من تاريخ المذاهب السنية لدى أهل العراق

 

د. رشيد الخيّون ـ لندن

 

الملوية

 

في دراسة نشوء وشيوع المذاهب الفقهية رسمياً، انطلاقاً من بغداد، وابتداءاً بالمذهب الحنفي العراقي النشأة، تظهر جلياً جهود الخلفاء العباسيين، والسلاطين البويهيين، في قبول وتعايش أكثر من مذهب في إطار المدرسة أو المسجد، مقابل محاولات السلاطين السلاجقة والعثمانيين فرض المذهب الواحد، وبالتالي سيادة الرأي الواحد، رغم وجود أتباع كثيرين لباقي المذاهب. فالسلاجقة فرضوا المذهب الشافعي وأسسوا المدارس المغلقة له، والعثمانيون فرضوا على القضاء المذهب الحنفي فقط . بذلك بادروا إلى تجسيد الفكر الواحد، بمعنى تحريم غيره بالوسائل المتاحة (المذاهب التي قُمعت أيام الأمويين كانت  فكرية وسياسية، لأن المذاهب الفقهية لم تتبلور يومذاك بعد). لذا أول مرة ظهرت، في العهد السلجوقي رسمياً، مدارس على أساس المذهب الواحد، يفرض المذهب فيها على الطالب والمدرس والفراش، ظهرت وكأنها كانت مقدمة، في منطقتنا، لظاهرة الفكر الواحد فيما بعد. لذلك نقل الشيعة دور علمهم، تحت ضغط سلجوقي، من بغداد إلى النجف. وبعدها تقدم ابن فضلان الشافعي (ت631هـ)، رئيس ديوان أهل الذمة برسالة إلى الخليفة الناصر (ت622هـ) يطالبه فيها تطبيق المذهب الشافعي في معاملة الذميين، مع ما فيه من قساوة، بدلاً من المذهب الحنفي، وأحسن الخليفة بعدم تلبية طلبه.

وفي تلك الآونة كثرت، بين الفقهاء والقضاة، ظاهرة التغيير المذهبي الموسمي، رغم أن المذهب، عند الغالبية، مثل الدين يأخذه الأبناء عن الآباء. مثال ذلك ما شهدته المدرسة النظامية من تغيير مذهبي بين مدرسيها، يوم أسسها نظام الملك السلجوقي لتدريس المذهب الشافعي فقط، فاضطر وجيه الدين أبو بكر بن المبارك الواسطي إلى التحول إلى الشافعية، وكان قد بدل مذهبه حسب مذهب المدرسة التي يجد وظيفة فيها، مع أنه صاحب قدرات معرفية نادرة، فكان نابغة في النحو، ويتقن الفارسية والتركية والرومية والحبشية والزنجية، إضافة إلى نظمه للشعر، كل هذا وهو أعمى . وجد مؤيد الدين أبو البركات التكريتي (ت599هـ) فرصة لرثاء حال هذا المدرس، بقوله(1):

منْ مبلغ   عني  الوجيه رسالة     وإن كان لا تجدي لديه الرسائل

تمذهبت للنعمان بعد ابن  حنبل      وذلك   لما   أعوزتك   المآكل

وما اخترت رأي  الشافعي تديناً     ولكنما تهوى الذي  هو حاصل

وعما قريب  أنت لا شك صايرٌ       إلى مالك فأفطن  لما  أنت قايل

كما غيرَ النحوي علي بن معالي المعروف بابن الباقلاني(ت637هـ) مذهبه الحنفي إلى المذهب الشافعي، وهو شيخ الأدب والنحو في وقته(2). إلا أن التحول عن المذهب الحنبلي، وإن كان محدود الانتشار بالعراق، كان يحصل بسبب ممارسات ميليشيات الحنابلة، إذ كانت بأيديهم لفترة طويلة وظيفة الحسبة، وهي  تقابل اليوم المطاوعة في بعض البلدان، أي جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثيراً ما كان القائمون على هذه الوظيفة يتدخلون في شؤون الناس الشخصية ولازالوا كذلك .

