مدينة تكريت

 

صلاح عمر العلي/ انكلترا

 

تقع مدينة تكريت على الضفة اليمنى لنهر دجلة وعلى بعد 180 كليومتراً شمال مدينة بغداد و 330 كليومتراً جنوب الموصل. وهي تميل بحافة شديدة الإنحدار على نهر دجلة يتراوح ارتفاعها بين 45 - 50 م تقريباً، ومنطقة تكريت شبه متموجة ترتفع عن سطح البحر 110 م، تخترقها أودية وشعاب، انحدار الأرض الطبيعي من الغرب إلى الشرق وتمتد داخل الهضبة الغربية لمسافات متفاوتة. من أمثلتها وادي شيشين وروميه في جنوبها والقائم الكبير والزلة وخر الطير في شمالها، كما يوجد أحد هذه الأودية الذي يخترق المدينة القديمة ويسمى الخر، وتجري في هذه الأودية مياه الأمطار بعد سقوطها ومن مسافات بعيدة حتى تصل إلى نهر دجلة.

 

 

الجغرافيا التأريخية لمدينة تكريت

 رغم عدم توافر أدلة أثارية على بداية الاستقرار في موضع تكريت حتى الآن، إلا أنه قد يمدنا موقع المدينة بمؤشرات على ذلك، يؤكد الباحثون التاريخيون بأن أقدم مستوطن بشري عراقي كشفت عنه التنقيبات هو "جرمو" قرب مدينة جمجمال على هيئة قرية زراعية منظمة حيث حدد تأريخ سكناها قبل 6750 ق. م. وتل حسونة (6000 - 5000 ق. م) الذي يقع على بعد 35 كم جنوب الموصل وأم الدباغية (5700ق. م) الذي يقع قرب الحضر وتل الصوان (5500 - 5000ق. م) الذي يقع على بعد 12 كم جنوب سامراء.

إن استعراض مواقع هذه المستوطنات في العراق يشير إلى أنها كانت تحيط بموقع مدينة تكريت الحالية حيث يتوسط موقعها العالي المسافة بين أم الدباغية في الشمال الغربي وتل الصيوان في الجنوب.

ولقد كشفت التنقيبات الحديثة عن وجود مستوطنات أخرى أقرب إلى موقع تكريت منها شلفحت والناعور والمبدد تعود إلى الألف السادس قبل الميلاد ومستوطنات أخرى تقع على وادي الثرثار مثل تلول سفرة والميمون والصوامع وام تليل.

وإذا ما علمنا بأن هذه المدينة تقع على نهر دجلة على الجانب الأيمن وعلى الجرف الصخري المرتفع المحمي من الفيضان بينما ينفتح قبالته على الضفة اليسرى سهل زراعي يصل عرضة إلى 3 كم أحيانا قد يقودنا إلى الاستنتاج بأن نشأة هذه المدينة لا تعدى هذه الاحتمالات.

أ ـ عوامل عسكرية، حيث بنيت فيها القلعة على الجرف الصخري النائي في موضع محصّن بماء النهر. فكان ملجأ إلتجأ إليه السكان بعد أن ازداد عددهم في المناطق الزراعية ولعل ما يرجح هذا الرأي أن أحد أسماء المدينة في الماضي كان بإسم القلعة (برتو) أو (برتل) التي تعني في اللغة الأكدية القلعة المحصنة كما ذكرت في أطلس بطليموس باسم "برثه". كما قيل بأنها مدينة رومانية مأخوذ اسمها من الكلمتين اللاتينيتين meonia Tigrides اللتين تعنيان قلعة دجلة.

وقد استمر موقعها ذو الأهمية العسكرية يؤدي دوره لجميع الدول التي قامت في العراق ابتداءاً من الدولة الأكدية والآشورية والبابلية أو الدول التي أصبح العراق تحت نفوذها.

