(سيرة)

انا عراقية..وابي انكليزي..

امل بورترـ انكلترا mcinfcen@hotmail.com

 

 

عندما حضرت وقائع محكمة النساء في بيروت صيف سنة 2003، وطلبت من نائب الشيخ(فضل الله) ان يوضح لي نقطة. قدمت نفسي على انني عراقية من اصل بريطاني. اعتلى لغط وكلمات تصحيح من الحضور:(تقصدين بريطانية من اصل عراقي؟) قلت:(لا بل عراقية من اصل بريطاني). لم يفهم الحضور كيف يمكن ان اكون عراقية من اصل بريطاني؟ قالوا لي:(العكس هو الصحيح اذ ان كثير من العراقين تجنسوا بالجنسية البريطانية فاصلهم عراقي). الا انني قلت:(كلا انا عراقية من اصل بريطاني انجليزي بالتحديد. والدي انجليزي عشق العراق وانا ثمرة زواجه من والدتي العراقية). تحول اهتمام الجميع بوالدي، وهذا ما يحدث دائما معي ان كان جوا عربيا او انجليزيا. في الاجواء العربية الاسم يثير الاهتمام وفي الاجواء الانجليزية الاسم والشكل يثيران الاهتمام: اسمي انجليزي محض وشكلي عراقي صميم!

هذه الاهتمامات باسمي الانجليزي ومظهري العراقي بالاضافة الى الجو المتفاعل والاهتمامات المتعددة في المحيط الذي نشأت فيه هي التي جعلتني اهتم واحاول فهم والدي.

ابي وامي عام 1932

 

رسائل والدي

شخصية والدي وموقعه الفريد في بلد غريب وكل ظروف حياته كانت دوما تثير في العجب والاستغراب لم افهمه أبدا رغم اننى كنت المقربة منه دوما. كان دائما لغزا محيرا لي رغم بساطته أو ليست البساطة دائما مصدر التساؤل و مدعاة الدهشة؟ مظهره البدنى الوسيم.. إتقانه لعدة لغات آسيوية.. صمته المطبق عند التساؤلات الحرجه.. وثرثرته لا حدود لها في أوقات الفرفشه والفرح.. امتناعه التام عن الاختلاط بأبناء جلدته والابتعاد عنهم كليا، ثم رفضه التقرب من أبناء الطبقة الاجتماعية التى كان(طبقيا) منتميا لها ان شاء أم أبى واحاطة نفسه فقط بمن يعمل معهم ومن هم أدنى منه وظيفيا.. .  كرهه للسياسه.. وفهمه العميق لها.. حبه للغته الانجليزيه.. وابتعاده الكلى عن انجلترا.. عشقه وتعلقه بوالدتي.. و... و كل هذا دفعني لقراءته مجددا عبر رسائله..ورسائله قادتني إلى البحث والتحري عن تفاصيل دقيقة، كانت غائبة عنى تماما.. . عائلته الإنجليزية أقاربه أعمامه أخواله، أين عاشوا ومن هم؟ وعرفت الكثير الكثير جدا وكل الوثائق عن الأصل والفصل وشجرة العائلة التى تمتد إلى سنة 1600 كلها جعلته يزداد غموضا في نظري ويعصى علي فهمه.. . ولكن هل يجب ان نفهم من نحب أم نقبلهم كما هم ؟

 

