بغداد في الادب


الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي

                                   

 

ـ 1 ـ

في طفولتي كانت علاقتي بالقرية أكثر من علاقتي بالمدينة، لأنني كنت أذهب مع والدي في العطل الصيفية الى الريف حيث السماء الزرقاء وحقول القمح المترامية الأطراف والطيور بكافة اشكالها، فكنت أتوحد مع الطبيعة ومخلوقاتها التي قلما كنت اراها في المدينة. وعندما قل ذهاب الى القرية صيفا بعد صيف لأن والدي كان قد شغل بأمور اخرى ولم يعد يجد وقتاً لزيارة اخوته وأعمامه، واجهت في تلك الآونة محنة اكتشاف المدينة واكتشاف اسرارها وممراتها السرية وضواحيها، والخيوط الخفية التي تربطها بالماضي.

كانت بغداد ولا تزال تحمل في وجهها عذرية الزمن وعطره، ورائحة القباب، والمآذن الشاخصة التي ينتمي بعضها الى العصر العباسي وخاصة العصر العباسي الاخير، كانت تستهوني فكنت اطوف حولها، كما كان يطوف نهر دجلة. في مدينة بغداد، كنت اقرأ الشواهد المدونة على متونها واكتشفت في احدى جولاتي ان البعض قد ازاح بعض المتون ومحاها بغية كتابة تواريخ اخرى مزورة وأسماء لا تنتمي الى العصر الذي فيه هذه الآثار الباقية. وكانت مقبرة الإمام الغزالي التي تقع بالقرب من محلة باب الشيخ التي ولدت فيها في بغداد احدى محطاتي وبخاصة قبيل الغروب، حيث كان يلتقي بين القبور أو على أطراف منها بعض الاعراب الذين جاءوا المدينة ليبيعوا اغنامهم وبعض الباعة الصغار الذين كانوا يسرقون بعض ما يحمله هؤلاء الاعراب ويفرون به كما كان البعض يبيع طيوراً بأقفاصها أو بدون أقفاص وهي مربوطة بخيوط بالية.

أما المحطة الثانية في تجوالي فقد كانت بعيدة نسبياً وهي مقبرة السهروردي حيث تقع بجوارها مقابر اليهود وكان القدم يظهر على هذه المقبرة من رائحة التربة والحجارة وبعض الاشجار الهزيلة التي كان يحتطبها الفقراء.

كنت أقف قبالة مسجد المقبرة الذي كان شبه مهجور وأحاول استقراء ما جرى له دون جدوى وكنت أحياناً أسأل بعض سكان القبور الذين لا يعرفون شيئاً. وعندما كنت أعود الى البيت كنت ألوذ بجدي لكي يشرح لي بعض غوامض ما رأيت وما شاهدت، وأحياناً وأنا أعرج على هاتين المحطتين أذهب الى نهر دجلة من الباب الشرقي لبغداد وبخاصة أيام الفيضان حيث كان النهر محصناً بأكياس الرمل خوفاً من غرق المدينة، وما أكثر ما كان الماء يعلو ويطفو فوق الأكياس وينساب إلى الشوارع وكانت الشرطة عندما يبلغ النهر هذا المستوى تلقي القبض على كل من يمر بالشارع لأخذه للسخرة، وكان مشهداً مؤلماً حيث كان البعض يشكو من انه ذاهب لشراء دواء لوالده المريض.. ولكن الشرطة كانت تقسو ولا تسمع هذه الاحتجاجات.

ـ 2 ـ

كنت أرى الكثير من الأجانب الذين يزورون قناصل الدول الاجنبية يطوفون بسياراتهم ليراقبوا الفيضان وكان بعضهم يقهقه ويضحك على منظر الذين تختطفهم الشرطة لتأخذهم الى الأماكن التي تخترق فيها مياه النهر ضفافه وكم كنت أتمنى لو كنت أملك القوة لأمنع هؤلاء الذين كانوا يسخرون من المدينة وبؤسها وتعرضها للخطر.