ب ـ إن موقعها بين بيئتين متباينتين في الإنتاج، هما المنطقة المتموجة شبه الجافة الرعوية في طبيعتها ومنطقة السواد أو السهل الرسوبي ذات الزراعة الروائية، أدى إلى تطورها سوقاً للتبادل لأنها أنسب مكان للتبادل بين هاتين البيئتين حيث يمكن أن تصل قوافل البدو الرحل إليها لتتمون منها ما تحتاجه خلال السنة وتعرض منتجاتها من السمن والحيوانات والأصواف للبيع.

ويرجح هذا الاستنتاج الرأي القائل بأن اسم تكريت قد تحرف من كلمة سريانية هي "تجريت" أي المتجر لاشتهار أهلها بالتجارة كذلك اكتشف في أواخر العصر الآشوري الحديث وبالتحديد 648 - 612ق. م في القسم الجنوبي المجاور لإحدى بوابات سور مدينة آشور، إثنتان منها يمثلان عقد بيع جرى بين شخص من مدينة تكريت إسمه "نادينو ابن زماني أشيش" وشخص آخر من مدينة آشور، بينما يمثل الثالث عقد قرض بين شخصين من هاتين المدينتين مما يشير إلى العلاقة التجارية التي كانت مزدهرة بين كل من تكريت وآشور، والملاحظ أن واحدة من عشائر هذه المدينة يطلق عليهم اسم "الشيايشة".

إن هذا العرض يوضع لنا أن المنطقة المحيطة بتكريت كانت مسكونة بالمجتمعات الزراعية الأولى التي كانت تمثل أولى بذور الاستقرار في العراق بل في العالم.

ج ـ يحتمل أن نشأة المدينة الأولى تعود إلى عوامل دينية حيث يشير فاروق الراوي إلى أن أقدم الأدلة الكتابية (في الكتابات المسمارية) تشير إلى ورود ذكرها في نحو القرن السادس عشر قبل الميلاد في الوثائق التي عثر عليها في سبار "قرب اليوسفية" لكن الإشارات إلى المدينة ازدادت في القرن السابع قبل الميلاد. وقد وجدت بعض الوثائق في مدينة الوركاء تقول " أن قرايين جاشان إله الوركاء ونانا إله تكريت" ومن هنا نجد ارتباط مدينة تكريت بمركز من أعرق المراكز الحضارية وهو الوركاء الذي اقترن بذكر اسم إلهها مثل اقتران تكريت باسم نانا إله القمر الذي عُبد على نحو شائع من قبل سكنة الجزيرة العربية، على أن أهمية المدينة استمرت مركزاً دينياً فيما بعد وقد يلقي ذلك ضوءا على تلك الجذور الأولى ومهما كان العامل الأول أو الرئيس في نشأة المدينة الأولى فإن العوامل الأخرى تضافرت لتبقى المدينة مستقراً بشرياً. استمرت فيه السكنى على نحو متواصل منذ أقدم العصور وحتى الوقت الحاضر.

 

 

أهمية تكريت الدينية

لقد كانت تتنازع تكريت قوى متعددة منها الفرس والرومان حيث تشير بعض الروايات إلى أن الديانة المسيحية دخلت تكريت منذ وقت مبكر من ظهور تلك الديانة على يد المبشرين النساطرة وقد حاول الرومان الذين اعتنقوا الديانة المسيحية الإفادة من موقعها المتقدم بوصفه ثغراً من ثغور الدولة الرومانية ليكون ظهيراً مناصراً لهم ضد الفرس ولم تفلح مناصرة الفرس للنساطرة ضد المذهب اليعقوبي الذي كان يناصره الرومان فاستقرت هذه المدينة مقراً للمفريات. منذ القرن السادس الميلادي حتى جاء الفتح الإسلامي حيث كانت المدينة بيد الرومان فتم تحريرها وانتشر الإسلام منذ سنة 16هـ/637م. ومع ذلك بقيت تكريت إحدى المراكز المسيحية المهمة حتى عام 1164م إذ نازعتها هذه المكانة مدينة الموصل التي نقل إليها مقر أو كرسي المفريان اليعقوبي. ولقد بنيت في هذه المدينة عدة كنائس وأديرة كان من أبرزها الكنيسة الخضراء، ولقد بقيت آثار تلك الأديرة شاخصةإلى فترة متقدمة من القرن العشرين في مواقع مختلفة من المدينة.