لم أشأ ان أقرأه عبر رسائله فقط بل بالتقصي عن دقائق وتفاصيل، من اخوتى وأخواتي الأكبر منى ومن ذكرياتي معه. عدت بحياتى استعرضها يوما فيوما كشريط سينمائي بشرط ان يكون والدي داخل ذلك الكادر.. . وأخذت صورته ليس البدنية بل ربما الفكرية تقترب أكثر وأكثر من ذهني وتحدثني عما استعصى علي فهمه.لم يكن مغامرا أو باحثا عن الغرائب. لم تهمه الآثار القديمة كأغلبية أبناء وطنه..والاستشراق عنده لا معنى له إذ انه مجرد خدمة لمصلحة ما.لم يبحث عن الثروة وتكديس الأموال في بلد كانت الفرص فيه مواتيه حقا..ولم يكن منطويا انعزاليا يعيش عوالم التأمل.. .  إذا ماذا دفعه للبقاء في ما بين النهرين كما كان يسمى قبل ان يعمد باسم العراق بحدوده الحالية؟ لا اعتقد بأنني املك الإجابة ولكنني أقول حبه للحياة ونشوته وهو يرى بلد يخلق ويرى النور وكما يصف العراق في إحدى رسائله:(هذه الأمة هل ستولد بكامل نضوجها.. . . هل سندعها تنمو وتقف على أقدامها أم إننا سنظل عكازاته(.. ) انني ارى التاريخ يصنع ويسجل امام عيني وانا شاهد عليه). ربما عملية الخلق والانبعاث هذه أذهلته وسحرته إذ كان شاهدا عليها وحبه للهندسة كذلك جعل من عملية الخلق هذه متكاملة إذ لن يتطور بلد بدون هندسة.افتتانه بالمراقبة وحب الملاحظة، استغرقاه تماما فكان ينتبه لأدق التفاصيل:(يتعامل أبناء الطوائف المختلفة بحرية في السوق ولكن لكل منها مجتمعها المنعزل وحدودها المرسومة بخطوط واضحة لمن يعرفها ومستتره للغريب مثلي.. .  أنه أتفاق الجنتلمان).. (شيخ الزبير الذي حاولنا إبهاره بمولد كهربائي وممرضة ولكنه أبهرنا بكرمه وبالصقر الجالس على كتفه والسجاد العجمي الملقي على ارض ترابية).. . . (قلل الماء وصحون الطعام تتبادل عبر الشناشيل في بغداد).. (اننى أعيش عالما مصنوعا من رقائق الخيال المنشورة على حبال الزمن الطويلة والممتدة حوالى ثلاثة آلاف سنة إلى الوراء).. . . (كركوك.. مستر جابمن.. ليس بطويل القامة نحيف جدا من اصل أرستقراطي.. . دبلوماسي رغم محاولته إخفاء ذلك.. . ودراجتة النارية.. و عدم ظهوره نهارا وحبه للآثار.. و.. و..  لا يا دورا لا اعتقد انه ذلك الشخص الم يقولوا انه قد مات.. ؟).(هذه المرأة وخلفيتها الأرستقراطية العفنة . . .  ركوبها الخيل صباحا كل يوم مع رفيقها الحاج ناجى.. يا ترى هل سنكنى ب(ناجى) مستقبلا.. !)

 

هذه الملاحظات الدقيقة جعلتني أرى العراق بشكل آخر وافهم نفسي ومشاعري أكثر.. .  فأنا مازلت على خلاف شديد مع البلد الذي نشأت فيه كما كان والدي على خلاف شديد مع البلد الذي نشأ فيه..  ولكن ما كتبه والدي نبع عن فكر المراقب الدقيق المتتبع لأحداث صغيرة قد تبدو بغير أهمية ولكنها هي الصورة الحقيقية للعراق وأهله. الصورة الغير الرسمية أو حتى التاريخية المعروفة وخاصة عندما تصدر عن إنسان همه تتابع المجريات اليومية وتصويرها بشكل بسيط اعتيادي لا تزويق فيه او سبغها بصفة الأكاديمية او البحث. بل هو يتحدث بتلقائية وعفوية وكأنه جالس في احد مقاهي بغداد ويتبادل حديثا وديا مع صديق ولكن هذا الحديث حميم وصادق ويرسم صورة انطباعية حقيقية غير مرتشة، كما وأنها سجل لما دار من أحداث من وجهة نظر إنسان إنجليزي اعتيادي، رجل شارع كما يقال، يريد ان يعمل ويعيش ويدع الحياة تسير ويسير معها ويعقب على تلك المسيرة بعين متبصرة ترى الحقائق بمنظار بعيد عن التحيز الإنجليزي المعروف.

