دراسات

نشوء الحركة الاسلامية السنية في العراق

 

طارق حمدي الأعظمي

 

 

للتعرف على الحركة الإسلامية السنية لا بد من العودة إلى بدايات القرن العشرين، فقد كانت أغلبية المجتمع العراقي عشية الحرب العالمية الأولى تندرج في أربع فئات: 1) البيروقراطية ورجال الجيش، 2) ممثلي ونواب الحكومة المركزية، 3) علماء الدين، 4) طرق المتصوفة. هيمن العلماء على الحياة الفكرية والثقافية، ومثلوا النظام والاستقرار، وكانوا أقوى المنافحين عن الوضع القائم. كانت الدوائر الدينية تتسم بالجمود والتقليد، وتفتقر إلى الاجتهاد. وأدى هذا الوضع إلى نمو فرق المتصوفة والدراويش المعبرة عن التدين الشعبي .

ويشير مؤرخو العراق الحديث إلى أواخر القرن التاسع عشر كمرحلة تشكلت فيها ثلاثة اتجاهات للحياة الفكرية للمجتمع العراقي، وهي: 1) الاتجاه التقليدي الذي هو استمرار للفكر الإسلامي في العصر الوسيط؛ 2) الاتجاه الإصلاحي؛ 3) الاتجاه العلماني الاستحداثي. كان الاتجاه العلماني متأثرا للغاية بالغرب، وكان تمرده ضد التقاليد الإسلامية نتيجة منطقية لافتتانه بالأفكار الغربية. وقد شارك دعاته في الإجهاز على الدولة العثمانية وتأسيس الشرق الأوسط الجديد تحت الهيمنة البريطانية والفرنسية. كان الفصل بين الكنيسة والدولة الذي مورس في أوربا وعرف بعد ذلك بالعلمانية، قد تم إدخاله إلى البلاد الإسلامية عبر الاختراق الغربي. امتد استبعاد الدين من شؤون الدولة باتجاه الدعوة إلى قصر دور الدين على الشؤون الشخصية وإقصائه عن الحياة العامة. لكن، ورغم تبني معظم الدول الإسلامية لنماذج غربية علمانية في التطور السياسي والقانوني والتنمية الاقتصادية والتربوية، فإن مواطنيها لم يعجبوا كثيرا، أو يتقبلوا فكريا ونفسيا القيم الضمنية (العلمانية).

الحياة الدينية السنية في العراق

غلب على الحياة الدينية السنية بالعراق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر اتجاهان متميزان هما: السلفية والتصوف. ورغم هذه التوجهات فإن المؤسسة السنية الرسمية التي تكونت من كبار العلماء قد بقيت موالية للمؤسسة الدينية العثمانية في إستانبول. ونتيجة لذلك، لم يشهد العراق إصلاحا دينيا عقلانيا مؤثرا كذلك الذي قاده الإمام محمد عبده في مصر.

السلفية

بدأت الحركة السلفية في الظهور بالعراق في القرن التاسع عشر، وكان من الواضح تميز السلفيين في العراق عن الوهابيين، وكان هناك سببان للمحافظة على ذلك التميز: أحدهما أنهم أرادوا أن يتجنبوا سخط الحكومة العثمانية وعلمائها التقليديين، والآخر يعود إلى الخلافات المذهبية بين السلفيين في العراق وبين الوهابيين في نجد .

تتضح الخلافات بين الجماعتين من كتابات بعض العلماء المعاصرين. كان أبو الثناء محمد شهاب الدين الآلوسي (1802-1854) أبرز علماء السنة بالعراق في القرن التاسع عشر. كان عالما متميزا، أهم أعماله تفسير القرآن الكريم المعروف بـ"روح المعاني". تلقى الآلوسي تعليمه المبكر برعاية مولانا النقشبندي، وهو بدوره كان عالما ومتصوفا. لقد كتب الآلوسي الذي تلقى دروسه عن الشيخ على السويدي، وهو أيضا عالم سلفي معروف، كتب يقول "من الإنصاف القول إن السويدي لم يدنس قلبه بدعاوى الوهابية الجاهلة، بل لقد كان سلفيا أحمديا (على منهج سنة النبي)". وقد تباين السلفيون العراقيون والوهابيون حول مسألة التكفير. فعلى العكس من توجهات الوهابية، كان للآلوسي علاقات ودية مع شيعة بغداد، الذين يكفرهم الوهابيون. كذلك، اختلف السلفيون العراقيون عن الوهابيين في الموقف من التصوف، فالآلوسي الذي تلقى العلم عن شيخ المتصوفة مولانا خالد النقشبندي، لم يرفض التصوف كله أبداً .