مدينة تكريت في المصادر المسمارية

في كتابات الملك الآشوري توكلتي تورنا 890 884 ق. م ورد ذكر مدينة تكريت أول مرة على رقيم طيني عثر عليه في موقع بمدينة آشور وكان مؤرخاً بالسنة السادسة من حكم الملك المذكور.

وهذا الرقيم الطيني يتضمن وصفاً لحملة الملك توكلتي ـ تورنا الثاني شملت منطقة وادي الثرثار ثم نهر دجلة فبلاد بابل والفرات ووادي الخابور في سورية، وهدف هذه الحملة كان من أجل إظهار قوة الدولة الآشورية وإبراز هيبتها، فقد أشار هذا الملك، ضمن سرد تفاصيل حملته المذكورة، إلى منطقة تكريت بوصفها منطقة سكن القبيلة الآرامية البدوية itu’a التي تلفظ أيضا u’a والباحث المسماري (س. هورن) قد أشار إلى أن مركز المنطقة التي سكنتها قبلية itu’a يسمى itu ويتمثل بمدينة تكريت الحالية علماً أن قبل itu’n قد سكنت على مد الجانب الغربي لنهر دجلة في المنطقة المحصورة ما بين بغداد وتكريت وبعد أن أصبحت هذه القبيلة تشكل خطراً على الدولة الآشورية قام الملك الآشوري (توكلتي ـ تورنا) الثاني، بحملة عسكرية ضدها عام 885ق. م ثم أعقبه الملك الآشوري (أدد ـ نيراري) الثالث 810 783 ق. م بحملة عسكرية عام 790 ق. م لمقاتلتها ثم لم يعد أن كرر حملته العسكرية الثانية ضد هذه القبيلة الآرامية عام 783ق. م.

وموقع مدينة تكريت كما تثبت ذلك طبيعة طوبوغرافية المنطقة التي تقع فيها، يمثل لقطة تحشد مثالية لكل قوة تطمع في السيطرة على المنطقة الشمالية. ولهذا السبب تراجع إليها الملك نابو بلاصر عند فشل هجومه على مدينة آشور واتخذ من قلعتها موضعاً دفاعياً حصيناً تجاه الجيش البابلي المنسحب ومحاصرته في مدينه تكريت ودام حصاره عشره أيام لم يتمكن الجيش الآشوري خلالها عن اقتحام المدينة فتراجع باتجاه مدينة آشور كما تراجع الملك الكلدي نابو بولاصر باتجاه مدينة بابل.

مدينة تكريت في العصور الإسلامية ـ المحور التاريخي

بعد إنجاز مهمة الفتح من قبل الجيش الإسلامي لكل من جنوب ووسط العراق وبعد الاستقرار المؤقت في المدائن وضع خطة لمواصلة عملية الفتح باتجاه الشرق والشمال العراقيين حيث كانت مدينة تكريت أحد أهداف التحرير. إتجه الجيش الإسلامي بقيادة الصحابي الجليل عبد الله بن مالك بن المعتم العبسي يساعده عدد آخر من الصحابيين منهم ربعي بن الأفكل العنزي والحارث بن حسان الذهلي وفرات بن حيان بن ثعلبة العجلي وهاني بن قيس وعرفجة بن هرثمة من المدائن باتجاه مدينة تكريت، وكان تعداده يقدر بخمسة آلاف مقاتل، واستغرقت عملية الزحف من المدائن إلى تكريت مدة أربعة أيام، كما يشير إلى ذلك سيف بن عمر التميمي في روايته.