رسائل والدي البسيطة والعفوية جعلتني افكر به من منطلق اختصاصي الفن التشكيلي بقدر ما تكون هذه الفنون مرسومة وتعتمد القواعد الدقيقة بقدر ما تكون اصيلة وحميمة اذا كانت عفوية وتلقائية

جعلتني هذه الرسائل اعيد النظر واخلق جوا من المقارنة بين حياتنا كعائلة(مختلفة) عما يحيطنا من عوائل(تقليدية)، والاختلاف هو الاب، والدي بشكله ومظهره الانجليزي الواضح وامي بعراقيتها العربية العريقة والمصرة عليها بعناد وتكابر، وتتباهى بانها بنت عرب اقحاح، ولكن هل كان المحيط الذي احتوانا يعي هذا البعد في العائلة في كثير من الاحيان كنا اكثر غلوا وعراقيين اكثر من العراقيين انفسهم وهكذا كان والدي وكنا ندور في فلكه واحيانا اخرى كنا نجد انفسنا ورغما عنا نطفو على سطح لا نعرف له اساس.

 هذا الجو لم يكن سلبيا علينا ابدا بل جعل وعينا اكثر نضجا، فكنا نعي ما حولنا بعيون مفتوحة واذهان تستوعب ما يجرى بعمق فتجربتنا تختلف انها ممزوجة بدماء جديدة وتجارب اخرى مختلفة.

 انا اعي والدي في فترات قد تبدو بعيدة ويصعب على الانسان ان يتذكرها لن اربط تلك الذكريات بايام او تواريخ فهذا قد يحدد من ابعادها الوجدانية ولكن كلما اشير الى حدث ما كانت والدتي تقول كيف تتذكرين كنت لا تعين كنت مجرد طفلة

والدي بصحبة اختي العروس وانا علي يمينها في طريقنا الى الكنيسة في بغداد

 

 اتذكر في الحبانية عندما رفض والدي العمل مع الجيش البريطاني ورفض ان يتمتع بامتيازات العيش في الجزء المرفه من المدينة وسكن مع اهالي الحبانية بعيدا عن الجو الانجليزي واختار العمل ليس كمهندس بل كرسام هندسي في مؤسسة عراقية، كان يستعمل منضدة تخطيط خاصة بهذ المهنة كان يجلسني على طرفها ويدفع الخرائط بعيدا ويخرج علبة الالوان المائية مع صور كثيرة لبطاقات بريدية كثيرة ولكنها غير منفصلة بل متصلة الواحدة بالاخرى وتبدو كدفتر صغير، هذه البطاقات البريدية تصور مناظر من انجلترا ويبدأ برسمها بالألوان المائية وينقلها حرفيا ولكن بحجم اكبر كان يذهلني النظر اليها واتعلق بالصور واحتضها واغفو على طاولة الخرائط وانا ممسكة بالصور تلك ولا اصحو الا وهو يحملني الى فراشي واتعلق به رافضه ان يتركني واتوسل اليه ان يعود بي الى منضدة الرسم ولكن النعاس يغلبني وانسى، استمرت هذه المناجاة الفنية بيني وبين رسوم والدي مدة طويلة لا اتذكركم.

اتذكر يوم قرر العودة الى بغداد وعبرنا جسر الفلوجة وكان هناك مسؤول عسكري انجليزي يتاكد من ان قد تم تطعيم المسافرين ضد مرض الجدري وقال له المسؤل عن تفتيش السيارات لن نسمح لكم بالعودة الى الحبانية بدون شهادة التطعيم ضد الجدري ضحك والدي رادا عليه باللانجليزية(ومن يريد العودة الى الحبانية هي لكم وليست لنا) هذه التعليقات البسيطة تركت اثرا في تكويني الفكري لابد انها كانت مخزونة في ذاكرتي

وعندما رفضت والدتي بشكل قاطع ان ادرس الطب البيطري وهي المهنة التي كنت احلم بها وشجعني عليها والدي اخترت الفنون التشكيلية وكان هذا الخيار تحدى اخر هادئ مثل تحدى والدي للجندي البريطاني على جسر الفلوجة وبنفس الوقت كان عودة الى اللاوعي الى احضان منضدة الرسم الهندسي وايام الطفولة واحضان والدي ودفء الالوان المائية وجمال مناظرالريف البريطاني المرسوم بالألوان المائية.

