمجتمع، فكانت أولى الخطوات توحيد المعابد ومجمع الآلهة. كونوا ديناً واحداً تحت حماية (تموزي) الملك والإله، وعشيقته إلهة الحب والخصب والجمال.

ذات يوم فاجأت الكارثة ذلك الملك. كان مع بعض فرسانه وحاشيته يتجول في البوادي القريبة، يمارس رياضته المعهودة بصيد الأسود والغزلان. كانت ليلة كئيبة تخللتها ريح خريفية باردة اتت مبكرة على ميعادها. كان (تموزي) يستريح في خيمته في معسكر الصيد. كانت الحسان في خيمة مجاورة يعزفن على آلاتهن وينشدن ترانيم غزل ومديح. في اللحظة التي امتدت يده إلى القارورة، أحس بفحيح حارق وقوة جبارة تلتف عليه وتضغط بعنف على أضلاعه!

عندما هرع الحراس على صرخته المكتومة، شاهدوا ما لم يخطرفي البال : كان الملك يتمرغ بهلع ورعب وقد التفت عليه أفعى عملاقة رقطاء. كانت تحدق إليه بغضب، ولسانها المشروط ينقط دماً. كان (تموزي ) يحاول عبثاً أن يحرر نفسه من الأفعى، وتتخبط يداه بحثاً عن أي سلاح، وفمه فاغر قد شل رعباً واختنقت صرخاته. هرع الفرسان والجنود من كل صوب من اجل تخليصه. لا أحد كان يتجرأ على أن يرمي سهمه أو رمحه خشية إصابته. ظلوا يناوشون الأفعى بسيوفهم، وهي ما كفت عن التفافها على الملك وسحبه معها. كانت تزحف خارج الخيمة والمعسكر رغم جراحها إلا أنها لدغت جنديين وفارساً وشلتهم في مكانهم. استمرت في زحفها حتى وصلت إلى مقبرة مهجورة غير بعيدة عن المعسكر.

الجميع قد هبّوا وأحاطوا بالأفعى. الرجال كانوا يحومون حائرين يطلقوق صرخات رعب وعار أمام عجزهم عن إنقاذ ملكهم، والنساء نفشن شعورهن ومزقن ثيابهن وتمرغن بالتراب وقد استحالت أناشيدهن إلى نحيب استغاثة وتراتيل دعاء إلى الإله الأب(ايل) من إجل إنقاذ (تموزي ).

إستمرت الأفعى تزحف بين شواهد مقبرة يقطنها أسلاف منسيون، بينما كانت خطوط شفق نحاسية تضفي على قبور مخسوفة هيئة حيوانات منقرضة تفتح أشداقها لإبتلاع الاحياء. في واحد من هذه القبور، توغلت الأفعى وهي ترسم على وجهها ملامح ساحرة عاشقة تأوي إلى مخدع معشوقها.

في آخر لحظات غياب الملك في القبر، ارتسمت على وجهه ملامح عتب شديد وأطلق صرخة مبحوحة رجت في المقبرة وتداعت أصداؤها في سماء البادية:

ـ "لماذا..لماذا..  يا الهي خذلتني..؟!"

هكذا اختفى الملك، وأيقن الجميع أن (كيجال) إلهة العالم السفلي قد فجّرت غيرتها من (عشتار) براكين حقدها، لبست جلد أفعاها وخطفت (تموزي ) إلى عوالمها المظلمة.

*       *       *

 

هذه الميتة المباغتة لم تتح للملك وداع عشيقته، وتهيئتها لوضع جديد. ظلت غائبة في قارورتها لزمن لم تدركه، حتى انتبهت يوماً أنها تخرج من القارورة وأمامها ملك جديد!

كان مفعماً بشباب فيه الكثير من ملامح ملكها إلا أنه كان يتميز بصلعة خفيفة تبرز تحت طاقية تاجه. كان ثملاً يحدق بإندهاش في جسدها العاري الذي اصطبغ بلون نيران المشاعل المنثورة في القاعة. بشرته المحمرة وعيناه الجـاحظتان وشفتاه الغليظتان كانت توحي بمزاج عصبي وحسي وإرادة هوجاء ومجون وشهوة.

أشار إليها أن تقف. ألقى على كتفها شالاً حريرياً أسود، وأخذ يحوم حولها ويتأملها بشغف وجوع كذئب يفتش عن افضل نقطة ينهش منها فريسته. ثم ارتمى عليها وألقاها على البساط، اعتصرها بعنف وراح ينهش ثدييها ويرضعهما كطفل جائع. دون ان يخلع ثيابه، والشال الأسود يلتف على عنقها، ضاجعها بوحشية وعجلة وهو يصدر فحيحاً أقرب إلى النحيب، ثم انبطح على ظهره وغطى وجهه بالشال الأسود، مشيراً إليها أن تعود الى قارورتها.

