عيد الربيع.. نيروز..عيد كل الامة العراقية..

(ميزوبوتامياـ جنيف)*

 يتميز هذا العيد، بميزتين نادرتين على المستوى العراقي: اولا انه من اقدم الاعياد العراقية على الاطلاق حيث ظل يحتفل به اسلافنا بصورة رسمية وشعبية منذ خمسة آلاف عام وحتى الآن، مع اختلاف التسميات والشكليات والتبريرات الدينية والشعبية. وثانيا، انه من اكثر الاعياد شمولية لجميع فئات الامة العراقية، من عرب واكراد وتركمان وسريان وصابئة ويزيدية وفيلية، وغيرهم..  كل فئة تحتفل به، بتسمية معينة وحجة دينية وتاريخية مختلفة وخاصة بها، ولكن الجميع يحتفلون بهذه الفترة بانبثاق الخضرة والربيع وانتشار الخصب بمعانيه البيئية والروحية..

الاحتفال بعيد الربيع في العراق القديم

 

تاريخ العيد

ظل العراقيون يحتفلون بعيد الربيع في سومر وبابل وفي نينوى لحوالي ثلاثة آلاف عام حتى انتشار المسيحية. لقد سماه السومريون(زكموك) وفي بابل ونينوى(اجيتو - الحج) أي عيد رأس السنة. ويبدأ العيد في اول يوم من السنة حسب التقويم العراقي الذي يعتبر يوم المنقلب الربيعي ويصادف الآن(21 آذار) بينما كان يعتبره العراقيون اليوم الأول من شهر(نيشان - نيسان) أي يوم ظهور نيشان وعلامة الربيع. في هذا اليوم يتحرر(تموز - اله الخصب الذكوري) من قبره في ظلمات الارض، ليظهر الى السطح ويخصب(عشتار) الهة الارض والأنوثة، فتنبثق الحياة ويظهر الربيع. كان الكاهن العراقي الأعظم يصلي للأله(مردوخ) ومعناه(مار وضوح ـ سيد الوضوح أي اله النور). ويقوم الكهنة الآخرون بالطقوس الدينية الأخرى لأيام متتالية. ويستمر العيد لعشرة ايام وفي اليوم الأخير تتم تلاوة أسطورة الخليقة وتقدم الصلوات والقرابين في اليوم الخامس. كما كان الملك يقدم تقريرا عن إنجازاته في السنة المنصرمة، ويطلب من الإله مردوخ المغفرة لذنوبه وآثامه. وفي المساء يذبح ثور أبيض رمز الفحولة وليسقي دمه الارض. وفي اليوم السادس تنظم مسيرة ضخمة في شارع الموكب حيث يتم إحراق دمى ملونة بعد الانتهاء من المراسيم الرسمية. وفي اليوم العاشر يتم الاعتراف بشرعية حكم الملك من قبل الإله مردوخ. كانت المواكب التي تحمل تماثيل الآلهة تعود إلى بابل عبر الطرق البرية ولهذا أمر الملك نبوخذنصر ببناء شارع الموكب الذي كان يمتد من دار العيد إلى باب عشتار. وخلال ايام العيد يعم الفرح بين الناس وتباح

الكثير من الممنوعات.

 

اكراد في (راوندوز) يحتلفون بالربيع(نيروز)، لاحظ وضع النساء المتلفعات بالسواد مثل معظم العراقيات، على عكس مما يشيعه بعض العنصريون !!

 

انتقلت تقاليد الاحتفال بهذا العيد إلى الشام مع انتقال الميراث السومري إلى الساميين ومنها على سبيل المثال لا الحصر عبادة(تموز) أو أدونيس(بعل) مع عشتار. ولا يقتصر تأثير هذا العيد عند هذا الحد بل يظهر أيضا بشكل واضح في الاحتفال المسيحيةبعيد(الفصح ـ أي الطبيعة التي تفصح وتتفتح في الربيع) المسيحي الذي يعتبره المسيحيون عيد القيامة، أي عودة السيد المسيح إلى الحياة بعد صلبه تماما مثل الاحتفال بقيامة(تموز) وعودته إلى الحياة ليعود معه الربيع والخصب. واعتبر العباسيون عيد الربيع عيدا رسميا ولكن مع تبني اسمه الفارسي(نوروز) وأصبح الاحتفال بهذا العيد أمرا شائعا ورسميا في بغداد العباسية.

