كركوك ولعنة النفط !!

 

مؤيد الراوي ـ المانيا

 

 

 

 

مكاني الأول كان في كركوك

عند أقدام قلعة كركوك يجري نهرها، ويسمّى بلعة أهلها" خاصه صو "، وهو نهر " العظيم" المتكون من فروع عديدة يغذيها بالمياه ثلج الجبال وسيول الأمطار المنحدرة من الشمال ومن الشرق الجبلي البعيد. 

نهر كركوك ماردٌ وملاك في نفس الوقت.  يهدر في الشتاء وفي بداية الربيع القصير ويجف في الصيف إلاّ من جداول صغيرة تسعى بين الحصى بماء رقراق.  نهرُ أحمر المياه من جراء انجراف التراب الأحمر من الجبال.  ويقف معظم الناس ليراقب غضب النهر في فيضانه وفي هديره الذي يُسمعُ في المدينة ويوقظ النيام.  يقف الناس ليراقبوا عربدة النهر الذي يجرف معه كل شيء يصادفه في مسيرته البعيدة.  يجلب جذوع الأشجار ويدحرج سقوف الأكواخ ويدفع في خضمه خرافاً وبغالاً وحيوانات أخرى، ولتصطدم أحياناً بأعمدة الجسر الحجري القديم الذي يفصل القلعة عن المدينة الجديدة.  وكثيرا ما تؤشر الأيادي، والوجوه ساهمة، الى مهد طفل يتدحرج بين طيّات الماء الأحمر.  وتفيض المياه في بعض الأعوام لتغطي الجسر الحجري تاركة خلفها، وهي تجف، غريناً أحمر يغطي الطرقات.  وعندما يتصلب الغرين ويُفخَر بحرارة الشمس يكون مادة للرقيمات التي حفر عليها الأجداد كلماتهم وأساطيرهم وأسرارهم. 

وكثيراً ما يعمّ الحزن على الناس لمصير آخرين كانوا في البعد حينما جرفت السيول بيوتهم وحاجياتهم ومصادر رزقهم، ويحتمل انها جرفت ناساً وأطفالاً لفتهم بخضمها الأحمر، ناقلة إياهم الى البحر البعيد. 

يتعلم الناس في كركوك معنى المسافات والإمتدادات عبر النهر الذي يأتيهم من الجبال ويذهب بعيداً.  ويعرفون بأن هناك أماكن وناساً يعيشون بعيداً عن مدينتهم، دون أن يسافروا أليهم.  وهم بذلك يتعرفون على الحزن المجرد، غير المشخص.  الحزن الذي يشارك أحزان الآخرين البعيدين عنهم؛ حزن من أصابتهم الكارثة هناك. 

يستدعي هذا النهر دائماً بطوفانه تاريخ العراق القديم ويستحضره في الذاكرة.  تاريخ غضب النهرين وفيضانهما، ذلك الذي دمّرَ إنجاز حضارات مختلفة رافقتها حروب وحريق وغزوات من الشمال ومن الجنوب، وضعت الإنسان العراقي وحيداً بين الماء والنار ودفعته لكي يقف ساكتاً أسير حزنه ينوح بعيداً عن محاولة تخليص نفسه مما يهدده من مصير محتوم. 

قرأت ترنيمة أم تنعي وليدها الذي تحمله بين يديها وتعصره الى صدرها، ثم تقف عاجزة بين احتراق ستائر القصر وآثاثه.  وكانت المياه أيضاً تقتحم القصر والجنود يتقاتلون ويسقطون موتى.  قلت آنذاك، إثر قراءتي ترنيمة الأم : لِمَ تبكي بترنيمتها وتنعي وليدها عاجزة لا تتحرك وتهرب فتنقذ نفسها ووليدها من الفيضان ومن النار ومن اقتتال الجنود.  قلتُ لماذا تكتفي بالبكاء والنواح، تجسِّد وتصوِّر بالكلمات ما يحيطها بالغناء الحزين، ولا تهرع لتخلّص وليدها من الموت ومن الكارثة. 

