من تاريخ الحلة: المزيديون

حسن الأمين

 

مرقد نبي الله ذي الكفل

 

قامت في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر) دولة بني مزيد في الحلة بالعراق على يد مؤسسها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس، بن علي بن مزيد الأسدي.
وعن صدقة هذا يقول ابن الأثير: «كان جواداً حليماً صدوقاً كثير البر والإحسان، ما برح ملجأ لكل ملهوف يلقى من قصده في أمن ودعة، وكان عفيفاً عادلاً لم يتزوج على امرأته ولا تسرى عليها، ولم يصادر أحداً من نوابه ولم يأخذهم باساءة قديمة، وكان أصحابه يودعون أموالهم في خزانته ويدلون عليه أدلال الولد على أبيه. ولم ير رعية أحبت أميرها كحبه له. وكان متواضعاً يبادر إلى النادرة. وكان حافظاً للأشعار، وكانت له مكتبة تحوي ألوف المجلدات وكانت منسوبة الخط».
والواقع أن الامارة المزيدية قامت قبل صدقة، وكان أول أمرائها أبو الحسن علي بن مزيد المتوفى سنة 408 وجاء بعده ولده دبيس الذي كان عند وفاة أبيه علي في الرابعة عشرة من عمره. فأقره بهاء الدولة البويهي على ملك أبيه، واستمر في الحكم سبعاً وستين سنة وتوفي سنة 474. فقام بعده ولده منصور أبو كامل وكانت الدولة البويهية قد زالت وحل محلها السلاجقة. ودام حكم منصور خمس سنين وتوفي سنة 479 فتولى بعده ولده سيف الدولة صدقة. وكانت مدة ولايته إثنتين وعشرين سنة.
وقد خضعت له القبائل الفراتية وامتدت أمارته إلى البصرة وواسط والبطيحة والكوفة وهيت وعنه والحديثة، وسيطر على أقوى القبائل العراقية لذلك العهد مثل خفاجة وعقيل وعبادة وقبيلة جاوان الكردية.
وقد اهتمّ بالشؤون الإدارية والعمرانية والثقافية. ورأى أفضل ما يعينه على ذلك هو العدل في الحكم. هذا عدا عما كان يلقاه العلماء والأدباء في كنفه من الرعاية فأقبلوا عليه من كل ناحية.
وانتهت حياة صدقة سنة 501 قتلا في حربه من السلاجقة. وبعد وفاة السلطان محمد السلجوقي أطلق ولده محمود، دبيسا بن صدقة الذي كان في أسر أبيه وأعاده إلى الحلة سنة 512 فأنشأ الدولة من جديد. وقال فيه ابن خلكان في وفيات الأعيان: «ملك العرب صاحب الحلة المزيدية، كان جواداً كريماً، عنده معرفة بالأدب والشعر وتمكن في خلافة المسترشد واستولى على كثير من بلاد العراق، وهو من بيت كبير. ودبيس هو الذي ذكره الحريري صاحب المقامات في المقامة التاسعة والثلاثين بقوله: والأسدي دبيس، لأنه كان معاصراً له فرأم التقرب إليه في مقاماته ولجلالة قدره، وله نظم حسن. . . ».
وقال فيه ابن الطقطقي في الآداب السلطانية: «كان صاحب الدار والجار والحمى والذمار، وكانت أيامه أعياداً، وكانت الحلة في زمانه محط الرحال وملجأ بني الآمال ومأوى الطريد ومعتصم الخائف الشريد. . ».
وقد تمكنت سلطته في البلاد واجتمعت عليه القبائل العربية والكردية. وأغضبه الخليفة المسترشد فجمع جيوشه ودخل بغداد وضرب سرادقه بازاء دار الخلافة وهدد المسترشد، فاسترضاه المسترشد فرجع إلى الحلة. وقام صراع بينه وبين السلاجقة فانتصر عليهم عند نهر بشير شرقي الفرات سنة 516.