يعتبر المؤرخ ألبرت حوراني الشيخ نعمان الآلوسي (1836-1899)، وهو نجل أبي الثناء الألوسي، قائدا للاتجاه الإصلاحي الإسلامي. غير أن محمود شكري الآلوسي (1857-1924)، وهو حفيد أبي الثناء الآلوسي، يعطي مثالا أوضح للاتجاه السلفي، فقد كان صريحا ومباشرا في حملته لقمع البدع التي أحدثت في الدين، ومن الواضح أن بعض الروابط مع الوهابية قد تركت أثرها على طريقة محمود شكري الآلوسي وأسلوب تفكيره. حاول محمود شكري أن يخفي مقته للمتصوفة لأن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني كان متصوفا ومناصراً للتصوف. وربما بسبب موقف محمود شكري من التصوف، فقد وقع اتهامه لاحقاً بالوهابية، وصدر قرار بنفيه إلى الأناضول. فيما بعد، حاولت الحكومة العثمانية أن تجند الآلوسي في اتصالاتها ومفاوضاتها مع عبد العزيز بن سعود، وذلك لعلاقاته الطيبة مع الوهابيين. ففي 28 تشرين الثاني/نوفمبر 1914، ترأس الآلوسي وفدا من الشخصيات الإسلامية، والتقى ابن سعود لحثه على الوقوف بجانب الحكومة العثمانية (الإسلامية) في مواجهة الكفار. كان ابن سعود سياسياً بارعاً، وقد أقنع الآلوسي أنه ملتزم تماما بالوقوف مع الدولة العثمانية، وأنه على استعداد لبذل روحه دفاعا عن الخلافة العثمانية. جاءت هذه التجربة لتؤكد من جديد على تقليد –عمره قرون– في التمييز بين أهل السيف (الأمراء) وبين أهل القلم (العلماء). كما برهنت هذه التجربة وأمثالها على أن علماء المسلمين الذين كرسوا حياتهم للعلم والتعليم، كانوا يفتقدون المهارات السياسية. وتكتسب هذه الحقيقة أهميتها في سياق الإحياء الإسلامي المعاصر؛ لأن حركة الإحياء الإسلامي تشجع العلماء المسلمين على الاقتراب والتعاطي الإيجابي مع الحياة السياسية للمجتمع، بذات المنهج الذي اتخذه الرسول (ص) وخلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم .

التصوف

شهد القرن الثامن عشر موجة جديدة من التصوف، أطلق عليها عنوان "التصوف الجديد"، وقد سعت إلى تأسيس تصوف على أساس من تعاليم الشيخ أحمد السرهندي (1534-1624) الذي قاد فرعا من الطريقة النقشبندية في الهند، واهتم بالأصول الشرعية في بناء التصوف، ووقف بحزم ضد البدع المستحدثة في بعض طرق المتصوفة. كانت هذه خطوة مهمة في تطور التصوف لأنه مثل زاوجا ما بين المعرفة الروحانية والنشاط الاجتماعي السياسي. غير أن التصوف الجديد قد وصل إلى العراق فيما بعد على يد أبي البهاء ضياء الدين خالد الشهرزوري (1776-1827)، والمعروف بمولانا خالد النقشبندي. ولد مولانا خالد في قره داغ بكردستان، وقد تعرف هو نفسه على هذه الطريقة عندما سافر إلى الهند في 1809 حيث اتصل بفرع المجددي من الطريقة النقشبندية. لدى عودته إلى العراق، سافر إلى بغداد حيث تأثر به عدد من العلماء المرموقين، مثل الشيخ موسى الجبوري، والشيخ عبد الله الحيدري، وعالم أكثر بروزا هو أبو الثناء الآلوسي .