حبه للعراق

يا ترى هل أحب والدي العراق.. . ؟ لاشك لدى في ذلك بعد قراءة الرسائل ولكن لماذا هذا الحب هل كان حب من أول نظرة وتعلق غير منطقي.. ان صح التعبير..لا اعتقد ذلك..بل انه حب نما نتيجة الملاحظة الدقيقة والفهم والتعود ولسبب آخر هو نتيجة لرفض السياسة البريطانية وشعوره بالإحباط لتورط بريطانيا وتدخلها في السياسة الداخلية وفرض اسلوبها في العيش على شعوب تختلف عنها تماما تاريخيا وفكريا. هذه قراتي لوالدي.

ولكن لماذا وجدت هذا الدافع الشديد لقراءته مجددا وسير غور حياته ألا يكفيني انه كان والدي وفقط.. . .

 هجرتي القسرية- الطوعية من العراق والألم الذي كنت أعيشه وأنا داخل العراق خلال كل مراحل تقلباته السياسية والتناقضات الاجتماعية التى لا يوازيها تناقض دفعتني إلى التقصي والبحث عن نفسي إنها رحلة إلى الداخل.. . إلى اعماقى وأعماق البلد الذي نشأت فيه وأخذت اسأل نفسي أين هو ولائي.. ثقافيا أنا عربية-إنجليزية ؟

حضاريا أنا عالمية انتمى لكل حضارة على هذه المنبسطة ولكن هل هناك في نفسي ميل إقليمي.. . .  ويا ترى ما هي الإقليمية.. ولم كنت تعيسة في العراق وأنا محاطة بكل الحب والحنان العائلى وهل أنا سعيدة هنا محرومة تماما من ظلال العائلة الكبيرة.. ؟

 ما يعنى لي المجتمع الذي أعيشه لماذا عدت إلى الدراسة لم هذا التفاني في العمل التطوعي لم ارسم باستمرار لم اكتب.. . . لم لا أحس بالغربة بل بالحنين لشئ لا اعرفه.. . . لم اطرب وانتشى وأنا استمع إلى الموسيقى الكلاسيكية مثل كارمينا بورانا ورابسودي لبرامز وأحس نفس النشوة وأنا اسمع اوبريت(الليلة الكبيرة) أو أغنية فايزة احمد(قاعد معايا وبنشرب شاي).. .  دع عنك المقامات العراقية لحسن خيوكة ويوسف عمر و رشيد القندرجي التي تذيبني طربا، وزكية جورج وسليمة مراد و فيروز وأم كلثوم.. أين أنا ومن أنا ؟.. . .  ولكن لم أريد ان اعرف من أنا، لم لا أركز اهتمامي على من هو والدي ؟ أخذت أفحص رسائله من جديد تركت الأصل الإنجليزي غصبا عني، وعدت إلى ترجمتي العربية فهي حميمة، ووجدتها قريبه منه إذ اعتقد اننى استطعت بها ان امسك لحظة زمنية لم اعرف عنها أي شئ.. . . بدأت هذه اللحظة بالنمو والتوسع لتشمل عقودا..كطفل وجد شيئا غريبا ومسليا ومثيرا التصقت بالرسائل وكلما أعدت قراءتها تكشفت لي أبعاد جديدة قريبة منى تماما.. نعم ما يقوله والدي عن لسان اسطيفان(ابن عم أمي)المعتز بعروبته(لقد اختطف الإسلام الله منا وأعطانا الرب) بدأت افهم ماذا تعنى هذه المقولة.. انها تمس وتر حساس..  أدركت ذلك..  حين ردت علي زميلة مسلمة محجبة من بلد عربي، وأنا أقول لها(إنشاء الله ربما ألقاك غدا ولديك أخبار جيدة الله كريم).. .  قالت لي.. . .  أنت مسيحية لا تقولي إنشاء الله والله كريم فالله للمسلمين فقط.. . .  الاتفاقات الاجتماعية الكثيرة والمعقدة التى قد وقعتها غيياا كل أطراف المجتمع العراقي والمتلزمة بها تماما وبشكل حرفي ولكنها موقعة بتلك الحروف الغير المكتوبة.. .  نعم اعرف ماذا يقصد بهذا.. . .  ولقد وقعت أنا نفسي أحيانا طوعا وأحيانا أخرى.. غصبا.. أجبرت على توقيع مثل هذه المعاهدات الاجتماعية ذات الحيثيات الكثيرة..  وبحروف غير مكتوبة. واقرأ واقرأ.. واكتشف المزيد: كركوك والتعايش الاجتماعي الفريد بين كل الفئات الاقوامية.. لماذا ؟.. اهو تعايش الثراء وتقاسم الأرباح..نعم أهل كركوك لديهم مثل يقول(مجدي)شحاذ كركوك خنجره من ذهب).. إذا الرخاء الاقتصادي يقود إلى التعايش السلمي بين الفئات الاقوامية.. . والاضطرابات التى تدور في مدننا الشمالية الانجليزية هنا يقال ان البطالة سببها والبطالة تولد العنصرية.. ما هذا الذي تحدثه هذه الرسائل البسيطة العفوية في أفكاري.. 