لم اكن أعرف آنذاك، في يفاعتي، ما في الحزن والكمد من سرٍ يشل المرءَ عندما يسلم نفسه للقدر. هذا الذي يعيد مأساته ويكررها، مرة بعد اخرى، ويغلق كل الدروب فلا يبقى إلاّ إطلاق العاطفة الحزينة بالشعر وبالترنيمة السوداء.  وبذلك يكون الموت مجرد رحيل لا مناص منها إلى أحضان القدر وهو لا يقتضي سوى طقوس مرافقة.  وهل أعمق من الشعر ليعبّر عن وي الرحيل ويرافقه. 

إِنه الماضي، ماضي كركوك، بقلعتها وبنهرها وبغرينها وبما تثيره في بحر الزمن فتضعنا قبالة الأجداد.  الأجداد الذين يحتشدون في المدينة، يأتون إليها من كل صوب، كلٌّ يحمل حقيبة زمنه ليفتحها لمن يريد.  يمضي في أطراف المدينة كلكامش وأنكيدو مثلما ينشغل أتونابشتم في بناء سفينته استعداداً للطوفان.  تتخاصم خارج القلعة وداخلها آلهةٌ.  يريد من هو في الأعماق " تموز " لكي يغطيه بالعتمة في الأرض السفلية.  آلهةٌ تشحذ للأقوام وللرعية سيوفاً وعربات ودروعاً للحرب.  وآلهة أُخرى سمحة تنحت على المسلة حروفاً تسلمتها من السماء، وآلهة تعبَّد الشوارع لمواكب النذور لتبارك بها المدينة. 

 

خارج كركوك القديمة، على الضفة الإُخرى من النهر العريض، تنتشر مناطق وحارات متباعدة، تفصل بينها بساتين وحدائق.  والحدائق هذه عامرة بأشجار التوت والحمضيات والرمّان والسدر، وبشجيرات الكرم وحقول الورد وبصفوف الدفلى.  بينما تحيط بمعظم البساتين وعلى أنهارها الصفصاف و أشجار الزيتون المعمرة التي تُسقط ثمارها الدهنية السوداء والبيضاء على الأرض لتترك بقعاً داكنة اللون على التراب.  وثمة أيضاً حقول متفرقة لأشجار الزيتون متروكة منذ امد، يجني الناس من ثمارها دون رقيب.  وتوحي البساتين المنتشرة خارج الأحياء السكنية المتراكمة البيوت بالريف الهاديء الذي يلتجيء إليه الناس هرباً من الضيق ومن جو الصيف الخانق.  وتبدو كركوك مدينة متفردة بأنهارها وبجداولهاالغفيرة.  أينما تمضي يرافقك نهر أو جدول ويسير معك.  تسبح في بعضها بطات تدهن ريشها، وتقترب منها العصافير والطيور غارسة مناقيرها الصغيرة في جداول الماء.  وتدخل تلك الجداول الى كل بيت، ثم تخرج منه لتدخل بيوتاً اخرى.  وتمضي في كثير من الأزقة والشوارع لتفضي أخيراً الى البساتين.  وكنا نسمّي المدينة " مدينة السواقي ".  أينما تذهب يكون بمقدورك أن تغمس قدميك في الماء البارد، وأن تغسل وجهك في حر الظهيرة.  تلك الظهيرات الحارة التي تصعد فيها اللقالق والبواشق وطيور اخرى إلى كبد السماء متلمسة البرودة هنا.

 

نهر الخاصو

 

كانت أنهار كركوك سمحة وسلسة، تُملأ بمائها الجرار والأواني، وتُرشّ به الأحواش وتُغسل قرميد البلاط ليأتي فيء الأشجار سميكاً مختلطاً برائحة التراب، بارداً في الأُمسيات. 