كان التصوف في العراق، آنذاك، تحت سيطرة طرق من متصوفة المشيخة والدروشة. كانت هذه الطرق من قادرية ونقشبندية ورفاعية تحظى بأكثر الأتباع، وتمارس طقوسا من الرقص والحركات الجسدية العنيفة. وبسبب ممارسات هذه الطرق، فإن النخبة ذات التعليم الغربي التي ظهرت مع مطلع القرن العشرين، نزعت نحو اتهام الدين بأنه توليفة من الخرافات والأوهام. ونتيجة لذلك، فإن دعاة الإحياء الإسلامي الذين ظهروا في النصف الأول من القرن العشرين سعوا إلى أن ينأوا بأنفسهم عن هذه الممارسات، بل إن بعضهم أعلن رفضه للتصوف جملة وتفصيلا. ومع بداية القرن العشرين تواصل التدخل البريطاني في العراق ليصبح استعمارا تاما؛ ما أدى إلى انهيار المؤسسات الاجتماعية والتقليدية مثل طرق المتصوفة والدوائر الدينية المحلية. وكان آخر مظهر للعافية في النظام الاجتماعي التقليدي هو ثورة العشرين ضد المستعمرين. وقد عمل علماء السنة والشيعة معا في تلك الحملة ضد الخطر المشترك، لكنهم افتقدوا الإطار الإسلامي البديل لبناء مجتمع حيوي ومتطور في العالم الحديث للقرن العشرين .

 

الشيخ محمد محمود الصواف

 

الصواف وقيام الإخوان المسلمين بالعراق 46-1959

يعتبر محمد محمود الصواف أكثر الشخصيات تأثيرا في سنوات تكوين الإخوان المسلمين بالعراق. فمنذ الثلاثينيات من هذا القرن، عندما كان شابا يافعا، وإلى أن غادر العراق في 1959، كان الصواف مسؤولاً عن تخطيط وتوجيه برامج العمل الإسلامي بالعراق. غادر الصواف العراق إلى مصر في 1939 لاستكمال دراساته الشرعية في جامعة الأزهر. وفي القاهرة، التقى الإمام حسن البنا، مؤسس وزعيم الإخوان المسلمين. ولدى عودته النهائية من مصر في 1947، أسس الصواف الفرع العراقي للإخوان المسلمين، وهي المنظمة التي قادها لفترة الثلاثة عشر عاما التالية، وترك عليها بصماته وأفكاره .

ولد الصواف بالموصل في شمال العراق في 1912 (توفي رحمه الله في 1992)، وتلقى تعليمه الأساسي في القرآن الكريم والعلوم الإسلامية على يد عدد من العلماء المحليين البارزين، منهم الشيخ عبد النعمة، وهو عالم سلفي معروف. وإضافة إلى تلقيه العلوم التقليدية، فقد قسم الصواف يومه بحيث يدرس في مدرسة حديثة في الصباح، ويلتحق بشيوخه العلماء في المساء. بدأ الصواف نشاطه الاجتماعي مبكرا، فانضم إلى جمعية الشبان المسلمين في 1935، وهي مؤسسة اجتماعية خيرية، ومن فوره أصبح مسؤولاً عن جمع التبرعات. عرفته هذه الجمعية المبكرة على شخصيات من مختلف الخلفيات، بما في ذلك ضباط الجيش. ساهمت هذه العلاقات والاتصالات في تكوين وعيه السياسي، كما ساهم انشغاله ببرامج تعليم الكبار والسجون في صقل ملكاته ومهاراته في الخطابة والاتصال بالرأي العام. كانت موجة الفكر العلماني قد بدأت تهز العراق منذ العشرينيات، وقد استنفر العلماء المسلمين لمواجهتها بتأسيس العديد من الجمعيات الإسلامية الصغيرة، مثل: جمعية الهداية الإسلامية، جمعية التربية الإسلامية، جمعية الآداب الإسلامية. كان لبعض هذه الجمعيات مطبوعاتها أو دورياتها، ولها كذلك لقاءاتها الشهرية أو مؤتمراتها السنوية، وبعض ذلك كان يعقد في المناسبات الإسلامية الهامة كذكرى المولد النبوي الشريف أو الهجرة النبوية .

