تغيير الطبيعة السكانية لكركوك

 

عزيز قادر الصمانجي ـ لندن

azizsamanchi@hotmail. com

 

احتفاءا بشهداء تركمان كركوك

 

  طرأت على المدينة تغييرات ديمغرافية بظهور بادرة الهجرة من القرى الكردية الى المدن باضطراد منذ الاربعينيات من القرن المنصرم، اعقبها التغيير القسري للتعريب منذ السبعينيات القرن المذكور، ما ادى الى اختلال التركيبة السكانية لمدينة كركوك وطابعها القومي التركماني وادى الى اتساع المدينة افقياً، بلا مبالاة للمتطلبات الاساسية لقواعد تخطيط المدن الحديثة، وخلق مشكلة اثنية معقدة بين القوميات وصراع حول عائديتها وهويتها القومية. 

نتطرق فيما يلي الى مراحل التغيير وتداعيتها وصولاً الى وضع المدينة الحالي، ومن ثم نعرب عن رأينا حول معالجة الخلل الذي نجم عن التغيير، لتلافي تداعياتها ومخاطرها المستقبلية، بدءاً بإلقاء نظرة على وضع المدينة في منتصف الاربعينيات. 

اولاً – الاحياء السكنية عند تشكيل الدولة العراقية وحتى النصف الاول من الاربعينيات: 

ومن الاحياء السكنية التي تقع في الضواحي واطراف (القلعة) : المصلى، جاي، امام قاسم، بلاق، يدي قزلار، حلواجيلر، بريادي، جقور، ينكي داملار، بويك محلة، سقاخانة.  وفي الصوب الاخر : من النهر الموسمي المسمى  (خاصة صو) تقع المجيدية، بكلر، كاورباغي، صاري كهية، الماس، عرفة، تعليم تبه، تسعين الاولى والثانية، شاطرلو، قورية، جنجيلار. 

جميع هذه الاحياء السكنية تركمانية صرفة ولم يكن هناك وجود للاكراد في المدينة حتى منتصف الاربعينيات من القرن المنصرم عدا محلة واحدة وهي كانت مختلطة من التركمان والعرب، وكان هناك بضعة بيوت لاسرة كردية  (خنقاه) الى جانب التكية التي انشأها رب الاسرة المذكورة تقع في الجانب الغربي من المدينة، لذا يمكننا القول بان مدينة كركوك كانت تركمانية صرفة بكل ما في الكلمة من معنى حتى ماضي غير بعيد، وكذلك حسب اقوال حنا بطاطو.   (العراق، الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية العراقية – بيروت 1992، ص22)

 

مسيرة للتركمان في (القورية) 1958

 

 

ثانياً – نشوء احياء سكنية كردية في المدينة :

سيراً مع تطورات الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شهدتها المدينة والعراق بشكل عام، نشأت أحياء سكنية حديثة في مدينة كركوك والمناطق التركمانية الاخرى بصورة تدريجية بعد النصف الثاني من اربعينيات  القرن الماضي، وذلك بنتيجة الهجرة الكردية من القرى الى المدن، فكان حي الشورجة اول الاحياء السكنية الكردية التي شيدت في الجهة الشرقية من مدينة كركوك، من بضعة بيوت طينية في البداية، على ارض السيد فخرالدين الذي باع المتر الواحد بأربعة فلوس.  ثم توسع لتصل الى الاف البيوت، يعقبها نشوء احياء سكنية كردية اخرى عديدة نتيجة استمرارالهجرة من القرى الكردية المجاورة والبعيدة من الناطق الشمالية لاسباب وعوامل متعددة، ادت الى تغيير الواقع السكاني القومي في المدينة، التي يمكن حصرها في العوامل الاربعة التالية:

آ – تطور الحالة الاقتصادية وازدياد الحاجة الى الأيدي العاملة نتيجة نمو الصناعة النفطية وازدياد الانتاج النفطي وتوسيع منشأت الإنتاج والتكرير، مما احدث تغييراً كبيراً في الوضع الاجتماعي والأثني في المدينة، حيث استخدمت شركة النفط العراقية اعداداً كبيرة من المستخدمين والعمال، قامت بجلب معظم الفنيين منهم من الآشوريين والأرمن والعرب من خارج المنطقة إضافة إلى عدد قليل من التركمان، فيما شكل الاكراد الذين تركوا قراهم بحثاً عن سبل العيش الافضل في المدينة أكثرية المستخدمين والعمال، ما نتج عن ذلك، خلال فترة قصيرة، نشوء أحياء شبه مستقلة تحيط بالمدينة من جهتيها الشمالية الشرقية والشمالية الغربية، مثل (رحيم آوا) على ارض شفيقة خاتون، و(تبه) على طريق كركوك – اربيل، وحي (أزادي والاسكان) على طريق كركوك – السليمانية (يشير مواقع هذه الاحياء الى المناطق الشمالية التي نزحوا منها) قبل ان تتداخل بعضها البعض ومع الاحياء القديمة التي أشغلتْ تدريجياً من الاكراد النازحين، كحي اليهود بعد هجرة هؤلاء إلى إسرائيل عام 1947 وأحياء التركمان الذين تركوا المدينة تخلصا من الاضطهاد، او الذين ابعدتهم الانظمة الحكومية لشتى الاسباب، وكذلك الأحياء التركمانية القديمة التي باع او اجر أصحابها بيوتهم فيها وانتقلوا إلى أحياء جديدة في المناطق التي تقع على طريق بغداد والمحطة في الجهة الجنوبية والغربية من المدينة وذلك من جراء تحسن احوالهم الاقتصادية والمعيشية كنتيجة طبيعية للنمو الاقتصادي التي شهدته المدينة والعراق بشكل عام، وقد تم شراء أو استئجار معظم تلك المساكن من قبل القرويين الاكراد.  ولا ينبغي ان ننسى الإشارة إلى ان شركة النفط العراقية (IPC) قامت بإنشاء مئات الدور السكنية للعمال والمستخدمين في بداية الخمسينيات في منطقة (عرفه) اطلق عليها اسم كركوك الجديدة، واسكنت فيها منتسبيها من الآشوريين والأرمن والموظفين العرب وبعض التركمان والاكراد، وهكذا أدى استثمار حقول النفط في كركوك إلى إستيطان اعداد غفيرة من ابناء القوميات الاخرى قدموا من خارج المدينة، وقد شكل الاكراد أكثرية القادمين، علماً بأن معظم الآشوريين والأرمن هاجروا المدينة بعد قيام ثورة تموز عام 1958. 

ب – وجود ثكنات لوحدات الفرقة الثانية في كوكوك، وقد كان معظم منتسبيها من الضباط وضباط الصف والجنود  (المتطوعين)، شيدت قيادة الفرقة الثانية مجمعات سكنية لضباط الصف والضباط وقد ساعد ذلك على استقرار معظمهم في المدينة بعد احالتهم على التقاعد، والجنود المسرحين لم يعودوا الى المناطق التي جاءوا منها. 

ج – تكثفت الهجرات وتتالت باشتداد القتال بين القوات الحكومية والاكراد، وبين الاطراف الكردية المتصارعة فيما بينها، وذلك بحثاً لملاذ آمن لهم، وجدوها في مدينة كركوك التي كانت تنعم بالاستقرار والامن الى جانب الترحيب والمساعدة التي تلقوها من اهالي كركوك التركمان دون حساب لما سيأتي بها الايام من التداعيات والتهديد لوجودهم وكيان مجتمعهم من الذين ساعدوهم احسنوا اليهم، أو على الاقل يصدر منهم ردود فعل ضدهم، بعد ان ازداد عدد نفوسهم في كركوك، وبلغ بحلول العام 1959 حوالي ثلث السكان(حنا بطاطو - المصدر السابق)

