كلمة العدد

الأمة العراقية وتخليها عن عظمائها!؟

 

سليم مطرـ جنيف

 

 

لا نعتقد ان هنالك امة في العالم، تتجاوز الامة العراقية، بقدرتها العجيبة على التخلي عن مفاخرها وعظمائها وهجرهم في كهوف النسيان.

هنالك ادلة على هذه الحالة المحزنة، لا تعد ولا تحصى. دعونا نأخذ مثال(بلقيس) اليمن. رغم انها شخصية اسطورية لم يثبت لها أي وجود اثري حتى الآن، ولكن مع هذا عندما تذهب الى اليمن، فأنك تجد ما لا يحصى من المعالم تحمل اسم(بلقيس): مدارس ومنشآت ومحلات وشوارع وساحات وجامعات وشخصيات واحتفالات، واشياء كثيرة كثيرة، حتى يخيل لك بأن الاسم الثاني لليمن هو(بلقيس)!؟.

بينما نحن، فقد منحنا التاريخ شخصيات نسوية اهم بكثير من بلقيس، ولهن حضور فعلي حقيقي في التاريخ الوطني والعالمي، ابتداءا من (عشتار) و(سمير اميس) و(شبعاد) و(هند الراهبة) و(رابعة العدوية) و(العباسة)، والعديد العديد من الشخصيات النسوية العراقية اللواتي خلدهن التاريخ، ولكن شعبهن تخلى عنهن، لأسباب لا يعرفها إلا الله والضالعون بالعلم!؟

خذو مثالا آخر: يحتفل المصريون في كل عام بتقديم(اوبرا عايدة) التي الفها الموسيقار الايطالي العالمي(فيردي) في القرن التاسع عشر، ويتم تقديمها باجلال ومهابة باحتفال رسمي كبير في القاهرة جنب الاهرامات، حيث يدعى الى الحفل كبار الشخصيات العالمية، احتفاءا بهذا العمل الفني الذي يمجد شخصية من تاريخ مصر الفرعونية.

الغريب والطريف، ان (فيردي) هذا نفسه، قد انجز اوبرا اخرى تعتبر حسب النقاد ارقى فنيا ولها سمعة اكبر، اسمها(نبوخذ نصر) تحتفي بشخصية الملك العراقي البابلي المعترف به تاريخيا، وكذلك دينيا من خلال(الكتاب المقدس). بل هنالك اعمال سمفونية عالمية عديدة عن شخصيات واجواء عراقية مثل (سمير اميس) و(بغداد الف ليلة وليلة) و(كلكامش)، لكن لا مثقفينا ولا دولتنا ولا احزابنا، اهتمت بها ولو للحظة واحدة، بل لم تفكر حتى بكتابة مقالا واحدا عنها، ناهيك عن التفكير بتقديمها والتعريف بها في بلادنا، ليكتشف الانسان العراقي عظمة اسلافه!!؟؟

وهذه العقلية التي تحتقر مفاخر الوطن، لم تخص فقط ميراثنا القديم، بل كذلك شملت برحمتها مفاخرنا الحديثة. انظروا كم هي الشخصيات الفنية والادبية العراقية التي لم يتم الاهتمام بها لا في حياتها ولا بعد موتها. اين هي المؤسسات والمناسبات التي تهتم وتخلد وتعرف بشخصياتنا الكبيرة مثل  السياب والجواهري وجواد سليم وناظم الغزالي وصديقة الملاية وحضيري ابو عزيز وعفيفة سكندر وعلي الوردي وطه باقر وانستاس ماري الكرملي وعمو بابا والرصافي والزهاوي، وغيرهم الكثيرون، الذين لا نعرف عنهم الا النتف وفي المناسبات العابرة. لا احد يعرف اين هي بيوتهم، ولا احد يعرف ماهي حياتهم ولا تراثهم، ومن بين آلاف البحوث الاكاديمية والرسائل الجامعية التي عملت في بلادنا منذ قرن وحتى الآن، ليس هنالك رسائل  جامعية معروفة كرست للتعريف بتفاصيل حيوات وميراثات هذه الشخصيات.

 نقول هذا، لكي نتحدث عن شخصية نسوية عراقية، تعتبر حقا وحقيقة ومن دون اية مبالغة، اول رائدة للثقافة العراقية، ليس على الصعيد النسوي، بل على الصعيد الرجالي. ولكنها مع ذلك، ورغم مرور اكثر من قرن، فأن لم تزل مجهولة تماما تماما من قبلنا. في بلد آخر يحترم نفسه، لو وجدت إمرأة انجزت ربع ما انجزته هذه السيدة العراقية الجليلة، لنقش اسمها في كل مكان من بلادها، ولكتبت عنها مئات الكتب والدراسات ورسائل الدكتوراه، وعقدت عنها عشرات المؤتمرات، ولعرف صورتها حتى تلاميذ المدارس!!

تعتز مجلة(ميزوبوتاميا) ان تكون اول مجلة عراقية، بل عربية او عالمية، تعرف بـ (ماري تيريز الأسمر) أول رائدة للثقافة العراقية في العصر الحديث.. نقولها بكل تواضع وحيادية، انها حقا سيدة كبيرة ورائدة، ليس من المنظار العراقي بل حتى من المنظار الاوربي والعالمي. فحسب علمنا، انه من النادر ان نعثر على إمرأة حتى في الغرب، في تلك الفترة، تمتلك كل هذه الصفات بآن واحد: رحالة وباحثة ومؤلفة وسيدة علاقات بمستوى الملوك والامراء والبابوات!!؟؟ والأكثر من هذا، انها ولدت ونشأت في بلد مثل العراق، في اوائل القرن التاسع عشر، في ظل ظروف قاسية وخطرة حيث يسود التخلف والامية والامراض والطوفانات والحروب والغزوات والقمع الكبير ليس للنساء وحدهن بل حتى للرجال. ومع هذا تمكنت هذه السيدة العظيمة ان تجتاز كل هذه الصعاب مثل سليلتها (عشتار) التي اجتازت حواجز عالم الظلمات وتسامت الى عالم النور..

تصورا ان شابة بغدادية، ومن عائلة متوسطة الحال، في اوائل القرن التاسع عشر، اتقنت، بالاضافة الى العربية، السريانية والتركية والكردية والفارسية والفرنسية والانكليزية، ثم استطاعت بمعجزة عجيبة، وحدها ان تنتقل الى اوربا لتعيش هناك بين نخبة المجتمع وتفرض نفسها كأميرة وكرحالة وباحثة ومؤلفة كتب يعتد بها. في البدء تمكنت ان تعمل مساعدة للاميرة الدرزية في لبنان، ثم بعدها انتقلت الى اوربا وقدمت نفسها هنالك باعتبارها(اميرة بابلية)، وتمكنت من مقابلة ملكة انكلترا وبابا روما والكثير من الشخصيات الاوربية. ثم قامت بـتأليف كتابا ضخما باللغة الانكليزية عن حياتها في العراق وعن بلادها، بجزئين كل جزء يتجاوز الـ(300) صفحة، يحتوي على تفاصيل انسانية ومعلوماتية قيمة جدا عن حياة العراقيين في تلك الحقبة. كذلك الفت عدة كتب صغيرة تتضمن خواطر فلسفية ودينية لها قيمة ادبية متميزة.

ان مجلتنا تحتفي بهذه الرائدة العراقية الاصيلة، في الوقت الذي اشد ما تحتاج فيه المرأة العراقية الى رمز كبير من العصر الحديث تتمثل به الاصالة والشجاعة والذكاء. وايضا في وقت اشد ما تحتاج فيه الامة العراقية الى رمز للوطنية والثقة بالنفس والاعتزاء بتاريخنا وميراثنا. بهذه المناسبة، نتمنى من المؤسسات الثقافية والجامعية العراقية، خصوصا وزارة الثقافة، ان تبادر الى الاهتمام بهذه الشخصية العراقية الريادية، وتكوين اللجنة المتخصصة من الباحثين والمترجمين للقيام بعملية البحث في بريطانيا عن تراث هذه السيدة الجليلة وترجمة كتبها الى العربية، واقامة مؤتمرا للمعنيين الاوربيين والعراقيين للتعرف على حياة وتراث هذه الرائدة العراقية الكبيرة. اخيرا نشير الى الدور المهم لزميلتنا الباحثة والناقدة( امل بورتر) في البحث والتقصي في مكتبات بريطانيا من اجل جمع ما يمكن من المعلومات عن هذه السيدة وكتابة الموضوع المنشور في مجلتنا.

 

إطبـــــــع العودة للفهرس

إحفظ الصفحة