كان الصواف – الذي وجد أن هذه الجمعيات تفتقر إلى التخطيط الإستراتيجي– قد عزم على تأسيس منظمة حسنة الإعداد والتخطيط. جاء تأسيس هذه المنظمة فيما بعد على عدة مراحل. وقد كان مسرح الأحداث معدا في الثلاثينيات عندما أسس الصواف مع شخصيتين مرموقتين هما عبد الرحمن السيد محمد وعبد الرحمن محمود عبد الرحيم، "جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". كان الملهم لتأسيس هذه الجمعية قراءات الصواف عن "الإخوان المسلمين" في مصر، رغم أنه لم يلتق بعد أي عضو منها. وقد أراد الصواف أن يسمي جمعيته "الإخوان المسلمون"، لكن الحكومة رفضت السماح بهذا الاسم على أساس أنه اسم لجمعية أخرى في مصر .

في هذه المرحلة من تطوره، تفادى الصواف الخوض في السياسة، وركز اهتمامه على الأساليب والأدوات الاجتماعية والتربوية. جذبت دعوته الطلاب الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 14-17 عاما، الذين قدم لهم المعارف الإسلامية. كان مدركا لأهمية الترويح والرياضة للشباب، لذا فقد كان يدعوهم إلى السباحة في النهر، حيث يتضمن برنامج السباحة واللعب محاضرة في الإسلام، وتصبح تلك المناسبة فرصة لمناقشات في محيط روحاني وأخوي راق .

في 1939، سافر الصواف إلى مصر في رحلته الأولى كطالب للدراسات العليا في الشريعة، وتم ذلك بمنحة من وزارة الأوقاف العراقية. من خلال هذه الرحلة، أتيحت له فرصة اللقاء الأول بمثاله الكبير حسن البنا، الذي كان يلقي محاضرة عامة. كتب الصواف حول تلك التجربة أنه شعر كأن إحساسا عظيما بالشرف والمسؤولية ينتشر في كيانه، لقد كان نفس الإحساس الذي شعر به عندما كان يعمل من أجل هذا الهدف، ويبحث عنه عندما كان شابا يافعا. كانت تلك لحظة إلهام له، ومنحته الثقة بأنه سائر في الاتجاه الصحيح. إن من الخطأ القول إن تجربته في مصر اقتصرت على لقائه بحسن البنا. فالصواف، الذي لم يكن لطاقته حدود، قد أغنى خبرته الشخصية بالتقائه معظم علماء المسلمين المعروفين في ذلك الزمان. على أن تلك الخبرة الجميلة كانت قصيرة العمر، فبعد أقل من عام اندلعت الحرب العالمية الثانية، وألغيت منحته الدراسية بسبب ظروف الحرب، واضطر للعودة إلى العراق .

في 1943، قدم مصطفى الصابوني، أحد تجار الموصل الأثرياء، منحا دراسية للصواف وعشرة طلاب آخرين، لكي يستأنفوا دراساتهم العليا في مصر. كانت تلك آخر فرص الصواف للقاء البنا. ففي لقاء عام شهده الآلاف، قام محمد عبد الحميد أحمد عضو جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر، وقدم تقريرا حول مستقبل الدعوة في العراق بعد رحلته هناك، وخلص إلى أن العراق حالة ميئوس منها بالنسبة لدعوة الإخوان. وقال في تقريره إن الفساد في العراق عميق ومتسع، وفي السنوات الأربع التي أمضاها يعمل هناك لم يحرز نجاحا يذكر. ومن فوره أخذ الصواف الميكروفون للرد على المتحدث، فأعلن استياءه من التقرير قائلا بأن العراق سيقتفي مثال مصر في الدعوة، وإن الشعب هناك سيعمل في سبيل النهضة الإسلامية وإعلاء شأن الأمة .