تبنى العباسيون الأوائل، قبل ظهور المذهب الشافعي (150 - 204هـ)، المذهب الحنفي، بعد قتل مؤسسه (150هـ) بكأس مسموم، بتهمة التآمر مع إبراهيم أخ محمد  النفس الزكية. تم هذا التبني عبر منصب القضاء، فكان "أول من خوطب بقاضي قضاة"(3) في تاريخ الإسلام، أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (ت182هـ)، المعروف بصاحب أبي حنيفة، فهو من تلاميذه ومريديه الأوائل، وصاحب كتاب "الخراج"، الذي ألفه بطلب من هارون الرشيد (ت193هـ)، ليصبح مرجعاً تشريعياً ومالياً للدولة، وفقاً لأحكام المذهب الحنفي. ففي معظم المسائل كان سنده، بعد أبي حنيفة، حماد بن أبي سليمان (120هـ)، و إبراهيم النخعي (96هـ)، فآراؤهما شكلت خلفية فكرية لمدرسة الرأي بالعراق، وحماد كان شيخ أبي حنيفة ثمانية عشر عاماً. وفي تأكيد حنفية هذا المرجع نذكر قول أبي يوسف في قسمة الغنائم: "كان الفقيه المقدم أبو حنيفة"(4).

قال التنوخي (ت384هـ) في اتصال أبي يوسف بالرشيد، دون أن يذكر صلة له بمحمد المهدي وموسى الهادي: "إنه قدم بغداد بعد موت أبي حنيفة، فحنث بعض القواد في يمين، فطلب فقيهاً يستفتيه فيها، فجيء بأبي يوسف، فأفتاه، أنه لم يحنث، فوهب له دنانير، واخذ له داراً بالقرب منه، واتصل به. فدخل القائد يوماً على الرشيد، فوجده مغموماً، فسأله عن سبب غمّه، فقال: شيء من أمر الدين قد حزَّ بي، فأطلب لي فقيهاً استفتيه، فجاءه بأبي يوسف"(5).

كان الأمر يخص أحد أولاد الرشيد وقد حُبس بتهمة الزنا، وينتظر عقوبة أبيه، فعز على الرشيد أن يُجلد ولده، لذا احتاج إلى فقيه يسهل الأمر، ولا يحرج الخليفة. وكان أبو يوسف قد لمح شاباً تبدو عليه النعمة محبوساً. بعد جلوسه، سأله الرشيد، دون أن يكشف له أمر ولده: "ما تقول في إمام شاهد رجلاً يزني، هل يحدّه؟" أجاب القاضي، وكأنه عرف ورطة الخليفة: "لا يجب ذلك". حينها سجد الرشيد شاكراً، فسأله كيف يكون ذلك؟ أجاب بالآتي: "لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ادرؤوا الحدود بالشبهات، وهذه شبهة، يسقط الحد معها". فقال الرشيد: وأي شبهة مع المعاينة؟ قال أبو يوسف: "ليست توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى، والحكم في الحدود لا يكون بالعلم… لأن الحدّ حق الله تعالى، والإمام مأمور بإقامة الحدّ، فكأنه صار حقاً له، وليس لأحد أخذ حقه بعلمه، ولا تناوله بيده، وقد أجمع المسلمون على وقوع الحدّ بالإقرار والبينة، ولم يجمعوا على إيفائه بالعلم"(6).

كانت هذه واحدة من الحيل الفقهية المشروعة، تضاف إلى خلفية المذهب الحنفي في مراعاة المواقف الحرجة، مثل هذا الموقف. وحسب الرواية أن أبا يوسف لم يكن يعرف مسبقاً أن الزاني كان ابن الرشيد، حتى تعتبر فتواه مجاملة للخليفة. على أثر ذلك اللقاء، حسب المصدر المذكور، قلد الرشيد أبا يوسف منصب قضاء القضاة. غير أن روايات أخرى أشارت إلى اتصال أبي يوسف بالعباسيين قبل الرشيد، إذ قال المسعودي (ت346هـ): "كان نقش خاتم المهدي (الله ربي)، وعلى قضائه أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة النعمان بن ثابت"(7). وقال أيضاً: "كانت أم جعفر (وهناك ثلاث بهذه الكنية: زوجة أبي جعفر المنصور، وزوجة يحيى بن خالد البرمكي، وزبيدة زوجة هارون الرشيد وابنة عمه جعفر وأم الأمين، والراجح أن الأخيرة هي المقصودة في الرواية) كتبت مسألة إلى أبي يوسف تستفتيه فيها، فأفتاها بما وافق مرادها، حسب ما أوجبته الشريعة عنده، وأداه اجتهاده إليه، فبعثت إليه بحق (وعاء) فضة فيه حقان من فضة، وفي كل حق لون من الطيب، وجام (كأس) من ذهب فيه دراهم، وجام فضة فيه دنانير، وغلمان وتخوت من ثياب، وحمار وبغل"(8). كما ذكر الكوثري أن أبا يوسف قلد القضاء من السنة 166هـ، أي قبل وفاة المهدي (ت169هـ) بثلاث سنوات(9) .