د – بتطور الحركة الكردية المسلحة وتغيير الاوضاع السياسية في العراق بعد قفز الحزب البعث الى الحكم عام 1968، طورت القيادات الكردية من اهدافها السياسية من مطلب الحكم الذاتي الى الفيدالية والمطالبة بمحافظة كركوك ضمن مشروعها الفيدالي الذي طرحته في مؤتمر صلاح الدين عام 1992 الذي عقدته اطراف المعارضة العرقية، وسعت الى تكريس مشروعها الفيدرالي في المحافل الدولية والاطراف العراقية المعارضة في كل المؤتمرات والاجتماعات والندوات التي عقدت في المنافي، وعادت الكتلة الكردية الى طرح مشروعها الفيدالي الطموح الذي يقسم العراق الى قسمين(القسم الكردي والقسم العربي) بذلك لم تبق مطالبتها بكركوك في نطاق الشعارات  (كركوك قدس الاكراد) وكركوك (قلب كردستان) التي رفعتها منذ تأسيس المنطقة الآمنة شمال خط 36 اعقاب انتفاضة آذار عام 1991 من قبل قوات التحالف وحمايتها باستخدام قاعدة انجيرلك في الارضي التركية فحسب، وانما ركزت القيادات الكردية جهودها على ترتيب بيتها في المنطقة الآمنة ونجحت في تاسيس برلمان وتشكيل حكومة اقليم انقسمت الى حكومتين، ويبدو انها خلال الفترة من 1991 حتى سقوط بغداد في 10\3\2003 وضعت الخطط وهيأت كافة متطلبات تغيير الواقع السكاني من تشجيع ودعم الهجرة الكردية الى كركوك، مادياً ومعنوياً وتشويقياً واتباع كل السبل الشرعية وغير الشرعية لغرض تغيير الواقع القومي في المدينة بزيادة عدد سكان الاكراد فيها.  وتشهد المدينة بعد سقوط بغداد في 10/3/2003 نزوحاً كردياً مكثفاً من المنطقة الشمالية وحتى من اكراد ايران وتركيا وسوريا بحجة اعادة المرحلين.

 

لقطة من مسيرة التركمان احتفاء بالجمهورية قبل ان ساعات من مجزرة كركوك

 

وقد ركزت الإطراف الكردية جهودها المكثفة في هذه الأثناء وبشكل خاص على كركوك لاستحواذها، وذلك لغرض تغيير واقعها القومي تمهيدا لضمها الى الفيدرالية التي يطالبون بها، باستغلال الفرصة المتاحة لهم في غياب السلطة المركزية وهيمنة الكتلة الكردية في المجلس الحكم الانتقالي والدعم الأمريكي لهم في المرحلة الراهنة، وربما فيما بعد.  الى ذلك تشهد مدينة كركوك منذ ذلك التاريخ ممارسات ادت الى تداعيات كبيرة وخلقت وضعاً أمنيا قلقاً غير مستقر بدرجة مخيفة، ومنها:

1- دخول الميليشيات الكردية بأعداد كبيرة الى المدينة وبسط سيطرتها على كافة مرافق المدينة ونقاط السيطرة، والقيام بمضايقة المواطنين التركمان والعرب والاعتداء عليهم. 

2- نزوح اعداد كبيرة من العوائل الكردية الى المدينة بحجة انها ترحلت في عهد النظام البائد ولكن الواقع، ان عدد المرحلين الحقيقيين لا يتجاوز الـ2% من مجموع الذين دخلوا المدينة بعد سقوط النظام لحد الان، وهم من اهالي المحافظات الشمالية وبينهم اكراد من ايران وتركيا وسوريا، وقد اشغل النازحون جميع مقرات الفيلق والفرق ومرافقها التي تركتها افراد القوات المسلحة العراقية التي هزمت في الحرب، وكذلك اشغلوا الأبنية الحكومية وتلك العائدة الى حزب البعث المنحل، فضلاً عن تشييد الاف البيوت على اراضي الدولة او العائدة الى المواطنين، وبدون اي ترخيص رسمي. 