لدى عودته من مصر إلى العراق في 1946 عقب إتمام دراسته الشرعية العليا، عرض على الصواف منصب قاض في المحكمة الشرعية من قبل وزير العدل آنذاك، جلال بابان، وهو منصب يتطلع إليه الكثيرون. لكن الصواف رفض العرض. كان رفضه للعرض تميزا واضحا بين أهداف عالم تقليدي كان سيقبل على الفور منصب القاضي، وبين ناشط حركي مثله كان يرى في هذا العرض تقييدا لحريته في الدعوة والاتصال بالناس. وبدلا من القضاء، اختار الصواف منصب مدرس في كلية الشريعة (حديثة التأسيس) بالأعظمية. تقاضى الصواف لقاء عمله في التدريس راتبا شهريا قدره (25) دينار، بدلا من ( 70) دينارا هي راتب القاضي. لكنه ضحى بالمكانة الاجتماعية والراتب الجيد في سبيل نشر الدعوة وتبليغ الرسالة. كان هذا القرار نتاجاً للتغييرات التي أحدثها مناخ الإحياء الإسلامي في العالم والمجتمع .

التقى الصواف الشيخ أمجد الزهاوي، أبرز علماء السنة بالعراق في زمانه. كان الزهاوي فقيها تقليديا تقيا جدا، وأصبح بدوره مرشدا روحيا لمنظمة الصواف الجديدة، جمعية الأخوة الإسلامية . أضفت قيادة الزهاوي شرعية على المنظمة الإسلامية الجديدة. ولأن الزهاوي كان كردياً، فقد انتشرت الحركة في المناطق الكردية والعربية على السواء. كان الأعضاء الأوائل في المنظمة الجديدة هم طلاب الصواف في كلية الشريعة. جاء صعود جماعة الإخوان العراقية تدريجياً، ربما على غير مثال "الإخوان المسلمون" في مصر. وفيما عدا اللحظات الملهمة للصواف، والتي التقى فيها حسن البنا في مصر، كانت التطورات التي مرت بها جماعة الإخوان العراقية محلية تماماً .

بالطبع كانت هناك رابطة قوية تصل الإخوان العراقيين بإخوانهم في مصر، لكن ليس صحيحا أن ينظر إلى الإخوان العراقيين كبضاعة مصرية مستوردة. ورغم أن الإخوان في مصر والعراق كانوا ينظرون إلى المنظمتين كحركة واحدة، فإنهما ظلتا مستقلتين تنظيمياً. وخلال بضع سنوات أحاط بالصواف الكثير من الأفراد المتفانين في حمل الدعوة، والذين وقروه لعلمه وعمله وتقواه. كان الصواف يلح على ضرورة أن يفهم المسلمون الإسلام كما أوحي إلى الرسول (ص)، وليس كما أوله الغربيون أو مستشرقوهم ورحالتهم. وبهذا الوجه، فقد ركز الاهتمام على دينامية وحيوية الحركة كما كان الأمر في عهد النبي (ص) . وأنحى باللائمة على البريطانيين الذين عزلوا العلماء عن الجماهير، عن طريق التحكم في الأوقاف وتحديد مستوى التمويل الذي يصل إليهم. ورأى أنه نتيجة ذلك أغلقت مساجد ومراكز تعليم، ونحيت رسالة الإسلام من المجتمع .

انتشار الحركة الإسلامية

جاءت عضوية الإخوان العراقيين في المقام الأول من الشرائح الاجتماعية التي لا تواصل لها مع النخبة العلمانية المتنفذة، وكانت متداخلة في السياسة العراقية منذ عشرينيات هذا القرن. كانت الفئة الأولى والأهم من الأعضاء هم المدرسون الذين كانوا طلاب الصواف في كلية الشريعة، ثم أصبحوا بدورهم مدرسين للتربية الإسلامية في مدارس العراق. ومع مطلع الخمسينيات، ازدادت العضوية بإطراد. كان معظم الأعضاء من طلاب الثانويات والجامعات، إضافة إلى المحامين والأطباء والبيروقراطية الوسطى والدنيا. سعى الصواف كذلك للتواصل مع القوات المسلحة، وتصادق مع عدد من ضباط الجيش الملتزمين إسلامياً، ومع أنهم لم يمروا بالبرامج التربوية للإخوان المسلمين، فقد كانوا متمتعين بالروح الإسلامية فكرا وسلوكا. ورغم قناعته بأن معظم الضباط قد تعلمنوا، فإنه قد شجع خريجي الثانويات على الالتحاق بالأكاديمية العسكرية. وبناء على تشجيعه، التحق بالأكاديمية العسكرية في عام واحد 20 طالبا من الإخوان المسلمين .