هكذا استمر الحال. كل ليلة يخرجها ذلك الملك الغريب الأطوار، ثملاً عصبياً، يلقي عليها الشال الأسود، ويحوم حولها، ويرضع ثدييها، ويمارس معها همجيته. ودون كلام يدثر وجهه بالشال ويتركها تعود. حتى اتت ليلة أخرجها من القارورة وارتمى عليها باكياً، يقبل جسدها بتضرع وألم وهو يتمتم :

ـ "سامحيني.. سامحيني.. يجب أن أعترف لك.. أبوح لك بخطيئتي...".

 كانا آنذاك في قاعة القصر وقد تركت نوافذه مفتوحة لتنساب نسائم المساء الباردة. لحظة فتح فمه، تسرب من بعيد عواء ذئب! قال إنه ابنها الذي أبعدوه عنها بعد ولادته. صار ملكاً بعد موت أبيه المفاجىء. كان له ثلاثة أخوة من نساء أخريات، تخلص من منافستهم بعد أن بعث أولهم إلى ساحة الحرب وتدبر أمر اغتياله سراً وجعل منه شهيداً من أجل المملكة. اما الثاني، فقد أقنع إحدى عشيقاته بأن تضع سمّاً في شرابه ثم اتهم خصمه الوزير بهذه العملية وذبحه عند قبر أخيه. أما الثالث فقد تخلص منه بأن جعله يفقد عقله، إذ قدم النذور وقام بنفسه بذبح جارية عذراء على جرف الفرات فداءً لإله المياه العذبة الذي استجاب وسلط أمواج العشق على اخيه الشاب وخلب فؤاده وجعله يمضي عمره متسكعاً على شطآن الفرات يلقي بأشعار الهيام على قوافل القوارب المنحدرة في الشط الكبير الراحل الى الخليج.

 قال إنه منذ الليلة الأولى كان يظن بأن له علاقة قربى بها. كان قد سمع في طفولته نساء أبيه يتهامسن بحكاية القارورة وأمه المعتزلة في القصر المرمي بين الأهوار والبادية. عندما رآها تخرج من قارورتها لم يستطع أن يكبت رغبة دفينة في أن ينهش جمالها وكأنه بذلك ينتقم من أبيه الذي حرمه منها. إمتزاج حقده وشهوته جعله يخضع لنوازع حُب بدائي أصيل جاهل لأعراف الحضارة ومحرمات العقل.

 طلب من أمه الغفران. عاهدها بأن ينقذها من خلود القارورة ويرجعها إلى حياة الحرية الفانية. استشار جميع الكهنة والحكماء والنساك، من دون جدوى. الجميع أجابوا بالإستحالة:

ـ " ما ان يسترخي جسمها وتغمض عينيها حتى يستحيل كيانها إلى سائل تشربه القارورة. إن أبت الإسترخاء والنوم تهلك، وإن كسروا القارورة فإن المرأة تستحيل إلى سائل يتبدد في الأرض وتتبخر حياتها بين الغيوم".

 حُكم عليها أن تمضي خلودها في جوف القارورة وأحضان الأحفاد. الأعوام التي أمضتها مع ابنها، كانت أعوام قحط وجدب. فيضانات متتالية من النهرين أغرقت القرى والمدن ودمرت المزارع والبساتين. ثم أن (ايرا) اله الطاعون استثمر الحال لينفخ على بلاد (سومر واكد) كلها ريح الخراب، وأطلق وحوش الموت من اقفاصها، فأبادت الحشود بعد الحشود من البشر. من استطاع ان ينجو بنفسه، إما اختبأ بعيداً في أعماق الهور، وإما هرب غربا إلى البادية او شرقا الى الجبال المحاذية.

نصب (شركاوية) للفنان (خالد الرحال)

 

 لم تغفل اقوام الجبال الشرقية والبادية الغربية هذه الفرصة الثمينة. راحت تجول عابثة في الحواضر قاطعة الطرق. في يوم اسود، بعد أن تبدد جيش (سومر واكد)، وقضت الكوارث على الرجال، تمكن احد أمراء الجبال من اكتساح البلاد وتدمير ما تبقى من حياة. نشروا خراباً فوق خراب وسفكوا دماء فوق دماء. قتلوا جميع زعماء وشيوخ المدينة. حاصروا قصر الملك، وعندما عجزوا عن اقتحامه أحرقوه.