 

العراقيون يحتلفون بالربيع في العهد العباسي

 

انتشار هذا العيد في انحاء الشرق

لقد انتشر هذا العيد العراقي لدى شعوب آسيا الآرية والتركستانية بعد سقوط بابل على يد الفرس(539 ق.م) حيث اقتبس الفرس هذا العيد مع ما اقتبسوه من ميراث الحضارة العراقية العريقة من كتابة ولغة وعلوم وفنون ومعتقدات دينية. ومن ضمنها العيد العراقي الذي أطلقوا عليه في لغتهم اسم(نوروز - اليوم الجديد) وهي ترجمة شبه حرفية للتسمية العراقية(يومو نيشان) أي(يوم التفتح والتجدد)، وقد بدأ الفرس يحتفلون به حسب السنة البابلية الذي كانت تبدأ في اول نيسان وهو نفس تاريخ 21 آذار حاليا.

 

اما بالنسبة للشعوب التركستانية فلها أساطير عدة حول يوم نوروز لعل أشهرها ملحمة(اركينكون). ويعتبر 21 آذار هو عيد رأس السنة الجديدة ويسمونه(ينكي كون - اليوم الجديد). أما التركمان في مدينة آرضروم فيعتبرونه يوم بعث الموتى وانطلاقهم للمرح في الحياة. وفي المجتمعات الشيعية والعلوية والبكتاشية التركية يحتل نوروز مكانة مقدسة عند هذه المجتمعات. حيث يعتبر البكتاشيون(فرع من فروع الشيعة التركية) نوروز يوم ميلاد الإمام علي كما أنه بالنسبة لهم أيضا يوم زواجه من فاطمة الزهراء(رض). أما الشيعة فيعتبرونه اليوم الذي أعلن فيه الرسول الإمام علي خليفة له.

التركمان يحتفلون بالربيع.ان عادة القفز فوق النار التي تمارسها الكثير من الطوائف العراقية فيها معاني تدل على الميلاد والتجدد.النار هي اداة التطهر والنقاء، والقفز عليها يعني بداية حياة جديدة خالية من آثام الماضي،

اما بالنسبة لليزيدية، فأنهم ايضا يحتفلون بهذا العيد.ان زيارة السنجق للقرى اليزيدية في هذا الشهر المقدس (نيسان ).لهذا فأن السنة تبدأ عند اليزيدية منذ أول يوم أربعاء من أول أسبوع من شهر نيسان حيث يكون اليوم المذكور بداية للسنة اليزيدية، وعيداً يسمى عيد راس السنة ويدعونه (سر صالي )..

الاحتفالات في العراق المعاصر

 ان اشقائنا الأكراد يحتفلون بعيد نوروز باعتباره ذكرى انتصار(كاوه) الحداد على الملك الطاغية(الضحاك)، وهي حكاية قد تلتقي مع حكاية الاله تموز الذي يحرر البشرية من طغيان برد الشتاء وموته وقحطه. ولا زال يتم الاحتفال بهذا العيد في مختلف انحاء العراق باسم "يوم المحيا" أي احياء الربيع بعد جماد الشتاء. ويسمى ايضا(يوم الكسلة) كما في البصرة، او(دورة السنة) او(يوم الخضر) وهو الشخصية الاسطورية الاسلامية التي يرتبط اسمها بالخلود والخصبة والخضرة. في أرياف الجنوب يحتفل أيضا بهذه المناسبة في 21 آذار، حيث يقومون بشراء الخس والشموع على عدد أفراد الأسرة ثم يضعون الرز واللبن والسمسم والسكر والحناء في(صينية) كبيرة ويطلقون على هذه المواد(جوه السلة) وبعد فترة من الهدوء والصمت يبدأون بتناول ما في الصينية. وفي اليوم الثاني يخرجون للتنزه في البساتين عصرا ومعهم الأطعمة ثم يعودون بعد الاحتفال إلى بيوتهم.