وامتد الصراع إلى أن اضطر دبيس للجلاء عن الحلة، ثم عاد إليها وتكرر الجلاء والعودة. إلى أن دعاه إليه السلطان مسعود السلجوقي وبعد أن أكرمه عاد فغدر به وقتله سنة 529. وقد استمرت الامارة المزيدية بعده حتى سنة 545 إذ انتهت بموت علي بن دبيس.
وفي رجال هذه الدولة يقول العماد الاصفهاني: «ملوك العرب وأمراؤها بنو مزيد الأسديون النازلون بالحلة السيفية على الفرات: كانوا ملجأ اللاجئين وثمال الراجين وموئل المعتفين وكنف المستضعفين تشد إليهم رحال الآمال وتنفق عندهم فضائل الرجال، وأثرهم في الخيرات أثير، والحديث عن كرمهم كثير. وكان صدقة يهتز للشعر اهتزاز الاعتزاز ويخص الشاعر من جوده بالاختصاص والامتياز ويؤمنه مدة عمره من طارق الأعواز يقبل على الشعراء ويمدهم، جميل الاصغاء وجزيل العطاء».
وكانت الحلة قد شيدت في أواخر القرن الخامس للهجرة، شيدها سيف الدولة صدقة نفسه وكانت منازل آبائه في بعض أصقاع نهر النيل، في إقليم بابل أيضاً. فلما قوي أمره واشتد أزره، وكثرت أمواله ورجاله، انتقل إلى الجامعين موضع في غربي عمود الفرات، ليبعد عن الطالب إذا هرب. وكان ذلك في المحرم من سنة 495هـ على عهد السلطان بركيارق بن ملكشاه السلجوقي وفي خلافة المستظهر بالله العباسي، وكانت أجمة تأوي إليها السباع، فنزل فيها بأهله وعسكره وحلفائه، وبنى بها مساكن جليلة ودوراً فاخرة، وتأنق أصحابه في ذلك، وقصدها التجار، فصارت أفخر بلاد العراق وأحسنها.
وعن المزيديين والشعر يتحدث الدكتور علي جواد الطاهر:
كانت مكانة بني مزيد في الشعر بارزة بروزها في التاريخ، ولقد مدح الشعراء نور الدولة دبيس بن علي بن مزيد، فلما توفي في سنة 474 رثوه فأكثروا ولقد رثوه بعد وفاته بأكثر مما مدحوه في حياته وظل ذكره يتردد عند مدح أعقابه ولما أفضت الامارة بعد وفاته إلى ولده بهاء الدولة منصور، هنأه البندنيجي ودعا للسلطان ملكشاه.
وكان بين منصور وشرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران العقيلي مكاتبات ومعاتبات، وقد استنجد العقيلي مرة بهاء الدولة فلما لم ينجده عزم واعتمد على نفسه وانتصر، فأجابه بهاء الدولة معتذراً:
ولو أني جريت على اختياري قددت إليكم الفلوات قدالتعلم أن بيت بني علي لكم وبكم يعد إذا استعدا
ولابدّ من تصديق عذر منصور لأنه معروف بالشجاعة والنجدة ولأنه يقول والتاريخ يؤيده:
فإن أنا لم أحمل عظيماً ولم أقد لهاماً ولم أصبر على فعل معظم ولم أجر الجاني وأمنع حوزة غداة أنادي للفخار وأنتمي فلا نهضت لي همة عربية إلى المجد ترقى بي ذرا كل مخرم وفي عام 476 لما استولى العسكر السلطاني على حلل العرب في ديار بكر وغنموا أموالهم وسلبوا حريمهم بذل صدقة بن منصور الأموال وأفتك أسرى عقيل ونساءهم وأولادهم وجهزهم جميعهم وردّهم إلى بلادهم ففعل أمراً عظيماً وأسدى مكرمة شريفة فشكره الناس على ذلك وامتدحه الشعراء فأكثروا.
-----------------------------------
* دائرة المعارف الاسلامية الشيعية /3

إطبـــــــع العودة للفهرس

إحفظ الصفحة