قال التنوخي، الحنفي المعتزلي: "كان القضاة على مذهب أبي حنيفة، وغيره من الفقهاء"(10). ولعل حنفية أغلب القضاة في ظل الخلافة العباسية حتى سقوطها السنة 656هـ، تكفي لإعطاء صورة واضحة عن انتشار المذهب بالعراق والبلاد الأخرى، ومن هؤلاء القضاة حسب التنوخي في "نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة" ذي الثمانية مجلدات: نوح بن دراج (ت182هـ)، أسد بن عمرو (ت190هـ) قضاء شرق بغداد، وواسط، والكوفة، علي بن طبيان (ت192هـ) قضاء بغداد مع منصب قاضي قضاة، الحسين بن الحسن العوفي (ت201هـ) قضاء بغداد، بشر بن الوليد (ت238هـ) قضاء بغداد، الحسن بن علي الجعد (ت243هـ) قضاء بغداد، هلال بن يحيى بن سالم، المعروف بهلال الرأي (245هـ)، (نسبة الأهل الرأي)، إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، عبد الرحمن بن إسحاق بن إبراهيم، عبد الله بن محمد الخنلجي، عبيد الله بن أحمد بن غالب، أبو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز (ت283هـ) قضاء شرق بغداد، أبو الحسن علي بن أبي طالب البهلول (ت358هـ) قضاء الأنبار وهيت وخراسان، مع منصب قاضي قضاة، الحسين بن محمد بن إسماعيل الكوفي (ت395هـ)، محمد بن عبد الله المؤذن، قضاء بغداد أيام المتوكل، صاعد بن محمد (ت432هـ) قضاء نيسابور، أبو علي المُحسن التنوخي (ت384هـ) قضاء الكوفة وبابل وقصر ابن هبيرة .

لا ندري كيف تبوأ هذا العدد من الفقهاء القضاء، رغم وصية إمامهم أبي حنيفة الناهية عن قبوله وإن اضطروا إليه، فلا يقبلوه إلا بشروط صعبة. جاء برواية أبي يوسف: أن أبا حنيفة أوصاهم، وكان يحيطون بمجلسه في يوم مطير، بقوله: "أنتم مسار قلبي، وجلاء حزني، قد أسرجت لكم الفقه، وألجمته، فإذا شئتم فأركبوا، وقد تركت لكم الناس يطئون أعقابكم، ويلتمسون ألفاظكم، وذللت لكم الرقاب، وما منكم أحد إلا وهو يصلح للقضاء، وفيكم عشرة يصلحون أن يكونوا مودي (معناها بالقاموس الأسد، ولعل أبا حنيفة قصد هذا المعنى) القضاة. فسألتكم بالله، وبقدر ما وهب الله لكم جلالة العلم، لما صنتموه عن ذل الاستيمار (الموافقة في كل الأحوال)، فإن بُلي رجل منكم بالدخول في القضاء فعلم من نفسه خربة، سترها الله تعالى عن العباد، لم يجز قضاؤه وطاب له رزقه، فإن دفعته ضرورة إلى الدخول فيه، فلا يجعلن بينه وبين الناس حجاباً، وليصل الصلوات الخمس في الجامع، وليناد عند كل صلاة من له حاجة، فإذا صلى صلاة العشاء الآخرة نادى ثلاثة أصوات من له حاجة، ثم دخل إلى منزله، فإن مرض مرضاً لا يستطيع الجلوس معه اسقط من رزقه بقدر مرضه"(11).