ونتيجة للجهود الحثيثة في الدعوة والتجنيد، وفي بضع سنين، أصبحت الحركة ناشطة ومتواجدة في معظم المدن التي يغلب عليها التسنن، بما في ذلك بغداد وكركوك وأربيل والسليمانية وزاخو ودهوك والرمادي والبصرة والزبير والموصل وتكريت وسامراء .

لم يقتصر نشاط الصواف على المدن الرئيسية. ففي كل خميس، كان يرسل على الأقل عشرة طلاب من الجامعات لزيارة القرى في الريف، حيث يقضون ليلتهم هناك، ويقيمون مناسك صلاة الجمعة من خطابة وإقامة وتوجيه. وإن لم يكن هناك مسجد، يقومون هم بإنشائه، ولو كان ذلك من الطين. ركز الصواف اهتمامه على كل قطاعات المجتمع العراقي، فقد كان يلتقي العمال مرتين أسبوعيا ليحاضرهم عن الإسلام وعن قيمة العمل في حياة الأمة. وكذلك شجع المهندسين والأطباء على تأسيس نقاباتهم المهنية المتخصصة، ونشر دعوته في صفوفهم. كانت القاعدة الأساسية للإخوان المسلمين بالعراق في المحيط السني العربي، وذلك لأن القوة الدافعة لنشاطاتهم تركزت في بغداد والموصل، وهما مركز ثقل التسنن في العراق. لكن ذلك لا يعني أن الحركة كانت سنية حصرا، فقد كان هناك بعض الأعضاء الشيعة كذلك، وإن لم يكونوا كثيرين. كان الصواف يدعو إلى المبادئ الإسلامية العامة، وكانت له قناعة قوية بجهود التقريب بين السنة والشيعة. غير أن القيادة التي خلفته على رأس الحركة بعد مغادرته العراق لم تواصل تلك المبادرات .

بدأت الحركة في تأسيس مواردها المالية الذاتية اللازمة لتمويل مناشطها وبرامجها بدون الحاجة للموارد البديلة، فاشترت بناية ضخمة في مركز العاصمة بغداد، كما أسسوا مكاتب لفروعهم في المدن العراقية الرئيسية. وفي 1952، أصدر الإخوان المسلمون مطبوعاتهم الشهرية، الأخوة الإسلامية، وكان الصواف رئيسا للتحرير. وقد حدد لها خمسة أهداف: 1) غرس الإيمان الصحيح في قلوب أبناء الأمة؛ 2) تقديم الإسلام إلى العالم كنظام عالمي شامل؛ 3) تعزيز التضامن وملىء الفجوات بين قطاعات المجتمع المسلم؛ 4) التصدي للتغريب والغزو الفكري؛ 5) دعوة المسلمين إلى امتلاك القوة وكل الوسائل المؤدية لها. تناولت المجلة الجديدة موضوعات الإسلام كنظام عالمي، وانتقادات لأعضاء البرلمان، وموقف الإسلام من المنظمات الدولية والسياسة العالمية، وقضية فلسطين، والمسائل التربوية والروحية .

 

جامع ام القرى في بغداد

 