الرسائل تتحدث قليلا ولكنها تبوح بالكثير. يتحدث عن بغداد العشرينات عن(الميدان)(وكوك نزر) وماذا تعنى الملاهي و سينما سنترال العلاقات الحميمة المشروعة وغير المشروعة وعرفت كيف قيم المجتمع بعد الحروب تطلعاته الجديدة و استخدم المعاير المغايرة واختلفت المقاييس.. والدي يبوح بالكثير و لكن أنا تربيت على عدم البوح، لذا لم أترجم ما أخشى البوح به ولو بالترجمة عن والدي.. . .

كركوك ايام زمان..كانت وستبقى مدينة التآلف العراقي الاصيل..

كركوك

البداية كركوك تشكل نقطة مهمة في ذاكرتي وعندما عدت الى رسائل والدي وجدت ان كركوك نقطة تحول في حياته هو ايضا. وعيت في كركوك على ان والدي يختلف عن أباء صديقاتي. في أواسط الأربعينات صديقاتي الفتيات الصغيرات، تملأ الدهشة عيونهن العراقية الواسعة وتزيدها وسعا إذ يجدن أبى يختلف عن إبائهن كليا: تقبيله لي وهو يوصلني إلى باب المدرسة..  جلوسي في حضنه خلال طريقنا إلى المدرسة في العربة التى تجرها الخيول ويقودها العربنجي محي التركماني.. تتقاطع عربتنا مع صديقاتي السائرات إلى المدرسة غالبا بصحبة أمهاتهن وتشير الأصابع الصغيرة لي شارحة للأم عمن أكون وتتسع عيون الأمهات كما عيون بناتهن. حديثه بالتركمانية مع محي التركماني، ثم بالعربية والإنجليزية معي..  جعله رجلا غير متعارف عليه. صديقاتي كن يسألنني كثيرا عنه..  لم اعرف السبب؟

كنت أرد عليهم بقصص ربما اختلقها أو قد تكون حقيقية لا ادري ولكن أحداقهن الواسعة والأفواه الفاغرة جعلتني اشك فيما أقوله. نعم نحن نتحدث العربية والإنجليزية في البيت.. . ونأكل

ال(كدنىباي)، ونشعل النار أيام ال(بون فاير) وندور حولها ونغنى(هوت كروس بنز)، ويلبس والدي ملابس(فاذر كرسمس) ويعطينا الهدايا. كما وان اللقلق قد حملني وأنا حديثة الولادة وجاء بي مثل بقية الأطفال الى هذا العالم كما يقول لي والدي في حين ان أمهاتهن يقلن لهن بأنهن قد وجدنهن  قرب الزبالة. كل هذه المعلومات لا تصدق وتبدو لصديقاتي اغرب من حكايات الطنطل والسعلوة والديو الذي يختطف الاطفال وياكلهم.