كما دلَّ على شيوع المذهب الحنفي في آفاق الدولة العباسية، انتساب شخصيات هامة إليه، منها الطبيب والفيلسوف ابن سينا(ت428هـ)، والمتكلم المعتزلي البغدادي عبد الله بن أحمد البلخي (ت319هـ)، والفقيه العالم محمد بن الحسن فرقد الشيباني(ت189هـ)، واللغوي والمفسر محمود بن عمر الزمخشري(ت515هـ)، صاحب كتاب في المذهب بعنوان "شقائق النعمان في حدائق النعمان"(12). كما منع رسوخ المذهب شخصيات خطيرة في الدولة العباسية من محاولة تحجيمه أو منعه رسمياً، منهم الفضل بن سهل، ذو الرئاستين. فقد دسّ شخص يدعى النضر بن شميل كانت بينه وبين قاضي مرو الحنفي خالد بن صبيح وأصحابه جفوة. لكن الفضل أستشار قبل تقديم الطلب إلى المأمون، فقيل له: "إن الأمر لا ينفذ، ولا ينتقض جميع الملك عليكم، ومن ذكر هذا فهو ناقص العقل"، فقال الفضل: "هذا إن سمعه أمير المؤمنين لا يرضى به، ويعاقب من ذكر له هذا"(13).

إلى جانب القضاة الحنفيين، وما يحصل بوجودهم من مراعاة لمذهبهم، هناك المدارس الخاصة بالمذهب الحنفي، دون التشدد إزاء مذهب منتسبيها، وهي: مدرسة أبي حنيفة - تقع جوار ضريحه ولعلها سلف كلية الفقه الموجودة حالياً بالمكان نفسه - المدرسة المغيثية، المدرسة الموفقية، مدرسة زيرك، مدرسة البهائية، ومدرسة تركان خاتون(14). ومن المدارس الخاصة بالمذهب الحنفي بمدينة واسط: مدرسة الغزنوي، شيدها محمود الغزنوي (ت563هـ)، بمحلة الوراقين(15)، فواسط  احتفظت بدور ملحوظ بعد انتقال عاصمة العراق إلى بغداد، وظلت مكاناً يقضي به الخلفاء أوقات عزلتهم، وذكرها يأتي في العديد من الأحداث بعد بغداد مباشرة .

ومن أشهر المدارس، التي استوعبت المذاهب السُّنية الأربعة المدرسة المستنصرية ببغداد، التي افتتحت العام 631هـ. قال المؤرخ ابن الفوطي (ت723هـ) في افتتاحها: "حضر نصير الدين نائب الوزارة، وسائر الولاة، والحجاب، والقضاة، والمدرسون، والفقهاء، ومشايخ الربط والصوفية، والوعاظ، والقراء، والشعراء، وجماعة من أعيان التجار الغرباء إلى المدرسة، وتُخيّر لكل مذهب من المدارس وغيرها اثنان وستون نفساً، ورتب لها مدرسان ونائبا تدريس. أما المدرسان فمحي الدين أبو عبد الله محمد بن يحيى بن فضلان الشافعي، ورشيد الدين أبو حفص عمر بن محمد الفرغاني الحنفي، وخلع على كل واحد منهما جبة سوداء، وطرحة كحلية، وامطي بغلة بمركب جميل وعدة كاملة. وأما النائبان فجمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن يوسف بن الجوزي الحنبلي (حفيد ابن الجوزي)، نيابة عن والده، لأنه كان مسافراً في بعض مهام الديوان، والآخر أبو الحسن علي المغربي المالكي، وخلع على كل واحد منهما قميص مصمت وعمامة قصب، ثم خلع على جميع المعيدين، وهم لكل مذهب أربعة خلعاً"(16).

 

منارة عانه

 

اقتسمت المذاهب الأربعة، حسب الأهمية، أركان المدرسة الأربعة، جاء في الرواية: "ثم ذكر المدرسان، المقدم ذكرهما، الدروس كل واحد منهما على سدته، والنائبان كل واحد منهما تحت السدة، ثم قسمت الأرباع، فسلم ربع القبلة الأيمن إلى الشافعية، والربع الثاني يسرة القبلة للحنفية، والربع الثالث يمنة الداخل للحنابلة، والربع الرابع يسرة (يُلاحظ اعتماد ابن الفوطي الدارجة في مثل هذه الكلمات ببغداد بدلاً عن الفصحى) الداخل للمالكية"(17). بعد ثمانية عشر عاماً من تأسيس المستنصرية بالرصافة، أسست بالكرخ جارية المستعصم وأم ولده، (ت656هـ) باب بشير، مدرسة مماثلة، وجعلتها وقفاً على المذاهب الأربعة، سميت بالبشيرية(18). وبعد سقوط الخلافة العباسية، أستمر بناء المدارس الجامعة للمذاهب السّنية، ففي السنة 671هـ أسست زوجة حاكم بغداد للمغول علاء الدين صاحب الديوان المدرسة العصمتية، وجمعت فيها المذاهب الأربعة أيضاً(19).