ان بعض المناسبات الدينية الاسلامية اتت لتحل محل احتفالات دينية قديمة، لكن طبيعة التاريخ الهجري(القمري) وانفصاله عن مواسم السنة، جعل هذه الاحتفالات الاسلامية تنقطع عن اصولها المرتبطة بالطبيعة وتغيير المواسم.ان احتفالات مفرحة مثل (المولد النبوي)، كذلك لدى الشيعة (فرحة الزهرة) و(موالد الائمة)، لها علاقة باحتفلات الربيع لدى العراقيين و(ميلاد) آلهة الخضرة والخصب( عشتار وتموز).لاحظ مثلا لقبي (الزهراء والبتول) التي اطلقها شيعة العراق على السيدة فاطمة(رض) ابنة النبي(ص).ان لقب (الزهراء) يذكر بـ (عشتار)ورمزها (كوكب الزهرة)، اما لقب (البتول، أي العذراء) فيذكر بـ (السيدة مريم العذراء)..

 

 كذلك يحتفل سكان كركوك والقرى التركمانية بهذه المناسبة، حيث يجتمعون في ليلة 21 آذار في الأزقة والحارات، ويبدأ الأطفال بالغناء وهم يحملون المشاعل في الطرقات وفي سطوح منازلهم. وفي المساء يتم كسر الجرار القديمة، ويسمى العامة هذه الاحتفالات باحتفالات(هلانا) وهو في الأصل احتفال خاص بـ(مسيحيي القلعة) التركمان الذين يحتفون به بذكرى إرسال(هيلانه) أم الملك قسطنطين جموعا من المسيحيين من استانبول إلى فلسطين للبحث عن الصليب الذي صلب عليه السيد المسيح، وبغية إضاءة الطريق طلبت إشعال المشاعل عبر التلال والجبال والطرق والمنافذ المؤدية من استانبول إلى فلسطين. ومع الزمن ونتيجة لمشاركة المسلمين التركمان جيرانهم من أبناء جلدتهم المسيحين في هذه الطقوس الاحتفالية، أصبح الاحتفال في نوروز بهذه المناسبة تقليدا عاما يحتفل به سكان كركوك من التركمان في أحياء مختلفة.

ولا زال تقديس هذا العيد سائدا لدى المسيحيين باسم عيد الفصح وكذلك لدى العلوية في سوريا باسم عيد نيروز وظهور الخضر صاحب الزمان ولدى اليزيدية بظهور الملاك طاووس(تموز!)، ولدى باقي العراقيين باسم يوم المحيا او يوم الخضر. ان آثار هذا العيد المقدس توجد لدى جميع طوائف العراق والشام والشرق الاوسط باسماء وحجج مختلفة، ولكن كلها مرتبطة بالربيع.

ان يوم المنقلب الربيعي هو ايضا يوم مقدس عند الصابئة.وقد ورثوه عن اسلافهم منذ ايام بابل ونينوى، ويعتبرون أن يوم 21 آذار هو يوم تساوي الليل مع النهار وإتصال ذلك بالتوازن بين عالم الأنوار والظلمات الذي تنبني على أساسه عقيدتهم.والسنة أيضا تبدأ في شهر آذار.لكن يجدث يعض التغيير في اختيار اليوم، بسبب اختلاف السنة الكبيسة.فعدد الأيام ثابت في كل شهر وهو ثلاثون يوما لذا، يضيفون خمسة أيام في نهاية السنة لا تعتبر من التاريخ، يكسل اثنائها الصابئة ولا يمارسون أي عمل.وهو ما يسمى بعيد البنجة (بنجة من الفارسية والكردية تعني الخمسة) أو بروانا.وتاريخهم يبدا بنزول آدم، والسنة الجارية (2002م) هي 445370 آدمية.ويشمل هذا العيد أبناء الطائفة كافة رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، وذلك بالارتماء في الماء الجاري ثلاث دفعات قبل تناول الطعام في كل يوم من الأيام الخمسة.والمقصود منه هو التكفير عن الخطايا والذنوب المرتكبة في بحر السنة الماضية، كما يجوز التعميد في أيام البنجةليلاً ونهاراً على حين أن التعميد في سائر المواسم لا يجوز إلا نهاراً وفي أيام الآحاد فقط.

من اجل احياء عيد الربيع

ان المشكلة في العراق والشام تكمن في ان نخبها الثقافية والسياسية لم تهتم بهذه النواحي التراثية التاريخية الأصيلة في مجتمعاتنا، والتي يمكن ان تلعب ادوارا وطنية توحيدية تفوق كل الخطب والشعارت السياسية. ان الخطوة الكبرى التي قامت بها النخب الايرانية ايام الشاه رضا بهلوي منذ اوائل القرن العشرين انها جعلت عيد نيروز احتفالا وطنيا رسميا واعادة احياء كل الاساطير الشعبية حوله رغم احتجاج رجال الدين. ومن خلال هذا التأثير الايراني تبنت النخب القومية الكردية هذا العيد واحيت اسطورة(كاوا الحداد) ونجحت بجعله عيدا قوميا كرديا. اما نخبنا، فإنها للأسف، بسبب تجاهلها للتاريخ العراقي الشامي وعدم اهتمامها بميراثات الطوائف والجماعات المختلفة، وبسب التعصب القومي الساذج ضد كل ما هو ايراني حيث ارتبط اسم هذا العيد بتسمية(نيروز) الايرانية، لهذا فان نخبنا وحكوماتنا قد تجنبت الاقتراب من(عيد الربيع) هذا، بل هي ساهمت بموته من خلال احتقار كل ماهو تقليدي وعيد شعبي(بحجة انه متخلف وعشائري وطائفي) ولأنه(مرتبط بالفرس)! حسب الفهم القومي السائد. والغريب ان الحكومة العراقية منذ اعوام السبعينات قد اقرت الاحتفال بعيد نيروز وجعله عطلة رسمية، ولكن كعيد كردي، ولم تنبه ابدا الى حقيقته العراقية الاصيلة.

لقد تبنت الديانة المسيحية (عيد الربيع) بنفس مضمونه العراقي القديم.فبدلا من عودة تموز من العالم السفلي وانبثاقه الى الحياة جالبا الخصب والربيع للارض والبشر، فأن في يوم الفصح، ينبثق المسيح بعد صلبه، ليجلب الى نفوس البشر "خصب" الايمان و"ربيع" البشارة بالخلود والنعيم.اما عادة تلوين البيض في هذا اليوم فهي ايضا عادة عراقية(بابلية آشورية) قديمة قد تبنتها المسيحية في العالم اجمع.البيضة ترمز للحياة والميلاد، والالوان ترمز للخصب والربيع!!

 

 

ما أحرانا كعراقيين(كذلك نفس الشيء بالنسبة للشاميين) أن نعيد احياء(عيد الربيع)، هذا العيد الوطني الجامع والشامل لكل فئات الامة العراقية.

علما ان هناك مناسبات وطنية توحيدية عديدة يمكن الانتباه اليها لو توفرت فعلا الارادة الوطنية الصادقة لدى دولتنا ونخبنا الفاعلة. وقد سبق لنا في خاتمة كتابنا(الذات الجريحة) ان تطرقنا الى هذه المسألة واشرنا مثلا الى الاحتفال بعيد(انبثاق اول دولة عراقية موحدة) في التاريخ تحت قيادة الملك(سرجون الاكدي)، وكذلك(عيد تأسيس بغداد) وغيرها من الاعياد الجامعة لكل فئات الامة العراقية.



*  هذا الموضوع تأليف مشترك بين (سليم مطر ) و( نصرت مردان)..

العودة للفهرس