الحج ودروس اللاعنف..

خالص جلبي ـ كندا

            

    

   يودع المسلمون عيد الأضحى وينصرف البشر المجتمعون في هذه التظاهرة السنوية الى أقطارهم، مشحونين بمزيج من مشاعر الشحن الروحي، والتعبئة السلامية، والتدريب على محاربة الشر.
كانت التضحية بالحيوان ترميزاً لإحياء ذكرى الإعلان الإبراهيمي قبل أربعة آلاف سنة بالتوقف عن تقديم القرابين البشرية، وتوديع عقلية العالم القديم، في حل المشاكل بالعنف، لذا كان الحج في ترميزه المكثف، تدريباً سنوياً لشحن الانسان بالروح السلامية، فالمظهر متشح بالبياض، والكعبة أصبحت بيت الله الحرام، فيحرم ممارسة العنف بكل أشكاله وامتداداته، فلا جدال في الحج، الجدال بمعنى التنازع والتوتر، وينعم الجميع ببحيرة للسلام في أرض غير ذي زرع، ويأمن الطير والدواب والانسان على أنفسهم من العدوان، بعد أن كان الناس يُتخطفون من حولهم، ويمتد السلام من النفس الى البيولوجيا فلاينتف الشعر أو تقص الأظافر، وينتهي بتدشين تجربة على ظهر الأرض، سنوية لاتقبل الإلغاء أوالتأجيل، للسلام الزماني المكاني، في البيت الحرام من خلال الأشهر الحرم.
وعندما دشن إبراهيم عليه السلام هذه التجربة وصمدت خلال آلاف السنين، كان يريد تعميم هذه التجربة على ظهر الأرض، في كل الأوقات، لتحول الأرض كلها الى أرض حرام يحرم فيها سفك الدم وتقديم القرابين البشرية، وتتحول الأشهر كلها الى أشهر حرم.
الحج إذاً احتشاد تظاهرة(الانسان) لإيقاف تقديم القرابين البشرية، وتدشين السلام العالمي من خلال هذه التجربة الانسانية الفريدة، التي يتم فيها التدريب سنوياً على استخدام هذه(الأداة) السلمية لحل المشاكل بين بني البشر.
عندما يرجع(الانسان) من مركز الشحن والتعبئة الروحية، والقيام بتدريب سنوي مكرر للجنس البشري للمحافظة على بقعة في العالم تتمتع بالحرمة المكانية الزمانية، من أجل تعميم ونشر ومد هذه التجربة الناجحة في العالم، يمكن نقل هذا الاسلوب الانساني، ورفع مستوى الخلاف وطريقة حله الى مستوى انساني، بتبني الاسلوب السلمي.
وقد يتساءل أحدنا ومتى كانت الطريقة السلمية بديلاً عن توازن الرعب المتبادل، فدورات النزاع وجولات الحرب في التاريخ، بقيت بعيدة عن الاستفادة من درس الحج، في ممارسة اللاعنف وتدشين السلام.



والجواب على هذا أن هذا الاسلوب الابراهيمي القديم سيبقى مصدراً للطاقة الروحية، لانه أداة انسانية في اسلوب حل المشاكل. ويمكن الاستفادة من هذه(الأداة) في كل حقول الصراع الانساني، ونتائج مباركة لاتقارن باسلوب التدمير المتبادل.
العنف المتبادل في الصراع الانساني لايحل المشاكل بل يزيدها تعقيدا، فهو ينطلق مغذى من مشاعر الكراهية والحقد، والخوف من الآخر، فيولد مثيله فهذه هي آلية عمل المشاعر، فالحقد يولد الحقد، والكراهية تغذي مثيلها، والدم يفجر الدم، في دائرة صراع تمسك حلقاتها ببعضها البعض، وتغذي أطرافها نفس المشاعر، في ساحة لاتسمح الا بوجود طرف واحد. وفي صورة وأسلوب المقاومة السلمية أو درس اللاعنف من الحج يفضي الى التوازن وحل المشاكل، لانها لاتعتمد آلية الكراهية التي ترتد على نفسها بل الحب والتسامح مع الطرف الآخر، وهي صورة مشاركة، فهي استراتيجية تعتمد ترك الهامش أوالباب مفتوحاً في ظهر الآخر. ليس كسر وثني ذراع الآخر بل التقاء الإرادتين في النهاية.
ولكن لماذا تعجز آلة العنف عن حل مشاكل النزاع الانساني وتنجح آلية اللاعنف بشكل مدهش ? إن هذا يدفعنا الى تفهم الآلية السيكولوجية.
آلية العنف تعتمد كسر إرادة الخصم، وآلية اللاعنف والمقاومة السلمية تعتمد ليس إلغاء إرادة الآخر، بل اجتماع الإرادتين وتعاونهما. آلية العنف تعتمد مسح الآخر وتهميشه بل وتحطيمه والسيطرة عليه وإلغاءه الكامل، في وهج مشاعر الغضب والحقد والكراهية والانتقام، في ساحة التدمير والدم والقتل والأذية المتبادلة والحرب والنار واللهب والدموع وميادين الحروب بما فيها الأهلية، وآلية المقاومة السلمية تحافظ على الآخر وكل ماتريده هوايقاظ ضميره.

 

العودة للفهرس