يقتضي التنويه أن الدولة العباسية وما تلاها لم تراع المذهب الجعفري، رغم أنه كان مذهب غالبية سكان سواد العراق وكرخ بغداد، ورغم ميول بعض الخلفاء الشيعية، مثل الناصر لدين الله (ت622هـ)، الذي أهتم بالفتوة ذات الأصول العلوية (بالمقابل ظهرت الفتوة النبوية ذات الميول السنُّية، راجع رحلة ابن جبير، (ص280)، وتربية الطيور التي سماها على أسماء الأئمة الإثني عشر، وما يترتب في مثل هذه الأحوال من علاقة مع وجهاء الشيعة. ولعل وجود مدارس النجف الأشرف، منذ  حلول شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي (ت460هـ) بها، قد عوض عن الحرمان الذي ساد المناطق الشيعية الأخرى.  فالقهر المذهبي جعل المحلات الشيعية بالكرخ محكومة لقاض من غير مذهبهم، بينما خصص كرسي للمذهب المالكي، رغم قلة معتنقيه وهم من الزوار والوافدين للدراسة ببغداد بالمدرسة المستنصرية وغيرها من المدارس الرسمية، والشبه الرسمية(20).

ظل المذهب الحنفي، المذهب الرسمي للدولة العثمانية. والجدير بالملاحظة أن ما قيل عن العلاقة بين تبني العثمانيين للمذهب وموقف مؤسسه من الحديث النبوي الخاص بإمامة قريش السياسية، لا أساس له من الصحة. فعلي الوردي ذكر ذلك من قبيل الشائعة، دون أن يبحث خلفية المذهب الحنفي في هذه المسالة بالذات. فهو يقول:  "الشائع أن السبب الذي جعل الدولة العثمانية شديدة التمسك بالمذهب الحنفي هو أن أبا حنيفة كان لا يأخذ بهذا الحديث، ويرى من الجائز أن تكون الخلافة في غير قريش"(21). لكن المروي في كتب مناقب أبي حنيفة وغيرها، أن الإمام المذكور أعترف لهذه القبيلة العربية بولاية سياسية، غير أنه لم يحصر الولاية الدينية فيها.  وربما صرح أبو حنيفة بذلك أوان العهد الأموي، الذي حرم على الموالي، المسلمين من غير العرب، تبوأ مناصب القضاء أو الفتيا أو إمامة الصلاة، رغم أن الخليفة الأموي السابع سليمان بن عبد الملك (ت99هـ) قال فيهم: "عجبت لهذه الأعاجم، ملكوا ألف سنةٍ، لم يحتاجوا إلينا ساعةً واحدةً في سياستهم، وملكنا مائة سنةٍ، لم نستغن عنهم ساعةّ(22). أما سبب تبني العثمانيين للمذهب الحنفي دون غيره فيعود إلى عدة أمور منها أن المذهب الحنفي كان له حضور بالمناطق التي قدم منها العثمانيون، وأنه كان المذهب المعتمد من قبل العباسيين، والحكومات التي خلفتهم، إضافة إلى ملائمة الأحكام الحنفية لدولة تضم مختلف الأديان والمذاهب .

كانت المشيخة الإسلامية باستنبول هي الدائرة الفقهية التي منها تصدر أوامر تعيينات الفقهاء والقضاة، و"تشرف على المحاكم الشرعية ببغداد، وتصادق على الأحكام الهامة التي تصدرها المحكمة الشرعية في مركز الولاية، وتستأنف أحكام هذه المحكمة فيها. أما أحكام محاكم أقضية الولاية فكانت تستأنف في محاكم السناجق، وأحكام محاكم السناجق في المحكمة الشرعية"(23). وولاية بغداد تعني العراق كاملاً، بحدوده التاريخية المعروفة، فوالي بغداد يسمى بالعادة وزير العراق.