3- تعيين الموظفين ورؤساء الدوائر والشرطة وحتى تسجيل تلاميذ في المدارس في السليمانية واربيل ثم نقلهم الى كركوك، بأوامر إدارية تصدرها حكومتي السليمانية واربيل، متجاوزة صلاحيات الإدارة المركزية في بغداد او باستغلال غيابها. 

4- القيام بأعمال استفزازية تخدش مشاعر المواطنين من تمزيق العلم العراقي ورفع علم كردستان بدلاً عنه، وتغيير يافطات دوائر الدولة والمستشفيات والمحلات التجارية وغيرها الى اللغة الكردية. 

5- كتابة شعارات استفزازية على الجدران في الشوارع والطرقات. 

6-ارتكاب اعمال اجرامية من قبيل السطو المسلح على دور المواطنين واعمال السلب والنهب وسرقة السيارات بقوة السلاح والقتل، والإضرار بممتلكات الدولة بالحرق والنهب والسرقة وبضمنها سجلات دائرة النفوس والطابو في كركوك لغرض اجراء التزوير فيها لإضاعة حقيقة الواقع القومي للمدينة. 

    فإذا لم تتخذ الإجراءات الكفيلة لوضع حد لتلك الممارسات والأفعال وإزالة آثارها، بل ما لم تضع الحكومة الوطنية القادمة حلا جذرياً لمشكلات هذه المدينة وإنهاء الصراع الدائر حول عائديتها وهويتها القومية لأهداف معلومة للجميع، فإن المنطقة سوف لا تشهد الاستقرار والامن وستبقى ملتهبة، وعليه نعتقد بأنه ليس من حل جذري لمشكلة هذه المدينة الغنية بالنفط وإنهاء الصراع الدائر بسببها، سوى ان يكون لها وضع دستوري خاص بها بحيث يؤمن لها الحفاظ على نسب نفوس القوميات بالاستناد على الواقع السكاني في 9 \4 \2003 , واتخاذ ما يلزم للحفاظ على تلك النسب، وبعكسه ستبقى المنطقة ملتهبة، ولا سيما ان المشكلة الكردية لا تنحصر ضمن الحدود العراقية فحسب، وانما تتعداها الى دول الجوار ايران، تركيا وسوريا، وعليه قد تفتح الطريق الى التدخلات الدول المذكورة عندئذ سيتوسع نطــاق النزاع ويصعب التكهن بابعاده او مداه. 

المصادر :

1-توفيق وهبي – سفرة من (ده ربه ندي بازيان) الى (مله تاسلوجة)، بغداد 1965. 

2- ليلــى نامــق – كركوك لمحــات تاريخيــة –مطبعة خبات، اربيل، العراق 1992.

3- العلامة مصطفى جواد – مجلة اهل النفط – العدد 40 لسنة 1954.

 4- الحوادث الجامعة من تاريخ 626هـ – 1231م. 

5-نوري الطالباني –منطقة كركوك ومحاولات تغيير واقعها القومي الطبعة الثانية 1999. 

6-صدرالدين الحسيني – الفتح القدسي، نقل عنه مصطفى جواد. 

7- ياقوت الحموي – نقل عنه مصطفى جواد.

8- عمادالدين الأصفهاني- كاتب صلاح الدين – كامـــــل التاريخ رقم 44 بدار الكتب الأهلية بباريس، اشار اليه مصطفى جواد. 

9- خيرالله العمري – دارالمكنون من المآثر الماضية من القرون، نقلاً عن مصطفى جواد، المصدر السابق. 

10- نصرت مردان، بحثه غير المنشور بعنوان "الوجود التركماني في كركوك للتآخي الأثني تاريخاً وحاضراً. 

11- خليل اسماعيل اغا – معلومات الفقرة (5) ص15.

إطبـــــــع العودة للفهرس

إحفظ الصفحة