تأتي المياه من شمال ومن غرب المدينة حيث تبدأ المرتفعات.  وهي مياه جوفية، قبل أن تصل كركوك، تسير في سواق وأنهار تمشي تحت الأرض، باردة عذبة.  وهناك آبار كثيرة على طول الممرات الجوفية.  يمكنك ان تشاهد من فوهاتها القريبة من المدينة مياهاً رقراقة قريبة تسعى في باطن الأرض.  ولأجل استمرارتدفّق وجريان الماء كانت تُكرى تلك الآبار على نحو دائم، بأن ينزل عمال مختصون بالكري الى تلك الآبار ليفتحوا مجرى الأنهار ويخلصونه من تراب ومن حصى الإنهيارات.  ولدى اقتراب الأنهار الجوفية من شمال المدينة تتفجر في نهر متدفق يغذي الطواحين الكثيرة المنتشرة في المدينة، ويتفرع الى فروع عديدة تسقي البساتين والبيوت. 

يذهب الاطفال واليافعون، بوجل كبير الى فوهات تلك الابار ليرموا فيها حجراً ولتتطاير من داخلها رفوف حمام وحشي وقطا وزرازير وخفافيش لاذت ببرودة المياه والظل وقت الظهيرة في عمق تلك الاٌبار.  وقد ترافقت دوماً زيارة تلك الابار بشعور الخوف والخطيئة من جراء الشائعات والاساطير التي تقول بأن الآبارَ شغفة بأبتلاع الاطفال. 

أفق كركوك الشمالي أحمر في الليل، وعندما تتراكم الغيوم هناك يتوسع اللون الاحمر.  ذلك ان احتراق الغاز الفائض من آبار النفط ومن فوهات متعددة يلوِّن أفق المدينة فيكون قانياً في ظلام الليل.  وعلى مقربةٍ من تلك الفوهات النارية تشتعل ألسنة لهب صغيرة في مساحة من الارض تبدو مثل اسماك حمراء صغيرة تتراقص فوق التراب.  وتنتقل ألسنة اللهب هنا وهناك في المساحة التي توجد فيها.  ينطفيء بعضها هنا ليظهر هناك، وهكذا يتراقص اللهب باستمرار.  هذه النار الازلية تسمـّى منذ القدم بـ " بابا كركر".  وظاهرة ألسنة اللهب النارية موجودة قبل ان تقوم المدينة بقلعتها وذلك من جراء انبعاث الغاز من تحت الارض حيث يحترق بمجرد تلامسه مع الهواء.  ومن المحتمل أنها كانت الدليل الأول لأكتشاف الغاز والنفط في المدينة. 

لا يعرف الناس هذه الظاهرة، لذلك ينظرون إليها بقداسة معيـّنة.  وتشيع زيارة الناس والتجمع حول النار الأزلية جواً عتيقاً يعود بالمرء الى اجيال سحيقة، فيما يثير لدى البعض طقوساً اشبه بطقوس اكتشاف النارً وبأجواء عبَدَ تها.  وامام النار الازلية يقف الناس بخشوع، وينوي كل فردٍ نيّته ويُبطن مطلبه من النار، وينذر النذور بنبشِ التراب لعل هذا النبش يطلق له لساناً صغيراً من اللهب فيتحقق مراده.  هكذا هم، أناسٌ يخلون الى نفوسهم، وبخشوع تام يسرّون عن نواياهم للنار: ما إذا يعود الغائب، أو تحظى البنت الباكر بحبيبها، أو تحبل المرأة ويأتي حملها ذكراًَ.  إنه مكان يتوحد فيه الفرد مع أفكاره وعواطفه ويمارس التأمل مع نواياه بكثير من الخصوصية والقدسية. 

 

حفلة سمر (عثمان طبله باش) يغني

 

كانت كركوك، قبل ظهورالنفط فيها والبدء بأستخراجه، مدينة سمحة لم تسجَّل فيها حوادث عنفٍ غير معهود.  وما عدا في الاساطير والحكايات لم تسفك الدماء أو تخرَّب العوائل بحياكة المؤامرات.  ولا يتذكر أحد بأن سجن المدينة كان يضم اكثر من عشرة اشخاص سرعان ما يخلى سبيلهم ويعتذرون لمن أساءوا إليهم.  لقد اقتنع سكان المدينة بما رزقهم الله، وهم في الغالب حرفيون وكسبة.  وكانت البيوتات الكبيرة المالكة تفتح أبوابها للآخرين وتجود على الفقراء.  روح من التضامن والتكافل الاجتماعي تسود بين شرائح المجتمع غير المتناحر.  ربما كان الكل يعرف الكل.  وتمضي الحياة هادئة قنوعة. 

وتتناغم الحياة فجأة كل اربعاء لتوقظ بهجة إستثنائية عند الناس.  وما يسمى بـ"الاربعاء الاحمر" مناسبة لخروج الناس إلى ضواحي المدينة وعلى مُتكأ التلال المغطاة بالعشب وبشقائق النعمان وبسنابل الحشائش والورود البرية.  تراهم يمضون الى هناك بسلالهم وبأوانيهم وبعدّة الشاي والسماور.  يفرشون الابسطة الملونة ليستمتعوا بالطبيعة وبالرفقة الجماعية، وليعمّقوا معرفتهم بألاخر. 

كانت اكثر المناطق ازدحاماًَ هي التلال العالية على خاصرة المدينة الشمالية، التي كنا نسمّيها " تانكيلار" جبال الخزانات، المحاطة باللبلاب وبورود عباد الشمس وبمتسلقات الليف. 

 

لكن المدينة أخذت فجأة بالتحول فتبدلت معالمها كما لو أن مساً من الجنون أصابها لمّا شرعت شركة النفط " آي.  بي.  سي" بالعمل على استخراج تلك المادة السائلة السوداء من جوف الارض. 

جاءت الشاحنات الطويلة تحمل أنابيب عملاقة وتنفث دخاناً يجعل الناس يفركون عيونهم ويعطسون.  وارتفعت أبراج حديدية بينما بدأت الحفارات تغرز أسنانها الحديدية بألارض، والجرافات تدفع التراب دفعة واحدة بقدر مايدفعه عشرات الرجال.  وأقتـطِعت مساحات مستوية من الارض قامت عليها صفوف من الخزانات المطلية بالدهان الفضي يُمنع الاقتراب منها.  وظهرت وجوه بيضاء ترتدي قبعات معدنية وتعمل بسراويل قصيرة في ربط الانابيب ودفعها بحفارات عملاقة الى باطن الارض.  سُوّرت أماكن واسعة بالأسلاك.  وبدأ حراس مسلحون بالعصي يحرسون تلك الملكيات قبل ان يتحولوا الى شرطة رسميين.  كما شُيِّدت محطة لسكة حديد تمضي الى مراكز استخراج النفط، تنقل عرباتها العمال الذين يزداد عددهم باضطراد، وهم يأتون الى المدينة من أماكن بعيدة، يتزاحمون على العمل. 

كان سكان المدينة يرصدون ما يحدث بنوع من الدهشة الممزوجة بالخوف والقلق.  ويتلمّسون التغيير الحاصل ويسمعون ضجة الحياة اليومية الجديدة التي تكسر الهدوء الذي استمرّ دهراً.  وظهر في المدينة عمال من أبنائها يشار إليهم بملابسهم الزرقاء وبأحذيتهم الجلدية الطويلة.  ولكن العمال المهاجرين من أماكن أُخرى الى المدينة كانوا الأبرز بين المشتغلين الجدد في شركة النفط، وهم يعودون الى اكواخهم في أطراف المدينة، أو الى غرفٍ استأجروها في الأحياء الفقيرة. 