ونظراً لتحصينات المدينة القوية جداً، حيث كان يحيط بها سور عظيم يليه خندق واسع وعميق إضافة إلى القلعة الحصينة التي يحيط بها سور محصن، فقد فرض الجيش الإسلامي حصاراً على المدينة من جميع جهاتها الجنوبية والغربية والشمالية وشددت حصارها على المناطق المقابلة لأبواب المدينة، وذلك على امتداد سورها الخارجي عند الجهة الشرقية التي كان نهر دجلة يحاذيها. ودام الحصار 40 يوماً فأقبلت عيون المدينة من تغلب وأياد ونمر وكانوا يدينون بالنصرانية إلى القائد العربي عبد الله بن المعتم فسألوه لعرب المدينة السلم كما أخبروه أنهم قد استجابوا له. بإعلان الشهادة، وكانوا قد أخبروه بحراجة وضع الروم وصعوبة موقفهم في المدينة، كان هذا الموقف الذي اتخذه أبناء المدينة من قبائل تغلب وأياد والنمر قد لعب دوراً مباشراً أنهى الحصار وعجل في دخول الجيش العربي المسلم المدينة، أما غزاة الروم فإنهم انتهوا فيها، إلا أن من فر هارباً عنها فقد ورد في نصّ الرواية ما ذكره سيف بقوله : (فلم يفلت من أهل الخندق إلا من أسلم من تغلب وأياد والنمر. . . ). وبذلك تم تحرير مدينة تكريت على نحو تام وأصبحت بوابة للفتوح العربية الإسلامية باتجاه الموصل والجزيرة الفراتية ثم باتجاه شمال العراق وبخاصة شهرزوز.

تكريت في كتب الجغرافيين والرحالة العرب والمسلمين

من المعروف لدى كافة المختصين في تاريخ المدن العربية، أن تكريت مدينة عراقية قديمة جداً، ورد ذكرها في النصوص السماوية التي يرقى تأريخها إلى العصرين الآشوري والكلداني، وورد ذكرها أيضا في أثناء الحملة التي قادها الملك الكلدي نبو بلاصر ـ والد الملك البابلي المعروف نبوخذنصر ـ للهجوم على مدينة آشور عام 615ق. م وذكرت تكريت في النص الذي يعود للملك نبوخذنصر الثاني 604 ـ 562ق. م ووردت في المصادر السريانية بصيغة (تكريث) وبالعربية بهيئة (تكريت) وحظيت هذه المدينة باهتمام المؤرخين والباحثين والبلدانيين والآثاريين شأنها شأن أي مدينة عراقية قديمة وكشف تلك الدراسات والتحريات عن جوانب مهمة من حياة المدينة السياسية والدينية والفكرية العمرانية وبينت مواقف أهلها ورجالها وعلمائها، والمدينة لا زالت تفخر بتراثها وأمجادها ومواقف رجالها المتسمة بالمحافظة على القيم والتقاليد العربية الإسلامية العريقة وبوصفها مدينة قديمة أيضاً فقد تعاقب على السكنى على أراضيها أقوام عربية عصراً بعد عصر وبرز العديد من رجالها على مسرح الأحداث السياسية والدينية والثقافية والعلمية وكانوا مصابيح لامعة في سجل التاريخ العربي الإسلامي ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر القائد البطل محرر بيت القدس صلاح الدين الأيوبي الذي ولد في تكريت 558هـ 1137م والقاضي أبو النجيب عبد الرحمن ابن القاضي تاج الدين يحيى بن أبي القاسم عبد الله بن المفرج ابن درع التغلبي التكريتي المتوفى 641هـ 1343م أول ناظر للمدرسة المستنصرية وعلى الرغم من أن عدداً كبيراً من أبناء هذه المدينة تناول تأريخها القديم إلا أن دراستهم تلك لم تتناول بالتفصيل المادة التي قدمها الجغرافيّون والرحالة العرب والمسلمون والتي تعد مادة مهمة في توضيح كثير من جوانب الحياة في هذه المدينة وهي تكمل في ما تضمنته الصورة التي قدمتها الدراسات الأخرى عن المدينة.

إن أول من ذكر مدينة تكريت من الجغرافيين هو العالم الفلكي والجغرافي اليوناني بطليموس في كتاب (الملحمة) المنسوب إليه وقد حدد بطليموس مساحة المدينة من خلال ذكر إحداثياتها فقال : (مدينة تكريت طولها ثماني وتسعون درجة وأربعون دقيقة، وعرضها سبع وثلاثون درجة وثلاث دقائق).