تشدد العثمانيون في اعتماد المذهب الحنفي، ولم يعتمدوا غيره من المذاهب في التعامل الرسمي، فكان قضاة المحاكم في المناطق الشيعية أو الشافعية من الحنفيين، يترتب على ذلك أن الناس يلجأون، في معاملاتهم الشرعية، إلى رؤساء العشائر أو الفقهاء من غير القضاة، لهذا كان القضاء الرسمي شبه معطل في تلك المناطق. وقيل أن القضاة الرسميين كانوا يمكثون في مناصبهم دون أن ينظروا في أية قضية، إلا في القليل النادر من الأحوال، فأحد قضاة مدينة كربلاء الحنفيين مكث في منصبه تسعة أعوام لم ير فيها ولا دعوة واحدة(24). على سبيل المثال لا الحصر، كان السيد الآلوسي الحنفي قاضياً بكربلاء العام 1890م(25).

 

طالب النقيب، من شخصيات البصرة ومن اشراف السنة

في اوائل القرن العشرين، والذي كان مرشحا ليكون ملك العراق

 

أما أبو الثناء محمود الآلوسي، الشافعي، وكان مفتياً لبغداد أيام نجيب باشا، فكان ملزماً أن يفتي بأحكام المذهب الحنفي(26). فالفقه الشافعي يجيز ذلك، لكن بشروط ، يلخصها الماوردي بقوله: "يجوز لمن أعتقد مذهب الشافعي، رحمه الله، أن يقلد القضاء من أعتقد مذهب أبي حنيفة، لأن القاضي يجتهد برأيه في قضائه ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه، إذا كان شافعياً لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإذا أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل عليه وأخذ به"(27). لم يخف المفتي الآلوسي مذهبه الشافعي في حكمه بقتل البابي البسطامي، عند محاكمته العام 1845م ببغداد، من قبل فريق سني برئاسته وفريق آخر شيعي برئاسة الشيخ حسن كاشف الغطاء، ولما أصر المفتي على موقفه بقتل المتهم، واجهه الشيخ كاشف الغطاء برأي أبي حنيفة، الذي لا يكفر أحداً ويتيح التوبة لمن ظهر منه الكفر، فوجد فيه ما يخالف رأي المفتي، الذي قال إني أحكم وفقاً لمذهب الإمام الأعظم (أبي حنيفة)، عندها قال كاشف الغطاء لنجيب باشا، الذي جرت المحاكمة في حضوره: "أفندم تُنصّبون للفتوى من لا يدري"(28).

رغم انحياز العثمانيين الشديد إلى المذهب الحنفي، ظل أكراد العراق على المذهب الشافعي، سوى قسم من عشيرة باجلان، فالقسم الآخر منهم شافعية(29)، مع شيعية الأكراد الفيليين. أما التركمان العراقيون السنيون، فأغلبهم على المذهب الحنفي، ما عدا القاطنين أربيل، فهم شافعية. أما القاطنين مدينتي قره تبة وطوز خورماتو فهم شيعة أثنى عشرية. وأهل البصرة كانوا من أهل السنّة، على المذهب الشافعي، سوى أهل شط العرب فكانوا شيعة، وأهل الزبير  سنة حنابلة(30). وأول مدرسة خاصة بالمذهب الحنبلي بالبصرة، فتحها حاكمها الأمير باتكين بن عبد الله الرومي، مملوك عائشة بنت الخليفة المستنجد، السنة 640هـ، وتوافق ذلك مع بناء وتزيين قبري الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله بالفرش والقناديل(31).

ما زال مشهد الإمام أبي حنيفة، بمقبرة الخيزران، بالأعظمية  شمال بغداد، مزاراً، وظل محط تبادل النعرات الطائفية لحكومات الاحتلال، بين تهديم الدولة الصفوية، وبناء الدولة العثمانية. لكن شافعية السلاجقة، واعتمادهم المدارس المغلقة لمذهبهم، لم تمنع سلاطينهم من بناء قبة لضريح أبي حنيفة، قام ببنائها السنة 459هـ، أبو سعيد محمد بن منصور الخوارزمي، نيابة عن أبي أرسلان والد السلطان محمد شاه ملك(32). كما لم يمنعهم ذلك من أن يحطوا رحالهم بباب الضريح، ويتشفعوا  بأركانه، ففي العام 501هـ، دخله السلطان محمد شاه، بعد إياب من سفر طويل، سيراً على الأقدام من داره، "واجتمع بالفقهاء والعلماء على باب المشهد، فقال للحاجب: قل لهم هذا يوم عزمت فيه على الانفراد مع الله تعالى، فخلوا بيني وبينه، وأمر بغلق الأبواب ومنع الأمراء وغيرهم من الدخول، وأقام يصلي ويدعو ويخشع"(33).