هكذا تبدّلت معالم المدينة وتغيَّرت خارطتها الهندسية بآلاف البيوت التي شُيّدت فيما بعد على أراض جديدة.  خُرِّب بعض البساتين وقُطعت أشجار الزيتون بينما أُهملت بساتين اخرى لتباع كقطع أراض للبناء الذي أخذ يتوسع بشكل مضطرد.  وأصبح بعض الأماكن محاطاً ومحاصراً وممنوعاً من الوصول إليه.  بينما شيّدت أماكن خاصة للموظفين الإنجليز ولخبراء النفط من الموظفين المرموقين بشوارع واسعة وبدور مبنية بالطابوق المفخور وبنباتات مشذبة تقوم بمحاذات شوارع واسعة نظيفة تحمل أسماء وأرقاماً وحروفاً انجليزية.  وظهرت حافلات خضراء خاصة وُضِعت في خدمة عوائل الإنجليز. 

وفي خضم جنون المدينة باستخراج النفط وارتفاع الأبراج الحديدية وازدياد فوهات الأنابيب التي يحترق بها الغاز بدا الأفق الشمالي للمدينة يحمرّ ويزداد احمراره كل يوم.  بينما تكاثر الغرباء في الطرقات وفي المقاهي، وأخذ نمط الحياة يتحوَّل شيئاً فشيئاً، والقلق يعمّ الناس فتأتي أفكارٌ متناقضة تحرم الكثير من النوم الهاديء.  لم يكن القلق والدهشة فقط هي التي عمّت سكان المدينة، بل جاء الخوف والوجل من اختلال إيقاع الحياة السابقة.  وأصبح التساؤل عن المصير وعن الأسرة وعن الصداقة والأخلاق موضع توجّس. 

كل صباح ترى عمال النفط ـ هذه الظاهرة الجديدة ـ يخرجون من اماكن مبيتهم مبكرين، قبل شروق الشمس.  يتجه بعضهم صوب القطار الذي ينتظر في المحطة، ويعلن مرات عديدة بصفيره الحاد عن انتظاره وعن موعد مغادرته المرتقبة، متوعداً العمال بتركهم إن تأخروا في الوصول.  وكان عمال آخرون يسعون في الشوارع ويعبرون البساتين الى اماكن عملهم حيث الماكنات والمحدلات والجرافات وأدوات العمل ليشرعوا بالكد ويكسبوا رزقهم.  كان العمال في جميع الحالات يمضون متعبين مخدرين بوجوه شاحبة وعيون ثقيلة الأجفان من شحة النوم، وهم يقضون يومهم حتى غروب الشمس ليعودوا بذات القطار الذي ينفث الدخان ويعطس ويطلق البخار الأبيض.  حينئدٍ تزدحم الطرقات مجدداً بهؤلاء الكائنات عندما تؤذن الشركة بنفيرها اليومي انتهاء العمل.  كلٌّ يحمل صرّةَ طعامه الفارغة ويسعى كشبح الى بيته وقد حلَّ الليل. 

أصبح للمدينة وقتٌ محدد يتلائم مع صفير القطار المتكرر في الفجر، الذي يعلو على صوت المؤذن، ومع نفير الشركة الذي يغطي المدينة مساءً لدى الغروب مثل عويل طويل.  هكذا أصبحت كركوك مختلفة بالزمن المعلن دوماً، وبالأصوات الهادرة من المكائن والشاحنات ومن المطارق العملاقة.  واكتسى بعض شوارعها وساحاتها بالنفط الأسود.  وبينما يحاول الكثير من سكان المدينة أن يستوعب ما يحدث ويطلب التآلف معه.  و يتساءل البعض ممن جذوره في الماضي : أية مدينة أصبحت تلك التي قبعت في التاريخ طويلاً، وهل تتواصل مع الزمن بقلعتها وبقطع نقودها القديمة وآثار جرارها وسكنى آلهتها.  وكيف سيحدق مواطنو بابل وآشور وأكد بعيونهم الواسعة المزدانة بالتأمل وبالصبر وباستكناء الأساطير والملاحم الى مدينتهم الجديدة التي أصبح النفط يمضي في شرايينها بدل جداول الماء الصافي وعوضاً عن مواكب النذور المسيَّرَة للآلهة. 

 

 

حلَّ المساء، و يرتدي المساءُ دوماً غلالة من الحزن.  كان التوتر يسود الحارة التي نسكن فيها، والقلق العميق ظاهرٌ على الوجوه.  هناك أخبار عن محاصرة الشرطة لعمال النفط المضربين منذ أيام.  يأتي احدهم ليخبر العوائل في الحارة.  تخرج النساء بعباءاتهن، يدلفن هذا البيت أو يمضين الى غير هدف.  القلب هناك مع الأبناء والأزواج.  ولأن القلب ينبيء بالكارثة هذا المساء، فقد جاء الصراخ والعويل ونحيب النسوة عندما حدثت الكارثة.  رأيت النساء بعباءاتهن المتطايرة السوداء يركضن دون وجهة محددة، يبحثن عن شيء ما.  يلطمن الخدود ويشقن صدورهن كما يحدث عندما يموت شخص قريب.  وتيقنتُ من حلول الكارثة.  كارثة جماعية من خلال مظاهر الحزن الجماعي.  ثمّ سرعان ما ظهر رجال مرتعبون يتراكضون مثل طريدة تخلصت من فخاخ نصبت لها.  تحدّث بعضهم، في غياب تام، عن القتل وعن هجوم الشرطة عليهم غيلة وغدراً.  رأيت ملابس ممزقة وبعضها ملطخ بالدم.  يقف واحد منهم ليصرخ في البيوت وفي الناس الذين فتحوا الأبواب ليشاهدوا ما يحدث.  ويأتي آخر مذعوراً لكي يقتحم باباً ويختفي في الدار.  وقد سرت شائعة تقول إن الشرطة تلاحق العمال الى بيوتهم. 

كان الأمر بالنسبة لي آنذاك تهويماً داخل الكارثة وانا اشعر بالرعب ذلك المساء.  لم أعرف التفاصيل ولم أُدرك طبيعة المواجهة وأسبابها بين العمال وبين شركة النفط.  وعرفت فيما بعد انه كُسِرَ إضراب عمال " كاور باغي ".  وهو أول إضراب منظم يخوضه عمال النفط من اجل مطاليبهم.  كان هؤلاء العمال قد امتنعوا عن العمل وتجمعوا منذ أيام في حقل واسع لأشجار الزيتون يدعى " كاور باغي " ـ بستان النصارى، يقع عند مرتفعٍ يتناثر عليه عدد من القبور.  وقد استدرجتهم الشرطة ووعدتهم بدراسة مطاليبهم، لكنها ما فتأت أن هجمت عليهم من المرتفع وهي راكبة الخيول مطلقة النيران عليهم، وحاصرتهم من الجانب المفتوح، خارج حقل الزيتون.  قوات اخرى جاءت في شاحنات خضراء نزلت وصوبت عليهم نيران بنادقها. 

لم تكن مجرد إشاعة ما تناقله الناس من وحشية الهجوم والقتل.  ولكن عَمَلَ الضمير الجماعي لقاطني كركوك على تأليف كتاب شفاهي يصف المشهد ووقائع المواجهة بتفاصيل دقيقة، ويضع صوراً قابلة للتخيل عن ثقوب في صدر العمال وعن برك الدم تحت أشجار الزيتون وعن قطع الأعضاء. 

وجاءت الأساطير فيما بعد مقترنة بالحدث لتصف القتلى بأوصاف الأولياء والقديسين و ينبغي دفنهم في الموقع نفسه على تلّة " دامر باش "ـ الرأس الحديدي.  ومن المؤكد بأن القبر الذي سيضمهم هناك في أعلى التلة سيكون رحيماً بهم.  وحينما ستنطبق الأرض على الجثامين ثلاث مرات ليخلص حليب الأم من الأُنوف سيتم ذلك برفق وبرأفة وحنان فلا يحس أُولئك الموتى بالعذاب، وستذهب أرواحهم بعد ذلك الىالراحة الأبدية.  ولربما تجول بين أشجار الزيتون بعيدة عن حقول النفط. 

