الكوفة

 



 وهي ثاني مدينة بنيت في كنف الإسلام بعد البصرة مباشرة بعامين. ويمكن أن يكون إنشائها على تخوم الصحراء وبجنب أكبر الحضائر العراقية(الحيرة) وفي الفرات الأوسط الوارث للتراث الحضاري العراقي (البابلي السومري)،بما جعلها تكتسي سمات إستثنائية وتبزغ فيها الروح الابداعية العراقية المخزونة في هذه المنطقة منذ آلاف السنين. 

وتقع الكوفة في الجانب الغربي من نهر الفرات وعلى بضعة اميال الى الشمال الشرقي في مدينة الحيرة ذات الصيت الذائع قبل الاسلام، وهي الان على بعد 156كلم جنوب بغداد و18 كلم شرقى مدينة النجف الاشرف. كان القصد من انشائها عسكريا محضا اذ كان استجابة لبعد نظر استراتيجي ارتأه الخليفة عمر بن الخطاب، بحيث ان لا تحول مجاري انهار العراق عن الاتصال المباشر بها لتكون رباطا متقدما لجيوش المسلمين ينطلقون منها لفتوحات الشرق ويلجاؤون اليها اذا اصابهم هجوم مباغت. ويذكر الطبري في تاريخه (اخبار العام 18هجرية) في سبب بنائها ان سعد بن ابي وقاص بعد ان فتح العراق وتغلب على الفرس ثم نزل في عاصمتهم المدائن ثم بعث وفدا- الى الخليفة عمر بن الخطاب يخبره بذلك الفتح، فلما وصل الوفد الى عمر راى ألوانهم تغيرت وحالهم قد تبدل، فسأ لهم عن سبب ذلك فا جابوه : تخوم البلاد غيرتنا، فامرهم ان يرتادوا منزلا ينزلون فيه المسلمين، لان العرب لا يلائمهم طقس بلد الا اذا جاء ملائما لمزاج ابلهم وكتب الى سعد "ابعث سليمان وحذيفة رائدين ليرتادا منزلا بحريا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر". فارتاد سليمان وحذيفة جانبي الفرات نزولا من الانبار فلم يجدا افضل من موقعها لحصانته ولطوبوغرافيتها وارتفاعها، بحيث لا يردها ماء الفيضان ولقربها من ماء الفرات ومن مدينة الحيرة العربية التي كانت قد انشأت عام 240م على يد عمرو بن عدي اللخمي (من بطون اليمن) وبمباركة فارسية لصيانة طريق القوافل القاطعة للصحراء.

امر سعد بن ابي وقاص بتاسيس الكوفة في يوم 23 كانون الكاني (يناير) من عام 638م على هذه البطحاء من الارض الخصبة الطينية التي اكتسبت اسمها منها فيقول الطبري : والكوفة على حصباء وكل رملة حمراء. يقال لها سهلة وكل حصباء ورمل هكذا مختلطين فهو كوفة.

وجاء في تاج العروس سميت بالكوفة لاستدارتها وقيل عن الطرز المعمارية والفنية التي اكتسبتها المدينة الجديدة فالبيت الحيري المشهير ذوا التخطيط الخاص الذي قلده الكثيرون اينما اتسع الاسلام وقد ذكره العرب وحاكاه الخليفة العباسي المتوكل فبناء قصره (ا لجوسق الخا قا ني) في سا مراء حيث قاله ا لمسعود ي (ا حدث المتوكل في ايامه بناء لم يكن الناس يعرفونه وهو المعروف بالحيري ذي الكمين والاروقة).

لقد كان تخطيط المدينة دائريا غير منتظم وعلى الغالب انها سنة عمرانية مورست من قبل في مدن العراق قبل بغداد دار السلام. فقد وجدت في اشور والحضر قبل ذلك بسبب ما يوفر من اقتصاد في المساحة وعقلانية في توزيع الاحياء واتصالها بالمركز.

اما بيوتها فقد اختير لها مادة القصب الاولية في البناء نظرا لوفرتها في المنطقة وكذلك سهولة تنفيذ الحجر منها بخبرة محلية موروكة من ايام السومريين. وقد كانوا قد استخاروا الخليفة عمر فسألهم وما القصب ؟ فاجابوه : (العكرش اذا روى قصب فصار قصبا) فاعطاهم حرية هذا الاختيار بالرغم من عدم معرفة الفاتحين به. لكن الحريق الذي وقع في الكوفة والبصرة بعد عام واحد. من ذلك احالها الى رماد واحترق في الكوفة ثمانون عريشا. فاستأذنوا عمر البناء بالطين (اللبن) فأجبهم عارفا وناصحا: (افعلوا ولا يزيد احدكم على ثلالة ابيات ولا تطاولوا في البنيان والزموا السنة تلزمكم الدولة)

 وهذه كانت المبادئ الاساسية ذات السمة الزاهدة في العمارة الاسلامية والتي حرفت بعد حين. فارسل سعد الى أبي الهياج فاخبره بكتاب عمر وامره بالمناهج ليكون عرضى الشارع 20م وما يليها 15 م وما بين ذلك 10 م والازقة 3،5 م ليس دون ذلك شيء وفي القطائع 30م .

 

 

  والظاهر ان ابى الهياج هذا كان من اوائل المعماريين في رحلة الاسلام الحضارية. وكان المسجد اول ما اختط في مركز المدينة المجازي والملموس ومن جهة القبلة تحاذية دار الامارة التي كان بينها وبين الجامع فجوة سرعان ما احتوتها دار الامارة بعد حالت سطو عليها فاصبح ملاصقا للمسجد وهذه السنة اصبحت القاعدة في تجسيد الحواضر الاسلامية في المستقبل،وهي سنة عمرانية موروثة منذ أيام سومر حينما كان قصر الحاكم يكون على تخوم المعبدبما يجسد تجمع روحي وسلطوي، مع ما هو نفعى وخدمي للمجتمع الاسلامي. وهذا المفهوم المثالي تجسد في رسالة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الى سعد حيث قال له : بلغني انك بنيت قصرا اتخذته حصنا ويسمى قصر سعد وجعلت بينك وبين الناس بابا فليس بقصرك ولكنه قصر الخبال. انزل منه منزلا مما يلي بيوت الاموال واغلقه ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله. . . وهذه المعلومة تذكرنا بحالنا الحاضر لنقارن ونستنتج العبر.

وبالرغم من التغييرات والاضافات التي طرأت على بناء القصر هذا ولكن شكله العام مربع طول ضلعه 110 م ومعدل سمك جدرانه 1،8م اضافة الى مخطط الجامع كذلك. ومن المعلوم ان الشكل المربع كان مفضلا لدى المخططين المسلمين نظرا لنسبة الجمالية ورمزيته بالاستقرار والعدل في توزيع الاضلاع ليعكس حالة فكرية معينة، ناهيك عن الرغبة في التمييز بين فكرهم وفكر اليهود والنصارى من قبلهم الذين اتخذوا من المثلث صيغة رمزية للنسب الجمالية والتخطيطية في فنونهم.

لقد كان الفضل لزياد بن ابيه في استعمال الآجر (الطوب) كمادة رئيسية في بناء المسجد ودار الامارة وذلك عام 671م فادخل بعض التحسينات والتعديلات عليها ليجعله اكبر واجمل مسجد اسلامي انذاك - كما ذكر المستشرق ماسينيون وكذلك كرزول الذي قال - ان فن العمارة في الكوفة اخذت تسجل تقدما ملموسا في ايام زياد. فقد اعاد استعمال الاجر الحالة المتوارثة في العمارة العراقية وذلك باستعمال المحيطان السمكية الساندة والمسقفة بنفس المادة باشكال الطاق او القبو أو القبة بتقنية تنفيذية موروثة، توفر عليهم استعمال الخشب الذي نفتقر اليه بيئة المنطقة. اما المعالمجات الفنية الداخلية فتظهر من زخارف الجص (ستوك) المنقوش بطريقة الحفر أو الصب الجاهز ثم تلون بالقرمزي والنبيذي وا لازرق وا لاخضر الغامق والبرتقالي والاسود. وظهرت كذلك الكتابات بالخط الكوفي باللون الاسود ومعظمها تنطوي على معاني الاستغفار والتوبة.

 

 

ويذكر بعضى المورخين ان دار الامارة هذه قد اقفرت في زمن الخليفة العباسي المهدي سنة. بعد ان كانت قد انتعشت المدينة ووصلت اوج عظمتها في العصر الاموي وقد أضمحلت بعد بناء واسط ومن ثم بغداد وفي الفترة الاخيرة من تاريخها تعرضت لهجمات القرامطة وعندما زارها الرحالة ابن جبير قال عنها: (ان معظمها خراب) اما مسجدها الجامع فلم يبق منه سوى الظلة. وجاءت ثالثة الأثافي عليها،حينما أنشأة النجف على تخوم مقبرتها،ففقدت مدد المكوث،وكادت أن تدرس. واليوم هي بحاجة الى دراسات أركيولوجيه معمقة،وربما يستوجب ذلك إعادة بناء قصر الإمارة،وترميم مسجدها بطريقة علمية وإرجاعه الى أول هيئته،كون أن معالمها تشكل أول تلاقح بين الإسلام والحضارات الراسخة من العراق القديم.

إطبـــــــع العودة للفهرس

إحفظ الصفحة