في حدة الخلافات المذهبية وغيرها، تظهر المزحة بديلاً جميلاً عن المواجهة الدامية، والتعصب القاتل، فهي تصفي النفوس بمرح بريء. ما يخص الخلاف بين الحنفية والشافعية، استغل المختلفون مناسبة اقتران ولادة الشافعي بالحجاز بوفاة النعمان ببغداد في عام واحد (150هـ)، وهناك من قال في يوم واحد(34)، ليكون وقع الرواية أمضى. قال الشافعيون للحنفيين: إمامكم مات كمداً لما طلع إمامنا، و ردّ عليهم الحنفيون بقولهم: إمامكم ظل مختفياً حتى مات إمامنا. ومنْ يدري! فلعل المختلفين، وقت ذاك، كانوا يعنون ما قالوا حول الاقتران في الغياب والظهور، حتى وصلنا مزحة بريئة.

الهوامش

1- بدري محمد فهد، تاريخ العراق في العصر العباسي الأخير، بغداد: مطبعة الرشاد، 1973، ص437. عن سبط بان الجوزي، مرآة الزمان .

2- كمال الدين عبد الرزاق ابن الفوطي (ت 723هـ)، الحوادث الجامعة والتجارب النافعة، بغداد: الفرات، 1351، ص138.

3- ابن الفوطي، مجمع الآداب في معجم الألقاب، تحقيق مصطفى جواد، إحياء التراث القديم، 4/3/552 .

4- كتاب الخراج، بيروت: دار المعرفة 1979، ص 19.

5- المحسن التنوخي (ت 384هـ)، نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، تحقيق عبود الشالجي، بيروت 1971، 1ص252-253 .

6- المصدر نفسه .

7- التنبيه والأشراف، تحقيق عبد الله الصاوي، المكتبة التاريخية، 1938، ص 298.

8- مروج الذهب ومعادن الجوهر، بيروت: دار الكتاب اللبناني، 2/ 324 .

9- حُسن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف القاضي، مصر: دار الأنوار 1948، ص3.

10- نشوار المحاضرة، 1/82 .

11- موفق بن أحمد المكي (ت 568هـ)، مناقب أبي حنيفة، بيروت: دار الكتاب العربي، 1981، 1ص 360- 459 .

12- قاسم قطلوبغا، تاج التراجم في طبقات الحنفية،بغداد: مكتبة المثنى، 1962، ص26.

13- مناقب أبي حنيفة، 1/415.

14- ناجي معروف، تاريخ علماء المدرسة المستنصرية، القاهرة: مطبوعات الشعب،1/28.

15- عبد القادر المعاضيدي، واسط في العصر العباسي، بغداد: دار الحرية، 1983، ص 240 .

16- ابن الفوطي، الحوادث الجامعة، ص55 .

17- المصدر نفسه، ص58 .

18- المصدر نفسه، ص309 .

19- الحوادث الجامعة، ص373 .

20- تاريخ العراق في العصر العباسي الأخير، 433 .

21-  لمحات اجتماعية، بغداد: مطبعة الرشاد، 1971، 1/49 .

22- الزبير بن بكار، الأخبار الموفقيات، تحقيق سامي العاني، إيران: منشورات الشريف الرضي، 186 .

23- راجع جميل النجار، الإدارة العثمانية في ولاية بغداد، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1991.

24- المصدر نفسه، ص332، عن الروض الزاهر في تراجم آل السيد جعفر، ص430.

25- يونس ابراهيم السامرائي، تاريخ علماء بغداد في القرن الرابع الهجري، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية العراقية، ص17.

26- عبد الرزاق البيطار، حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، 4/454-455 .

27- الأحكام السلطانية، بيروت: دار الفكر، 67-68.

28- محمد حسين كاشف الغطاء، العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية، تحقيق جودت القزويني، 1998، ص335.

29- إبراهيم بن صبغة الله الحيدري، عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد، دار الحكمة، 1998، 122.

30- المصدر نفسه، 161-162.

31- الحوادث الجامعة، 180-181.

32- ابن خلّكان، وفيات الأعيان، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، القاهرة: 1949، 5/47.

33- سبط ابن الجوزي (ت 654هـ)، مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، حيدر أباد: مطبعة مجلس دائرة المعارف، 1950، 8/1/14-13.

34- العباس بن علي المكي الموسوي، نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس، النجف الأشرف: المكتبة الحيدرية، 1967، 2/ 209 .

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة