جليل القيسي :

انا كركوكلي من اب عربي

وام كردية من عشيرة زنكنه

 

حوار نوزاد أحمد أسود/ السليمانية:

جليل القيسي (1937- كركوك) غني عن التعريف، فهو قاص مبدع و معروف على مستوى الادب العربي كله، و هو كاتب مسرحي كبير له مكانته المرموقة في ساحة المسرح العراقي والعربي، و كان احد اعضاء "جماعة كركوك" الادبية التي تأسست في ستينيات القرن العشرين في كركوك حيث كان لها دور بارز في تجسيد و تفعيل الحركة الثقافية فيها، و تضم الجماعة ادباء من الكرد و التركمان و العرب و الكلدواشوريين.

صدر له لحد الان ثمانية كتب من قصص و نصوص مسرحية لعل ابرزها "صهيل المارة حول العالم" و "جيفارا عاد افتحوا الابواب" و "زليخا، البعد يقترب" و "في زورق واحد" و اخيرا "مملكة الانعكاسات الضوئية"، كما له مجموعة قصص اخرى معدة للطبع ومحفوظة عند معد هذا اللقاء حيث يبلغ عددها ثلاثين قصة بانتظار طبعها من قبل أي دار للنشر او في أي مؤسسة ثقافية.

     هذه مقاطع مما ذكره عن مدينته كركوك في حواره الطويل:

افتخر انني من اب عربي و ام كردية من عشيرة زنكنة. .  كانت والدتي انزه قلب عرفته في حياتي و اصلب من عرفت في المواقف الصعبة.  كانت لها ارادة صلبة لا تفتر ابدا. .  اما والدي، فكان هادئاً، طيباً، وديعاً، مسالماً نزوع الى الانزواء، و حب الوحدة، و التأمل. .  كنت حتى الثامنة من عمري لا اعرف سوى اللغة الكردية.  و تعلمت التركمانية في الحارة التي عشت فيها و تعرفت في حياتي الدراسية على عدد كبير من التركمان الرائعين، و مازلت على صداقة حارة مع العديد من المبدعين منهم مثل قحطان الهرمزي، فخري جلال، عبد الرزاق شيخلر زاده، شكر البياتي. .  انت تعرف ان زوجتي ارمنية و في حارتنا القديمة كانت ثمة العديد من الاسر الارمنية. .  

اجل، انا ابن كركوك.  ولدت و كبرت، و عملت، وبصبر رواقي سقراطي كتبت في هذه المدينة الناعسة الناعمة.  لا يستطيع ان يفهم هذه المدينة الرائعة الا الكركوكي الحقيقي، لأن المدينة مثل آلة كمان الغريب عنها يمتلك العزف على وتر واحد فيها حسب، بينما الابن الحقيقي لها يعزف بتلقائية على اوتارها كلها و يخرج لحناً هارمونياً جميلاً…

جماعة كركوك. .  هذه الجماعة التي ستبقى تاريخاً في دنيا ادب هذه المدينة لردح طويل من الزمن. .  لم لا؟ و قد اعطوها الكثير. .  ان الزمن يا عزيزي نوزاد هو الذي يوجد الانسان، لكن الانسان هو الذي يعطي الزمن قيمة. .  و قد اعطينا هذه المدينة التي شاء القدر ان نرى النور فيها و ندفن في ترابها سرتنا القيمة. 

سنة 1959 التقيت بأخي و حبيبي فاضل العزاوي. . .  كان كشاعر يبحث عن سماء من اروع الكلمات. .  انه احد الموهوبين النادرين من جماعة كركوك. . ثم التقيت بمؤيد الراوي، و هو طراز غريب من العناد، و الاصرار، و اللامبالاة. . اما جان دمو، الذي كتبت مقالة عنه في جريدة (بهرا) بعد وفاته، كان اخر من استطاع الشفاء من كآبته.  كان لاشك موهوباً، لكن لاأبالياً، عبثياً، لاادرياً، سكيراً اشراً، بوهيمياً لم يستطع الاستفادة من نعمة موهبته، و لا من غنى سهول روحه اللا متناهية، ولان خياله الذي فعلاً كان احيانا بلا ضفاف. .  و دخل انور الغساني الشلة.  شاب هادئ، رصين، عملي و برغماتي حقيقي في دنيا العمل. 

و تعرفت على الراحل و الطيب الذكر جدا يوسف الحيدري في نفس الفترة.  زارني في دكان شقيقي الصائع الذي حكم عليه عام 1963 بخمس عشرة سنة لاسباب سياسية. .  كان الاب يوسف سعيد اباً رائعاً و عاشقاً لأسرته.  و اخيراً جاء صلاح فائق بعد فترة قصيرة قبل ان نفترق ايدي سبأ – كنا جميعاً باستثناء صلاح و يوسف نجيد اللغة الانكليزية، و نقرأ الروايات و نتابع الادب الحديث الذي اثر كثيراً في كتاباتنا، و بدأنا نكتب الشعر، و القصة، و المسرح بطريقة جديدة لفت انتباه الوسط الادبي في بغداد، و راحوا يقولون عنا (هؤلاء يكتبون مثل الانكليز. .  كتاباتهم غريبة، معقدة، و جديدة. . ) هؤلاء هم يا عزيزي نوزاد جماعة كركوك. .  إن تسألني عن اجواء كركوك الثقافية ايام صهيل المارة، و جيفارا، اه، كانت متوترة، مضطربة و قد سيطرت الرجعية السياسية على الاوضاع، و بدأت الاغتيالات العشوائية، و ضاعت الاحلام الوردية التي بنينا النفس عليها في ثورة 58 تموز. .  اجل كانت ايام صهيل المارة شديدة البؤس و التعقيد والكابوسية، من هنا جاءت المجموعة و كأنها شريحة كافكوية. .  لا غرابة كتب الشاعر اللبناني الكبير و الراحل حين قال اشهد ان كافكا عربي اخر ولد في العراق. .   لقد احببت، و مازلت، و سأبقى احب بهوس مدينة كركوك.  احب كرده، تركمانه، اثورييوه، ارمنه، و صابئته. .  عندما تعشق مدينتك عشقاً حقيقياً تفرق بسرعة آهة فيها عن آهة اخرى.  ان زفرة حب مدينة كركوك تكون مثل النار. .  كركوك مدينة سيمفونية من اللغات. .  لقد كنت دائماً رومانسياً في تعاملي مع هذه المدينة، و الرومانسي يكون ازدواجياً في ذاته حيث ينقسم الواقع بالنسبة له الى عالم مادي وروحاني، فحبي الروحي هو الذي اشعل عندي الحرية، و الجمال، و السعادة وحب الاخرين.  صدقني كركوك قصيدة ضوئية، لديها دائماً القدرة على ان تنشر عبيراً روحياً، احتفالياً، ديونيزياً، و تحرض على التوهج.  و بسبب غناها الكبير اقامت ومازالت للاخرين ولائم طوطمية. .  فهل بعد هذا الحب لا تريدني ان اكتب عنها و عن ادق تفاصيلها.  هذه المدينة التي عملت اربعين سنة من الكتابة لأجلها و لم تمنحني لحد الان أي شيئ بالمقابل. .  اه، بطلات قصصي التي ذكرتها. .  نعم يمتلكن روح نسر، ذاك النسر الذي وصفه اندريه جيد و قال عنه بأنه ضروري للحياة الروحية و الشعرية.  ان هاتيك النساء الجميلات، الرقيقات، الكيسات، و العاشقات بحق شخصيات رائعة فتية.

 انني منذ صغري احببت كركوك و بقلبي بالفطره عرفت شرائع هذه المدينة. .  و لأن العقل مطواع قابل الميل الى كل اتجاه، لذلك يدفعه كل شيئ الى الخطأ. .  اما قلبي مع كركوك فلم ولن يخطئ معي. .  انا و كركوك (كحبتين من قشرة لوزة). .  المجد لكركوك و لكل قومياته، و اطيافه. 

إطبـــــــع العودة للفهرس

إحفظ الصفحة