كركوك غرست في الوجدان وجداننا كلنا، كل افراد العائلة اقتطعت كركوك منه جزأ، فانها المدينة التي تتجمع فيها الاقليات كأليل من الورد وتتالف الزهور لتكون حلقة جميلة تفتن الناظر، رغم الافواه الصغير ة الفاغرة وانا احدثهن عن بيتنا الا اننا كنا جزء من اكليل الورد ذاك، بيتنا مفتوحا للجميع ككل البيوت 

 نسمع في بيتنا كل اللغات من كردية وتركمانية وكلدانية وعربية واشورية وارمنية. المرأة التي تجهز مؤونتنا الاسبوعية من الخبز، يهودية اسمها(سمحة). كنت استمع الى قصصها الجميلة عن الانبياء والنبؤات، ويمر والدي وهي تحدثني، لم ينهرها او يطلب منها الا تحدثني عن قصص دينها، بل كان يبتسم لها. ومساء عندما اجلس في حضن(خيرية) المرأة التي تدير شؤون منزلنا وهي من قرية تسعين وتحدثني عن مقتل الحسين وابكي معها واحدث والدي عن خيرية وقصص(الامام الحسين) وعذابته، يربت على شعري ويبتسم لي. هذا الاحتواء والقبول بالاخر لابد انه حدد لي مسير حياتي بعيدا عن التشنجات وتكفير الاخرين.لقد ربينا على اعتبار من يعمل في بيتنا هو فرد من العائلة وكانت عائلة(خيرية التركمانية) فعلا تسكن في بيتنا وينام ابنائها معنا في غرف نومنا.كانت لخيرية بنت اسمها فوزية من عمري، كانت تشاركني غرفة نومي، وقد سجلتها امي في نفس مدرستي، وكنا نلبس نفس الملابس حتى ان المعلمات اعتقدن باننا كنا اختين توأمين!

 وفي المناسبات والاعياد تجتمع العوائل من مختلف الاديان والملل والقوميات، تجمعهم كركوك في جو احتفالي كرنفالي قرب(تانكي الماي) خزان الماء) الكبير الذي نصب على رابية عالية، الالوان الصاخبة والموسيقى المتعددة النغمات، طبل وزرنة ودف وعود وناي ومطبج وكمان، فرق موسيقية مختلفة الحان متباينة رقصات جوبية ودبكة ورقصات ارمنية واشورية جو مفعم بالحبور، وارى والدي بين كل هذا الحشد فردا منهم لا يختلف عنهم يتمتع بما يتمتعون به يشارك هذا الصخب والضجيج وكان جزأ من هذا الفسيفساء الرائع.

فترة الحرب

 في هذه الرسائل يشير بشكل وبأخر أخر وأحيانا BY THE WAY)) يقول(تعرفين من اعني)(القسم المدني من الجيش). يبدو انه كان يراقب بكثير من الحسرة والألم حركات هؤلاء يقول.. . .  هيئوا لنا الطريق.. . أو بجهودهم زرنا شيخ الزبير ولكنه بنفس الوقت لا يعطيهم المصداقية الكافية او كامل الفوز إذ يعكس الآية عليهم.. . ولكن شيخ الزبير بهرنا بكرمه والصقر الجالس على كتفه.. (.واشم راحة نتنة في انتصار الفاو.)(والاخيضر هذا الأثر من الماضي.. لا أريد للماضي ان يقرر حياتي).. . وكلنا نعرف أهمية التنقيبات، التى أجرتها(مس بيل) في الحضر وكأنه هنا يسفف من هذا الجهد..  وحصار الكوت وإعادة الكلبة(سبوت) بإصرار من القائد المهزوم إلى المعسكر البريطانى..  ثم في البداية يقول نحن لا نعرف أي شئ عن هذا البلد إلا من قصص الإنجيل أي إنهم لم يهيئوا لمجابهة الساحة الجديدة التى ستواجههم. ثم ينتقد عن لسان صديقة الخارج من جحيم حصار الكوت بلهجة انتقادية واضحة بالقول :

(فرقتان قدمتا من فرنسا عن طريق السويس منهارتان تماما).. .  ثم.المستشفى الذي بنى على أراضي الحاج ناجي صديق المس بيل والخ الخ

 الرسائل انقطعت في اواسط الاربعينات ولا اعرف السبب، اذ عمتي التي كان يكتب لها لم احضى بمعرفتها فلقد ماتت من سنين طويلة واقاربي واولاد اعمامي لا يعرفون اي شئ جديد سوى ما اعرفه انا

فهنا اجد غموضا اخر ولغزا هل شعر والدي بان اوربا لا تستحق منه ان يتابعها خلال الحرب الثانية، انا على وعي بكرهه للأفكار القومية والدينية المتعصبة فكان يمقت النازية ويعتبرها افة تنخر الفكر وتقتله. وكان ضد التعصب الديني باي شكل من الاشكال وضد السلطة الدينية التي تتحكم بالمجتمع المدني، كان يروي لنا القصص عن الخروقات والانتهاكات و القسوة التي كانت تمارسها السلطة الكنسية الدينية في اوربا خلال القرون الوسطى وكيف تم تحجيم هذا الدور واعطاء السلطات المدنية اليد العليا لتسير الحياة اليومية وحجب الكنسية عن القيام بدور اداري سياسي وابقاء دورها مقتصر على الواجبات الدينية، وكذلك كان يستعرض لنا اسباب انهيار القيصرية الروسية اذا كانت السلطة الكنسية تدعم الطبقة الارستقراطية ضد كل تطلعات الشعوب، شخصية راسبوتين تلك الشخصية الدينية التي سيطرت على القصر القيصري الروسي واستطاع هذا الرجل ان يحول اهتمامات القصر لصالحة ولميوله الخبيثة، وقصص راسبوتين كانت قريبة من ذهن والدي مما دعاه الى الحديث عنه باستمرار وكان خير تذكير لنا بان نعي التسلط والغلو الديني والانجراف الغير المتزن نحو ممارسات متعصبة.

في عام 1961 وخلال سفرة لي مع والدي لزيارة مدينة فيينا اراد ان يزور معسكرات الاعتقال النازية التي كانت تقتل كل من لا يتفق معها مبدئيا وفكريا وكانت تلك الزيارة نقطة تحول مهم في تفكيرى بعد زيارة معسكر(ماتهاوزن) ومشاهدة بقايا مخلفات النازية الشرسة اصبحت الصورة في ذهني واضحة لا تقبل اي تنازلات عن ان التعصب والغلو ممارسات يجب تجنبها باي ثمن.

 كان والدي بعيدا عن السياسة ويتجنب الحديث فيها، اذا يعتبرها ضحك على الذقون ومسألة مصالح شخصية لا وطنية، ومن الصعب على السياسي ان يفصل بين مصلحته الشخصية والمصلحة الوطنية، كان يؤمن يالديمقراطية ويعتقد انها لن تورق الا بعد فصل الدين عن الدولة اولا وبعد ان تتم انتخابات بعيدة عن التطلعات الشخصية لذا وجد انه من العبث الحديث والخوض في السياسة وهذه المقومات مفقودة تماما، والان بعد تجارب مرة وحلوة وتكوين فكر سياسي واعادة النظر في اكثر من موقف اجد ان والدي كان حكيما وصائبا في استقراءاته تلك.

 ستصدر الرسائل في كتاب قريبا عن دار الريس وانا اتطلع قدما لأرى كلمات والدي البسيطة الحميمة متاحة للجميع و اتمنىان تترك فيهم اثرا مثلما تركته في.

 

العودة للفهرس