أما الجغرافييون والرحالة العرب والمسلمون فقد تناولها العديد منهم مثل سهراب الذي يعد من جغرافيي المدرسة اليونانية، فهو أو ل من ذكر مدينة تكريت في كتابه (عجائب الأقاليم السبعة إلى نهاية المعمورة) ويكشف المؤلف في هذا الكتاب عن معرفة جيدة بالعراق إذ لا يرقى الشك إلى أنه عاش فيه، وقد وضع سهراب مدينة تكريت في ضمن الأقليم الرابع وبذلك حدد موقعها الجغرافي. أما ابن رسته المتوفي 290هـ 903م وابن خرداذبه المتوفي 300هـ 913م الذي يعد مؤلفه أول مصنف في الجغرافيا الوصفية العربية والحسن ابن أحمد بن يعقوب الهمداني المتوفي 334هـ 945م في كتابه الذي خصصه لوصف شبه جزيرة العرب فيشير إلى تكريت بوصفها موطن قبيلة أياد العربية وإستناداً إلى معلوماته فإن أهل تكريت هم من العرب الخلص الذين نزحوا من شبه جزيرة العرب. وابن الفقيه الهمداني المتوفي 340هـ 951م الذي صنف (مختصر كتاب البلدان) بعد موت الخليفة العباسي المعتضد بالله ذكر روايته عن الفتح الإسلامي لمدينة تكريت في قوله : (إن عقبة بن فرقد فتح الطيرهان وتكريت وأمن أهل حصن تكريت على أنفسهم وأموالهم وسار في كوره باجرمي حتى سار إلى شهرزوز).

 

 

أما المسعودي المتوفى 345هـ 955م وهو ممن عاصر الجغرافيين السابقين بتحدث عن الأقليم الرابع ويبين فضله على سائر الأقاليم والذي يقصد به إقليم العراق ويشير إلى مدنه ومواقعها فيقول : (تكريت وناحية حلوان مما يلي الجبل) أما أبو إسحاق الأصطخري المتوفي 346هـ 956م فقد ذكر في كتابه (المسالك والممالك) تكريت بوصفها الطرف الشمالي أو الحد الشمالي للعراق بقوله : (أما العراق فإنه الطول من حد تكريت إلى حد عبادان. . ) أما المسافات فإن الاصطخري يحددها من تكريت إلى البحر مما يلي الشرق مقوس نحو شهر ومن البحر راجعاً في حد المغرب إلى تكريت مقوس نحو شهر. وحدد المسافة بين تكريت وبغداد فقال : (ومن بغداد إلى سامراء ثلاث مراحل ومن سامراء إلى تكريت مرحلتان).

وإذا ما استرسلنا في ذكر المصادر التاريخية المعتبرة والمهمة التي تعد من أهم المراجع التاريخية لطال بنا الحديث عن تأريخ هذه المدينة التي تعد واحدة من أقدم المدن العراقية والعربية ولهذا سنكتفي بالإشارة إلى ما ذكره إبن جبير المتوفي 614هـ 1317م الذي وصل إلى تكريت في التاسع عشر من شهر صفر 580هـ الموافق حزيران عام 1188م بقوله عن مدينة تكريت : (مدينة كبيرة واسعة الإرجاء فسيحة المساحة، حفيلة الأسواق، كثيرة المساجد، غاصة بالخلق، أهلها أحسن أخلاقاً وقسطاً في الموازين من أهل بغداد، ودجلة منها في جوفها) وتطرق ابن جبير إلى قلعة تكريت بقوله : (ولها قلعة حصينة على الشط هي قصبتها المنيعة) وياقوت الحموي الجغرافي العربي والرحالة البارع الذي خص مدينة تكريت في موسوعته المخصصة بالبلدان في عدة مواقع نكتفي بما ذكره عن تكريت في العهد الإسلامية فيذكر أن : (تكريت افتتحها المسلمون في أيام الخليفة عمر بن الخطاب (رض) سنة 13هـ وأرسل إليها سعد بن أبي وقاص جيشاً عليه عبد الله بن المعتم فحاربهم حتى فتحها عنوة).

إن ما سلف ذكره عن هذه المدينة لا يعدو أن يكون غيض من فيض المعلومات الهامة عن أهمية ودور هذه المدينة في التاريخ العراقي والعربي القديم والحديث فقد برز من أبناء هذه المدينة علماء وقادة وفقهاء ومثقفون تركوا بصماتهم الواضحة على التاريخ العربي والإسلامي.

 

 

ومن أبرز تلك الأسماء في التاريخ القديم :

1 ـ عبد السلام بن يحيى بن أبي القاسم عبد الله بن المفرج بن درع بن الحسين بن الخضر بن حامد التغلبي القاضي أبي زكريا التكريتي ولد 570هـ 1174 تحدر من بيت عريق بالعلم والفقه والوعظ وحفظ القرآن الكريم والشعر والخطابة.

2 ـ الفيلسوف يحيى بن عدي التكريتي ولد في مدينة تكريت سنة 382هـ ودرس في مدارسها وتثقف ثقافية عالية ثم درس الفلسفة على يد متي بن يونس وهو مسيحي وعلى الفارابي 339هـ ثم ترأس فلاسفة بغداد بعد رحيل الفارابي عنها على مدى ثلاثين عاماً لم ينازعه فيها أحد حتى وفاته.

3 ـ الفقيه عبد الله بن سويده التكريتي المتوفي عام 584هـ وقد وصفه المؤرخ العراقي المشهور ابن الأثير صاحب الكامل بقوله (شيخنا) وقال عنه : (كان عالماً بالحديث وله فيه تصانيف حسنة أما ابن الفوطي فقد لقبه كافي الدين وأضاف إلى ألقابه (المقرئ)).

4 ـ القاضي علي بن الحسين بن أحمد بن زيد أبو الحسن التكريتي.

5 ـ القاضي عبد الرحمن بن درع التغلبي علم الدين أبو النجيب التكريتي قاضي تكريت.

6 ـ القاضي والمقرئ عبد الله بن عمر بن القاسم بن المفرج التغلبي عز الدين أبو القاسم.

7 ـ الأديب والشاعر والمقرئ أسد بن المبارك بن أسد بن حمو، عفيف الدين أبو الحارث التكريتي عز الدين أبو القاسم.

8 ـ الحسين بن الحسن المنتجب أبو عبد الله التكريتي قال عنه ابن الفوطي : (كان شيخاً عالماً بالقراءات وطرقها، استوطن بغداد وكان الإمام لمسجد المنارة بسوق الثلاثاء).

النزوح إلى الموصل والبلدان الأخرى

إنتشر التكارته في أصقاع وبلدان كثيرة، من العراق وبلاد الشام وأعالي الجزيرة الفراتية ومصر واليمن وكان هذا الانتشار، ممثلاً بكثير من الجماعات من الرهبان والتجار والأثرياء وأهل الحرف وأرباب الصناعات فضلاً عن أهل العلم ورجاله. وبداية تلك الهجرات تعود إلى الحقب الإسلامية الأولى ثم تعاقبت تلك الهجرات على مر الزمن في القرون التالية وقد إتخذت تلك الهجرات اتجاهات مختلفة بعضها تمثل بالنزوح إلىمدن العراق الرئيسة وبخاصة مدينتي بغداد والموصل حتى أصبح تواجدهم في الموصل يمثل ظاهرة، تثير انتباه المهتمين بمثل تلك الموضوعات. أما النزوح إلى الموصل وعدد من القرى التابعة لها فقد اتخذ شكل نزوح شبه جماعي، وذلك في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي فشيد هؤلاء النازحون بضع كنائس لهم في الموصل كنا منها كنيسة مار أحودامة، وكنيسة مارزينا، وكنيسة ماريتودورس.

وفي الحقب التي سبقت ظهور الإسلام نزح العديد من الرهبان من مدينة تكريت إلى مصر، وازداد هذا النزوح في أعقاب الخلافة العباسية وأخذ العديد منهم بإقامة الكنائس والأديرة في مناطق متفرقة ومن أشهر دياراتهم في مصر دير السريان، بيرية الأسقيط في وادي النطرون الذي يعود بناؤه إلى القرن الخامس الميلادي والذي اشتراه بعد ذلك ماروثا ابن حبيب التكريتي التاجر السرياني في أواسط القرن الثاني الهجري بمبلغ 12000 دينار، وأوقفه على الرهبان السريان وكان رئيسه الأول ابن عدي من مدينة تكريت وفي سنة 1084م كان هذا الدير يحوي نحوا من سبعين راهباً وظل هذا الدير أهلا بالرهبان السريان حتى منتصف القرن السابع عشر الميلادي ثم سكنه الرهبان الأقباط فيما بعد.

وفي العقد الأخير للقرن الخامس الميلادي خلال حكم كقباذ بن عزارسب الفارسي الذي خلق حالة من البلبلة في المدينة لتسهيل السيطرة عليها فهدم بعض كنائس المدينة واستحوذ على كنيسة ماراحودمة كبرى كنائس تكريت مما دفع مفريانها وعدداً من أهلها إلى النزوح إلى مدينة الموصل وقراها مثل بيت خديدا (قره قوش) وباعشيقا وبحزاني وبرطلة. وقد ارتبط ذلك النزوح بسكان تكريت من المسيحيين من دون سواهم حتى فترة ما قبل الغزو المغولي ومنذ تلك الفترات أخذت هجرات أهل تكريت من المسلمين تزداد ولا سيما في العقدين الأخيرين اللذين سبقا الغزو المغولي، وكان توجه أغلب تلك الهجرات إلى بلاد الشام ومصر.

وكون التكارتة نسبة مهمة من جماعات السريان اليعاقبة في بغداد على مدار عهودها التاريخية الوسيطة الذين كانوا يتمركزون بجانب الكرخ في الجهات الجنوبية الغربية منه، عند باب المحول. كانوا من أهل تكريت فضلاً عن أن بعض أعلام تكريت كانوا قد أقاموا ببغداد منهم على سبيل المثال أبو زكريا يحيى بن عدي وأخوه إبراهيم وكان يحيى بن عدي الذي توفي سنة 974م قد أوصى أن يكتب على قبره في كنيسة مار توما بقطيعة الرقيق، بيتان من شعره وهما :

 رب ميت صار بالعلم حياً ومبقى قد مات جهلاً وعيا/ فاقتنوا العلم كي تنالوا خلوداً لا تعدوا الحياة في الجهل شيا

 

 

ومن المدن والبلدان الأخرى التي استقر فيها، مدن حران، وكفرتوثا، ودمشق، والرقة، ورأس العين ونصيبين، وأرزن، وديار بكر، وملطية، وعلى سبيل فقد كان لأهل تكريت خلال القرن التاسع الميلادي صلات حميمة مع تكارتة مدينة الرقة الذين كان لهم فيها كنيسة عرفت باسم بيعة التكريتيين.

وبعد سيطرة صلاح الدين الأيوبي على مصر وقضائه على الفاطميين أرسل جيوشه إلى النوبة واليمن ولسنا هنا بصدد الحديث عن الدوافع التي دفعت صلاح الدين للتوجه إلى اليمن، ولكن ما يهمنا التأكيد عليه هو أن هذه الحملة العسكرية ضمت عدداً من القادة والشخصيات المهمة من مدينة تكريت وكان أبرز هؤلاء هما رضي الدين محمد بن علي المعتمد التكريتي وعز الدين أبو عمرو عثمان بن علي الزنجبيلي التكريتي الذين شاركا في فتح مصر على يد القائد صلاح الدين الأيوبي التكريتي. كما شاركا في الحملة على اليمن وفتحها تم توليا منصب النائب على عدن وأعمالها بعد ذلك وكان لهما أثر بارز ومهم في إعادة بناء الحياة في هذا الإقليم ويقية أجزاء اليمن.

إطبـــــــع العودة للفهرس

إحفظ الصفحة