بينما كانت النيران تلتهم القصر، أخرج الملك أمه من القارورة، وبكى على صدرها واخبرها بقرار موته. رفض الهرب من النفق السري المؤدي إلى اطراف المدينة. قال إن موت مدينته وشعبه هو موته. لم يعد راغباً في الحياة بعد الكوارث التي حدثت بسبب خطاياه. كان يؤمن بأن دماءه ستغسل عن أرض البلاد اسباب نكبتها. 

    ودّع امه وسلمها إلى اتباعه لتعيش مع ابنه الذي  هرّبه الى الأهوار. عندما امسكه الغزاة، لم يدرك بأنهم يصلبوه على جذع محروق كان من بقايا تلك النخلة التي شهدت قبل ثلاثين عاماً لحظات جنونية زرع في أثنائها أبوه (تموزي ) بذرته في بطن هاجر.

ذات يوم، وجدت هاجر نفسها امام حفيدها الذي ورث القارورة عن أبيه القتيل. كان فتىً يافعاً قاسي الملامح حنطي البشرة وذا عينين عسليتين ثاقبتين كعيني بحار عجوز. ورث طبع الصرامة والصبر عن أم قادمة من جبال الشرق وماتت بالطاعون، وورث عن أبيه شهوانيته وملامحه الشرسة، أما عن جده فقد إكتسب طبعاً روحانياً وميلاً للإيمان بعقيدة.

     هناك بين أحراش قصب البردي التي لم يطأها بشر، أقام جيشاً من الهاربين، وأعلن العصيان من اجل طرد الغزاة. كان يتسلى بصيد الجنود، يتركهم احياء، ثم يخرج جدته من القارورة ليجبرها على ان تشفي غليلها برؤيتها موت سافكي دماء قومها. كان يقطع أعضاءهم ويشويها ويجبرهم على أكلها. يتركهم معلقين حتى الرأس في الماء ليهترئوا حتى الموت. يضعهم عراة في قفص كبير ويهد عليهم العقارب والأفاعي السوداء (العربيد)!

      في كل مرة ينتهي من حفلة موت، يختلي بـ(هاجر) في قارب (مشحوف) مفروش ويضاجعها وسط القصب وأفاعي الماء وهفيف الطيور وصرخات الخنازير الوحشية.

*      *       *

 

      هكذا ظلت (سيدة القارورة) لآلاف من الأعوام تتنقل من ارض إلى أخرى ومن حضن حفيد إلى حضن حفيد آخر. أجيال أمضتها بين الأهوار، وأجيال أخرى في الجبال وفي البوادي وبين البحار. خلال أكثر من خمسة آلاف عام توارثها أكثر من مئة وخمسين عشيقاً من أحفادها حتى ورثها (آدم ) عن أبيه! كانوا أحفاداً من ملوك وقطاعي طرق وأنبياء وعبيد وشعراء ومزارعين ومعتوهين. خلال مئة وخمسين جيلاً عرفت الكثير من الأقوام والأوطان في آسيا وافريقيا واوربا.

    أحد الأحفاد تطوع في الجيش المصري الذي كان يحتل بلاد سوريا، فوجد نفسه يستقر على ضفاف النيل. عاشت (هاجر) مع احفادها في مصر بضعة أجيال. من خلال مخزون جدتهم من الحكايات والأخبار والمعلومات، تمكن هؤلاء الأحفاد ان يصبحوا جزءا من العوائل الفرعونية الحاكمة. بعد ان اجتاح جيش الآشوريين مصر وقعت ام احد الأحفاد اسيرة لدى الغزاة. فضلت ان تخفي حقيقة ابنها لكي تحافظ على حياته، فإدعت بأنها احدى عبيد القصر. وجد الصبي نفسه يفصل عن امه وينقل اسيرا الى بلاد النهرين ليصبح عبدا لدى احد اشراف مدينة (اور) في جنوب البلاد.

لم يعرف احد بأن هذا العبد الأسير الأسمر البشرة هو من نفس نسل هذا النبيل السيد الأبيض البشرة! لكن (هاجر) بذكراتها الدائمة الخصب اخبرت حفيدها بهذه الحقيقة المنسية. قالت أن هذه البلاد هي موطن اسلافه وجده الأول (تموز). كانت تتأمل بكشفها هذا ان تقنع حفيدها بقبول الأمر الواقع، لكن النتيجة كانت العكس، إذ قرر الحفيد ان يعلن عصيانه على سيده الذي سخر من كلامه وعاقبه بقطع يده.

    كادت ان تنقطع سلالة ذلك العبد المالك للقاروة لأنه رفض ان يقترن بإمرأة. لكن (سيدة القارورة) تمكنت من إقناعه بمعاشرة احدى بغايا المعبد، لكي تجد من يتوارثها من الأحفاد ويحافظ على خلودها. شاء القدر ان تكون هذه البغي ذات عقل شيطاني، فما ان ادركت بأنها حامل من ذلك العبد الأسير حتى تمكنت من معاشرة نفس سيده واوقعته بحبالها واقنعته بانها حامل منه. فولد الطفل في عائلة نبلاء دون ان يشك احد بأن ابيه هو ذلك العبد الأجنبي المقطوع اليد.

يمضي الزمن ليهرب أحد الأحفاد مرة اخرى إلى أهوار الجنوب. لم يكن وريث ملك هذه المرة كجده قبل ألف عام، إنما زعيم عصابة قطاعي طرق ومهاجمة القوافل. فرض سلطانه على القرى المحيطة وتزوج عشرات النساء المخطوفات وأنجب قبيلة من الأشرار وتصاهر مع عشيرة قادمة من البادية المحاذية. كلما اندلعت في روحه نيران شوقه إلى المجهول، كان يخرج (هاجر) من قارورتها لتحكي له عن اسلافه الذين عاشوا هنا قي احقاب مختلفة. بعد كفاح دام لاعوام واعوام تمكنت هذه العشيرة ان تسيطر على بابل وتؤسس السلالة الكلدانية.

 

كالعادة بعد اجيال واجيال من الغنى والبذخ تفشى الانحطاط في هذه السلالة ودولتها، حتى تمكن الاعداء من اسقاط بابل. لكن الملك الكلداني الاخير الذي يدعى (نبونيد) تمكن من الهرب الى (التيماء)عاصمته الروحية الواقعة في اواسط الصحراء. كان هذا الملك زاهدا بالحكم ومؤمنا برسالة التوحيد. هنالك هو واتباعه امتزجوا مع قبائل الصحراء وراحوا يسنشرون ايمانهم العرفاني. 

هكذا بفضل ما تعلمه الاحفاد مما كنزته لهم (هاجر) من معارف الأسلاف، بالإضافة إلى تجاربهم ومعارفهم، نشروا كلمة التوحيد بين الواحات. صار احدهم حكيما بين قومه وراح ينشر دينه بين بين قبائل الجزيرة داعياً إياهم إلى الاستقرار ونبذ الحـروب وروح الغزو والاستلاب. كان يقول:

ـ "إن كانت روح الإنسان تستقر في بدنه، فإن روح القوم تستقر في أرضهم، كذلك تستقر روح الاله في بدن الكون. لن تستقر روحكم إلا بإستقرار بدنكم. أية أرض تفتح لكم بواطنها استقروا فيها واحرثوها، لتكون لكم زوجة خصبة وأماً راعية. عطاء الأرض ورزقها يأتينكم بمباركة الرب، فإبتنوا له بيتاً بين بيوتكم، يبارك أفعالكم..ويكون لكم أبا حاميا".

   أثناء الليل شاهدوا حجراً مشتعلاً يسقط من السماء، فعرفوا انها إشارة الاله. حول ذلك الحجر ذبحوا كبش فداء وابتنوا معبداً وبيتاً للرب، ثم ابتنوا بيوتهم واستقرَوا.

   هناك تكاثر الأحفاد وكونوا سلالة(قريش) التي تزعمت القبائل وامتلكت كعبة التوحيد. ان (سيدة القارورة) امهم الخالدة هي التي كانت تنقل للأحفاد ميراثهم المنسي وتلهمهم المشاريع الطموحة. حدثتهم عن تواريخ اسلافهم الأوائل وكيف تمكنوا من صنع امجادهم في اور وبابل ونينوى. علمتهم ان يجعلوا معبد المدينة يضم اصنام قبائل الجزيرة كلها، لكي تصبح (مكة) اولى مدن التوحيد. معارف احد الأحفاد التي اكتسبها من حكايات جدته جعلته يعتكف على التفكر في أحوال الخليقة. عندما صار كاهن الكعبة الأكبر، حاول ان يضفي على عبادة الأوثان شيئاً من الإيمان بالله الواحد الأحد. أمر النحات بصنع أصنام كبيرة لـ(اللات وعزى وهُبل ) لتكون أرباباً كبرى تسمو على جميع أرباب الجزيرة، وهي الوحيدة القادرة على أن تكون الوسيط بين الإنسان ورب الكون.

 

 بعد زمن هاجر احد الاحفاد الى سورية هربا من قصة عشق خائبة. اصبح راهبا في الوقت الذي كانت فيه المسيحية طائفة متمردة  في طورها الأول. استقر في دير في بادية حوران. كان متعبداً لا يعرف من المرأة غير صورتها الشيطانية المغرية، بإستثناء البتول(مريم)،مانحة حنان وطهر ورحمة أبدية. يوماً اكتشف قارورة أسلافه بين متاعه. عاش أشد فترات عذابه وهو يكافح شهوة عربيدة كانت تستعر في كيانه كلما أخرج (هاجر). كان يأبى أن يلمسها وكاد ان يسلمها إلى الراهب الأكبر على أنها شيطان متنكر بهيئة حواء، لولا أنه اقتنع أخيراً بأنها حقيقة جدته الكبرى وعشيقة اسلافه. يوماً شرب نبيذاً وذرف دموعاً أمام أيقونات المذبح وغرق في تأمل صورة السيدة العذراء. كانت ترانيم تنبعث من بين ممرات الدير تمر على قلبه وتنشر حيرته في أرجاء الصحراء. لم يدر كيف حدث الأمر. خلال غبش دموعه رأى العذراء تنبجس من أيقونتها وتتجسد أمامه على صورة إلهة للجمال والعذرية. كانت تستر مفاتنها بشال مخملي أسود، وحدثته بصوت مفعم بشفقة ودفء أمومي:

ـ"حان الوقت يا ولدي ان ترحل من هنا.. بعث لك الله ملاك خصبه ورحمته.. ارحل بعيداً لتنتشر في الأرض كلمة الرب من افواه نسلك".

     نصحته (هاجر) ان يرحل الى الجبال القريبة لينشر بين الناس كلمة الله. هنالك استقر وتزوج إمرأة كردية وخلف منها العديد من البنين والبنات وانتشر احفاده بين الجبال وعلى شطآن دجلة والفرات.

   استمرت القارورة تنتقل مع احفادها بين ازمان واوطان، عاشت مع احفاد في الهند والصين وتركستان، واحفاد زنوج افارقة وشقر صقالبة.. احفاد وثنيون وبوذيون وهندوس ومسيحيون ويهود وصابئة...

     بعد اجيال واجيال انتهى مصير احد الاحفاد اسيرا بربريا اندلسيا في بلاد الغال، اعتنق المسيحية وتزوج واستقر وخلف العديد من البنون والبنات. عندما كان يحتضر على الفراش، نادى ابنه الأوسط الذي كان شاباً يافعاً مفعماً بروح المغامرة وعشق النساء وأحلام السفر والترحال بين مقاطعات أوروبا. ناوله القارورة وهمس له بصوت مشرف على الانطفاء: (((انها لك.. إن كان الزمن قد غصبني على التناسي فأنت يا ولدي لن تنسى وستكمل عني تاريخي... خذها وستحكي لك عن حلم ستبقى فيه روحي خالدة...)).

بعد تجارب أعوام وأعوام من الترحال والسجن، تمكن من تحقيق حلم أبيه عندما وصل إلى بلاد النهرين التي دلته عليها (هاجر).

 هكذا ظلت (سيدة القاروة) خلال قرون وقرون تمضي الأجيال من "حفيد ـ عشيق" إلى نسله. مهما اختلفت شخصياتهم وطبائعهم ومذاهبهم الا ان معشوقتهم تظل السرّ الأبدي الذي يجتمعون عليه ويستمدون منه جذرهم ارواحهم. عبر قرون وقرون، قادوا ثورات عبيد، وصاروا شعراءا وصعاليكا وجنوداً وملوكا ومتصوفين. عاشوا النعيم والجحيم، وبعضهم ماتوا بسلام وبعضهم صُلبوا وأحرقوا ورميت جثثهم في القيعان، وأمهم الكبرى رفيقتهم في حروبهم وسجونهم وقصور غناهم. ظلّوا جيلاً بعد جيل يتوارثونها حتى دار الفلك ليهرب أحد الأحفاد من مذابح المغول في بغداد إلى أهوار الجنوب. استقر هناك مع ذريته، واختلطوا مع العشائر، تناسلوا وانتشروا وعمروا مدناً وقرى.. واستمرت الحياة حتى وصل الدور إلى والد (آدم) الذي اخذ القارورة من بقايا حاجيات ابيه المتوفي وترك اهوار العمارة ليستقر في بغداد.

العودة للفهرس