وعندما قُطِعَت أشجار الزيتون بعد سنوات وجرفت الأراضي لتُبنى عليها مدرسة ابتدائية، قيل أن الخوف الذي استمرعقوداً كان الدافع الحقيقي للتغيير في المنطقة بغية مسح آثار الدماء التي كانت تبرز للعيان كلما نزل المطر وغسل التراب في حقل الزيتون.  بيد أن أرواح القتلى مازالت تجول هناك ليلاً وتنزل أحياناً من فوق التلة لتدخل صفوف الطلبة.  ويفاجأ الصغار صباحاً بجملة مكتوبة على سبورتهم: " ذكرى كاور باغي في القلوب ". 

 

قشلة كركوك

 

لم يكن النفط قد غيَّر مدينة كركوك على هذا النحو المجنون إلاّبعد استخراجه المكثًَف وحفر مئات الآبار من قبل شركة نفط العراق " آي.  بي.  سي. ".  وقبل ذلك كانت تطفو كميات منه على نحو طبيعي فوق مياه معدنية، تخرج من باطن الأرض وتشكل بُركاً متفرقة.  ويقول المسنون بأن العثمانيين قد استعملوه ثم منحوا حق تسويقه لعوائل من المدينة.  ولم يكن التسويق في الواقع إلاً نقل النفط الأسود الخام بما تجود به تلك البرك والأنهار وبيعه للناس.  كان الناس يذهبون الىتلك البرك وهم يقطعون مسافات طويلة للإستحمام في مياهها المعدنية، أو لملء بضع قوارير تفيدهم في علاج أوجاع المعدة و بعض القروح والجروح.  وكان البعض يلتهم قليلاً من التراب الحامض متذوقاً به طعم السمّاق معتقداً بأنه ينهي ألم الأسنان أو يعالج انتفاخ المعدة.  على أية حال كان العمل الدؤوب يتم من قبل باعة محترفين يذهبون في قوافل من الدواب، تُعَلّق الأجراس في أعناقها، ليغرفوا من النفط الأسود بطاساتهم المعدنية ويملأوا براميلهم المحمّلة على البغال ثم يعودوا بها الى المدينة.  هكذا عاشت كركوك في توفير طاقتها.  ولقرون طويلة أُضيئت اللمبات المعدنية في البيوت من ذلك النفط، وحُرقت الأخشاب وسُخِّنت الحمامات.  وكان أحياناً يضاء به مفترقات الطرق عندما تحظى المدينة بحاكم عادل. 

وكثيراً ما أحالت التأملات بخصوص النفط وغرفه من تلك البرك الواقعة بين التلال الداكنة برائحتها الحادة، مثل البيض الفاسد، أحالت الذاكرة الجماعية الى ناس قدامى وافدين من عصور مختلفة غسلوا أيديهم بتلك المادة السوداء، وتركوا لنا جراراً مكسورة ونقوشاً على لوحات طينية تظهر أحياناً في تراب القلعة أو في أطراف المدينة لتعلن عن أرواح تجوب.  أرواح أجداد يحنون علينا بكثير من العطف والقلق.  ويقولون لنا : أُتركوا أشارة منكم للزمن الآتي.  ولكن ما الذي يمكن أن يُترَكَ غير أبراج النفط وخزّاناتها البيضاء، وغير تلك الأنابيب التي تخرج من المدينة وتمضي الى كلّ صوب. 

ـــــــــــــــــــــــ

هذا النص مقطع صغير من نص طويل بعنوان "المكان الأول "

إطبـــــــع العودة للفهرس

إحفظ الصفحة