أزمة جماعة الإخوان

عندما أسس فرع "الإخوان المسلمين" بالعراق، بعد 20 عاما على تأسس الجماعة الأم في مصر، كان الصواف يحاكي الصيغة القائمة للإخوان المصريين. وخلال تلك الفترة من التجربة المصرية (33-1939)، عقد الإمام البنا خمسة مؤتمرات تنظيمية رئيسة. وطدت هذه المؤتمرات تقاليد الشورى والحوار والمحاسبة في تجربة الجماعة. كان نموذجا جيدا للتنظيم أن تصغي القيادة إلى اهتمامات وهموم الأعضاء، وفي نفس الوقت كانت تنمي مهاراتهم الإدارية والتنظيمية. فيما بعد، مر "الإخوان المسلمون" المصريون بأزمة قيادية خطيرة عقب اغتيال الإمام حسن البنا في 1949. إضافة إلى ذلك، نشأ صراع كبير بين الإخوان ونظام عبد الناصر في الخمسينيات. هذه الظروف وغيرها حالت دون انعقاد أية مؤتمرات عامة للجماعة في مصر طيلة فترات الأزمة والصراع؛ ما ترك أثره على التطور التنظيمي لمنظمات الإخوان، بما في ذلك ضعف التواصل بين القاعدة والقيادة .

كانت هذه الإشكالية واضحة للعيان في السنوات المبكرة لتأسيس جماعة "الإخوان المسلمين" بالعراق. فقد كان الكثير من القياديين يتركون مواقعهم القيادية كل عامين أو ثلاثة، ولم تصل أزمة التنظيم إلى نهاية حتى الوقت الحاضر. وطبقا لأحد شهود تلك الحقبة من العمل الحركي الإسلامي بالعراق، الدكتور هشام الطالب، كان أحد أسباب تلك الأزمة هو افتقاد الإجماع بين الأعضاء حول القضايا السياسية الرئيسة، مثل مشروع الوحدة بين مصر وسوريا أو بين العراق والأردن. أما السبب الآخر للأزمة، كما يقول الطالب فهو أن الصواف دأب على حل المشكلات الطارئة بالقول إن علينا أن نحافظ على وحدة الصف إزاء التحديات والمخاطر التي تواجهنا، وهو بذلك لم يحل أية مشكلة، بل كان يؤجل الحل فقط. كذلك، لم يكن الصواف متحفظا أبدا فيما يقيم من علاقات، وهو أمر كان يراه بعض الأعضاء القياديين في الجماعة ضعيفاً. فهم يرون وجوب أن يكون الصواف متحفظا في إقامة علاقات، فهو لم يعد يمثل نفسه، بل يمثل الجماعة بأسرها .

في 14 تموز/ يوليو 1958، وقع انقلاب عسكري في العراق، أطاح بالأسرة المالكة الهاشمية، وأسس الجمهورية العراقية بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم. ولأول وهلة، رحب الصواف بالتغيرات الجديدة، لكنه بعد ذلك تحول ضد النظام الجديد، عندما وجد صفوف أنصار قاسم تعج بالعناصر الشيوعية والمعادية للدين. رفع الصواف صوته عاليا في معارضته للنظام الجديد، واعتقل بسبب ذلك. انتشرت الشائعات في الشارع العراقي أن النظام قد اغتال الصواف في السجن. ولكن خوفا من الاغتيال (الذي طال غيره فعلا)، وتحت ضغط من الأعضاء القياديين، ترك الصواف العراق .

تسبب عدم تحفظ الصواف وشخصيته الأميل إلى التحكم مع افتقاده القدرة على بناء تنظيم هيكلي قوي، في أزمة تنظيمية خطيرة. كانت تلك الأزمة جديدة على العقل العراقي المسلم، وتتناول طريقة العمل التنظيمي في المجتمع المدني الحديث. كان العلماء هم العمود الفقري للمجتمع التقليدي، ولكن هل يستطيعون الآن تقديم قيادة مشدودة إلى نفس طرائقهم التقليدية في الماضي؟ كان كثير من شخصيات الجماعة، الذين تلقوا تعليما حديثا، يفضلون أن يترك الصواف القيادة وأن يتيح الفرصة للآخرين. وأصبحت هذه النظرة أكثر قوة عندما اعتقل في آذار/ مارس 1959، وازداد الضغط عليه باطراد في الشهور الستة التالية، بأتجاه ذلك. ولدى إطلاق سراحه من المعتقل، اقتنع بوجوب مغادرة البلاد، لكنه لم يتخل عن موقعه في القيادة. واستمر متمسكا به، حتى اضطر مجلس شورى الجماعة لأن يرسل له إخطاراً بإعفائه .

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة