(شخصيات تاريخية)

الامام ابو القاسم الخوئي..  الآذربيجاني الذي انتمى للعراق..

صباح عادل الموصلي ـ بغداد

نحاول بين حين وآخر ان نحتفي بشخصيات اجنبية عاشت في العراق وانتمت اليه حياة وثقافة ضميرا. فكما هو معروف ان بلادنا تعتبر واحدة من اكثر بلدان العالم التي حتم عليها موقعها الجغرافي وبيئتها الخصبة وقيمتها الحضارية، ان تكون مركز استقبال ووطن لما يحصى من الافراد والجماعات التي هاجرت اليها، سلما وغزوا، طيلة التاريخ. وهذه الميزة الاستقبالية المنفتحة لبلاد النهرين، هي السبب الاول التي جعلت العراقيين يمتلكون هذه الروح الابداعية الجياشة الباحثة عن التجديد والتنوع، وجعلت التراث العراقي واحدا من اكثر تراثات البشرية غنا وتنوعا. وبدل ان تكون هذه الميزة التنوعية في الاعراق والثقافة التي تتحلى بها امتنا العراقية، عامل افتخار وتقدير، فأنها للاسف اعتبرت من قبل الفكر القومي العنصري الذي سيطر على العقل العراقي، عامل ضعف وسببا للشعور بالنقص. وهذه العقلية العنصرية هي التي شوهت تاريخنا الحضاري واعتبرت كل مصائبنا بسبب(الموالي الاعاجم)!! وكذلك بررت سياسة الشك والاحتقار والعداء ضد كل من لم يثبت نقاءه العروبي..  أي، وياللمفارقة، عليه ان يثبت بأن اجداده قادمون(ليس من العراق)بل من(الجزيرة العربية)؟!! رغم ان الرسول(ص)، والقرآن الكريم نفسه، قد دعانا الى تجنب هذا الفهم العنصري، عندما اكدا على ان(العروبة) هي(عروبة اللسان والضمير) وليست عروبة الاصل والفصل!!

ان الشرائع الانسانية الحديثة تجيز اكتساب الجنسية لكل اجنبي قطن البلد بضعة سنوات، بينما للأسف ان العقلية القومية العنصرية كانت تحرم هذا الحق من شخصيات انتمت للعراق حياة وثقافة وضميرا، بل تم تبرير طرد مئات الآلاف من العراقيين(الفيلية) رغم انتمائهم للعراق منذ اجيال طويلة !!(ميزوبوتاميا)

سجل لنا التاريخ القديم والحديث الكثير من الشخصيات من اصول غير عراقية، لكنها استقرت في بلادنا وتبنت ثقافته وانتمت الى اهله، ومن هؤلاء الامام(ابو القاسم الخوئي). ولد(ابو القاسم) في ليلة النصف من شهر رجب سنة 1317هـ الموافق 19/11/1899م، في مدينة خوي من اقليم آذربيجان في ايران. أي ان لغته الام هي اللغة الآذربيجانية المشابهة الى لغة تركمان العراق. والسيد الخوئي من عائلة ذات اصول علوية(موسوية)، أي منحدرة من سلالة الامام(موسى الكاظم) والتي هاجرت في الماضي مثل الكثير من العراقيين ولاسباب مختلفة واستقرت في ايران. علاقات الجيرة والحدود المشتركة بين ايران والعراق، حتمت هجرة الكثير من الايرانيين الى العراق، وهجرة الكثير من العراقيين الى ايران. ومن هؤلاء العراقيين ظهرت جميع العوائل(العلوية) أي(السادة) الذين لعبوا ولازالوا يلعبون دورا اساسيا في قيادة النخب الدينية والفعالة في ايران.

 قام السيد الخوئي وهو ابن الثالثة عشرة بالهجرة الى العراق للألتحاق بوالده العلامة المغفور له آية الله السيد علي اكبر الموسوي الخوئي الذي كان قد هاجر قبله الى النجف الأشرف، حيث كانت المعاهد العلمية في النجف الأشرف هي الجامعة الدينية الكبرى التي تغذي العالم الاسلامي كله وترفده بالآلاف من رواد العلم والفضيلة. انضم سماحته وهو ابن الثالثة عشرة الى تلك المعاهد، وبدأ بدراسة علوم العربية والمنطق والاصول والفقه والتفسير والحديث. أي انه اختار العراق منذ صباه، ومنذ ذلك الوقت وحتى وفاته ظل متمسكا باختياره وانتماءه العراقي، هو وابناءه من بعده.

دوره الثقافي والمرجعي

نال السيد الخوئي درجة الاجتهاد في فترة مبكرة من عمره. وقد تتلمذ على يد شخصيات معروفة في الفقه الجعفري، مثل(آية الله الشيخ فتح الله المعروف بشيخ الشريعة)و(آية الله الشيخ مهدي المازندراني)و(آية الله الشيخ ضياء الدين العراقي) وغيرهم.

 بعده نيله درجة الاجتهاد شغل منبر التدريس لفترة تمتد الى أكثر من سبعين عاماً، ولذا لقب بـ "أستاذ العلماء والمجتهدين".مثل كل فقهاه الشيعة الجعفرية، قام السيد الخوئي بالتدريس في مدارس النجف. يمتاز سماحته بمنهج علمي متميز واسلوب خاص به في البحث والتدريس. كان يطرح في أبحاثه الفقهية والاصولية العليا موضوعاً، ويجمع كل ما قيل من الأدلة حوله، ثم يناقشها دليلاً دليلاً، وما أن يوشك الطالب على الوصول الى قناعة خاصة، حتى يعود الامام فيقيم الادلة القطعية المتقنة على قوة بعض من تلك الادلة وقدرتها على الاستنباط، فيخرج بالنتيجة التي يرتضيها، وقد سلك معه الطالب مسالك بعيدة الغور في الاستدلال والبحث، كما هو شأنه في تأليفاته القيمة، بما يجد المطالع فيها من تسلسل للافكار وبيان جميل مع الدقة في التحقيق والبحث، ولذا فقد عُرف بعَلَم الاصول والمجدّد..

 

 

 

 

 

 

 

اختير السيد الخوئي(قد)مرجعا اعلى للطائفة الشيعة بعد وفاة المرجع الاعلى الامام محسن الحكيم(قد) عام 1969

وفي هذه الصورة نشاهد الامام الحكيم(وسط ماسكا بالعصا) مع ابنائه الذين استشهد معظمهم في الكفاح ضد الدكتاتورية، وآخر من استشهد منهم الامام السيد(محمد باقر الحكيم) ويبدو خلف والده مباشرة..

 جمع(ابو القاسم)من حوله طيلة فترة تدريسه اعداداً كبيرة من طلبة العلوم الدينية والاساتذة اللامعين، ينتمون الى بلدان العالم المختلفة، فكان هناك طلاب من سوريا ولبنان والاحساء والقطيف والبحرين والكويت وايران والباكستان والهند وافغانستان ودول شرق آسيا وافريقيا مضافاً الى الطلبة العراقيين. لم يكتف سماحة الامام بتغذيتهم علمياً وثقافياً، ورعايتهم روحياً، بل امتد ذلك ليشمل تغطية نفقاتهم المعيشية من الحقوق الشرعية التي كانت تصل اليه، وهكذا فقد أسس سماحته مدرسة فكرية خاصة به ذات معالم واضحة في علوم الفقه والتفسير والفلسفة الاسلامية والبلاغة وأصول الفقه والحديث

لقد تتلمذ بين يدي سماحته عدد كبير من أفاضل العلماء المنتشرين في المراكز والحوزات العلمية الدينية الشيعية في أنحاء العالم، والذين يعدون من أبرز المجتهدين من بعده، ومنهم:آية الله السيد علي البهشتي ـ العراق.ـ آية الله الشيخ ميرزا جواد التبريزي ـ ايران. ـ آية الله السيد محمد رضا الخلخالي ـ العراق. ـ آية الله الشيخ محمد اسحاق الفياض ـ باكستان.7 ـ آية الله الشيخ ميرزا علي الغروي ـ العراق. ـ آية الله الشيخ محمد آصف المحسني ـ افغانستان.ـ آية الله السيد علي السيد حسين مكي ـ سوريا.ـ آية الله السيد تقي السيد حسين القمي ـ ايران.ـ اية الله الشيخ حسين وحيد الخراساني ـ ايران. ـ آية الله السيد محمد حسين فضل الله ـ لبنان. ـ آية الله السيد علاء الدين بحر العلوم ـ العراق.ـ آية الله المرحوم السيد محمد الروحاني ـ ايران.ـ آية الله المرحوم الشيخ ميرزا يوسف الايرواني ـ ايران.ـ آية الله المرحوم السيد محي الدين الغريفي ـ البحرين.ـ آية الله الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم ـ العراق.ـ آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر ـ العراق.وغيرهم كثير من السادة العلماء والمشايخ كبار وأفاضل الأساتذة، ممن تتلمذ على الامام مباشرة أو على تلامذته في جميع الحوزات العلمية الدينية المعروفة.

السيد الخوئي في شبابه( جالس الثاني على اليمين) اوائل القرن العشرين في النجف الاشرف

 

كذلك ألف السيد الخوئي عشرات الكتب في شتى الحقول العلمية المختلفة نذكر المطبوع منها: ـ أجود التقريرات، في اصول الفقه.ـ البيان، في علم التفسير. ـ نفحات الاعجاز، في علوم القرآن.ـ معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، في علم الرجال، في 24 مجلداً.ـ منهاج الصالحين، في بيان أحكام الفقه، في مجلدين وقد طبع 28 مرة.ـ مناسك الحج، في الفقه. ـ رسالة في اللباس المشكوك، في الفقه..  وغيرها الكثير.

آلت إليه مرجعية الطائفة الشيعية في العالـم بعد وفاة السيِّد الحكيم سنة 1390هـ. أبدى اهتماماً كبيراً بالجوانب الاجتماعية، فأسس الكثير من المؤسسات الخيرية في الكثير من دول العالـم، التي أخذت على عاتقها نشر الثقافة الإسلامية، والاهتمام بتوفير الأجواء الإسلامية للمسلمين في تلك البلاد. تمكن من المحافظة على وجود واستمرار استقلالية الحوزة العلمية في النجف الأشرف، ومواجهة جميع الضغوط الشديدة التي تعرضت لها، وشارك في دعم الانتفاضة الشعبية التي حدثت في العراق سنة 1411هـ، فاعتقلته السلطات الحاكمة بعد إخماد الانتفاضة، ثُمَّ أطلقت سراحه. أكمل خلال عمره الشريف، وخلال أكثر من نصف قرن من التدريس للبحث الخارج دورتين كاملتين لمكاسب الشيخ الأنصاري، ودورتين كاملتين لكتاب الصلاة، وبحوثاً وأبواباً متنوعة من كتاب العروة الوثقى، وأكمل في علم الأصول ست دورات كاملة. توفي(قدس سره) عصر يوم السبت 8 صفر 1413هـ 8/8/1992م، في مسكنه في الكوفة، منعت السلطات الحاكمة أن يُقام له تشييع عام، وأجبرت أهله على دفنه ليلاً، فدفن في مقبرته الخاصة في جامع الخضراء في النجف الأشرف. قال عنه السيِّد علي السيستاني: «كان أعلى اللّه مقامه، نموذج السلف الصالح، بعبقريته الفذّة، ومواهبه الكثيرة، وملكاته الشريفة، التي أهلته لأن يعدّ في الطليعة من علماء الإمامية، الذين كرسوا حياتهم لنصرة الدين والمذهب».

 

العودة للفهرس