في فجر أيام العيدين: عيد الأضحى وعيد الفطر كان معظم سكان بغداد في تلك السنوات يذهبون لزيارة موتاهم في قبورهم وكانوا يحملون بعض الاطعمة ليقدموها الى الفقراء الذين كانوا يجتمعون بأعداد كبيرة هناك وعندما كنت أعود مع جدتي وأمي أجد جدي وهو يعد فطور الصباح ويهيئ قهوته وأرجيلته وكان يسألني وهو يبتسم: كيف كانت الأحوال، فأبتسم أيضاً دون أن أجيب. وذات صباح عيد سألت جدي قبل أن يتحدث معي: لماذا لا نزور أقرباءنا الفقراء بجانب زيارة أقاربنا الموتى، وكان يقول لي إنك عندما تكبر سوف تفهم السبب وتتألم كثيراً. كان يغير الحديث فيقدم لي كتاباً ويقول لي هل قرأت هذا الكتاب فأقول له إني قرأت بعض سطوره بدون استئذانك ولم أفهم شيئاً فيقول لي اختر بعض الجمل منه التي لا تستطيع فك حروفها حتى أشرحها لك وكنت لا أفهم شرحه أحياناً ولكنني كنت أدعي الفهم خوفاً من سخريته المبطنة. ويظهر ان بعض البشر يريدون ان يفهموا من الآخرين كل شيء بغض النظر عن عمرهم.

في امتداد شارع الكيلاني الذي يتصل بشارع الرشيد كان هناك «مسجد الخلاني» وكان يضم مكتبة كبيرة جداً تضم مختلف الكتب، حتى الحديثة مثل مؤلفات طه حسين وأشعار شوقي والرصافي وعشرات الأدباء العراقيين والعرب، وقد هداني إلى هذه المكتبة صديق العمر الكاتب القصصي الراحل غائب طعمة فرمان فذهبت الى أمين المكتبة وقال: ماذا ستفغل بهذا الكتاب، قلت له لا أدري ولكنني سأروي لك نكتة عن مؤلف هذا الكتاب، هذه النكتة تقول انه عندما يسأل عن شيء ما كان يجيب (لما انشوف) برغم عماه ويظهر انه لم ير شيئاً حتى تأليفه هذا الكتاب فاكتشفت ان أمين المكتبة كان معادياً للأدب الحديث، وكان يتمنى لو انني استعير ديوان صفي الدين الحلي، أو الحبوبي لأنه وضع أمامي هذين الكتابين ولكنني تجاهلت وجودهما وأصررت على استعارة كتب الأيام، عند ذاك طلب مني الهوية وقلت له إنني لا أملك هوية فتدخل الصديق غائب طعمة فرمان وقال إنني أكفله، فقال أمين المكتبة ان الكفالة ليست بالكلمات وعليكما ان تدفعا ديناراً، ولكننا استعدنا الدينار سريعاً لأنني لم أنم طوال الليل وأكملت الكتاب، ورابطت بالقرب من مكتبة المسجد الى أن جاء واستعدت الدينار وحاولت اكتشاف مكتبة أخرى ليس فيها أمين كهذا الرجل الذي كان يكره طه حسين.

ـ 3 ـ

في تلك المرحلة كنت أنا وصديقي غائب طعمة فرمان نحاول كتابة الشعر، وذات يوك كتب «غائب» قصيدة مكونة من 100 بيت فحاولت مجاراته ولكنني فشلت وتوقفت عند البيت الثلاثين. والغريب ان (غائب) هجر الشعر وتوجه الى كتابة القصة القصيرة والرواية فيما بعد وعندما اكتشف انني لم أحب أمين مكتبة جامع الخلاني قال لي استعد في يوم الجمعة للذهاب الى سوق السراي وسوق السراي من اهم الاسواق الشعبية والقديمة في بغداد، ويضم عشرات المكتبات التي تبيع الكتب القديمة أو المستعملة أي التي قرئت، وذعبت معه فعلاً في يوم جمعة منذ الصباح الباكر ومعنا بعض النقود فاشترينا بعض كتب جبران خليل جبران، وبعض الروايات المترجمة الى الغربية، ولكن جمال السوق وجمال المكتبات ورائحة الماضي التي تعبق بين جنباته جذبتنا وأغرتنا بالجلوس لأول مرة في أحد مقاهيه، واكتشفنا أن بعض الأدباء العراقيين والصحافيين يجلسون في ذلك النهار، وكان المقهى مشهوراً بتقديم الشاي على الطريقة العراقية. وأذكر أن رجلاً يضع نظارات سوداء نظر الى الكتب التي كانت معنا،

وطلب أن يقلبها وعندما رأى أسماء مؤلفيها هز رأسه بسرور وقال عن نفسه انه صحافي وأديب وكان هذا الشخص هو مشكور الأسدي الذي أصبح من أشد أعدائنا بعد سنوات قليلة لأنه عمل رقيباً على المطبوعات، وكان يمنع كل الكتب الجيدة وخصوصاً المترجمة الى العربية، وقام بتأديبه ذات يوم أحد أصدقائنا وهو الشاعر العراقي الراحل كاظم جواد بعد منعه لإحدى المجلات التي نشرت قصيدة له اذا سكب قدح الشاي الساخن على رأسه الصلع، وهرب.

منذ تلك الزياة الأولى أصبح سوق السراي منجماً كبيراً لنا نلتقط منه الكتب النادرة التي غذت مخيلتنا ولعبت دوراً في التكوين الثقافي لجيل الأربعينيات والخمسينيات.

والغريب ان الشرطة كانت تغض النظر عن الكثير من الكتب التي كانت تمنع، ولكننا كنا نجدها في مكتبات هذا السوق، فاكتشفنا ان بعض الموظفين في دائرة المبطوعات يسرقون هذه الكتب ويبيعونها لأصحاب هذه المكتبات. وقد وقع حادث طريف آخر ذات يوم، عندما ذهبت مع صديقي الشاعر كاظم جواد الى المكتبة العصرية التي كانت تقع خارج سوق السراي أي في شارع المتنبي، وسألناه عن كتاب «الأم» لمكسيم غوركي وكان صدر في دمشق عن دار اليقظة العربية، فقال لنا إنه يعتقد ان الرقابة ستمنعه، وأعطانا نسخة وقال بإمكانكما ان تقرآ هذه النسخة معاً، لكن صديقي كاظم قال إنه سيأخذ النسخة في اليوم التالي الى الرقيب ليرغمه على الموافقة على تداولها وكانت بغداد تئن تحت الحكم العسكري، وكان الرقيب ضابطاً وعندما ذهبنا اليه في اليوم التالي، قال لنا الجندي المكلف بخدمته انه ذهب الى مكان ما وسيعود بعد قليل وقلنا له إننا اصدقاء الضابط، فقال تفضلا الى أن يأتي فما كان من كاظم الا ان ذهب الى طاولة الضابط فوجد الختم المدونة عليه الموافقة وختم النسخة التي كانت معنا.

عدنا الى المكتبة العصرية وقلنا له ان الرقابة قد وافقت على الكتاب، وكان لديه خمسون نسخة فقط، وما هي الا ساعات حتى بيعت النسخ جميعاً، وكنا نراقب الأمر عن كثب فبعد قليل رأينا سيارة عسكرية تقف في باب المكتبة وطلبوا من صاحبها ان يذهب معهم فاحتج وأراهم النسخة المختومة ولكنهم لم يقتنعوا بأقواله.

وقد أوقف صاحب المكتبة ثلاثة ايام وأطلق سراحه بأمر من رئيس الوزراء، وأصبحنا أنا وصديقي نخاف من المرور من أمام المكتبة الى ان ضبطونا ذات يوم ونحن نمر من أمامها، وقال لنا انكما شجعان وقد غفرت لكما ما حلّ بي، ولولا علاقتي برئيس الوزراء لما أطلق سراحي حتى اليوم.

إطبـــــــع العودة للفهرس

إحفظ الصفحة